كيف يكون الإيراني مجتهداً؟!
كثير من علماء الشيعة وخصوصاً في إيران لا يعرفون اللغة
العربية، فهم عُجُم الألسنة. فكيف يستنبطون الأحكام من كتاب الله تعالى
وسنة نبيه ﷺ؟! مع العلم أن المعرفة بالعربية هي أحد ضرورات العالم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
أولاً:
من أين علم السائل أن كثيراً من علماء الشيعة لا يعرفون اللغة العربية
فهم عُجْمُ الألسنة، هل امتحنهم وعرف مدى معرفتهم باللغة العربية أو
غيرها؟!
ثانياً:
إن كان هناك كثير من علماء الشيعة لا يعرفون اللغة، فهناك كثير آخر في
المقابل يعرفها، وليس هناك مانع من استنباط هذا الفريق الأحكام، ليرجع
الجاهل إلى العالم في هذه الحال..
ثالثاً:
إن كثيراً من علماء السنة، وخصوصاً باكستان، وأندونيسيا، ونيجيريا
وغيرها لا يعرفون اللغة العربية، فهم عُجْمُ الألسنة، فكيف يستنبطون
الأحكام من كتاب الله وسنة نبيه «صلى الله عليه وآله»؟!
1 ـ
قال ابن خلدون:
«من
الغريب الواقع:
أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم. لا من العلوم الشرعية،
ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في
نسبته، فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية وصاحب
شريعتها عربي..
والسبب في ذلك:
أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى
أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله
ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب
والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا
أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة.
وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين، وكانوا يسمون المختصين بحمل
ذلك ونقله إلى القراء، أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين، لأن
الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً، فقيل لحملة القرآن
يومئذ: قراء إشارة إلى هذا، فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن
الله، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه، ومن الحديث الذي هو في
غالب موارده تفسير له وشرح.
قال «صلى الله عليه وآله»:
«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله
وسنتي»([1]).
إلى أن قال:
وقد كنا قدمنا: أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب
أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب وعن سوقها.
والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي، وأهل
الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع
والحرف، لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان
صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم
عجم في أنسابهم، وإنما ربوا في اللسان العربي، فاكتسبوه بالمربى
ومخالطة العرب، وصيروه قوانيناً وفناً لمن بعدهم.
وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم
عجم أو مستعجمون باللغة والمربى، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما
يعرف.
وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسرين، ولم يقم
بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر مصداق قوله «صلى الله عليه
وآله»: «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس».
وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا
إليها عن البداوة، فشغلتهم الرئاسة في الدولة وحاميتها وأولي سياستها،
مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع
والرؤساء أبداً يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها. ودفعوا ذلك
إلى من قام به من العجم والمولدين، وما زالوا يرون لهم حق القيام به،
فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر
من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل
الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها، وامتهن حملتها بما يرون أنهم
بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم في الملك والسياسة كما
ذكرناه في نقل المراتب الدينية.. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة
الشريعة أو عامتهم من العجم.
وأما العلوم العقلية أيضاً، فلم تظهر في الملة إلا بعد
أن تميز حملة العلم ومؤلفوه، واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم،
وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلا المعربون من العجم
شأن الصنائع كما قلناه أولا، فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة
في العجم وبلادهم من العراق وخراسان، وما وراء النهر.
إلى أن قال:
وقد دلَّنا على ذلك: كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت
إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدين التفتازاني.. وأما غيره من العجم،
فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب، ونصير الدين الطوسي كلاماً يعول
على نهايته في الإصابة، فاعتبر ذلك وتأمله»([2]).
قال أبو هلال العسكري عن الحجاج:
«..وهو أول من نقش على يد كل رجل اسم قريته، وردّه
إليها. وأخرج الموالي من بين العرب.. إلى أن قال: وكان الذي دعاه إلى
ذلك: أن أكثر القراء، والفقهاء، كانوا من الموالي. وكانوا جلّ من خرج
عليه مع ابن الاشعث؛ فأراد أن يزيلهم من موضع الفصاحة والأدب، ويخلطهم
بأهل القرى؛ فيخمل ذكرهم. وكان سعيد بن جبير منهم، وكان عبد رجل من بني
أسد، اشتراه ابن العاص؛ فأعتقه، إلخ..»([3]).
2 ـ
روى الحاكم بسنده عن الزهري، قال:
قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال
لي:
من أين قدمت يازهري؟!
قلت:
من مكة.
قال:
فمن خلفت يسود أهلها؟!
قال:
قلت: عطاء بن أبي رباح.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال: قلت: من الموالي.
قال:
وبم سادهم؟!
قال:
قلت: بالديانة والرواية.
قال:
إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا؛ فمن يسود
أهل اليمن؟!
قال:
قلت: طاووس بن كيسان.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من الموالي؟!
قال:
وبم سادهم؟!
قال:
قلت: بما سادهم به عطاء.
قال:
إنه لينبغي. فمن يسود أهل مصر؟!
قال:
قلت: يزيد بن أبي حبيب.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من الموالي.
قال:
فمن يسود أهل الشام؟!
قال:
قلت: مكحول.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟
قال:
قلت: من الموالي، عبد نوبي، أعتقته امرأة من هذيل.
قال:
فمن يسود أهل الجزيرة؟!
قال:
قلت: ميمون بن مهران.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من الموالي.
قال:
فمن يسود أهل خراسان؟!
قال:
قلت: الضحاك بن مزاحم.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من الموالي.
قال:
فمن يسود أهل البصرة؟!
قال:
قلت: الحسن بن أبي الحسن.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من الموالي.
قال:
ويلك، فمن يسود أهل الكوفة؟!
قال:
قلت: إبراهيم النخعي.
قال:
فمن العرب، أم من الموالي؟!
قال:
قلت: من العرب.
قال:
ويلك يا زهري، فرجت عني. والله، ليسودنَّ الموالي على
العرب، حتى يخطب لها على المنابر، والعرب تحتها!
قال:
قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، من
حفظه ساد، ومن ضيعه سقط([4]).
3 ـ
وعن العباس بن مصعب، قال:
خرج من مرو أربعة من أولاد العبيد، ما منهم أحد إلا وهو
إمام عصره: عبدالله بن المبارك، ومبارك عبد.
وإبراهيم بن ميمون الصائغ. وميمون عبد.
والحسين بن واقد. وواقد عبد.
وأبو حمزة، محمد بن ميمون السكري وميمون عبد([5]).
ثم ذكر الحاكم جماعة من كبار التابعين وأئمة المسلمين،
كلهم من الموالي، فمن أراد الاطلاع على ذلك، فليراجع كتابه: معرفة علوم
الحديث ص199 ـ 200.
4 ـ
ودخل محمد بن أبي علقمة على عبدالملك بن مروان، فقال:
من سيد الناس بالبصرة؟!
قال:
الحسن.
قال:
مولى، أو عربي؟!
قال:
مولى.
قال:
ثكلتك أمك، مولى ساد العرب؟!
قال:
نعم.
قال:
بم؟!
قال:
استغنى عما في أيدينا من الدنيا، وافتقرنا إلى ما عنده
من العلم إلخ..([6]).
5 ـ
وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى، وكان جائراً
شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟!
قلت:
الحسن بن أبي الحسن.
قال:
ثم من؟!
قلت:
محمد بن سيرين.
قال:
فما هما؟!
قلت:
موليان.
قال:
فمن كان فقيه مكة؟!
قلت:
عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير،
وسليمان
بن يسار.
قال:
فما هؤلاء؟!
قلت:
موالى.
قال:
فمن فقهاء المدينة؟!
قلت:
زيد بن أسلم، ومحمد بن المكندر، ونافع بن أبي نجيح.
قال:
فمن هؤلاء؟!
قلت:
موالي.
فتغير لونه، ثم قال:
فمن افقه أهل قباء؟!
قلت:
ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد.
قال:
فما كانا؟!
قلت:
من الموالي.
فاربد وجهه، ثم قال:
فمن كان فقيه اليمن؟!
قلت:
طاووس، وابنه، وهمام بن منبه.
قال:
فما هؤلاء؟!
قلت:
من الموالي.
فانتفخت أوداجه، وانتصب قاعداً، ثم
قال:
فمن فقيه خراسان.
قلت:
عطاء بن عبد الله الخراساني.
قال:
فما كان عطاء هذا؟!
قلت:
مولى.
فازداد وجهه تربداً، واسود
اسوداداً، حتى خفته، ثم قال:
فمن كان فقيه الشام؟!
قلت:
مكحول.
قال:
فما مكحول هذا؟!
قلت:
مولى.
فازداد تغيظاً وحنقاً، ثم قال:
فمن كان فقيه الجزيرة؟!
قلت:
ميمون بن مهران.
قال:
فما كان؟!
قال:
مولى.
قال:
فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟!
قال:
فوّالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وعمار بن أبي
سليمان.
ولكن رأيت فيه الشر؛ فقلت:
إبراهيم، والشعبي.
قال:
فما كانا؟!
قلت:
عربيان.
قال:
الله أكبر.
وسكن جأشه([7]).
6 ـ
وقال عبدالرحمان بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد
الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن
عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي:
فقيه مكة:
عطاء.
وفقيه اليمن:
طاووس.
وفقيه اليمامة:
يحيى بن أبي كثير.
وفقيه البصرة:
الحسن البصري.
وفقيه الكوفة:
إبراهيم النخعي.
وفقيه الشام:
مكحول.
وفقيه خراسان:
عطاء الخراساني.
إلا المدينة؛ فإن الله حرسها
بقرشي، فقيه غير مدافع:
سعيد بن المسيّب إلخ..([8]).
ولكن ذكر إبراهيم النخعي في جملة الموالي لا يصح، فإنه
كان عربياً من النخع من مذحج.
وقد يجوز لنا أن نتساءل هنا، فنقول:
لماذا كانت الحراسة بقرشي لخصوص المدينة، مع أن مكة
أشرف منها وأقدس، لأن فيها الكعبة المشرفة، قبلة المسلمين، وبيت الله،
فلماذا لم يحرسها الله بقرشي، وأصل قريش منها؟! فلعل الأصح: خصها، كما
في معجم البلدان.
كما أننا نرى:
أن لنا الحق في تسجيل تحفظ فيما يرتبط بنسبة الفقاهة
إلى أكثر العبادلة، الذين ذكرت أسماؤهم، لا سيما وأن عبد الله بن عمر
لم يحسن أن يطلق امرأته كما قال عنه أبوه([9])،
ولمناقشة هذا الأمر موضع آخر.
7 ـ
وقال ياقوت عن أهل خراسان: «فأما العلم؛ فهم فرسانه،
وساداته وأعيانه، ومن أنى لغيرهم مثل: محمد بن إسماعيل البخاري إلخ..»([10]).
ونقول أخيراً:
إن أهم علماء أهل السنة، وأكثر أئمة مذاهبهم الفقهية
والعقائدية، وأعظم محدثيهم، ومؤلفيهم هم من غير العرب.. ومنهم: أبو
حنيفة، والشافعي، ومالك، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وأبو داود
السجستاني، وابن ماجة، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، ومكحول، وسعيد بن
جبر، والليث بن سعد، والحاكم النيسابوري، وابن سيرين، وعضد الدين
الأيجي، والتفتازاني، وعشرات بل مئات وآلاف غيرهم من أعلام أهل السنة
هم من غير العرب..
بل إن محمد بن عبد الوهاب قد تربى، ونشأ وتثقف على أيدي
الفرس في بلادهم، بين كردستان، وهمذان، وأصفهان، كما يقول أحمد أمين([11]).
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله..
([1])
هذه رواية البخاري، والرواية عند غيره هي «وعترتي» بدل «وسنتي»
إلا أن تكون إحدى الروايتين تفسيراً للأخرى، أي السنة التي
تنقلها العترة، وتؤيد صدورها منه «صلى الله عليه وآله».
([2])
مقدمة ابن خلدون ج1 ص543 ـ 545.
([3])
الأوائل للعسكري ج2 ص61 و 62 وراجع: العقد الفريد ج3 ص416 و
417 وشذرات الذهب ج1 ص109 وراجع: وفيات الأعيان ج2 ص373.
([4])
معرفة علوم الحديث للحاكم ص198 ـ 199 وراجع: تحفة الأحوذي ج1
ص62 و 62 وج8 ص216 و 217 ومقدمة ابن الصلاح ص224 و 225 وتاريخ
مدينة دمشق ج40 ص393 وج56 ص305 وتهذيب الكمال ج20 ص81 و 82
وسير أعلام النبلاء ج5 ص85.
([5])
معرفة علوم الحديث للحاكم ص199 وراجع: الأنساب للسمعاني ج3
ص515.
([6])
ربيع الأبرار ج1 ص811.
([7])
العقد الفريد ج3 ص415 و 416.
([8])
شذرات الذهب ج1 ص103 ومعجم البلدان ج2 ص354.
([9])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص227 و 228 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص292 و 293 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص343 و 248 وبحار
الأنوار ج28 ص383 و 384 وج31 ص77 و 78 و 354 و 356 و 385 و 394
وج49 ص279 والإحتجاج ج2 ص320 و (ط دار النعمان) ج2 ص154
والكامل في التاريخ ج3 ص65 ونيل الأوطار ج6 ص164 وخلاصة عبقات
الأنوار ج3 ص330 و 334 والغدير ج5 ص360 وج10 ص39 وفتح الباري
ج7 ص54 وكنز العمال ج2 ص681 والشافي في الإمامة ج3 ص197 وتقريب
المعارف ص349 وقرب الإسناد ص100 والإيضاح لابن شاذان ص237
وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص922 وتاريخ اليعقوبي ج2 = = ص160
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص190 وتاريخ الخلفاء ص145.
([10])
معجم البلدان ج2 ص353.
([11])
زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص10.
|