وتوضيح ذلك بالمثال على النحو التالي:
إنه إذا كان ثمة رجل يعزّ عليك، وتهتم بالحفاظ على
مقامه، وترسيخ وتأكيد احترامه، فإنك ستنزعج كثيراً إذا رأيت ولده أو
غيره ممن ينتسب إليه يرتكب بعض المخالفات التي تسيء إلى سمعة أبيه،
وتدفع بالناس إلى توجيه النقد إلى ذلك الأب، ولسوف تردع ذلك الولد عن
فعله ذاك؛ بهدف الحفاظ على كرامة الأب، وسمعته.
أما الولد نفسه، فقد لا يكون واقعاً في دائرة اهتماماتك
أصلاً، بحيث لو لم يكن ابناً لذلك الرجل لما تعرضت له، ولما وجدت
الدافع القوي في نفسك لأمره ولا لنهيه.
والحال في الآيات الشريفة من هذا القبيل، فالله إنما
يأمر وينهى نساء النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، لأن مخالفاتهن سوف
تنعكس سلباً على أهل بيت الرسالة أنفسهم. فـ«أهل
البيت»
هم الأهم ولا يريد الله سبحانه أن ينالهم أدنى رجسٍ أو هنات، ولو من
طرف خفي، كما لو كان ذلك الرجس صادراً ممن ينسبون إلى ذلك البيت نسبة
مجازية، كما تقدم عن أهل اللغة عن زيد بن أرقم، وأوضحه الرسول «صلى
الله عليه وآله» في حديث الكساء.
وهذا هو غاية الاهتمام بـ«أهل
البيت»،
وهو يقع في سياق شمولهم بالعنايات والألطاف الإلهية، والتوفيقات
الربانية.
ومعنى ذلك كما قلنا:
أن الدلالة على الاهتمام الإلهي بطهر «أهل
البيت»،
وعدم لحوق أي رجس بهم أولاً وبالذات، لسوف تكون أشد وأعظم وأهم، وآكد
وأتم.
ثم إنه إذا كان الله تعالى يريد أن يذهب حتى الرجس الذي
ينسب إلى «أهل
البيت»
«عليهم السلام»، ولو بالعرض والمجاز، فإنه يريد إذهاب ما يلحق بهم
«عليهم السلام» أولاً وبالذات بطريق أولى؛ فنستفيد، بمفهوم الموافقة
والأولوية القطعية: أن الله سبحانه قد طهرهم ونزههم فعلاً عن الرجس،
لاسيما وأن المقام مقام تعظيم لبيت النبوة، وهو يدخل في نطاق خطة
إلهية، تعمل على إبعاد الرجس بكل حالاته ومجالاته، حتى ما كان منه ليس
لهم فيه أي اختيار، بأن كان صادراً عن أشخاص آخرين كالزوجات.
فإذا كان الله سبحانه يبادر للمنع من حصول هذا، حتى
لَيقرر للزوجات ضعفي العذاب، والثواب لو بدرت منهن أية بادرة، فإن ذلك
يكشف عن تصميم إلهي أكيد على أن لا يلحق «أهل
البيت»
أنفسهم رجس أصلاً، لا أولاً وبالذات ولا ثانياً وبالعرض.
ومما يشير إلى أن الأهمية إنما هي لأهل بيت النبوة لا
للزوجات ـ بل هنّ كغيرهن من بني الإنسان، ما ألمحت إليه الآيات التي
سبقت الآيات التي هي مورد البحث والتي تحدثت عن أن الله تعالى قد أمر
نبيه بأن يخير زوجاته بين الحياة الدنيا وزينتها، فيمتعهن النبي «صلى
الله عليه وآله»، ويسرحهن سراحاً جميلاً.. وبين الله ورسوله، والدار
الآخرة، فإن الله ـ والحالة هذه ـ قد أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً.
فهذا التخيير يشير إلى أنه ليس للزوجات أهمية مميزة،
وترجيح خاص لهن.
وفي الآية أيضاً إشارة إلى أن اللواتي يخترن الله
ورسوله قد كن على قسمين: محسنات وغير محسنات.
أضف إلى ذلك:
أن السورة نفسها قد ذكرت بعد ذلك: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان
بالخيار بين أن يرجي من يشاء منهن، وأن يؤوي إليه من يشاء.
فكل ذلك يشير بوضوح: إلى أن الأهمية الباعثة على تسجيل
الموقف هنا إنما هي للنبي «صلى الله عليه وآله»، وأهل بيت النبي «صلى
الله عليه وآله» بما هو نبي وقد قال الإمام الحسين «عليه السلام»: إنّا
أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة.
وبيت النبوة له حالات وشؤون يجب مراعاتها وهناك تكاليف
ومسؤوليات تجاهه يجب الالتزام بها. خصوصاً من قبل الزوجات وليس المراد
«أهل البيت»
بمعنى السكن ولا «أهل البيت»
بمعنى العشيرة..
وقد أكد ذلك حين اختار أن يخاطبه بالقول: يا أيها النبي
قل لأزواجك ويخاطبهن بالقول: يا نساء النبي ولم يقل: يا نساء الرسول أو
نحو ذلك ولم يقل: أيتها النساء أو يا محمد، حتى لا يفهم الأمر على أنه
حديث معه كشخص من الناس أو يقال إن الهدف هو الحفاظ على ثقة الناس به
وانقيادهم له كرسول، من خلال سلوك زوجاته.
كل ذلك يدل على أن الأمر والزجر للزوجات لا لخصوصية
وامتياز ذاتي لهن، إذ قد ظهر من الآيات أنه يعاملهن معاملةً عادية
جداً.
بل الخصوصية هي للنبي «صلى الله عليه وآله»، بما هو نبي
وهي التي توجب الحفاظ عليه ولأجل ذلك قرر سبحانه أن يكون العذاب
والثواب لزوجاته ـ هذا النبي بما هو نبي ـ ضعفين في صورة المخالفة
والموافقة، حتى إنهن إذا خرجن عن صفة الزوجية للنبي بما هو نبي، فإنهن
كما دلت عليه آية التخيير يصبحن كسائر النساء الأُخريات.
ولأجل ما ذكرناه بالذات كان التهديد الإلهي للتين
تظاهرتا على النبي «صلى الله عليه وآله» بالطلاق، ثم ضرب لهن مثلاً
بامرأتي نوح ولوط، وما كان لهما من المصير الذي انتهتا إليه.
هذا.. ونلاحظ أخيراً:
أن القرآن قد تحدث في موارد متعددة عن زوجات الرسول بطريقة تُظهر أنهن
لسن في منأى عن ارتكاب الذنب، فلتلاحظ آيات سورة الأحزاب، والطلاق،
والتحريم.
وقد حكى سبحانه عن صدور مخالفات كبيرة من بعضهن، ولم
يمنع من صدور المزيد من ذلك في المستقبل، كما قد حصل ذلك بالفعل ممن
خضن منهن حروباً قتلت فيها الألوف من النفوس المسلمة والبريئة، دونما
سبب معقول، أو مقبول.
أما «أهل
البيت»
فقد تحدث الله تعالى عنهم في هذه الآية، وعلى لسان نبيه في عشرات
المواقع والمواضع بطريقة مباينة تماماً، لحديثه عن الزوجات فأوضح أن
الله سبحانه قد عصمهم وطهرهم، كما أنه «صلى الله عليه وآله» قد جعلهم
بأمر الله عِدْلاً للقرآن، وسفينة للنجاة، والعروة الوثقى، إلى غير ذلك
مما يظهر بملاحظة النصوص المشهورة والمتواترة، والتي تفوق حد الحصر
والعدّ.
وبذلك كله ظهر أنه تعالى يريد بأوامره للزوجات أن يتوسل
إلى إذهاب الرجس عن «أهل
البيت»،
وقد جاء التعبير بالإذهاب لا بالإزالة ربما ليشير إلى أن الرجس ليس
فيهم وإنما هو يتوجه إليهم عن طريق غيرهم، فيحل في غيرهم «كالزوجات»
لينسب إليهم بالعرض والمجاز خصوصاً وأن النبي المعصوم بالقطع واليقين
من جملتهم..
|