وقبل أن نمضي في عرض الجهد الطويل لعلماء الاثني عشرية، الذي بذلوه في محاربة الغلو والغلاة(1)نحبُّ أن نقرر حقيقة تنفعنا في تجلية موقف الاثني عشرية من الغلو وفرق الغلاة، وتنفعنا في تجلية دور علماء الاثني عشرية في حفظ المسلمين من الغلو وفرق الغلاة، وتنفعنا ـ أيضاً ـ في تجلية موقف علماء الاثني عشرية من كلِّ المعتقدات والتصورات المغالية والمنحرفة لفرق الغلاة، وهذه الحقيقة تقول: إنّ أقوال الأئمة الاثني عشر في نفي صفة الألوهية عن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ والتي ذكرنا بعضها؛ كان لها قوة دافعة في حياة الاثني عشريين، وحققت غرضها في استجاشة ضمير الاثني عشريين وتحريكهم ضد كل التصورات والاعتقادات المنحرفة؛ التي لا تتفق مع العقيدة الاثني عشرية المستلهمة من القرآن والسنّة.
ولقد استحالت تلك الأقوال إلى واقع ملموس ومحسوس، يدركه كل من عايش وجالس الاثني عشريين، وقد عشتُ معهم ثلاثة عشر عاماً. لقد قادت تلك الأقوال المذهب الاثني عشري إلى الاعتدال والوسطية في كيفية التعامل مع الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ، وفصلت هذه الأقوال بين الاثني عشرية وبين أي اعتقادٍ
____________
(1) ذكرنا هذه الجهود العظيمة في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
وإلى هنا نكون قد قدّمنا صورة مقتضبة عن المرحلة الأُولى في دراسة المذهب الاثني عشري، ونشرع الآن في تبيين المرحلة الثانية لدراسة هذا المذهب.
____________
(1) ذكرنا هذه النصوص الموجودة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم في كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) عند تناول الحقيقة السادسة من حقائق الاثني عشرية.
(2) ذكرنا هذه النصوص في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
المرحلة الثانية: (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري)
والأمر الثاني الذي يجب مراعاته والالتزام به حينما نريد طرح (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) على أخواننا الوهابيين، حتى لا يرفضوا مسألة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية وحتى لا يتعرضوا للانزلاق والخطأ، وحتى لا يرتكبوا جريمة التشويه في حقِّ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) من حيث لا يعلمون؛ هو أن نبين لهم ضرورة دراسة هذه المرحلة، بعد أن وضحّنا لهم المرحلة الأولى. كما سنوضح لهم أنّ هدف (المرحلة الأولى) يتلخَّص في معالجتهم واستنقاذهم من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، وتحقق هذا ا لهدف عندما بيّنا لهم في المرحلة الأُولى الفرق بين الحقائق والخصائص المرتبطة والمتعلِّقة بالاثني عشرية، وبين الأوهام المرتبطة والمتعلِّقة بفرق الغلاة. أما ا لهدف الرئيسي لهذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلية للاثني عشرية) فهو يتبلور في تحليل ودراسة الحقائق التي أثبتنا ـ في المرحلة الأُولى ـ ارتباطها وتعلقها بالاثني عشرية بالدليل والبرهان، ولا علاقة لنا بالأوهام التي ثبت لنا عدم انتسابها للاثني عشرية في المرحلة الأُولى ـ أيضاً ـ.
والحقائق التي سوف نقوم بتحليلها ودراستها هي الحقائق الموجودة في الكتب المعتبرة عند الاثني عشرية. وهذه الحقائق ليست شيئاً آخر سوى الثمرة الطبيعية لما تحتويه الكتب المعتبرة عند الاثني عشرية.
والذي يقرأ هذه المرحلة دون أن يراجع المرحلة الأُولى من هذا الكتاب قد لا يدرك البيان الذي سنقدّمه حول الحقائق الأربع التي سنتناو لها في هذه المرحلة، وسنرى هذا بوضوح كلما تقدم بنا البحث.
وقد أطلقنا على هذه المرحلة بـ (المرحلة التحليلية للمذهب الاثني عشري)، لأننا سوف نقوم في هذه المرحلة بدراسة تحليلية لمحتويات ومضامين حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
ولعله مما يُحتم الالتزام بهذا المنهج الذي وضعناه لغرض تصحيح منهج أتباع الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية، ولغرض التقريب بين الاثني عشرية والوهابية أن نُدرِكَ حقيقة هامة، وهي: إنّنا وجدنا أنّ الطابع العام فيما كتبه أتباع الجماعة الوهابية حول الاثني عشرية لم يكن يستند على الدراسة التحليلية لمضامين ومحتويات الاثني عشرية، بل كان يستند على الدراسة التحليلية لمضامين ومحتويات مقالات فِرق الغلاة؛ التي ذكرها قدماء أهل السنَّة وذكرها قدماء الاثني عشرية في كتب المقالات والفرق، فتلقف تلك المقالات أتباع الجماعة الوهابية وحسبوها من حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
والغريب أنّ بعض المتأخرين من أهل السنَّة اعتمدوا على تلك الدراسات الوهابية عن الاثني عشرية، وهم يعلمون أنّ أتباع الجماعة الوهابية اعتمدوا على تلك المقالات التي نسبها علماء أهل السنَّة، وعلماء الاثني عشرية في كتب الفرق للفرق المغالية والمنحرفة التي كفرها الاثنا عشرية.
وهذا هو الذي يفسّر لنا سرّ الاختلاف بين فتوى (إحسان إ لهي ظهير) الذي حكم بتكفير الاثني عشرية، وفتوى إمام أهل السنَّة وشيخ الأزهر (محمود شلتوت) الذي حكم بأنّ الاثني عشرية مسلمون، فالإمام الأكبر اعتمد على الدراسة التحليلية لمضامين الاثني عشرية، فحكم بأنّ الاثني عشرية مسلمون، وإحسان إ لهي ظهير اعتمد على تلك المقالات، فحكم بكفر الاثني عشرية، ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى لهذه المرحلة.
إنّ المنهج السليم يقتضي أنْ ندرس مضامين ومحتويات المذهب ـ أيّ مذهب ـ قبل الحكم عليه بالكفر.
وسبق أنْ أشرنا أنّ قصدنا في هذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري) إنّما هو عرض بعض الحقائق ا لهامة عند الاثني عشرية، وأشرنا إلى أننا سنتناول أربع حقائق.
ولعله يتحتَّم أن ندرك هذه الحقائق الأربع ا لهامة بصورة مجملة، وسوف نتناول هذه الحقائق بصورة مفصّلة في القسم الثاني من هذا البحث(1).
____________
(1) يراجع البحث التفصيلي لهذه الحقائق الأربع في كتابنا (حقائق الاثني عشرية وخصائصها بين أهل السنّة والجماعة الوهابية) والذي بينت فيه رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية، الفصل الأول والفصل الثاني من الباب الثاني من ذلك الكتاب.
الحقيقة الأُولى: (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)
إنّ أوّل حقيقة من الحقائق التي طُرِحت في كتب الاثني عشرية هي: (حقيقة الألوهية والنبوة)، واحتلت هذه الحقيقة ا لهامة والأساسية أكبر مجال في الفكر الاثني عشري.
ويدرك كل من راجع كتب الاثني عشرية أنّ هذه الحقيقة هي موضوع الاثني عشرية وغايتها، فكتب العقيدة عند الاثني عشرية هي تعريف بالله وبالنبوة، تعريف لتوحيده في الألوهية، وتوحيده في الربوبية.. وتعني كل كتب الاثني عشرية بضرورة الفصل والتمييز بين خصائص الألوهية وخصائص العبودية، وضرورة تجريد العباد من خصائص الألوهية؛ فالله هو وحده المتفرد بالألوهية، وكل ما وراءه ـ سبحانه ـ فهو من خلق الله.
إنّ الاهتمام الشديد لدى الاثني عشرية بهذه الضرورة ـ أي ضرورة الفصل بين الله سبحانه وبين العباد المخلوقين ـ هو الذي جعل الاثني عشرية يقفون موقفاً عدائياً من الفرق المغالية. وإذا راجع القارىء الكمية ا لهائلة من الكتب التي كتبها الاثنا عشريون في الرد على الغلاة، وقرأ محتويات هذه الردود، يجد أنّ هذه الردود كانت تأكّد على تكفير الغلاة؛ لأنّهم أهملوا ضرورة الفصل بين مقام الألوهية ومقام العبودية. ومن أجل هذه الضرورة كفّر الاثنا عشرية الغلاة الذين يقولون بالحلول والاتحاد؛ إذ إنّ هذا القول يلزم منه عدم الفصل بين مقام الألوهية ومقام العبودية.
ومن أجل هذه الحقيقة الكبرى حارب الاثنا عشرية الغلو والغلاة، حتى أصبحوا في العصر الحديث شرذمة قليلة منبوذة ومطرودة من قبل كل الاثني عشريين.
ونحب أن يكون معروفاً لقارئ هذا الكتاب أنّ الاثني عشرية حاربوا الغلاة؛ لأنّهم لم يعتمدوا على القرآن في معرفة قضية النبوة، وخرجوا عن منهجه، وأنكروا حقيقة قرآنية مسلّمة وهي حقيقة (إنّ قضية النبوة خُتمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)، كما حاربوا الغلاة؛ لأنّهم أنكروا حقيقة قرآنية مسلّمة وهي حقيقة (أفضلية محمد على كلِّ البشر).
وملحوظ في كتب الاثني عشرية أنّها تقوم بتجلية حقيقة خاتمية النبوة بمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وتجد كل مَنْ كتب مِنْ الاثني عشرية حول نبوة النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يذكر أنّه آخر وخاتم الأنبياء، ويكفر من يزعم أنّ هناك نبيّاً بعده؛ فلا نبوة بعده، ولا رسالة جديدة بعد رسالته. وتلمس في مواضع كثيرة في الكتب التي كتبها الاثنا عشرية ضد الغلاة؛ ا لهجوم الشديد على الذين يزعمون أنّ النبوة لم تختم بمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
ونحبُّ في الأخير أنْ يكون معروفاً لقارئ هذا الكتاب أنّ هذه الحقيقة الأُولى عندما عرضت في كتب الاثني عشرية لم تعرض بصورة مستقلة عن القرآن والسنّة، بل إنّ القارئ لكتب الشيعة سوف يجد بصورة صريحة أنّ هذه الحقيقة مأخوذة بكاملها وتمامها من نصوصّ القرآن ومن السنّة الشريفة(2).
____________
(1) منذ سنوات وأنا أحضر بحوث الخارج، وهي أعمق وأهم مرحلة في دراسة الاثني عشرية، ولم أشرْع في دراسة بحوث الخارج إلا بعد أن أكملتْ دراسة مرحلة المقدمات ومرحلة السطوح.
(2) سنتناول هذه الحقيقة الكبرى وا لهامة في الفصل الثاني من الباب الثاني من كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
الحقيقة الثانية: (حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)
ولعله مما يميز هذا المنهج الذي رسمناه هو أنّه التزم بالترتيب العلمي والمنطقي بين الحقائق الثمان التي يتكوّن منها هرم الاثني عشرية، بحيث إنّه إذا أدركت الحقيقة الأُولى فسوف تدرك بقية الحقائق. فهذه الحقائق تسير على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مترتبة بشكل هرمي، وكل حقيقة تسوقنا إلى الحقيقة التي بعدها؛ فمن السذاجة والعبث محاولة الإصابة في إدراك الحقيقة التالية إذا لم تحالفنا الإصابة في إدراك الحقيقة السابقة.
وإذا كانتْ الحقيقة الأُولى تتحدّث عن العقيدة، وكان الطابع العام لها هو الحديث عن الجنبة الفكرية، فإنّ الحقيقة الثانية تتحدّث عن جانب عملي.. الحقيقة الأُولى تتحدّث عن ممارسات العقل، وهذه الحقيقة تتحدث عن ممارسات الجسد. وهذا هو الفرق بين الحقيقتين. ولا يمكن التفكيك بين الحقيقتين، فالإيمان بالحقيقة الأُولى يقتضي العمل بالحقيقة الثانية.
ومن ثَمّ فالحديث عن هذه الحقيقة في كتب الاثني عشرية لا ينفصل عن الحديث عن الحقيقة الأُولى؛ لأنّ هذه الحقيقة هي من مقتضيات الحقيقة الأُولى (حقيقة الألوهية والنبوة)، وتنبثق منها انبثاقاً ذاتياً؛ فإذا كانت الحقيقة الأولى في كتب الاثني عشرية تقرر أنّه لا إله إلاّ الله، ولا معبود إلاّ الله، ولا خالق إلاّ الله،
ومن ثَمّ فحين يراجع الإنسان كتب الشرائع والأحكام الفقهية في كتب الاثني عشرية، سيجد أنّها مستخرجة ومنبثقة ومستنبطة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وأنّ منهج كتب الاثني عشرية في عرض الشرائع والأحكام لا يخالف منهج القرآن والسنّة في عرض الشرائع والأحكام، ومن ثَمّ رتبوا الشرائع والأحكام بنفس الصورة التي عرضها القرآن، وتعاملوا بصورة مباشرة مع النصوص القرآنية.
وطريقتهم ـ في كتبهم الفقهية ـ أنْ يشرعوا بالبحث عن أحكام الصلاة، ثُمّ أحكام الصيام، ثم أحكام الزكاة والخمس، ثم أحكام الحج.
وحين رأى الاثنا عشرية أنّ الغلاة انحرفوا في تأويل الشرائع والأحكام عن منهج القرآن والسنّة، وحرّفوا معانيها إلى معانٍ باطنية غريبة عن معانيها الشرعية واللغوية مما يقتضي تعطيلها؛ كفرّوهم وتبرّأوا منهم.
ويندرُ أن تجد كتاباً من كتب الاثني عشرية في أُصول الفقه لا يهاجم تأويلات الباطنية الغلاة ـ لعنهم الله ـ، كما أنّ كتب الاثني عشرية أجمعت على أنّ غرض الغلاة من التأويلات الباطنية للنصوص القرآنية هو استباحة الشرائع والأحكام المحرمة، ومن ثَمّ كفّرت كتب الاثني عشرية الذين استباحوا ترك الشرائع والأحكام، بحجة أنّ ولاية الأئمة تغني عن الالتزام بالشرائع والأحكام.
وفي هذه الحقيقة سوف نستعرض ـ أيضاً ـ بعض الأحكام المعروضة في كتب الاثني عشرية التي يستنكرها الذين لم يراجعوا الأدلة القرآنية والحديثية التي تثبتها(1)، وسوف نستعرض مشكلة الذين يخلطون بين موقف الاثني عشرية من الشرائع والأحكام وموقف الغلاة منها.
____________
(1) مثل: حكم المتعة، وحكم السجود على التربة، وحكم مسح القدمين في الوضوء. (يراجع حول هذه القضايا الفصل الأول من الباب الثاني عند الحديث عن هذه الحقيقة؛ حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري). وسوف نتناول هذه الحقيقة بصورة مفصّلة في الفصل الأول من الباب الثاني من كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
الحقيقة الثالثة: (حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)
إنّه لا يمكن معرفة نوع أهداف مذهب من المذاهب ـ أي مذهب ـ ومعرفة طبيعته إلاّ عند معرفة نوع اعتقادات ذلك المذهب (الحقيقة الأولى)، ومعرفة شرائع وأحكام ذلك المذهب (الحقيقة الثانية).
ومن أخطاء منهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية أنّهم يبحثون عن أهداف الاثني عشرية قبل البحث عن مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وقبل البحث عن الحقيقتين السابقتين للاثني عشرية، ومن ثَمّ نراهم ينزلقون في مشكلة الخلط بين (أهداف الاثني عشرية وأهداف فرق الغلاة)، مع أنّ أهداف الاثني عشرية لا بد أن تنبثق من خلال موقفها من الحقيقتين الأساسيتين السابقتين، فإنّه لا يمكن أن نفصل بين أهداف الإنسان ومعتقداته؛ لأنه حينما تنفصل أهدافه عن معتقداته يعيش في فترة صدام ونزاع داخلي مع نفسه، نزاع بين المعتقد وا لهدف، وسوف يخلق هذا النزاع في حياته انفصاماً في شخصيته.
وقد لاحظنا ـ أيضاً ـ أنّ خطأ أتباع الجماعة الوهابية، في إدراك الحقيقتين الأساسيتين السابقتين عند الاثني عشرية قد قادهم بالضرورة الفكرية إلى الخطأ في إدراك (حقيقة أهداف الاثني عشرية)، بل إنّ خطأهم في فهم الحقيقة الأُولى عند الاثني عشرية قد قادهم إلى الخطأ في فهم كل الحقائق التي بعدها(1).
____________
(1) انظر الدراسة الموسعة حول هذه الحقيقة في الفصل الثاني من الباب الثاني في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
والحقيقة الرابعة: (حقيقة معنى بعض المصطلحات في المذهب الاثني عشري).
إنّ الذي جعلني أهتّم بهذه الحقيقة هو: أنني رأيت أن منهج أتباع الجماعة الوهابية قد عرّف بعض المصطلحات المطروحة بكثرة عند الاثني عشرية تعريفاً مختلفاً اختلافاً عميقاً عن تعريف بعض المحققين من أهل السنَّة لهذه المصطلحات، ومن ثَمّ فلن أدرس في هذه الحقيقة إلاّ المصطلحات التي اختلف حول تعريفها أتباع الوهابية مع المحققين من أهل السنَّة ومع علماء الاثني عشرية، مثل مصطلح: البداء، والتقية، والعصمة، والمصحف.
وكما ذكرت في مقدمة هذا الكتاب بأنّ أهم شرط من شروط نجاح حوار الاثني عشرية مع الوهابية هو تعريف وتبيين وتوضيح المصطلحات المتداولة بين الاثني عشرية والوهابيين؛ ليتم التقريب بين المتحاورين ـ وكلهم مسلمون ـ، لأننا وجدنا تلك المصطلحات تتفق من حيث اللفظ والغلاف الخارجي، مع وجود الاختلاف العميق بين تعريف الاثني عشرية لهذه المصطلحات وبين تعريف الوهابية لها.
وما لم يفهم كل واحدٍٍ منّا مراد الآخر، ومراد علمائنا الاثني عشريين أو الوهابيين من تلك المصطلحات، فلن تتحقق فكرة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، وبالتالي سوف نفرِّط ونقصِّر في حق الوحدة الإسلامية المقدّسة.
ولا شك أنّنا إذا أدركنا الحقائق الثلاث السابقة للاثني عشرية، فسوف يكون لدينا اليقين بأنّه لا يمكن أن يكون هنالك مصطلح عند الاثني عشرية يتنافى مضمونه ومحتواه مع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية(1).
وبعد؛ فهذه الحقائق الأربع أشرنا إليها إشارة مختصرة في هذا العرض السريع لمنهج تفهيم الوهابية للمذهب الاثني عشري، وسنقوم بدراستها في مرحلة المعرفة التحليلية.
وقبل أنْ نختم هذا العرض نذكر تنبيهاً ضرورياً في نهاية هذه المرحلة وهو:
لقد كان من ضروريات هذا المنهج أنْ ندرس الحقيقة السادسة (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري) في هذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلة للمذهب الاثني عشري)، وأن تُدرس في المرتبة الثانية بعد الحقيقة الأُولى، لكننا نعلم أنّ الوهابية لا يمكن أنْ تستوعب حقيقة الإمامة عند الاثني عشرية إلاّ في مرتبة متأخرة، ومن هنا آثرنا أن نذكر (الإمامة عند الاثني عشرية) في المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل دراسة الاثني عشرية. كما أننا لا نشك أنّ (خاصّية الغيبة)(2) كان يجب أنْ تدرس في هذه الحقيقة (حقيقة الإمامة)؛ لارتباطها الوثيق بهذه الحقيقة، بل لانبثاقها منها، لكننا آثرنا تأخير البحث عنها؛ لأنّ الإيمان (بالغيبة) يحتاج إلى مقدمات لا بد من ذكرها قبل الحديث عن (الغيبة).
والآن حان الوقت للاستعراض السريع للمرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل دراسة الاثني عشرية.
____________
(1) انظر دراستنا عن هذه الحقيقة في الفصل الثاني من الباب الثاني في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(2) نحن لا نشك أن (خاصّية الغيبة) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمرحلة المعرفة التحليلية للاثني عشرية.
المرحلة الثالثة: (مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري).
والأمر الثالث الذي يجب مراعاته والالتزام به حينما نريد طرح (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) على إخواننا الوهابيين، حتى لا يتعرضوا للانزلاق والخطأ، وحتى لا يرتكبوا جريمة التشويه في حق (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)، وحتى نقنعهم بضرورة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية؛ هو أنْ ندرس هذه المرحلة بعد ادراك المرحلة الأُولى والمرحلة الثانية. وسبق أنْ ذكرنا هدف المرحلتين السابقتين، أما ا لهدف الرئيسي لهذه المرحلة فيتبلور في معرفة جذور المذهب الاثني عشري.
ولعله مما يحتم الالتزام بهذا المنهج ـ الذي وضعناه لغرض تصحيح منهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية، ولغرض التقريب بين الاثني عشرية والوهابية ـ أنْ ندرك حقيقة هامة، وهي: إنّنا وجدنا أنّ الطابع العام فيما كتبه أتباع الجماعة الوهابية ومقلدوهم من بعض أهل السنَّة المعاصرين حول الاثني عشرية؛ كان يبدأ بالبحث عن جذور المذهب الاثني عشري قبل أنْ يقوم بدراسة تحليلية لمضامين ومحتويات هذا المذهب، أي قبل أنْ يدرس المرحلة الثانية، مع أنّه لا خلاف بين العلماء المحققين أنّ المعرفة الجذرية ـ لأيّ مذهب من المذاهب ـ تنبثق انبثاقاً ذاتياً من (المعرفة التحليلة)؛ فالمعرفة الجذرية للمذهب الاثني
إنّ مشكلة أتباع الجماعة الوهابية أنهم يبحثون عن (حقيقة نشأة الاثني عشرية)، مع أن هذه الحقيقة من صميم المعرفة الجذرية، ولا علاقة لها بالمعرفة التحليلية المرتبطة بالحقائق الأربع للمذهب الاثني عشري. ولو قاموا بدراسة تحليلية لـ (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة معنى بعض المصطلحات عند المذهب الاثني عشري)؛ لما أمكن لهم أن يخلطوا بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة، فما دامت تلك الحقائق الأربع السابقة ـ عند الاثني عشرية ـ مستلهمة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ فلا بد أن تكون جذور المذهب الاثني عشري ـ منابعه وهويته ونشأته ـ إسلامية، وإلاّ سنقع في مشكلة التناقض.
وفي هذه المرحلة سوف ندرس ما تبقى من الحقائق الثمان التي أشرنا إليها، وهي الحقائق الأربع التي لم نذكرها.
ونحب أن ننبه ـ هنا ـ إلى أنّ الحقائق الثلاث (حقيقة منابع الاثني عشرية، وحقيقة هوية الاثني عشرية، وحقيقة نشأة الاثني عشرية وعلل هذه النشأة) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري. أما حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري فقد سبق أن أشرنا إلى أنّها ترتبط بالمعرفة التحليلة للمذهب الاثني عشري.
ولعله مما يحتم هذا المنهج أنْ ندرك بصورة مختصرة وسريعة هذه الحقائق الأربع الهامة.
الحقيقة الخامسة: (حقيقة منابع المذهب الاثني عشري)(1)
لقد قال أتباع الجماعة الوهابية ـ بسبب مشكلة الخلط عندهم بين الاثني عشرية وفرق الغلاة ـ: بأنّ منابع الاثني عشرية ترجع إلى الفكر المجوسي وما فيه من لوثة وثنية، أو ترجع إلى اليهودية أو النصرانية.
وكان الطابع العام لمنهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية أنّهم يصدرون تلك الأحكام الشنيعة على منابع مذهب الاثني عشرية قبل التحليل الكامل لمفاهيمه ومحتوياته، ولو درسوا الحقائق الأربع السابقة لعلموا أنّه ما دامت عقيدة الاثني عشرية مستلهمة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وما دامت الشرائع والأحكام عند الاثني عشرية مستقاة منهما، وما دام أنّ أهداف الاثني عشرية مستخرجة من الكتاب والسنّة، وما دامت كل مصطلحات الاثني عشرية تتفق في مضامينها مع القرآن والسنّة.. أقول إذا عرفوا كل هذا فليس من المعقول ـ بعد كل ذلك ـ أنْ يقولوا بأنّ منابع الاثني عشرية ترجع إلى الفكر المجوسي!
إنّ مشكلة أتباع الجماعة الوهابية هي عدم التمييز بين (منابع الاثني عشرية ومنابع فرق الغلاة)، ولو قالوا بأنّ منابع الغلو والغلاة مستمدة من الفكر المجوسي لكانوا مصيبين في ذلك.
____________
(1) وهذه الحقيقة تعد الحقيقة الأُولى في المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
وفي هذه الحقيقة سوف نتحدّث بصورة مفصلة عن مقام القرآن ومقام السنّة في كتب الاثني عشرية، بعد أن تبين لنا في الحقائق السابقة أنّ تلك الحقائق مستقاة من القرآن والسنّة(1).
____________
(1) انظر دراستنا عن هذه الحقيقة في الفصل الأول من الباب الثالث من كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
الحقيقة السادسة: (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري)(1)
إنّ الذي يراجع موضوع الإمامة عند الاثني عشرية، ويطلّع على أدلتهم القوية من النصوصّ القرآنية والأحاديث الصحيحة؛ سوف يعلم بأنّ قضية الإمامة كانت هبة خالصة من الله للبشر، عرفّها لهم عن طريق آخر الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ. ولم تكن الإمامة من صنع الاثني عشريين، ولا هم قالوا بها بسبب الظلم الذي حل على أهل البيت النبوي؛ فقد جاء النصّ الصحيح ـ منذ فجر الإسلام ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، بصورة كاملة حاسمة، قبل أن يتعرّض البيت النبوي للظلم.
إنّ من الخطأ أن يقال: إنّ عقيدة الاثني عشرية في النصّ على الأئمة الاثني عشر لم تعرف إلاّ في القرن الرابع(2)!
إنّ الأمر ليس كذلك أبداً، إنّما كانت عقيدة الاثني عشرية في النصّ على الأئمة الاثني عشر تنتشر بين الناس تدريجاً، مرحلة بعد مرحلة، وكان حديث الاثني
____________
(1) وهذه الحقيقة تعدّ الحقيقة الثانية في مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
(2) أجمع المسلمون من أهل السنّة ومن الاثني عشرية أنّ الرسول الكريم قد أوصى لاثني عشر خليفة من بعده، كما ذكر ذلك الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه، والإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه، وعشرات من كبار محدِّثي أهل السنة والاثني عشرية. والكثير من هذه الكتب كانت موجودة قبل القرن الرابع.
وقد قدّمنا الأدلة القوية على إمامة الأئمة الاثني عشر عندما استعرضنا هذه الحقيقة في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية)، لكن الذي يهمنا في هذه الدراسة المختصرة والفكرية أنْ ننبه على حقيقة هامة وهي: إنّنا وجدنا أنّ اتباع الجماعة الوهابية ـ بسبب الخلط بين قادة الاثني عشرية وقادة الغلاة عندهم ـ لم يدركوا دور الأئمة الاثني عشر (أوصياء الرسول الأكرم) في تعريف الناس بعقيدة النصّ على إمامتهم، فينسبون مسألة النصّ على إمامة الأئمة الاثني عشر إلى قادة الغلاة، ولا يلتفتون إلى أنّ مسألة إمامة الأئمة الاثني عشر بعد الرسول موجودة في صحيح البخاري وفي أكثر كتب أهل السنّة الحديثية. ولا يمكن لهم أنْ ينسبوا أحاديث النصّ على الأئمة الاثني عشر إلى قادة الغلاة.
إننا نعتقد أنّ مذهب الاثني عشرية يطير بجناحين:
أحدهما: حديث الثقلين(2).
والجناح الآخر: حديث الاثني عشر.
وما لم تدرك الوهابية هذين الحديثين لا يمكن لها أن تفهم حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري.
____________
(1) انظر مصادر حديث الاثني عشر الفصل الأول من الباب الثالث عند دراستنا المفصّلة لهذه الحقيقة في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(2) قال الكاتب الوهابي الذائع الصيت الدكتور محمد علي البار ـ حفظه الله ـ في كتابه (الإمام علي الرضا ورسالته الطبية) تحت عنوان: (حديث الثقلين):
((وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فينا خطيباً بماء يدعى خُمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد؛ ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أو لهما كتاب الله فيه ا لهدى والنور؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي...)).
وحديث الثقلين هذا قد ورد في سنن الترمذي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أثقل من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فانظروا كيف تخلفوني فيهما)).
=>