بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين..
حضرة حسن فرحان المالكي..
السلام عليك ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فقد ألمحت في جوابك إلى قسوة في الخطاب معك.. ولكنني
راجعت كلامي فلم أجد فيه إلا قسوة الصراحة، وعفوية البيان وصفاءه، وعدم
المواربة، والابتعاد عن الإحالة على مجهول.. ولم أرم أي إنسان بالتعصب
ولا بغيره.
وآمل أن لا تجد في خطابي هذا معك أيضاً إلا الجهر
بالحق، وإلا صراحة في البيان. وأن لا يكون ذلك سببا في تكدر خاطرك، فإن
البحث العلمي يهدف إلى بيان الحق، لا إلى النيل من الأشخاص.. ولو أردنا
أن نربط بينهما لانسد باب البحث العلمي مع كل أحد..
فليتسع صدرك إذن، ولتطب نفسك. وها أنا في إجابتي على
النقاط التي ذكرتها. أقول، وأتوكل على خير مسؤول ومأمول..
1 ـ
لقد ذكرت في إجابتك، انه لا بد أن نحكم بالإسلام لمن أخطأ في حق
الزهراء. أو أخطأ في حق أبي بكر.
ونقول:
إن الأخطاء ليست على حد واحد، فإن هناك أخطاء في أمور
عادية.. ولا يلزم منها محذور خطير، وهناك أخطاء يلزم منها ذلك.. وقد
بين رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أن الخطأ في حق فاطمة «عليها
السلام» ليس على حد الخطأ في حق غيرها، بل هو خطير إلى درجة أنه يغضبه
هو، ويغضب الله أيضاً.. فلو كان أبو بكر معذوراً في خطئه، فلا معنى لأن
تغضب منه فاطمة «عليها السلام»، ولا معنى لأن يغضب الرسول «صلى الله
عليه وآله»، ثم لا معنى لأن يغضب الله تعالى.. إلا إذا كانت فاطمة
«عليها السلام» لم تدرك معذوريته، فكيف أدركتها أنت إذن؟! فهل ظهر لك
ما غاب عنها؟!
2 ـ قلتَ:
إن إغضاب أبي بكر لفاطمة كان من باب التأويل. ومن القرائن الدالة على
ذلك تاريخ أبي بكر الطويل في نصرة النبي «صلى الله عليه وآله»، وهو
تاريخ قطعي، فكيف يترك القطعي بمخالفة يحتمل فيها التأويل؟!
وأقول:
أولاً:
لماذا لم تأخذ فاطمة نفسها بهذه القرينة، فهجرته إلى أن
ماتت.. فهل كانت عالمة بها أم كانت جاهلة؟.
فإن كانت عالمة بها فكيف لم تعمل بمقتضاها؟.
وإن كانت جاهلة بها، فكيف جهلتها الزهراء «عليها
السلام» وعرفها الآخرون بعد ألف وأربعمائة سنة؟.
وعلى كلا التقديرين، لماذا لم ينهها الصحابة ـ وعلي
معهم ـ عن المنكر، وإن كانت جاهلة بهذه القرينة القطعية ـ عندكم ـ
فلماذا لم يعلموها ـ وعلي معهم ـ ما جهلته؟ بل هم جميعاً قد تركوها،
ووقف علي «عليه السلام» إلى جانبها في ذلك، فلم يبايع أبا بكر إلى أن
ماتت..
ثانياً:
لا نريد أن نناقش في صحة القرينة التي ذكرتموها حول نصرته وغير ذلك،
فإن أبا بكر قد فرّ في أحد، وفي حنين، وفي خيبر، وفي الأحزاب، ولم
يبادر إلى الحصول على الجنة التي وعد الرسول «صلى الله عليه وآله» بها
من يبرز لعمرو بن عبد ود.
وإنما نريد أن نفترض صحتها، ولكن السؤال هو:
كيف أصبحت هذه القرينة قطعية؟!.
أليس نرى أن كثيرين تكون حياتهم حياة صلاح، ثم يضلهم
الشيطان في آخر عمرهم؟! وكذلك العكس، فإن كثيرين يعيشون عمراً طويلاً
في الضلال، بل في الكفر والشرك، ثم يهتدون إلى طريق الصلاح؟!.
ألم يكن هناك من ارتدّ عن الإسلام في عهد رسول الله
«صلى الله عليه وآله»؟ ثم حارب الرسول «صلى الله عليه وآله»؟!.. وألم
يكن هناك من ارتدّ في عهد أبي بكر، ثم حارب أبا بكر؟! ومنهم طليحة بن
خويلد، والأسود العنسي، ومسيلمة و.. و.. الخ..
فلماذا لا تفترضون:
أن هذا الصلاح السابق لا يمنع من أن تحلو الدنيا في أعين البعض،
فيحاولون الحصول على شيء من حطامها ـ سواء أكان ذلك عن تأويل أم لا؟
فيفعل ما يغضب فاطمة «عليها السلام»، ويغضب الرسول «صلى الله عليه
وآله»، ويغضب الله تعالى.. فإن التأويل لا ينفع مع وجود هذا الغضب، لأن
التأويل لا بد أن يكون في دائرة العلم برضى الله ورسوله «صلى الله عليه
وآله»، لا مع العلم بغضب الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»، مع تصريحهم
لذلك المتأول ولغيره بهذا الغضب.
ثالثاً:
إنك تعلن أنك تحسن الظن في الصحابة وتقول: إنهم لا يتفقون على مخالفة
أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهم الذين آووا ونصروا، وضحّوا،
وجاهدوا.. وكان فيهم الأبرار والأخيار، وذلك يدل على أنه لا يوجد نص من
الله ورسوله على علي «عليه السلام»..
ولعلك تجعل نفس هذا الكلام مبررا لنسبة التأويل إلى أبي
بكر، وأنه لا يعقل أن يقدم على إغضاب الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»
من دون تأويل..
ونقول لك:
أولاً:
قد عرفت آنفاً:
أن التأويل لا ينفع مع وجود التصريح بالغضب، فإن هذا التصريح يلغي ذلك
التأويل ويزيل أثره..
ثانياً:
قد ثبت أن الرسول «صلى الله عليه وآله» قد حدد أن الخلافة في قريش..
والأنصار كلهم كما نص عليه البخاري في كتاب الحدود، باب
رجم الحبلى ـ وهم قد آووا ونصروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ـ قد اتفقوا
على مخالفة هذا النص ـ فاجتمعوا في السقيفة، ليولوا أمرهم سعد بن
عبادة، وهو ليس من قريش.
وقد التحق بهم بضعة رجال من المهاجرين، وهم أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة؟!.
فلماذا جاز أن يُجْمِعَ الأنصار كلهم على مخالفة نص
رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أن الخلافة والإمامة في قريش، وهو
نص لا ريب فيه، ولم يجز أن يسعى أفراد من المهاجرين إلى نيل الخلافة،
وإقصائها عن صاحبها الحقيقي؟! ثم تسير الأمور باتجاه فرض هذا الأمر على
الأنصار، وعلى علي «عليه السلام» وبني هاشم، بالاستعانة ببني سليم،
وبغير ذلك من وسائل سجلها التاريخ!!
3 ـ
بالنسبة لحلف أبي بكر: إن قرابة النبي «صلى الله عليه وآله» أحب إليه
من قرابته، قلتَ: إن ذلك ثابت عنه.
وأقول لك:
إنا لا نريد أن نناقشك في ثبوته.. ولكنني أثير أمامك أسئلةً:
أحدها:
ألا يحتمل أن يكون ذلك قد جاء منه على سبيل السياسة، بهدف امتصاص الأثر
الذي تركه هجران فاطمة «عليها السلام» له حتى ماتت؟!.
الثاني:
لو كان الأمر كما يقول أبو بكر، فلماذا لم يرضِ الزهراء «عليها
السلام»، ويتجنب غضبها، وغضب الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»؟
وهل وجود التأويل يبيح لأبي بكر أن يقدم على إغضاب من
يعلم أن غضبها موجب لغضب الله ورسوله؟.
وكيف أصبحت بعد كل ما ذكرناه قرائنك التي اعتمدتها
قوية؟! وكيف يمكن أن تكون مبرراً للجمع بين النصوص على أساسها؟!.
على أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بالعصفور الذي رأى
صياداً يذبح عصفوراً آخر، فقال لرفيقه: انظر إلى هذا الصياد كم هو رقيق
القلب، فقال له العصفور: أنظر إلى فعل يديه، ولا تنظر إلى دموع عينيه.
وقد عرفت أن هذا الرجل قد كشف بيت
فاطمة «عليها السلام»، وأعلن بندمه على ذلك قبل موته، وقال: ليتني لم
أكشف بيت فاطمة([1])،
وأخذ منها فدكاً، وإرثها من أبيها، وقد هجرته هي لذلك، كما تقوله أنت.
فكيف نجمع بين هذا كله.. وبين تلك المحبة التي ذكرت ثبوتها عنه؟!!
4 ـ بالنسبة لقولك:
إن الشيعة يخالفون ظاهر قوله تعالى:
﴿وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ﴾([2])..
وأن الشيعة من أكثر الفرق تأويلاً.
نقول:
أولاً:
هذا خروج عن موضوع البحث.
ثانياً:
لولا أن ذلك يجر إلى بحوث خارجة عن الموضوع لطلبنا منك فهرساً بالموارد
التي ترى أنها من التأويل والخروج عن الظاهر..
وستأتي إشارة أخرى هامة إلى هذا التأويل الذي تنسبه إلى
الشيعة، وأنه ما هو إلا التزام بالظواهر.. وفقا لقواعد الخطاب، ولضوابط
الجمع بين الأدلة، والأخذ بالمجازات والكنايات، وذلك في إجابتنا على
الفقرة الحادية عشرة في كلامك، فانتظر..
ثالثاً:
بالنسبة للآية الشريفة وتطبيقها على أبي بكر، نقول:
ألف:
إن هناك قرائن تدل على تأخر إسلام أبي بكر عن البعثة إلى أن مضت سنوات
عديدة، ففي الطبري: أنه أسلم بعد أكثر من خمسين.
ولا نريد أن نقول:
إنها ـ أعني هذه القرائن ـ تفيد اليقين، بل نقول: إنها تسقط اليقين
بكونه من السابقين الأولين، وذلك لأن الآية قد حصرت الكلام لا
بالسابقين وحسب، بل بالسابقين بقيد كونهم أولين. وذلك يدل على أن
الحديث إنما هو عن أفراد قلائل جداً.. وهذا التفسير للآية إنما هو تمسك
بالظاهر، وليس من التأويل.
ب:
أما القرائن التي أشرنا إلى أنها تضعف اليقين بكون أبي بكر من
السابقين، فضلا عن كونه من الأولين، فيمكن مراجعتها في كتاب: الصحيح من
سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج:2 ط: دار السيرة بيروت،
تأليف: جعفر مرتضى العاملي.
5 ـ قولكم:
لا يجب قتل الممتنع عن البيعة ما لم يشق العصا بالسيف.. وقد ترك علي
«عليه السلام» بعض من لم يبايعه.. وترك أبو بكر وعمر سعد بن عبادة،
فإجبار كل أحد على البيعة غير شرعي..
نقول فيه:
أولاً:
إن ترك أبي بكر وعمر قتل سعد بن عبادة لا يدل على أنهم كانوا لا يرون
جواز قتله.. فلعلهم تركوا قتله لأجل أن ذلك يوجب ثورة الأنصار ضدهم،
وذهاب الأمر من أيديهم.. فإن ثورة الأنصار أو الخزرج على الأقل تسقط
خلافتهم كلها.. أو هي ـ على أقل الفروض ـ تشكل خطراً جدياً على حكمهم.
ثانياً:
ألم يذكر التاريخ لنا: أن عمر قد طلب من الناس أن يقتلوا سعداً في
السقيفة، حيث قال: اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً؟!.
ثالثاً:
أليس قد حدثنا التاريخ أيضاً: أن سعداً قد اغتالته يد السياسة بعد
ذلك.. بل لقد حدثنا كذلك: أن قاتله هو خالد بن الوليد، وليس الجن.. كما
زعموا.. فراجع كتاب الغدير للعلامة الأميني «رحمه الله»..
رابعاً:
إن الحكم بوجوب قتل الزهراء «عليها السلام» وعلي «عليه السلام» إنما
جاء على سبيل الإلزام لكم، انطلاقاً من قول عمر نفسه، وذلك لأن الزهراء
«عليها السلام» إن كانت قد بايعت علياً «عليه السلام» فإن عمر قد أوجب
قتل من يبايعه الناس، حيث قال: لقد كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله
شرها. وهدد بقتل من بايع ومن بويع معاً. في صورة حدوث ذلك بعد وفاة
الخليفة (راجع صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى).
ورويتم أيضاً:
إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما([3])،
فاشتراطكم أن يصاحب رفض البيعة ثورة، لم نعرف مأخذه، فإنه يخالف قول
عمر الآنف الذكر، ويخالف هذا الحديث الثابت أيضاً.
خامساً:
أما ترك علي «عليه السلام» لقتل بعض من لم يبايعه، فلعله لأنهم لم
يتخذوا إماماً آخر، ولم يبايعوا غيره، فلم ينطبق عليهم الحديث المذكور
آنفاً..
وأما الزهراء «عليها السلام» فقد ذكرنا حسب الفرض في
كلامنا: أنها كان لها إمام آخر، ولم تمت ميتة جاهلية. وقد كانت في
عنقها بيعة له..
ومن الواضح:
أن حكمها وفقاً لهذه القواعد عندكم هو القتل. وعدم حصول ذلك لعله لأجل
أنهم لا يقدرون على قتلها جهاراً..
ولكن لا بد من التوضيح:
أننا نحن لم نحكم بقتلها وقتل علي «عليهما السلام»، فإن كلامنا إنما
كان معكم..
وقد قلنا لكم:
إن عليكم أنتم أن تحكموا بأنها تستحق القتل ـ وإن لم يمكنهم قتلها
لأكثر من سبب ـ لأنها قد فعلت ما تستحق به ذلك وفق موازينكم..
6 ـ وأما قولكم في النقطة الخامسة:
سواء اعتقدت فاطمة «عليها السلام» إمامة أبي بكر أو
بطلانها، لا تكفر فاطمة ولا أبو بكر..
فنقول فيه:
إننا لم نقل:
إن أبا بكر قد كفر لأن فاطمة لم تعتقد إمامته.
بل قلنا:
إن إغضاب النبي «صلى الله عليه وآله» وأذاه هو الذي يوجب الكفر، وقد
ذكرنا كيف أن القرآن قد نص على أن أذى النبي يوجب اللعنة الإلهية في
الدنيا والآخرة، والعذاب المهين.. فلماذا غيرتم سياق الكلام، ولماذا
أهملتم الإجابة على هذه النقطة بالذات، كما أهملتم الإجابة على نقاط
أخرى أساسية وحساسة.
أضف إلى ذلك:
أن الأمر قد تجاوز الاعتقاد عند الزهراء «عليها السلام» إلى الممارسة،
واتخاذ الموقف، ورفض الاعتراف بخلافته، والهجران.. الدال على وجود
مخالفة، إما من الزهراء «عليها السلام»، بأن تكون قد هجرته تعديا وظلما
له.. أو يكون قد فعل ما استحق به الهجران والمقاطعة..
كما أن رفض البيعة له تبعاته على صعيد الإيمان
والأحكام.. فلا بد لكم من حل هذه المعضلة.
7 ـ وأما ما ذكرتموه في الفقرة رقم 6.
فإننا نقول:
قد ذكرتم:
أنكم لا تعلمون بأن الخلاف بين أبي بكر وبين فاطمة كان على البيعة..
وسؤالنا موجه لكم:
هل بايعت فاطمة أبا بكر؟ أم أنها ماتت ولم تبايعه؟! فاختر في الجواب ما
شئت!! وسنرى أن أي جواب اخترته، سوف تنتج عنه أسئلة أخرى، تحتاج إلى
جواب..
ولماذا لم يبايع علي «عليه السلام» أبا بكر إلى أن مضت
ستة أشهر، أي إلى أن ماتت فاطمة «عليها السلام» ـ حسب رواية البخاري
وغيره ـ ؟!
ولو سلمنا أن سبب الخلاف هو الإرث وفدك، فإن ذلك يكفي
لإثبات أن أبا بكر قد أغضب فاطمة «عليها السلام» التي يرضى الله ورسوله
«صلى الله عليه وآله» لرضاها.. والأمر في غضبها أيضاً كذلك. فهل من
يكون الله ـ وكذلك الرسول ـ غاضباً عليه، يصلح للإمامة والخلافة؟!..
وإذا كان النزاع حول فدك، فإن هناك أسئلة كثيرة لا بد
لكم من الإجابة عنها..
ومنها:
هل كانت الزهراء «عليها السلام» تعلم بأن النبي «صلى الله عليه وآله»
لا يورث؟ أم تجهل؟!.. والذي يجهل الأحكام، هل يحق له أن يغضب؟! وإذا
كان لا يحق له ذلك، فهل يصح أن يقال: إن الله يغضب لغضبه، وأن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» يغضب لغضبه؟!..
وبعد إجابتكم على هذه الأسئلة نطرح عليكم سواها..
وأما حديثكم في هذه النقطة (السادسة) عن تبادل التكفير،
فهو عجيب، فإن البحث يجري بيننا وبينكم في سياق علمي، يستند إلى الدليل
والبرهان، ويعتمد الأصول المرعية في الكتاب والسنة.. واللغة العلمية لا
بد أن تأخذ مداها. وإذا كان الدليل القرآني، أو الوارد في السنة يسوق
إلى أمر بعينه، فلماذا لا ننساق معه؟! ويكون سبباً في وقوفنا على حدود
الله، وتراجعنا عن كل ما يخالف قول الله ورسوله؟!
8 ـ
وأما حديثكم في الفقرة رقم 7 عن أن بعضهم قد أغضب النبي «صلى الله عليه
وآله» ولم يكفّره النبي «صلى الله عليه وآله».
فيرد عليه:
أولاً:
هل من أغضبوا النبي «صلى الله عليه وآله» في حياته أو بعد وفاته ـ حتى
لو سكت النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم ـ يصلحون لمقام الإمامة
والخلافة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!..
وهل يؤمَنُ هؤلاء الذين يغضبون الرسول «صلى الله عليه
وآله» ويؤذونه، ويغضبون الله بذلك، على دماء الناس وأعراضهم، وأموالهم،
وعلى دينهم، وسياساتهم، ومصيرهم فلا يغضبون الله ورسوله فيها؟!.
وهل يمكن أن يوكل إليهم أمر تربية الأمة تربية صالحة،
وفق ما يرضى الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»؟!..
ثانياً:
إن رفق النبي «صلى الله عليه وآله» بهم وتألفهم على الإسلام، وهم حديثو
عهد بجاهلية، وسكوته «صلى الله عليه وآله» عنهم؛ لا يعني أنهم بإغضابهم
لرسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يكفروا.. وليس ذلك بأكثر مما فعله
طليحة بن خويلد، الذي أسلم ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، وقد قلتم: إن
من فعل ذلك، فإن ارتداده يذهب صحابيته، فإذا عاد عادت إليه!!..
ثالثاً: قولكم:
إنه «صلى الله عليه وآله» كان يراعي جانب الجهل، وحسن النية فيهم، أو
جانب الضعف البشري..
لا يعني:
أنهم لم يكفروا بذلك كما قلنا، ولكنهم لما ندموا عادوا إلى الإسلام،
فلم ير «صلى الله عليه وآله» من داع لهذا التفريق بينهم وبين زوجاتهم.
ولا لغير ذلك. وليكن سكوت النبي «صلى الله عليه وآله» عن ذلك دليلاً
على أن من فعل ذلك قد عاد إلى الصلاح.
ولكن كيف يمكن إثبات العودة إلى الصلاح لمن أحدث بعد
وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» ؟ ولا يوجد وحي، ولا أنبياء يطلعهم
الله على غيبه ليعرف الناس إن كانوا قد عادوا إلى الصلاح، أم لا..
أضف إلى ذلك:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قبل المنافقين في مجتمعه ولم يعلن
بحربهم، ولا اتخذ إجراءات عملية ضدهم، كالتفريق بينهم وبين زوجاتهم،
وإجراء أحكام الإرث فيهم، وغير ذلك.
وقد كانوا من الكثرة بين المسلمين إلى حدّ أن عبد الله
بن أبي قد انخذل بثلث الجيش في أحد.. ولعل من بقي، ولم يظهر نفسه كان
أكثر من الذين ذهبوا مع ابن أبي..
وأما بالنسبة للحديث عن إغضاب زوجات النبي «صلى الله
عليه وآله» للنبي «صلى الله عليه وآله»، وأن النبي «صلى الله عليه
وآله» لم يتخذ أي إجراء ضدهن، فراجع ما ذكرناه آنفاً، ولا أحب إثارة
هذا البحث على صفحات الإنترنت، لأن فيه مهالك ومزالق، لا أراك تتحمل
الدخول في البحث فيها وحولها.. ويكفي أن نشير لك إلى ما ورد في سورة
التحريم، من تعريض قوي لزوجاته اللواتي كن يؤذينه «صلى الله عليه
وآله».
فكيف إذا عطفنا النظر إلى قول من تقول له منهن: أنت
الذي تزعم أنك نبي. وغير ذلك؟!..
وكيف إذا أخذنا بما ذكرته في رسالتك هذه، في الفقرة
الرابعة، من أن شق عصا المسلمين بالثورة يوجب القتل. وأردنا تطبيقه على
الذين حاربوا علياً «عليه السلام» من الصحابة وغيرهم.. فتنبه لهذا..
9 ـ وأما ما ذكرته في الفقرة رقم 8 من عدم ضرر الجهل
ببعض معاني القرآن.. فيرد عليه:
أن الجهل ببعض معاني القرآن، ولا سيما إذا كانت بديهية
وظاهرة، كتلك التي ذكرتها له الزهراء «عليها السلام» يكفي دليلاً على
عدم أهلية الجاهل بها للحلول في موقع النبي «صلى الله عليه وآله»، هذا
الموقع الخطير جداً، الذي يطلب منه فيه تعليم الناس أحكام دينهم،
وتربيتهم، وتزكية نفوسهم، والحكم فيهم بما أنزل الله سبحانه، وسياستهم
وفق شرائعه وأحكامه..
وقولكم:
إن المضر هو المخالفة بعناد، لا المخالفة بحسن نية
واجتهاد.
غير دقيق، فإن هذه المخالفة إذا كانت بحسن نية في بادئ
الأمر، فهل تبقى كذلك بعد التعليم، والاستدلال والبيان، وإطلاق الصرخة،
ثم الهجران؟!
وكيف لا تضر المخالفة، إذا كانت في أمور أساسية وحساسة،
من شأنها تدمير وحدة المسلمين، وزرع الفتنة بينهم، وإحداث الشقاق
الموجب لانقسامهم إلى فرق ومذاهب، لا يزال الصراع قائماً بينها إلى
يومنا هذا، ولا نرى أي فرصة للخروج من هذه الصراعات القاتلة.. في
المستقبل القريب على الأقل؟!.
10 ـ أما ما ذكرته في الفقرة التاسعة، فيما يرتبط
بتكفير علي «عليه السلام» للخوارج، فيرد عليه:
أولاً:
قولكم: إن علياً «عليه السلام» لم يكفر الخوارج لم
تأتوا عليه بدليل. فإن مجرد معاملتهم بالرفق من قبله «عليه السلام»، لا
يكفي دليلاً على ذلك. وقد منَّ النبي «صلى الله عليه وآله» على بعض
المشركين، ثم قتلهم بعد بدر بعد أن تكرر عدوانهم..
كما أن معاملته «صلى الله عليه وآله» للمنافقين،
والمؤلفة قلوبهم، حتى لقد أعطاهم الغنائم في حنين، معروفة وظاهرة..
ثانياً:
إن مراتب الكفر، وحالاته وأحكامه مختلفة. وأنتم تعرفون الفرق في
الأحكام بين أهل الكتاب، وهم كفرة، وبين غيرهم من المشركين، وغيرهم ممن
ليس لهم كتاب سماوي.. كما أن من يكفر بإنكار ضروري من ضروريات الدين،
أو بإكفاره أخاه المسلم، كما ورد في الروايات، أو بخروجه على الإمام أو
نحو ذلك، له أحكام تختلف عن أحكام غيره. وكذلك الحال في الكافر ببعض
الأسباب الأخرى، كمن سب النبي «صلى الله عليه وآله» فإن فيئه لا يؤخذ،
ولا تسبى نساؤه، ولا يحرم أولاده من إرثه..
ثالثاً:
قد ذكرت لك في الإجابة السابقة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد وفّر
الأمر وسهله على علي «عليه السلام»، وأغناه عن أي بيان، بعد أن حكم
بكفر الخوارج. فهل ثبت لك: أن علياً «عليه السلام» خالف رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وحكم بإيمانهم؟!
11 ـ وأما ما ذكرتموه في الفقرة العاشرة.. حول التفريق
بين أهل الدنيا وغيرهم.. فيرد عليه:
أولاً:
ما هو الميزان في تحديد: أن هذا الإنسان من أهل الدنيا، وأن ذلك ليس من
أهلها، فحكمتم على يزيد، وقاتل عمار، وعلى معاوية بأنهم من أهل الدنيا،
ولم تحكموا على غير معاوية ويزيد بذلك؟!
فإن قلت:
إن سوابق معاوية جعلتنا نحكم عليه بذلك، أما سوابق أبي بكر ففرضت الحكم
بالعكس.
قلنا لك:
ألف:
لعل هذا الزاهد العابد الذي زعمت أنه جاهد ونصر رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، قد طمع الآن في الدنيا. وما أكثر الذين يعيشون عمرهم في
الزهد والتقوى.. أو على طريق الهدى، ثم يضلون، أو تغرهم الدنيا في آخر
حياتهم. وكذلك العكس..
ب:
إن سوابق أبي بكر في نصرة النبي «صلى الله عليه وآله» تظهر أنه لم يكن
بالمثابة التي تتحدث عنها، ولأجل ذلك نجده يفر في أحد، وفي حنين،
وخيبر، ولا يرغب في الجنة في الأحزاب، حين نادى رسول الله «صلى الله
عليه وآله»: من لعمرو، وأضمن له على الله الجنة.. ووإلخ..
ثانياً:
قد ذكرت أن قاتل عمر مجوسي، فكيف ثبت لك ذلك..
ثالثاً:
وبغض النظر عن ذلك، فماذا تقول في قتلة عثمان. ومن ألب عليه، وساعد على
قتله، هل يجب قتلهم جميعاً؟ وهل كفروا بخروجهم عليه، وثورتهم ضده،
وشقهم العصا بالسيف؟! كما ذكرته في الفقرة الرابعة؟!
وكيف لم يقتلهم علي «عليه السلام»، ولا غير علي «عليه
السلام»؟! هل خالفوا فيهم هذا الحكم القطعي الثابت عمداً؟! أم أنهم قد
تأولوا ذلك؟ وهل كان تأويلهم هو أن عثمان كان مستحقاً للقتل؟! أم أنهم
يرون أن من يُقتل نتيجة الاجتهاد فإنه لا يُقتص من قاتله؟..
وأين جاء هذا الاستثناء لقاتل المؤمن؟ ولماذا لا يدعي
القتلة في كل زمان الاجتهاد والتأويل، للتخلص من القصاص على جرائم
القتل، ومن حدود الزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وما إلى ذلك؟!.
12 ـ بالنسبة للفقرة الحادية عشرة نقول:
أولاً:
إننا لم نقل لك: إن هناك من المسلمين من يقول: إن الزهراء «عليها
السلام» قد ماتت ميتة جاهلية.. فلماذا حولت الكلام بهذا الاتجاه، وإنما
قلنا ـ على سبيل الإلزام بالحجة، لك، ولمن يرى إمامة أبي بكر ـ: هل
ماتت الزهراء «عليها السلام» ميتة جاهلية، حيث لم يكن في عنقها بيعة
لأبي بكر؟! أم أنها لم تمت كذلك؟!
ثانياً:
لماذا تحيل على الآخرين، وتنأى بنفسك عن إعطاء الرأي
الحاسم؟
إننا نسألك أنت:
هل تكفر الزهراء «عليها السلام» لأنها لم تبايع أبا بكر فتكون عندك
(حسب نص مسلم في كتاب الإمارة حديث 58) قد ماتت ميتة جاهلية؟!.. أو لا؟
وإن زعمت أنها قد كان لها إمام، فمن كان إمامها الذي
بايعته؟! فإن كان إمامها أبا بكر، فكيف يمكنك إثبات بيعتها لأبي
بكر؟!.. فإن علياً «عليه السلام» قد امتنع عن بيعة أبي بكر ستة أشهر
إلى أن ماتت فاطمة «عليها السلام»
([4])،
وكان امتناعه ـ كما تقولون ـ لأجلها، فهل بايعته فاطمة «عليها السلام»
وامتنع علي «عليه السلام»؟!
ثالثاً:
إننا لم ندّع كفر الصحابة من المهاجرين والأنصار، بل قلنا: إنه لا بد
لك من الإجابة على الأسئلة التي طرحناها عليك، والتي تستند إلى الضوابط
المستخلصة من الكتاب والسنة، لكي يتم لك تصحيح إمامة أبي بكر.
رابعاً: إنك قلت:
إن من يكفر فاطمة «عليها السلام» لا بد أن يكون معنى كلمة أهل البيت
عنده هم أمهات المؤمنين، فيخرج منهم فاطمة.. ولكنك لا تكفّر من يكفّر
فاطمة «عليها السلام»، ولكنك قلت: إنك ترى أنه خطأ بلا ريب..
ونقول لك:
ألف:
إنك بقولك هذا تمهد الطريق للجرأة على مقام الزهراء
«عليها السلام» الأقدس. وتسهِّل ـ باسم الاعتدال ـ على الناس تكفيرها..
وتقول لهم: إنكم معذورون في ذلك، إذا كان عندكم حسن نية، أو تأويل،
مهما كان ذلك التأويل باطلاً..
فهل سيأتي يوم تقول فيه أيضاً:
إن من يجترئ على الرسول «صلى الله عليه وآله» ويرميه بالجهل والكفر،
والزندقة، وشرب الخمر، ثم يحاول التشبث لذلك بما رواه الحاقدون،
وافتراه عليه الكذابون من قصة الغرانيق، وأساطير روايات الخمر، التي
أريقت عند المسجد الذي سموه بمسجد الفضيخ، أو حادثة تأبير النخل
المزعومة، وغير ذلك من ترهات، لديه تأويل أيضاً.. ولكنه مخطئ بلا ريب.
ولا يكفر بذلك؟!
وهل إذا تأول أحد آيات خلق عيسى، خصوصاً قوله تعالى:
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾([5])..
فادّعى صحة قول النصارى:
إن في عيسى عنصراً إلهياً، وأنه يكون بذلك ابن الله، هل يكون بتأويله
هذا معذوراً، ويبقى على ملة الإسلام؟!
ب:
إن اتهام من يكفّر فاطمة «عليها السلام» بتكذيب القرآن غير مقبول عندك،
ويبقى تكفيره لفاطمة «عليها السلام» مجرد خطأ!!
فأنت تريد بذلك أن تحفظ أولئك الجهلة عن أن توجه إليهم
تهمة تكذيب القرآن، أما فاطمة «عليها السلام» فما أهون شأنها، وما أحط
مقامها عندك؟! فإن اتهامها بالكفر أهون من اتهام أولئك بتكذيب القرآن
الذي حكم بطهارتها، وتكذيب الرسول الذي حكم بأن من يغضبها يغضبه، ومن
يغضبه يغضب الله!!.
أو لعل هذا التسهيل قد جاء إكراماً لأبي بكر، لكي تقر
عينه بتصحيح خلافته، ولو بقيمة تكفير الزهراء، والحكم عليها بأنها قد
ماتت ميتة جاهلية..
لا ندري! ولعل الفطن الذكي يدري.
ج:
إنك بفتح هذا الباب تكون قد وجهت ـ بصورة ضمنية ـ اتهاماً لله أولاً،
ثم لرسوله «صلى الله عليه وآله» ثانياً. بعجزهما عن البيان القاطع
للعذر، والمثبت للحجة، والقاطع لدابر الخلاف في شأن فاطمة الزهراء
«عليها السلام»، وطهارتها، وإيمانها..
فلماذا إذن تطلب الوحدة في الفكر، وفي الاعتقاد؟!
وكيف يمكن جمع الناس على الحق؟!..
وكيف يقول الله تعالى في وصف كتابه الكريم: ﴿بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾؟!([6]).
وكيف يطلب من الناس أن يردوا ما اختلفوا فيه إلى الله
ورسوله.. ليبين لهم؟!.
د: لقد قلت:
إنه ليس هناك من يدعي الإسلام ويكذب القرآن لكنها، الخصومات المذهبية
وحسب..
ونقول لك:
ما هو دليلك على هذا الادعاء؟!
وكيف تفسر الكذب على الله وعلى رسوله «صلى الله عليه
وآله» في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! وقد استمر ذلك بعده
مئات السنين، حتى إنه «صلى الله عليه وآله» قال: ألا وإنه قد كثرت علي
الكذابة، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار..
ولماذا ألف العلماء كتب الموضوعات؟! ألم يكن الوضاعون
يدّعون الإسلام؟ فكيف تجرؤوا وكذبوا على الله ورسوله؟! وكيف جاز
للعلماء أن يرموا آلاف الرواة بالكذب على رسول الله «صلى الله عليه
وآله»؟..
هـ :
وبماذا تحكم على المدعين للنبوات بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟
حيث أنشأوا مذاهب وأدياناً، وهم يتظاهرون بأنهم إنما يتأولون القرآن،
ويبررون بدعتهم من خلال التلاعب بآياته الكريمة، ومن خلال التأويلات
الشيطانية، وتفسير القرآن بآرائهم؟!..
و :
قد روي في صحاح أهل السنة: عن ابن عمر، وأبي هريرة عنه «صلى الله عليه
وآله»:
إذا قال الرجل لأحد: يا كافر، فقد باء به أحدهما([7]).
وفي نص آخر، عن ابن عمر:
أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء به أحدهما، إن كان كما قال، وإلا
رجعت عليه([8]).
وفي نص آخر عن النبي «صلى الله عليه
وآله»:
أيما رجل كفر رجلاً، فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر([9]).
وفي نص أبي داود:
أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر([10]).
وعن أبي ذر، عن النبي «صلى الله
عليه وآله»:
لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم
يكن صاحبه كذلك([11]).
خامساً: أما قولك:
لو رجع أحدنا إلى أحاديث الترغيب لحكم على الأمة كلها بدخول الجنة..
ولو رجعنا إلى أحاديث الترهيب وأخذنا بظواهرها لحكمنا على أكثر الأمة
بالنار، ثم تمثيلك لذلك بالنمام، وباني المساجد..
فهو كلام غير دقيق، فإن حمل العام على الخاص، وتقييد
المطلقات، والجمع بين الأخبار مع وجود قرينة وشاهد.. ليس من موارد
مخالفة الظهورات المستقرة، بل هي ظهورات بدوية، فإذا وجد ذو القرينة
قرينته، واجتمع العام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، حصل الظهور
المستقر، الذي بنيت عليه الحجج، وعرف به الدين وأحكامه.. واستقامت به
حياة الناس في محاوراتهم، وفي مجالات التفهيم، والتفهم وتبادل المفاهيم
والأفكار، ونقلها إلى الآخرين، وتسجيلها للأجيال اللاحقة، لتستفيد منها
عبر العصور، وعلى مر الدهور..
وإذا أحببت الاستزادة في البيان، فبإمكانك مراجعة كتب
الأصول..
13 ـ وأما بالنسبة للفقرة الثانية عشرة في كلامكم..
فإنني أقول:
لا أخفيكم أنني قد أصبت بخيبة أمل حين رأيت إجابتكم
هذه، فقد لاحظت أنكم تجاهلتم نقاطاً أساسية، فلم تجيبوا عليها،
واكتفيتم بالإشارة إلى أمور جانبية، مما ليس هو محط النظر بصورة
أساسية، وها أنتم تعتذرون هنا بأن البسط سيأخذ مساحة كبيرة؟!..
ولا ندري ما هو المانع من هذا البسط، إذا كان من شأنه
أن يفتح القلوب على الحق.. في أشد المسائل حساسية، وأعظمها أثراً في
جمع كلمة المسلمين.. ولم شعثهم، وتأكيد قوتهم بوحدتهم. فعلى أساس هذه
المسألة بالذات تفرقت الفرق، ونشأت المذاهب، بل لقد قال الشهرستاني في
الملل والنحل:
«وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في
الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان».. انتهى.
وأما قولك:
إنك تجيب بما حضر في الذاكرة.. فهو مثير للقلق، ويدعو إلى الريب في
صدقية الكلام، فإن ذلك يعني: أن الأجوبة قد تكون غير دقيقة.
مع أن بإمكانك مراجعة الكتب، وهي في متناول يدك، إن لم
يكن في بيتك، ففي جهاز الكومبيوتر، أو عبر الإنترنت أو أي وسيلة أخرى.
ونرى أن المسؤولية الشرعية تفرض عليك السعي لإقناع
الآخرين بالحق.. فإن المقام ليس مقام إطلاق إجابات سريعة، ولا هو لأجل
مجرد الدعاية والإعلام.. ولا هو مقام إطلاق الفتاوى، والاقتصار على
إعطاء النتائج..
كما أن محاولة رمي الآخرين بالتعصب، لا يعفي من مسؤولية
العمل على تليين القلوب، وتقديم حقائق الدين بصورة مقنعة، وذلك لا يكون
إلا بالاستدلال، ومراجعة المصادر، والاعتماد على الأدلة القاطعة للعذر.
ولا يكفي فيه الاعتماد على الذاكرة.. إلا إذا كنتم لا
ترون أن ثمة من يستحق إتعاب النفس، وتحمل المشاق.. فإن كان هذا هو
السبب فالأمر يعود إليكم..
وأما إذا كان ذلك يتخذ ذريعة لتجنب الخوض في البحث..
فلماذا لا تصرحون بالحقيقة..
وأما وصيتك بالاطلاع على وجهة النظر الأخرى.. فها نحن
نحاول الاطلاع على وجهة نظرك، ولكنك ـ كما يظهر ـ تحاول أن تسد الطريق
أمامنا، بحجة أن ذلك يأخذ مساحة كبيرة ووقتاً طويلاً.. وأنك إنما تجيب
بما حضر في الذاكرة، فهل تريد حرماننا ـ من مواصلة البحث معك بجدية
وعمق.
وفي جميع الأحوال نقول:
الأمر إليك.. ولن نحاول الإلحاح عليك بأكثر من هذا..
ونلاحظ على إجاباتك أيضاً:
أنك مع معرفتك باطلاعنا على آراء الآخرين، تحاول
باستمرار أن تطرح تلك الآراء على أنها من أسباب ضعف استدلال الطرف
الآخر، مع أنك تعلم أن آراء الناس ليست من جملة الحجج، فإن الحجج لا بد
أن تنتهي إلى ما ثبت من عقل أو شرع.
وبعد..
فإننا نريد منك إجابات علمية، ولا نريد مواعظ إلا بعد بيان الحق،
بالدليل، ولم نكن بحاجة إلى إطلاق اتهامات بالمذهبية والتعصب..
ونريد أن تعطينا رأيك أنت، لا أن تلجأ إلى الإحالة على
الغير، وإظهار وجود رأي كذا وكذا. فإن هذا لا ينفع لأنك تعرف أننا على
اطلاع على آراء الناس ومذاهبهم..
وإن ذلك لا يقدم ولا يؤخر في إثبات الحق، ولا يعفي
أحداً من تقديم الدليل على ما يدعيه.
ونريد منك أن تجيب عن جميع النقاط المطروحة، لا أن
تتعامل مع ما يطرح عليك بطريقة انتقائية، بأن تجيب عن هذه النقطة وتهمل
تلك..
وأخيرا..
فإن الأمانة العلمية تفرض طرح الدعوى والاستدلال عليها، ثم الاعتراف
بصحة دليل الطرف الآخر، إن كان الأمر كذلك.
وفي الختام،
فإننا نرجو أن لا تصدق توقعاتنا في أن تكون الإجابة على كل هذا الذي
ذكرناه: أن لا فائدة من هذا البحث، وأن هناك ما هو أهم.
وأن العصبيات المذهبية هي التي تدفعنا إلى كتابة هذه
الحقائق.
وأنه ليس ثمة من أفقٍ للحوار، بل الهدف هو تسجيل
النقاط..
وما إلى ذلك من أعذار تسهل الاستقالة من البحث، مع ترك
انطباع سيء، واتهام ظالم للآخرين. الذين يطرحون القضايا بجدية
وبإخلاص..
كما أننا نرجو أن لا يكتفى بإثارة بعض الأسئلة على أمور
جزئية وهامشية، مع ترك سائر النقاط الرئيسية الحساسة بلا جواب، ويكون
العذر هو: أن لدينا ما هو أهم، ونفعه أعم..
نعم،
إننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا تصدق هذه التوقعات.. فإننا نحب
الحق، ونحب أهل الحق..
ونسأل الله أن يحشرنا معهم، وهو ولينا، وهو الهادي إلى
سواء السبيل..
والحمد لله رب العالمين..
([1])
تاريخ اليعقوبي: ج2 ص137 وتاريخ الإسلام للذهبي: ج1 ص117 /
118، وإثبات الهداة: ج2 ص359 و367 و368، والعقد الفريد: ج4
ص268، والإيضاح لابن شاذان: ص161، والإمامة والسياسة: ج1 ص18،
وسير أعلام النبلاء، (سير الخلفاء الراشدين) ص17، ومجموع
الغرائب للكفعمي: ص288، ومروج الذهب: ج1 ص414، وج2 ص301، وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي: ج1 ص130، وج17 ص168 و164، و ج6
ص51 وج2 ص47 و46، وج20 ص24 و17، وميزان الاعتدال: ج3 ص109، ج2
ص215، والإمامة: ص82 (مخطوط) توجد نسخة مصورة منه في مكتبة
المركز الإسلامي للدراسات في بيروت. ولسان الميزان: ج4 ص189،
وتاريخ الأمم والملوك: ج3 ص430 (ط المعارف) وكنز العمال: ج3
ص125، وج5 ص631 و632، والـرسائـل الإعتقادية (رسـالـة طـريق
الإرشاد) ص470، و471. ومنتخب كنز العمال: (مطبوع بهامش مسند
أحمد) ج2 ص171. والمعجم الكبير للطبراني: ج1 ص62 وضياء
العالمين: (مخطوط ج2 ق3 ص90، و108)، عن العديد من المصادر.
والنص والاجتهاد: ص91، والسبعة من السلف: ص16 و 17، والغدير:
ج7 ص170، ومعالم المدرستين: ج2 ص79، وعن تاريخ ابن عساكر:
(ترجمة أبي بكر)، ومرآة الزمان. وراجع: زهر الربيع: ج2 ص124،
وأنوار الملكوت: ص227، وبحار الأنوار: ج30، ص123 و 136 و 138 و
141 و352، ونفحات اللاهوت: ص79، وحديقة الشيعة: ج2 ص252،
وتشييد المطاعن: ج1 ص340، ودلائل الصدق: ج3 ق 1 ص32. والخصال:
ج1 ص171 / 173، وحياة الصحابة: ج2 ص24، والشافي للمرتضى: ج4
ص137 و 138. والمغني لعبد الجبار: ج20 ق 1 ص340 و 341. ونهج
الحق: ص265، والأموال لأبي عبيد: ص194. (وإن لم يصرح بها).
ومجمع الزوائد: ج5 ص203، وتلخيص الشافي: ج3 ص170، وتجريد
الاعتقاد لنصير الدين الطوسي: ص402، وكشف المراد: ص403، ومفتاح
الباب: (أي الباب الحادي عشر) للعربشاهي (تحقيق مهدي محقق)،
ص199، وتقريب المعارف: ص366 و367، واللوامع الإلهية في المباحث
الكلامية للمقداد: ص302، ومختصر تاريخ دمشق ج13 ص122، ومنال
الطالب: ص280.
([2])
سورة التوبة: الآية 100.
([3])
صحيح مسلم كتاب الإمارة 61.
([4])
راجع: صحيح البخاري ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1387هـ القاهرة
ج5 ص177 وصحيح مسلم ج3 ص1380 ط دار إحياء التراث العربي ـ
بيروت.
([5])
سورة التحريم: الآية12.
([6])
سورة الشعراء: الآية 195.
([7])
البخاري ج4 ص43 ط سنة 1309هـ. ومسلم ط مشكول ج1 ص56 ومسند أحمد
2/142 و60 وفيه : من كفر أخاه فقد باء به أحدهما.
([8])
صحيح مسلم 1/57 وراجع 5/22.
([10])
سنن أبي داود 4/221.
([11])
البخاري 4/38 ومسند أحمد 2/181.
|