ويذكر في شأن نزول قوله تعالى في سورة النور: ﴿وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ،
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لهُمُ الحَقُ يَأْتُوا
إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ
يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ﴾([1]).
يذكر في شأن
نزولها أيضاً، عدا رواية السدي
المتقدمة ما يلي:
1 ـ
عن أبي عبد الله: أنّها نزلت في علي وعثمان
في
منازعة كانت بينهما في حديقة، فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: ترضى
برسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
فقال عبد الرحمن بن عوف
له:
لا تحاكمه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فإنّه يحكم له عليك،
ولكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي.
فقال عثمان
لأمير المؤمنين «عليه السلام»:
لا أرضى إلّا بابن شيبة.
فقال ابن
شيبة:
تأتمنون رسول الله على وحي السماء، وتتهمونه في الأحكام!! فأنزل الله
على رسوله: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم
مُعْرِضُونَ..﴾([2]).
2 ـ
عن ابن عباس
: لما
قدم النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة أعطى علياً «عليه السلام»
وعثمان
أرضاً، أعلاها
لعثمان
، وأسفلها
لعلي «عليه السلام».
فعرض عليه علي
«عليه السلام» أن يبيعه، أو أن يشتري منه، فباعه عثمان
، فقال
له أصحابه: أي شيء صنعت؟ بعت أرضك من علي، وأنت لو أمسكت عنه الماء ما
أنبتت أرضه شيئاً، حتى يبيعك بحكمك.
فجاء عثمان
لعلي «عليه السلام»، فقال له:
لا أجيز البيع.
فقال علي «عليه السلام»:
بعت ورضيت، وليس لك ذلك.
قال:
فاجعل بيني وبينك رجلاً.
قال علي «عليه السلام»:
النبي «صلى الله عليه وآله».
فقال عثمان :
هو ابن عمك. ولكن اجعل بيني وبينك رجلاً غيره.
فقال علي «عليه السلام»:
لا أحاكمك إلى غير النبي «صلى الله عليه وآله»، والنبي شاهد علينا.
فأبى ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات([3]).
3 ـ
عن أبي الجارود: إنّ هذه الآيات نزلت في رجل اشترى من علي «عليه
السلام» أرضاً، ثم ندم، وندّمه أصحابه، فقال لعلي «عليه السلام»: لا
حاجة لي فيها.
فقال له:
قد اشتريت ورضيت، فانطلق أخاصمك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال له أصحابه:
لا تخاصمه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال:
انطلق أخاصمك إلى أبي بكر وعمر
، أيهما شئت كان بيني وبينك.
قال علي «عليه السلام»:
لا والله، ولكن رسول الله بيني وبينك، فلا أرضى بغيره.
فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات([4]).
4 ـ
وعن البلخي: أن علياً «عليه السلام» اشترى من عثمان
أرضاً؛
فخرجت فيها أحجار، فأراد ردها بالعيب، فلم يأخذها.
فقال:
بيني
وبينك رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال الحكم بن أبي العاص:
إن حاكمك إلى
ابن عمه حكم له، فلا تحاكمه إليه.
فنزلت الآيات.
وهو المروي عن
أبي جعفر «عليه السلام»، أو قريب منه([5]).
5 ـ
عن الضحاك: أن النزاع كان بين علي «عليه السلام» والمغيرة بن وائل([6]).
ونلاحظ هنا
الأمور التالية:
أولاً:
تضمنت
هذه الروايات ما يدل على تعدد وقائعها، ففي رواية البلخي ورد ذكر الحكم
بن أبي العاص. وهو إنّما قدم المدينة بعد الفتح ثم لما ظهرت عداوته
لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وصار يجترئ عليه نفاه «صلى الله عليه
وآله» إلى الطائف.
ورواية ابن عباس
ذكرت:
أن نزول الآيات كان لما قدم الرسول «صلى الله عليه وآله» المدينة،
وإقطاعه أرضاً لعلي وعثمان
، فإن كان المقصود بقوله: «لما قدم رسول الله«صلى الله
عليه وآله» المدينة أعطى»: دلّ على أن ذلك قد حصل فور قدومه إليها
ويكون الفاصل بينها وبين التي ذكر فيها الحكم بن أبي العاص حوالي ثمان
سنوات.
ورواية السدي
المتقدمة ذكرت:
أن ذلك كان في غزوة بني النضير
.
ثانياً:
إن اختلاف الشخصيات التي وردت أسماؤها في هذه الروايات يشير هو الآخر
إلى تعدد الواقعة، وإن كان الأمر قد لا يكون كذلك، أحياناً فإن التي
ذكرت أبا بكر وعمر
، لا
تناقض التي ذكرت ابن شيبة اليهودي، أو كعب بن الأشراف، أو عبد الرحمن
بن عوف
في هذه الجهة،
فقد يحدث كل ذلك في واقعة واحدة بصورة متعاقبة، في مجلس واحد، أو أكثر،
ولكن ذلك لا يمنع من أي يكون هناك تناقض في جهات أخرى.
ككون المشتري
للأرض تارة، هو علي، وتارة هو عثمان
.
وكون طرف
النزاع في مقابل علي «عليه السلام» هو عثمان تارة،
والمغيرة بن وائل أخرى.
ثالثاً:
لا مانع من تعدد الواقعة، وتكرر نزول الآيات، ولذلك نظائر يذكرها
الرواة والمفسرون.
ولا مانع من
تكرر رفض بعض الناس رفع القضية المتنازع فيها إلى الرسول ليحكم فيها،
ظناً منهم أن نزول الآية لن يتكرر، أو غفلةً منهم عن ذلك.
وكانوا ـ حتى المنافقون ـ يهتمون كثيراً لنزول آيات
الذم فيهم وإفتضاح أمرهم، وفشل خططهم الماكرة وسرائرهم الخبيثة..
والتقريع لهم، حتى لو كانوا سيحصلون في مقابل ذلك على المال الذي
يحبون، فقد قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ
المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا
فِي قُلُوبِهِمْ﴾([7])
وقال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾([8])
وقال: ﴿يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾([9])
وآيات أخرى. أو لأجل أنهم يحسبون أن الأمر قد لا يبلغ إلى النبي «صلى
الله عليه وآله»، أو لأن إيمانهم بصحة النبوة كان ضعيفاً.
رابعاً:
إن دخول علي «عليه السلام» في هذه الشراكة مع عثمان
أو مع
غيره كان لحكمة بالغة، فقد انتهت بظهور البون الشاسع بين علي «عليه
السلام» في علمه، وتقواه، وتوقيره لرسول الله «صلى الله عليه وآله»،
ووقوفه عند حدود الله، وبين غيره، خصوصاً وأن الله تعالى هو الذي أظهر
هذه الفوارق، وخلدها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
خامساً:
يمكن أن يكون بعض الرواة تلاعب في اسم من رفض التحاكم إلى رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، للحفاظ على سمعة بعض الناس، والتشكيك بنسبة هذا
الأمر الشنيع إليه، فإن عبد الرحمن بن عوف
وعثمان
كانا
ممن يهم بعض الناس إبعاد أية شبهة عنهم.
([1])
الآيات 47 ـ 52 سورة النور.
([2])
البرهان (تفسير) ج5 ص408 ـ 409 وتفسير القمي ج2 ص83.
([3])
تأويل الآيات ج1 ص367 والبرهان (تفسير) ج5 ص409.
([4])
تأويل الآيات ج1 ص367 والبرهان ج5 ص409 ـ 410.
([5])
مجمع البيان ج7 ص263 والبرهان ج5 ص410.
([6])
الميزان (طبعة 1427هـ) ج15 ص115عن روح المعاني.
([7])
الآية 64 من سورة التوبة.
([8])
الآية 62 من سورة التوبة.
([9])
الآية 96 من سورة التوبة.
|