تمهيد:
الدفاع عن النفس:
إن مما لا ريب فيه، أن الشارع المقدس، حين شرع أحكامه،
وسنّ قوانينه، لم يكن في منأى عن الواقع، ولا كان غافلاً عن مقتضياته،
وتحولاته.. بل هو قد راعى أدق خصائصه، وأعمق كوامنه، فجاءت هاتيكم
الأحكام، وتلك التشريعات، لتكون البلسم الشافي، والدواء الناجع، لكل ما
يعاني منه الإنسان في هذه الحياة، كما وكانت خير معين، وأقوى دافع،
وأسمى وسيلة لانطلاقة الإنسان في مسيرته التكاملية، في خصائصه
الإنسانية، نحو تحقيق ذاته، والاستفادة من إمكاناته، وقدراته، على
النحو الأفضل والأمثل..
وطبيعي. أن تمر في حياة هذا الإنسان، الكثير من
المصائب، والبلايا، والرزايا، التي تستهدف حياته، ووجوده أحياناً،
وخصائصه الإنسانية، التي هي موهبة إلهية، أحياناً أخرى.. وبعض ذلك
يأتيه من قبل أبناء جنسه، الذين انساقوا وراء نوازعهم وأهوائهم، وزين
لهم الشيطان أعمالهم.
فكان حق الدفاع عن النفس، في مقابل أي تجن أو اعتداء،
يتعرض له، هو الأمر الذي اقتضته فطرته، وفرضته عليه جبلته، وحكم به
عقله، ورضيه له ضميره، ووجدانه..
وقد جاء الشرع ليؤكد على هذا ويقويه، ويعطي الإنسان
الضوء الأخضر في هذا المجال.. فقرر أن له أن يدفع عن نفسه أي اعتداء،
من أيٍ كان، حتى ولو كان المهاجم له والقاصد إليه مسلماً أيضاً، ولم
يقبل منه أن ينتظر إلى أن يرتكب ذاك جريمته، ويحقق أهدافه. وقد وردت
الأحاديث الكثيرة التي تحث على الدفاع عن النفس، والإذن بقتل المهاجم،
فلتراجع في مظانها([1]).
هذا بالإضافة إلى الآية الآمرة بقتال الطائفة التي تبغي
على طائفة أخرى.
وقال الجصاص: «..لا نعلم خلافاً: أن رجلاً لو شهر سيفه
على رجل، ليقتله بغير حق: أن على المسلمين قتله، فكذلك جائز للمقصود
بالقتل قتله، وقد قتل علي بن أبي طالب الخوارج، حين قصدوا قتل الناس».
وقال أيضاً: «..وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده
إنسان بالقتل: أن لا يقاتله، ولا يدفعه عن نفسه، حتى يقتله..»([2]).
ثم قال: «..وما أعلم مقالة أعظم ضرراً على الإسلام
والمسلمين من هذه المقالة، ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور
المسلمين، واستيلائهم على بلدانهم، حتى تحكموا، فحكموا فيها بغير حكم
الله.
وقد جرّ ذلك ذهاب الثغور، وغلبة العدو، حين ركن الناس
إلى هذه المقالة، في ترك قتال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر، والإنكار على الولاة والجوّار، والله المستعان..»([3]).
وقال: «..ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك، وأن القاصد
لقتل غيره ظلماً، يستحق القتل، وأن على الناس كلهم أن يقتلوه، قوله
تعالى:
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾([4])»([5]).
السؤال الذي ينتظر الإجابة:
وبعد.. فإن من الواضح: أن العدو حين يشن حربه
العدوانية، فإنه يستخدم أساليب معينة، ويقوم بأعمال حربية ذات طابع
معين، يراها مناسبة له لتحقيق أهدافه.. فهل أجاز الإسلام مقابلة هذا
العدو بالمثل، وضربه بنفس الطريقة التي رضيها هو أسلوباً للتعدي على
الحرمات؟! أم أنه يحتم الاقتصار على أمور معينة، لا يرضى بالتعدي عنها
أو تجاوزها في أي من الظروف والأحوال؟!
ونحن في مقام الإجابة على هذا السؤال، لابد لنا من
التعرض في بحثنا إلى أمور كثيرة.. ولعل أبرزها:
1ـ الإشارة إلى أن هذا الأمر مما يقره العقل، وينسجم مع
الفطرة..
2ـ ثم إيراد بعض الآيات القرآنية، التي تعرضت لأمر
المقابلة بالمثل بصورة عامة، وطرحته على أنه قاعدة عامة، ومبدأ مقبول،
في مجال التعامل مع الذين يحاربون الله ورسوله، ويكيدون للإسلام،
وللمسلمين. مع نقل بعض ما قاله العلماء حول الآيات..
3ـ ثم نذكر بعض الروايات التي تؤيد هذا المبدأ أو تشير
إليه..
4ـ ونذكر كذلك بعض ما يرتبط بالعمل بهذا المبدأ بالنسبة
للمشركين..
5ـ ثم يأتي دور الحديث عن البغاة، الذين خرجوا على أمير
المؤمنين، وغيرهم، وتطبيق الآية القرآنية التي في سورة الحجرات عليهم..
مع الإشارة إلى رأي أمير المؤمنين، وأصحابه حول إيمان، أو كفر الذين
حاربوهم..
6ـ وكذلك لسوف نتحدث عن وسائل الحرب مع البغاة، وعن
معاملة البغاة على أساس مبدأ المقابلة بالمثل.
7ـ كما ونشير إلى أننا إذا قبلنا بهذا المبدأ، وتوصلنا
إلى أنه معمول به إسلامياً، فهل يبيح لنا: أن نستعمل الوسائل، ونقوم
بنفس الأعمال التي يستعملها، ويقوم بها العدو ضدنا، بنحو مطلق؟! أم أن
ذلك يختص ببعض الموارد دون بعض؟.
وهل أن ضرب العدو لمدن وقرى المسلمين، وقتل النساء
والأطفال، يبيح لنا ضرب مدنه وقراه، حتى ولو كان فيها النساء والأطفال
أيضاً؟!..
وإذا جاز ذلك بالنسبة للعدو من غير المسلمين، فهل يجوز
ذلك بالنسبة للمحاربين البغاة؟! أم لا يجوز ذلك؟!.
8ـ وأخيراً. فهل يمكن أن نعتبر أمير المؤمنين «عليه
السلام» قد خرج على هذا المبدأ ـ مبدأ المقابلة بالمثل ـ ورفضه،
وأدانه، في قضية منع الماء، وإباحته في حرب صفين؟ أم أنه كان ثمة سرّ
آخر يكمن وراء موقفه ذلك؟!..
إلى أمور أخرى اقتضى البحث الإشارة إليها، من دون
محاولة التوسع والاستقصاء، إلا في حدود معينة فرفضتها طبيعة هذا البحث.
فإلى ما يلي من صفحات..
والله هو الموفق والمسدد..
وهو ولينا.. وهو الهادي إلى سواء السبيل..
([1])
راجع: الوسائل ج11 ص91ـ94 فثمة أحاديث كثيرة، وكذا في التهذيب
ج6 ص157و158و166و167 والكافي ج5 ص51و52و53.
([2])
راجع: أحكام القرآن للجصاص ج2 ص402 وشرح النووي على صحيح مسلم،
بهامش القسطلاني ج10 ص336 ـ 338.
وذكر:
أن الحشوية قد ذهبوا إلى ذلك استناداً إلى ما روي عنه «صلى
الله عليه وآله»:
إذا تواجه المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار.
فقيل:
يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟!
قال:
إنه أراد قتل صاحبه..
وقوله
«صلى
الله عليه وآله»:
إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل، لا تقتل أحداً من
أهل القبلة..
ونحوهما من الروايات التي ذكر قسم منها في صحيح مسلم، بهامش
إرشاد الساري ج10 ص334 فما بعدها إلى عدة صفحات. ولكنهم غفلوا
عن أن المراد بالحديث الأول: قصد كل منهما قتله الآخر ظلماً،
على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة..
والحديث الثاني، يأمر بترك القتال في الفتنة، وكف اليد عن
الشبهة، وأما قتل من استحق القتل، فلم ينفه بذلك..
كما
أن الجصاص قد اعتبر قتل الناس بغير حق من مصاديق الفتنة
والبغي، وقد أمر الله بالفئة التي تبغي، وبقتالهم حتى لا تكون
فتنة.. راجع: أحكام القرآن للجصاص ج2 ص402 و 403. وراجع:
أيضاً: فتح القدير ج5 ص63 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص317.
([3])
أحكام القرآن للجصاص ج2 ص403 وراجع: فتح القدير ج5 ص63،
والجامع لأحكام القرآن ج16 ص317.
([4])
الآية 32 من سورة المائدة.
([5])
أحكام القرآن للجصاص ج2 ص401 ـ 403.
|