وقد ذكرت الرواية المتقدمة وغيرها:
أن سورة (العاديات) نزلت في غزوة ذات السلاسل، أو وادي اليابس.. وتضمنت
هذه السورة المباركة أموراً دقيقة ترتبط بالحرب وأصولها، وربما كان
السبب في ذلك هو أن هذه الأصول قد روعيت، وطبقت، وظهرت صدقيتها في هذه
الغزوة بالذات، فلا محيص عن الإشارة إلى هذا الأمر هنا، فنقول:
إنه إذا أقسم
الله بأمر بعينه، فذلك يدل على أن لهذا الأمر موقعاً أساسياً وحساساً
جداً في المنظومة الكونية، إن كان أمراً كونياً، أو في المنظومة
النظامية إن كان أمراً نظامياً.. أو في منظومة السنن إن كان من سنن
الخلق والتكوين، وكذلك الحال لو كان ما أقسم به من مفردات منظومة
القيم، أو التدبير، أو غير ذلك، مما ورد القسم به في القرآن الكريم..
فإن الإهتمام
الظاهر بذلك الأمر بعينه، بحيث يجعله موضعاً لقسمه، ويجعل الإلتزام
ببقائه على حاله ضمانة لما يريد تقريره ـ إن ذلك ـ يدل على أن لما يقسم
به أثراً عظيماً في إنجاز الأهداف الإلهية الكبرى، بإيصال الإنسان وما
في هذا الكون إلى كماله..
2 ـ
وقبل أن نتحدث عن العاديات يحسن بنا أن نشير إلى أن المناسبة التي نزلت
فيها هذه السورة، وهي غزوة ذات السلاسل، قد تضمنت نصوصها أمر علي «عليه
السلام» أصحابه ليلة الغارة بأن يحسنوا إلى دوابهم، ويُقْضِمُوا،
ويُسْرِجوا..
وهذا يدل على
لزوم إعداد وسائل الحرب، وتهيئتها، لتكون في أفضل حالاتها، وأن يكون
إعدادها بحيث لا تحتاج في ساعة الصفر إلا إلى الإستعمال الناجز في
القتال. فلا يؤجل ذلك إلى اللحظة الأخيرة.. إذ قد يطرأ ظرف يمنع من
الإعداد بالمستوى المطلوب، أو بالطريقة الصحيحة.
3 ـ
وقد أقسم الله تعالى بالعاديات، وبالموريات، والمغيرات.. وهي لا تخرج
عن هذا السياق الذي أشرنا إليه، فالخيل تعدوا في سبيل الله تعالى،
وتسرع في هذا العدو إلى الحد الذي تضبح فيه بأنفاسها، مما يعني أنها قد
استنفدت كل طاقتها في سرعة الحركة..
لأن المطلوب
هو أن تنجز أمراً هو بأمس الحاجة إلى السرعة. وللسرعة دورها الحاسم في
الحرب.
والضبح ـ كما قيل ـ:
هو صوت أنفاس الفرس، تشبيهاً له بالضباح، وهو صوت الثعلب.
وقيل:
هو حفيف العَدْوِ.
وقيل:
الضبح: كالضبع، وهو مد الضبع في العدو([1])،
أي حتى لا يجد مزيداً([2]).
والضبع:
هو وسط العضد بلحمة، أو العضد كله، أو الإبط([3]).
وقيل:
الضبح: صوت أجواف الخيل إذا عَدَتْ ليس بصهيل ولا حمحمة([4]).
4 ـ
إن عَدْوَ الخيل هذا يشير إلى أنها دائمة الإنتقال من موقع إلى آخر..
وأنه انتقال سريع.. مما يدل على عدم التموضع في مكان بعينه. ولكنه
انتقال هادف، يضع نصب عينيه نقطة بعينها يراد الوصول إليها. ومن شأن
عدم التموضع، وسرعة الإنتقال هذه أن يحرما العدو من القدرة على تحديد
مواضعهم ومواقعهم، ويجرده من فرصة رصد القوى العاملة في مكان بعينه،
وهذا يفقده القدرة على التخطيط لأي عمل يمثل لها خطراً، أو يلحق بها
ضرراً..
5 ـ
إن شدة اندفاع الخيل في هجمتها تحتم على ذلك العدو أن يتراجع عن موقعه،
وبالتالي أن يفقد السيطرة على حركته، ويفقده أيضاً وعي هذه الحركة،
وتقديرها.. وتحديد مداها، ومواقعها، وأهدافها، وأماكنها..
ثم هو لا يملك
قدرة العودة إلى أي موقع يرغب في العودة إليه.. وهذا مأزق لا يختار
المحارب أن يضع نفسه فيه، بل هو يريد أن يكون زمام المبادرة بيده، وأن
يكون قادراً على التقلب في خياراته، حسبما يحلو له.
6 ـ
إنه إذا صاحب هذا الاندفاع القوي للخيل كيفيات وحالات خاصة، مثل
الأصوات الغامضة، أو الهيئات المخيفة، ومنها صوت ضبح الخيل الذي يدعوهم
لتصور حجم اندفاع عدوهم نحوهم، ثم إذا صاحب ذلك لمعات نارية خاطفة
وكثيرة، حين تقدح الخيل الشرر بحوافرها، فسوف يتشارك لدى ذلك العدوِّ
السمع والبصر في رسم صورة الخطر الداهم، وما يحمله من عنف، من شأنه أن
يزعزع ثباته، ويهزمه في عمق وجوده.
بل قد يوجب
قدح النار تحت حوافر الخيل نشوء حالة تضليلية، من خلال تلهي أفراد
العدو بالنظر إليها، وإثارة التكهنات حولها، فتتهيأ الفرصة لمفاجأتهم
بالقتال المرير، والضاري.
هذا كله، عدا
عن أن قدح النار من حوافر الخيل، يبهج روح فرسانها، ويقوي من اندفاعهم،
ما دام أنه ناتج عن حركتهم وفعلهم.
7 ـ
ويأتي بعد ذلك كله عنصر المفاجأة بالقتال، بشتى أنواعه، التي يحتاج
العدو في تحرزه منها إلى حركات متفاوتة في مداها وفي اتجاهاتها، شريطة
أن تكون بالغة السرعة، وقوية التأثير..
ولن يكون
الإنتقال إلى هذه الحركات سهلاً وميسوراً، إلا لأقل القليل من الناس.
فكيف إذا كان
هؤلاء المقاتلون في صفوف العدو، لا يقومون بعمل اختاروه لأنفسهم، بل
تكون حركتهم مجرد رد فعل، يفقدون معه أي خيار، أو اختيار لموقع القتال
ولأسلوبه، فضلاً عن عجزهم عن استهداف أي نقطة بالقتال، بالإضافة إلى
الضعف الذي سوف يعتري طبيعة حركاتهم القتالية نفسها..
والخلاصة:
أن هذه المفاجأة بالقتال لابد أن تربكهم، وتمنعهم من التأمل ومن التدبر
والتدبير، ومن تدارك خطة مدروسة لمواجهة الموقف.
8 ـ
إن للتوقيت وتحديد ساعة الصفر أهمية بالغة في النجاح في الحرب، فإن
المفاجأة إذا كانت في وقت الصبح، على قاعدة:
﴿فَالمُغِيرَاتِ
صُبْحاً﴾([5])،
فلا بد أن تكون فرص نجاحها أكبر وأوفر، ويقول النص التاريخي: إنه في
الغزوة التي نزلت فيها سورة العاديات أغار علي «عليه السلام» على العدو
في ذات السلاسل،
فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثم غار عليهم بأصحابه، فلم
يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى
ذراريهم.. عملاً بمبدأ المفاجأة، وبمبدأ سرعة العمل، وبمبدأ الحركة في
وقت لا يمكن رصد الحركة فيه، بسبب طبيعة النور المنتشر في ذلك الوقت،
والذي من شأنه أن يعطل الرؤية.
ومن جهة ثانية:
فإن
الفريق الذي لم يكلف بمهمات قتالية، ولو بمثل الرصد والحراسة، يميل في
هذه الساعة إلى أن يخلد للراحة، ظناً منه أن غيره يشاركه في هذا الميل،
فينسجم ظنه هذا مع رغبته تلك، ويستسلم من ثم لأحلامه اللذيذة، وتأخذه
سنة الكرى، وهو أكثر طمأنينة، وأبعد عن التفكير فيما يزعج ويثير.
وأما المكلف
بالرصد أو بالحراسة، فإنه إذا كان قد سهر الليل، حتى بلغ ساعات الصباح
الأولى، فلابد أن يتنفس هذا الساهر المرهق في هذا الوقت الصعداء، ويحسب
أنه قد أنهى مهمته، وأن عليه أن يستريح، ويعوض جسده عن هذا السهر
الطويل، بالنوم المستغرق والعميق..
وهذا كله يجعل
المفاجأة لهؤلاء وأولئك كبيرة وخطيرة؛ حيث يكون الراصد والحارس في أقصى
حالات الإرهاق، ويكون غيره من الناس مستغرقاً في أحلامه، ولن يكون
قادراً على الإنتقال من حالة الإسترخاء الشديد بأقصى درجاته إلى حالة
الإستنفار، بل إلى الدخول في أعنف حالات الحركات القتالية، التي لا
يقتصر الأمر فيها على أن يفكر في الأسلوب وفي الطريقة القتالية التي
يختارها وحسب. بل عليه أن يفكر في اكتشاف الحركة القتالية للعدو أولاً،
ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما يمتلكه من وسائل دفعها، وفي كيفية استعمال
تلك الوسائل بما يناسب حركة العدو هذه..
وفي سياق آخر
نقول:
إن المغير
يعرف هدفه، وقد حدده ورسم خطة للتعامل معه، وهو ينفذ ما رسم.
أما المستهدفون بالغارة، فلا يعرفون شيئاً عن مواقع المهاجمين أو عن
خطتهم، أو حالاتهم، وليس لديهم أية وسيلة لكشف ذلك فيهم، لأن العين وهي
حاسة الرؤية تكون معطلة بسبب الظلمة، والنور الضئيل الذي ربما يكون قد
بدأ ينتشر إنما هو في مستوى محدود، ولا يغير من الواقع شيئاً..
وحتى في حالات
الحرب في العصور الحديثة، فمن جهة تكون أجهزة الرصد غير ذات أثر، فيما
بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وكذلك بعد غياب الشمس إلى مضي حوالي ساعة
من أول الليل.
ومن جهة أخرى
تكون العين المجردة محجوبة بالظلمة، أو تكون دائرة عملها محاصرة
ومحدودة بمقدار النور الذي استطاع أن يقتحم جحافل الظلام، وأن يتسلل
إلى ثنايا تراكماته المهيمنة..
9 ـ
وهنا يأتي دور النقع والغبار، الذي يثور في ساحة المعركة، بسبب سرعة
حركة الخيل المغيرة، ليكون الساتر، والمانع من استفادة العدو حتى من
كمية النور الضئيلة، التي تسللت إلى الأفق فيما بين طلوع الفجر إلى
طلوع الشمس.
كما أن لهذا
النقع دوراً في إرباك حركة العدو، وفي التأثير على مخيلته، ويهيء
الفرصة لتوهم كيفيات وصور قتالية ضخمة ومهولة، لا وجود لها في الواقع.
ومن شأن هذا
أيضاً أن يزيد ذلك العدو ضعفاً ووهناً، ويؤكد هزيمته الروحية، وربما
يكون سبباً في مبادرته إلى هدر طاقات، وبذل جهد في غير الاتجاه الصحيح.
10 ـ
ثم يأتي دور تلك الخيل العادية في الالتفاف على العدو، ومحاصرته
وصيرورته في وسط تلك الخيل بسرعة حسبما أشير إليه في قوله تعالى:
﴿فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعاً﴾([6])،
حتى إذا رأى العدو أنه يواجه القتال في كل اتجاه، فإنه يصاب بالإحباط،
وباليأس من أن تتيح له المقاومة شيئاً ذا بال، وستتأكد لديه القناعة
بأنه لا فائدة من الاستمرار فيها، لأن حصادها لن يكون في هذه الحال سوى
أن يصبح طعمة للسيوف، وأن يلاقي الحتوف، وفي مثل هذه الحال سيرى: أن
الاستسلام هو الأرجح والأصلح.
وقد أظهرت
النصوص المنقولة، وكذلك نزول هذه السورة المباركة في هذه المناسبة: أن
علياً «عليه السلام» قد طبق هذه الأمور كلها في غزوة ذات السلاسل.
فصلوات الله
وسلامه على علي، سيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، إلى جنات النعيم.
([1])
المفردات للراغب ص292.
([2])
بحار الأنوار ج21 ص66 ومجمع البيان ج10 ص528 و 529 و (ط مؤسسة
الأعلمي) ج10 ص422 ومعجم مقاييس اللغة ج3 ص385 وج5 ص349 ولسان
العرب ج3 ص509 وج7 ص405 والقاموس المحيط ج1 ص358.
([3])
راجع: أقرب الموارد، مادة: ضبع، وراجع: بدائع الصنائع ج1 ص210
وكتاب العين ج1 ص284 ولسان العرب ج8 ص216.
([4])
بحار الأنوار ج21 ص66 عن
مجمع البيان ج10 ص528 و 529 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص421 و 422
وكتاب العين للفراهيدي ج3 ص110 ولسان العرب ج2 ص543 والقاموس
المحيط ج1 ص226 وتاج العروس ج2 ص186.
([5])
الآية 3 من سورة العاديات.
([6])
الآية 5 من سورة العاديات.
|