مسألة فدك سياسية:
ومما يدل على أن مسألة فدك كانت سياسية تلك المحاورة
التي جرت بين الإمام الكاظم «عليه السلام» وبين الرشيد، فقد كان الرشيد
يقول لموسى بن جعفر الكاظم «عليهما السلام»: يا أبا الحسن خذ فدك حتى
أردها عليك، فيأبى، حتى ألح عليه، فقال: لا آخذها إلا بحدودها.
قال: وما حدودها؟
قال: يا أمير المؤمنين، إن حددتها لم تردها.
قال: بحق جدك إلا فعلت؟
قال: أما الحد الأول فعدن.
فتغير وجه الرشيد وقال: هيه.
قال: والحد الثاني سمرقند.
فأربد وجهه.
قال: والحد الثالث أفريقية.
فاسود وجهه وقال: هيه.
قال: والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية.
قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحول في مجلسي.
قال الكاظم «عليه السلام»: قد أعلمتك أن إن حددتها لم
تردها.
فعند ذلك عزم على قتله، واستكفى أمره يحيى بن خالد..
الخ..(1).
أجل، لقد بقيت الزهراء «عليها السلام» تلك العابدة
الزاهدة، التي تبيت مع زوجها على جلد كبش كانا يعلفان عليه الناضح
بالنهار(2).
ولأجل ذلك فنحن لا نوافق على ما
يقال:
من أنها قد خاطبت علياً «عليه السلام» بالكلام الذي يتضمن جرأتها عليه
«عليه السلام» بمواجهته بنوع من التأنيب بأنه: اشتمل شملة الجنين، وقعد
حجرة الضنين، إلى أن تقول له فيه: «وهذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة
أبي، وبلغة ابني (3)».
إلا أن يكون للرواية معنى آخر، لم تصل إليه أفهامنا، أو
كان ثمة قرينة لم تصلنا. أو لم يحسن الناس نقل كلامها إلينا. فنحن مع
وجود احتمال من هذا النوع لا نجرؤ على تكذيب الخبر بصورة قاطعة، كما
ربما يظهر من كلام بعضهم.
المهم هو:
أننا لا يمكن أن نتصور الزهراء «عليها السلام» تفكر بهذه الطريقة
الشخصية الدنيوية، وهي التي عوضها رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن
خادم بتسبيح خلده تشريعا إلى يوم القيامة وعرف باسمها، أعني «تسبيح
الزهراء».
ــــــــــــــــــــ
(1)
راجع: ربيع الأبرار: ج1 ص315 و 316، والطرائف: ص252، وراجع: الكافي: ج1
ص543، والبحار: ج48 ص144.
(2)
راجع: تذكرة الخواص ص308 و 307، وطبقات ابن سعد ج8 ص22 و 23.
(3)
البحار: ج43 ص148 ح 4، عن المناقب: ج2 / 208، وضياء العالمين (مخطوط):
ج2 ق 3 ص77. (*)
/ صفحة 297 /
وأن قسوة الخطاب في هذا الكلام يعطينا أنها لم تكن تعرف
أن علياً «عليه السلام» كان مصيباً في كل مواقفه تلك، مع أن الزهراء
«عليها السلام» هي أعرف الناس بأن علياً «عليه السلام» مع الحق والحق
معه، يدور معه حيث دار، وأنه لو فعل غير ذلك لطمست معالم الدين.
وإذا كانت هذه الحقيقة تتضح لكل دارس لتاريخ الإسلام،
فيرد سؤال: كيف أمكننا نحن أن نفهم ذلك بعد ألف وأربعمئة سنة، لكن
الزهراء المعصومة العالمة، وسيدة نساء العالمين، التي كانت القمة في
الوعي الديني والعقيدي والاجتماعي والسياسي، لم تستطع أن تعرف ذلك؟!
إن مواقف الزهراء «عليها السلام» في حياتها وبعد وفاتها
تكشف لكل أحد عن غزارة علمها، وعن
عمق وصائب تفكيرها، وعن بالغ دقتها في تصرفاتها
ومواقفها المؤثرة.
وخلاصة الأمر:
أولا:
إن الزهراء لا تعتبر ضربها ولا تعتبر أيضاً مسألة فدك مسألة شخصية، ولم
تكن إجابتها القوم من وراء الباب تصرفا شخصيا، بل كان دفاعا عن الإمامة
والخلافة، التي يراد اغتصابها، وتريد هي منع تشريع هذا الاغتصاب، ثم
التخلص والتملص من تبعات سلبياته.
ثانيا:
إن الإقدام على ما أقدموا عليه في حق الزهراء «عليها السلام»، وعلى
القول للنبي «صلى الله عليه وآله» وهو في مرض موته: إن النبي ليهجر،
وعلى غير ذلك من أمور من أجل الحصول على أخطر موقع، وأشده حساسية،
وأكثره مساسا بالواقع الإسلامي كله، إن ذلك يعطينا: أن من يفعل ذلك غير
مؤهل للموقع الذي يطلبه، ويعرفنا: أنه لا يمثل النموذج الأمثل، والأفضل
للحاكم الإسلامي، ولا تعكس مواقفه أو تصرفاته، الرؤية الإسلامية
الدقيقة في كل المسائل.
إذن فمسألة الزهراء هي أهم وأخطر المسائل وأشدها مساسا
بالواقع الإسلامي، ولم تكن ولن تكون مسألة شخصية، واعتبارها كذلك ما هو
إلا تصغير لشأنها، وتحريف وتزوير للحقيقة.
ثالثا:
إن مما يشير إلى ذلك: أن الله سبحانه قد جعل الزهراء «عليها السلام»
معيارا لمعرفة الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وبها يعرف الظالم
والآثم من غيره، وذلك لأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قرر
بصورة صريحة: أن الله يغضب لغضبها «عليها السلام»، ويرضى لرضاها، ومن
آذاها فقد آذى النبي، ومن آذى النبي فقد آذى الله سبحانه.
فنوع العلاقة بالزهراء إذن، تحدد نوع علاقة الإنسان
بالله، وبالرسول، وبكل القيم والمثل، وعلى أساس ذلك يميز الإنسان بين
ما يأخذ وما يدع، ويتخذ موقفه، ويحدد نوع علاقته بهذا الشخص أو بذاك.
|