الأحكام الشرعية بين العقل والفطرة

   

صفحة :   

الأحكام الشرعية بين العقل والفطرة:

إن من المعروف المتداول: أن الأحكام الإلهية، قد جاءت منسجمة مع أحكام العقل ومع مقتضيات الفطرة، ولا تشذ عنها في شيء..

مع الأخذ بنظر الاعتبار: أن العقل ـ بسبب محدودية الوسائل التي يملكها، أو تقع تحت اختياره ـ قد يكون عاجزاً عن إصدار بعض الأحكام، بسبب عدم قدرته على إدراك الواقع، وما يحيط به من ظروف، وما يرتبط به من أمور.. الأمر.. الذي يجعل هذا الإنسان يلجأ إلى الاعتماد على ما لا يصح الاعتماد عليه ـ عقلاً ـ من الإمارات الظنية، والمشهورات، والحدسيات، مع العلم بأن دين الله سبحانه لا يصاب بالعقول. أي الناقصة، ولا بالعقول التي لا تملك الوسائل الكافية للوصول إلى الواقع في كثير من الموارد، ولا سبيل لها إلى الإحاطة به على النحو الأكمل والأفضل..

مع العلم بأنه لو قدر لهذا العقل، أن يطلع على الواقع، على حقيقته، وبجميع ما له من شؤون وحالات، فلسوف يصدر حكمه مطابقاً تماماً لحكم الإسلام، لا يختلف عنه في شيء، ولا يشذ عنه على الإطلاق.

ولكن من الواضح: أن هذا العجز إنما يتجلى في موارد خاصة، هي الأقل كمية وأهمية، وليس قاعدة كلية، تنسحب على جميع الموارد والأحكام.. فهناك الموارد الكثيرة، والكثيرة جداً، التي ينكشف فيها الواقع للعقل، فيجد فيها مجاله، ويصدر أحكامه، بكل ثقة وحزم وصراحة. وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء، أو التي، بمجرد أن يلتفت إليها، يدرك وجه الحكم فيها.

ولعل أكثر ما يتجلى ذلك ويتضح، فيما يرتبط بالضوابط والمعايير العامة، التي تحكم حركة التشريع، وتهيمن عليه في المجال العام، وتمثل الركائز، والمنطلقات له، فإنها لابد من أن تكون منسجمة مع أحكام العقل، ومع مقتضيات الفطرة، بصورة صريحة وواضحة.. ولكل أحد أيضاً..

وقلنا: «كل أحد» من أجل أن نصل إلى حقيقة: أننا حين نجد آراء العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ وعلى اختلاف مللهم، ونحلهم، وأذواقهم، ومشاربهم، واتجاهاتهم، وثقافاتهم ـ حين نجد آرائهم ـ تتفق مع موضوع ما، وتصدر عليه حكماً واحداً، وصريحاً، وقطعياً، فإننا نقطع بأن هذا هو حكم الإسلام فيه أيضاً بلا شبهة، ولا ريب..

وهكذا نقول أيضاً: بالنسبة لمقتضيات الفطرة الصحيحة والسليمة، التي لم تلوث، ولم تتأثر بما هو وافد عليها، وغريب عنها، فإن غريزة الدفاع عن النفس مثلاً، موجودة حتى لدى الحيوان، فنجده يدافع عن نفسه، حين يواجه أي عدوان من الخارج، وكذا الطفل الصغير، وليس ذلك استناداً لحكم عقل، ولا هو نتيجة تفكير واستنتاج، وإنما هو انسياق مع الفطرة، واستجابة لدوافعها..

ومن هنا نعرف السر، وكذلك الحدود المفروضة لمقولة: إن أحكام الإسلام منسجمة مع أحكام العقل، ومع مقتضيات الفطرة، وإنما المعيار والميزان لأحكامه.. ولندرك على أساس ذلك: أن كل ما يتنافى معها بصورة قاطعة، أو مع المنطلقات الأساسية لأحكامهما، في مرحلة الثبوت والواقع، وحتى في مرحلة الإثبات أيضاً إذا لوحظ توافق جميع الآراء على ذلك، أو كان مما يدركه العقل لأول وهلة ـ نعم.. إن كل ما يتنافى مع العقل والفطرة، فليس من الإسلام، لا من قريب، ولا من بعيد.. وبعدما تقدم فإننا نقرر الحقائق التالية:

1ـ إن من الطبيعي أن يكون الدفاع عن النفس مما تقضي به الفطرة، وينسجم مع أحكام العقل، مادام أن المعتدي ظالم، والفطرة لا تنسجم، والعقل يأبى الظلم، كما أن منع المظلوم من ممارسة حقه في الدفاع عن نفسه ظلم آخر، لا يقبله الإسلام، ولا يأذن به..

2ـ كما أنه لو توقف رد العدوان، وتحقيق النصر على العدو، وحفظ النفس والحياة، وكيان الإسلام على أمور لا توازي في أهميتها الإسلام والحياة، فيجوز المبادرة إليها وارتكابها، بمقتضى حكم العقل والفطرة أيضاً، ولأجل ذلك، فقد جوز الإسلام الكذب في الحرب، والخدعة فيها، وذلك انسجاماً مع قواعد التزاحم، التي يقرها العقل، ويلتزم بها.

ولكن ذلك لا يعني أننا نقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، لأن الهدف والوسيلة سواء، مادامت تستمد منه قيمتها وقدسيتها وسموها، ولأجل ذلك، فهناك حدود شرعية، لابد من الالتزام والإلزام بها، تحدد وتنظم التحرك في مساحة المسموح بها، في مجال الحركة نحو الهدف، ولا يتنافى الكذب والخديعة مع هذه القدسية وإنما ينسجم معها، وسنوضح هذا الأمر مرة أخرى إن شاء الله تعالى.

3ـ ومن جهة أخرى، فإن كثيراً من الأوامر والزواجر، والإجراءات والتدبيرات الحربية الصادرة عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، وعن وصيه، وأوصيائه «عليهم السلام» من بعده، قد جاءت وفق الأحكام العقلية وتدبيرات العقلاء، أي أنها صدرت عن النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام «عليه السلام»، من حيث هو عاقل ومدبر، بل رئيس العقلاء وسيدهم، يفكر بالأصلح، والأجدر والأجدى للإسلام وللمسلمين، لا من حيث هو نبي وإمام، ومبلغ الحكم إلهي منزل..

وليكن من الأمثلة، التي نسوقها شاهداً على ذلك الخندق في حرب الأحزاب، بمشورة سلمان المحمدي، وجعل المسلمين جبل احد خلف ظهورهم، ووضع الرماة على ثغرة في الجبل في حرب أحد، ثم استعمال السيف، والرمح، والدرع، وغير ذلك من وسائل في الحرب، ولابد من ملاحظة: أن هذه الأوامر، والزواجر، محكومة لضوابط ومعايير وأحكام إلهية، وفطرية، كلية، وعامة..

هذا.. إلى جانب أحكام شرعية إلهية، تتعلق بكثير من الموارد في الجهاد أيضاً، لابد من الالتزام بها تعبّداً كموضوع الخمس في الغنيمة، وكثير من أحكام الأسرى، واستعمال بعض الأساليب التدميرية، وغير ذلك.

4ـ وأخيراً.. فإن مبدأ المقابلة بالمثل، بهدف ردع المعتدي عن عدوانه، وحفظ كيان الإسلام والمسلمين، حيث يتوقف الأمر على ذلك.. لا يشذ عن هذه القاعدة العقلية الفطرية أيضاً، وإن كان الشارع قد حدد له حدوداً، ووضع له قيوداً ـ كما سنشير إليه.

وهذا المبدأ، حيث يتوقف الحفظ للإسلام، ودفع العدو، والنصر عليه، يصبح، من الأمور الواضحة، والثابتة، التي لا تحتاج إلى برهان، أو استدلال، أو استشهاد بالآيات والروايات، فإن الأدلة السمعية، والحالة هذه، تكون إرشاداً إلى حكم العقل، وقضاء الفطرة..

نعم.. يكون تعميم هذا المبدأ بحاجة إلى ملاحظة إطلاق الروايات والآيات، كما هو معروف وظاهر..

ولكننا مع ذلك.. وعملاً بقوله تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾([1]) ولأجل قطع دابر أي شك: أو ترديد، أو شبهة، يمكن أن تراود ذهن البعض، وكذلك من أجل قطع الطريق على كل الإيحاءات المغرضة والمسمومة، الرامية إلى التشكيك بهذا الأمر الواضح، توصلاً إلى ما هو أعظم وأدهى. ومن أجل أن نعرف إن كان لدينا دليل سمعي، يمكننا الرجوع إلى عمومه، أو إطلاقه، حيث تمس الحاجة إلى ذلك..

نعم.. من أجل ذلك كله.. لسوف نحاول استنطاق الآيات القرآنية، وبعض الأحاديث الشريفة، الواردة عن النبي «صلى الله عليه وآله»، وعن الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، من دون محاولة الاستيعاب والاستقصاء، على أمل أن يتلقاها المنصفون والواعون بقبول حسن، فنقول:


 

([1]) الآية 260 من سورة البقرة.

 
   
 
 

موقع الميزان