عثمان في مأزق

   

صفحة : 13-17   

عثمان في مأزق:

روى الشيخ بإسناده يرفعه إلى جابر بن عبد الله ، قال: كنت مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حفر الخندق، وقد حفر الناس وحفر علي «عليه السلام»، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «بأبي من يحفر وجبرائيل يكنس التراب بين يديه وميكائيل يعينه، ولم يكن يعين أحداً قبله من الخلق ».

ثم قال النبي «صلى الله عليه وآله» لعثمان بن عفان : «إحفِر»، فغضب عثمان، وقال: لا يرضى محمد أن أسلمنا على يده حتى يأمرنا بالكدّ، فأنزل الله على نبيه: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ([1])([2]).

ورروى عليّ بن إبراهيم : قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾، نزلت في عثمان يوم الخندق ، وذلك أنه مرّ بعمّار بن ياسر وهو يحفر الخندق، وقد ارتفع الغبار من الحفر، فوضع عثمان كمه على أنفه ومرّ، فقال عمّار:

لا يستـوي من يعمـر المســـاجـدا               يـظـلّ فيهـا راكـعـــاً وسـاجــدا

كـمـن يـمُــرّ بـالـغـبــار حائـدا           يـعـرض عـنـه جـاهِـداً مُـعـانـدا

فالتفت إليه عثمان ، فقال: يا بن السوداء، إيّاي تعني؟

ثم أتى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال له: لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا، فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «قد أقلتك إسلامك فاذهب».

فأنزل الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي لستم صادقين ﴿إِنَّ اللَهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([3]).

ونقول:

قد دلت هذه الرواية على:

1 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» يفدي علياً «عليه السلام» بأبيه.. مع أن لآبائه من منازل الكرامة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله، وإن كانت لا تبلغ منزلة علي «عليه السلام»، وربما يكون عبد الله بن عبد المطلب من الأنبياء أيضاً كما دل عليه حديث: ما زال الله ينقلني من صلب نبي إلى صلب نبي حتى صرت نبياً، أو أخرجه نبياً، أو نحو ذلك([4]).

وعن أبي جعفر «عليه السلام» في تفسير الآية قال: في أصلاب النبيين([5]).

أو قال: من صلب نبي إلى صلب نبي([6]).

أو قال: يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح ([7]).

ومثله عن الإمامين الباقر والصادق «عليهما السلام» ([8]).

وروى البياضي عن الثعلبي في تفسير الآية: أن محمداً لم يلده إلا نبي أو وصي نبي أو مؤمن ([9]).

2 ـ تقول الرواية: ان جبرائيل ، وهو أفضل الملائكة وميكائيل ، وله فضل عظيم فكان أحدهما يكنس التراب بين يديه والآخر يعينه. والملائكة هم قالوا حين خلق الله تعالى آدم ، وجعله خليفة في الأرض ﴿.. أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..﴾([10]).

3 ـ إن ميكائيل لم يكن يعين أحداً من الخلق قبل علي «عليه السلام». وهذه ميزة فريدة له «عليه السلام».. أن يتقرب ميكائيل إلى الله، ويطلب رضاه بمعونته لعلي «عليه السلام». ولو أن ميكائيل وجد أن ذلك يحصل له مع أحد من الخلق غير علي «عليه السلام» لما تردد في معونته.

4 ـ إن النبي حين امر عثمان : بأن يحفر، لم يكن يريد الإساءة إليه، بل أراد الإحسان إليه لأنه يأمره بطاعة الله، والتقرب إليه، وطلب رضاه..

فلماذا أجاب عثمان بذلك الجواب الجافي، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

5 ـ إن الشعر الذي ردّده عمار :

لا يستـوي من يعمـر المســـاجـدا إلخ..

يروى أنه أنشده حين بناء المسجد، لا عند حفر الخندق. وإن كان لا شيء يمنع من تكرار الحادثة في المقامين..

6 ـ لم يكن هناك أي مبرر لأن يذكر عثمان دخوله في الدين، ويجعله سبباً لتعرضه للسّب، والأمر في السب وعدمه تابع لأسبابه ودوافعه، التي قد تكون شخصية، وقد لا تكون.. وقد تكون مبررة، وقد لا تكون.. قد تكون عدوانية، وقد تكون على سبيل رد الإعتداء.

فقد قال رجل من الخوارج عن علي «عليه السلام»: قاتله الله كافراً ما أفقهه!، فوثب القوم ليقتلوه، فقال «عليه السلام»: «رويداً، إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب»([11]).

7 ـ إن المؤمن الحقيقي يدخل في الدين لقناعته به، وطمعاً بالحصول على رضا الله تعالى.. وهو يضحي بأهله وماله وولده، ويتعرض لمختلف أنواع الأذي ولا يتراجع ولا يندم.. بل يزداد بصيرة وإصراراً وتصلباً في دينه.. فما معنى أن يكون اختلاف إنسان مع آخر محقاً أم مبطلاً سبباً في إظهار ندامته على الدخول في هذا الدين.. فإن الدين لا يقايض عليه بين الأشخاص.. ولا يوضع في سوق العرض والطلب، فيؤخذ تارة ويعطى أخرى..


_______________

([1]) الآية 17 من سورة الحجرات.

([2]) البرهان (تفسير) ج7 ص276 عن الشيخ في مصباح الأنوار.

([3]) الآية 18 من سورة الحجرات. تفسير القمي ج2 ص297 عن مصباح الأنوار.

([4]) مجمع الزوائد ج7 ص86 وج 8 ص214 وتفسير السمعاني ج4 ص71 وتفسير ابن كثيرج3 ص365.

([5]) إختيار معرفة الرجال ج2 ص488.

([6]) معجم رجال الحديث ج18 ص132وبحار الأنوار ج16 ص374.

([7]) الصراط المستقيم ج1 ص 341.

([8]) بحار الأنوار ج65 ص 118.

([9]) بحار الأنوار ج 65 ص 118.

([10]) الآية  30 من سورة البقرة.

([11]) نهج البلاغة (الخطب): ج 4 ص 99.

 
   
 
 

موقع الميزان