صفحة :   

المقاسمة تفرض الأكل من الشجرة

فقد كان من الطبيعي: أن يلاحق النبي آدم «عليه السلام» هذه الاحتمالات، ويسعى لتأكيدها، ولو عن طريق فرض القسم على إبليس لعنه الله. وإخراج الأمر من يده ليصبح في عهدة الله تعالى، ليكون هو الكافل والضامن..

هذا وقد أشارت كلمة «قاسمهما» التي هي مثل ضارب في الدلالة على صدور الفعل من الطرفين، إلى وجود قسَمين: أحدهما، من آدم «عليه السلام» وزوجه. والآخر، من إبليس لعنه الله.

لقد كان على آدم «عليه السلام» الإنسان الكامل أن يسعى للتأكد من صحة الاحتمال الذي ذكره له مخاطبه، لأنه مهم جداً ومصيري بالنسبة إليه، لانسجامه مع حبه لله تعالى، ومع سعيه لنيل مقامات القرب والكرامة منه عز وجل. وإن أي تقصير في هذا الأمر سوف يلحق به أعظم الضرر، ويوقعه في أشد خطر..

وكان طريقه الوحيد لضمان الصدق, ولتحصيل الرجحان، هو أن يسوق من يخاطبه بهذه الأمور إلى القسم. ففعل ذلك، متشدداً معه غاية التشدد، حيث لم يكتف بطلب القسم منه، بل أقسم هو عليه أن يصدقه القول أيضاً، وكان المفروض بالطرف الآخر، أن يبرّ بقسمه؛ فكيف إذا زاد على ذلك بأن أكد قوله بقسم جديد على أنه ناصح وصادق؟!([1]).

وبذلك يكون إبليس لعنه الله قد وقع في مخالفتين:

إحداهما: أنه لم يبرّ بقسم آدم «عليه السلام»، كما هو المفروض.

الثانية: أنه كذب عليه حين أقسم له أنه ناصح، وليس هو كذلك.

فكان من الصعب على آدم «عليه السلام» ـ والحالة هذه ـ تصور الإقدام على هتك حرمة العزة الإلهية مرتين: مرة حين لم يبر بقسمه. ومرة أخرى حين أقسم على ما ادعاه من النصح والصدق.

بل إنه حتى لو كانت المقاسمة من طرف إبليس، فإن نفس المبادرة إلى القسم تفيد هذا التأكيد المطلوب..

وذلك لأن معنى القسم منهما هو التجاء الطرفين إلى الله سبحانه ليكون هو الكفيل والضامن للصدق، بحيث يجعل الأمر في عهدة العزة الإلهية، ويكون التفريط فيه هتكاً لحرمته تعالى، وتعدياً عليه، وخروجاً عن زي العبودية والانقياد له سبحانه.

وسيكون الله عز وجل هو الذي يتولى معاقبة من يعتدي على مقام جلاله وعزته، ويهتك حجابه وحرمته.

ويشهد لذلك أن الحلف بيمين البراءة يستتبع معاجلة الله تعالى، الحالف الكاذب بالعقوبة، فلا يقدم المذنبون على هذا اليمين، بل هم يمتنعون منه، خشية من ذلك، بل يمتنع من الإقدام عليه حتى الذين يعرفون من أنفسهم البراءة والصدق.

وهذا ما يفسر لنا سبب القضاء بالأيمان، بعد فقدان البينات في الإسلام؛ فإن ذلك يعني إخراج الأمر من عهدة الحالف، ليجعله في عهدة الله وفي ضمانه، فإن كان ثمة من تعد وجرأة واغتصاب حق، فإن الله سبحانه. هو الذي يتولى قصاص من يفعل ذلك.

وعلى كل حال، فقد جاء عن الإمام الرضا «عليه السلام» ما يشير إلى ذلك، فقد روي أنه قال:

«فأكلا منها ثقة بيمينه»([2]).


 

([1]) وقد يقال: إن صيغة فاعل لا تقتضي صدور الفعل من الطرفين. بل هي تدل فقط على وجود طرفين لهما نوع ارتباط بالفعل، ولا يشترط صدور الفعل بتمامه من كل واحد منهما. وقد يؤيد ذلك مثال: عادى زيد عمراً، وسامى زيد بكراً، وخاتله وعامل زيد فلاناً معاملة حسنة ونحو ذلك.. وهو كلام صحيح في نفسه، ولكن الأمر بالنسبة لآدم «عليه السلام» كان يحتـاج إلى المزيد من التأكيد والتحرز والاحتياط. وما ذكرناه قد يكون هو الأولى والأنسب من هذه الناحية.. والله هو العالم..

([2]) تفسير البرهان ج3 ص46 وج1 ص83 و81 والبحار ج11 ص64 و161 و163 و188 و206 وفي هامشه عن عيون أخبار الرضا ص108 و109 وعلل الشرائع ص48 والكافي ج1 ص215.

 
   
 
 

موقع الميزان