صفحة :   

الطبل الأجوف:

غير أنك قد تواجه في حياتك من يدعي المعرفة، ويتاجر بها، ويبيع ويشتري ويهب ويمنح من ألقابها ما شاء لمن شاء.

ويا ليته يكتفي برفع شعاراتها، ولوك عباراتها، بل هو يتعدى ذلك إلى حد التطاول على رموزها، ثم إلى أن يقنع نفسه بأنه هو طليعة روادها، وغاية جهدها وجهادها، فيبادر إلى طرح آرائه السقيمة، وأفكاره العقيمة في كل اتجاه. حتى في قضايا الإيمان والاعتقاد..

فإذا رجعت إليها وإليه، فلن تجد أمامك إلا ألعوبة تحركها أيد في الظلام، أو أضحوكة لا تعرف خفاياها لأن الناس نيام، فهو ينعق بما لا يسمع، كالطبل الأجوف، له صوت عال، وجوف خال. لا يرجع في دعاويه إلى أساس، ولا يعتصم بركن وثيق، بل يرتجل الرأي، ويلقي الكلام على عواهنه، فيخطىء المرمى، ويقع في المتناقضات، ويضيع في متاهات ما يثيره من عجيج وضجيج، دون أن يعرف الخطأ من الصواب، والزائغ من السائغ، فما أشد انطباق قوله تعالى عليه:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾([1]).

أما أهل العلم والفكر الحقيقيون والرساليون، فإنهم الذين يلزمون أنفسهم بقواعد ومناهج، أثبتت لهم الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة حقانيتها وصوابيتها وواقعيتها..

إن هؤلاء قد أعطوا هذه الضوابط والمعايير حرّيتها ـ بأمانة وصدق ـ لتهيمن على كل حركتهم الفكرية، والتزاماتهم الإيمانية، ولتحكم وتضبط مسيرتهم في كل موقف، وفي كل مجال.. فهي التي تفرض عليهم القرار، وتحدد لهم المسار، حتى إذا اعتمدوا رأياً أو موقفاً، ثم ظهر لهم: أنه لا ينسجم معها فإنهم يتراجعون عنه، بكل رضى، وحزم، وسيشعرون بالسعادة، لأنهم اهتدوا إلى الحق، وبالامتنان وبالعرفان لمن يدلهم عليه، أو يهديهم إليه، على قاعدة رحم الله من أهدى إلى عيوبي.

وتصبح هذه المعايير والثوابت هي السبب الأقوى في توحيد النظرة، وفي تجذر الفكرة على أسس سليمة وقويمة، وفي الانصهار في بوتقة الحقيقة برؤية صحيحة، ملؤها النقاء والصفاء، وبها تكون السعادة، ويكون البقاء..


 

([1]) الآيات من 8 إلى 9 من سورة الحج.

 
   
 
 

موقع الميزان