صفحة : 169-175   

سرية علي عليه السلام إلى بني خثعم:

عن سلمان الفارسي «رحمه الله» قال: بينما أجمع ما كنا حول النبي «صلى الله عليه وآله»([1]) ما خلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» إذ أقبل أعرابي بدوي، فتخطى صفوف المهاجرين والأنصار حتى جثا بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فسأله النبي عن نفسه، وما جاء به، فأخبره أنه رجل من بني لجيم.

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «ما وراك (يا أخا) لجيم»؟!

قال: يا رسول الله خلفت خثعم، وقد تهيأوا وعبأوا كتائبهم، وخلفت الرايات تخفق فوق رؤوسهم، يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم، يتألَّون باللَّات والعزى أن لا يرجعوا حتى يردوا المدينة، فيقتلوك ومن معك يا رسول الله.

قال: فدمعت عينا النبي «صلى الله عليه وآله» حتى أبكى جميع أصحابه، ثم قال: «يا معشر الناس، سمعتم مقالة الأعرابي»؟!

قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

قال: «فمن منكم يخرج إلى هؤلاء القوم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله يفتح على يديه، وأضمن له على الله الجنة؟!

قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول الله.

قال: فقام النبي «صلى الله عليه وآله» على قدميه وهو يقول: «معاشر أصحابي هل سمعتم مقالة الأعرابي»؟!

قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

قال: «فمن منكم يخرج إليهم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله أن يفتح على يديه، وأضمن له على الله اثني عشر قصراً في الجنة».

قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول.

قال: فبينما النبي «صلى الله عليه وآله» واقف إذ أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فلما نظر إلى النبي «صلى الله عليه وآله» واقفاً ودموعه تنحدر كأنها جمان انقطع سلكه على خديه لم يتمالك أن رمى بنفسه عن بعيره إلى الأرض، ثم أقبل يسعى نحو النبي «صلى الله عليه وآله» يمسح بردائه الدموع عن وجه رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو يقول: ما الذي أبكاك؟! لا أبكى الله، عينيك يا حبيب الله! هل نزل في أمتك شيء من السماء؟!

قال: «يا علي، ما نزل فيهم إلا خير، ولكن هذا الأعرابي حدثني عن رجال خثعم بأنهم قد عبأوا كتائبهم.

ثم ذكر له ما جرى، فطلب منه أن يصف له القصور، فوصفها له.

فقال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»: فداك أمي وأبي يا رسول الله، أنا لهم.

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «يا علي، هذا لك وأنت له، أنجد إلى القوم».

فجهزه رسول الله «صلى الله عليه وآله» في خمسين ومائة رجل من الأنصار والمهاجرين، فقام ابن عباس، وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب إلى خمسمائة رجل وفيهم الحارث بن مكيدة يعد بخسمائة فارس؟!

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «امط عني يا ابن عباس، فوالذي بعثني بالحق لو كانوا على عدد الثرى وعليٌّ وحده لأعطى الله عليهم النصر حتى يأتينا بسبيهم أجمعين».

فجهزه النبي «صلى الله عليه وآله» وهو يقول: «اذهب يا حبيبي، حفظك الله من تحتك، ومن فوقك، وعن يمينك، وعن شمالك، الله خليفتي عليك».

فسار علي «عليه السلام» بمن معه حتى نزلوا بواد خلف المدينة بثلاثة أميال يقال له: وادي ذي خشب، قال: فوردوا الوادي ليلاً، فضلوا الطريق، قال: فرفع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» رأسه إلى السماء وهو يقول: يا هادي كل ضال، ويا مفرج كل مغموم، لا تقو علينا ظالماً، ولا تظفر بنا عدونا، واهدنا إلى سبيل الرشاد.

قال: فإذا الخيل يقدح بحوافرها من الحجارة النار، حتى عرفوا الطريق فسلكوه، فأنزل الله على نبيه محمد: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً..﴾ يعنى الخيل ﴿فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً﴾ قال: قدحت الخيل بحوافرها من الحجارة النار ﴿فَالُمغِيرَاتِ صُبْحاً﴾ قال: صبحهم علي مع طلوع الفجر.

وكان لا يسبقه أحد إلى الأذان، فلما سمع المشركون الاذان قال بعضهم لبعض: ينبغي أن يكون راعٍ في رؤوس هذه الجبال يذكر الله.

فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله «صلى الله عليه وآله».

قال بعضهم لبعض: ينبغى أن يكون الراعي من أصحاب الساحر الكذاب.

وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» لا يقاتل حتى تطلع الشمس، وتنزل ملائكة النهار.

قال: فلما أن دخل النهار، التفت أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى صاحب راية النبي «صلى الله عليه وآله» فقال له: ارفعها.

فلما أن رفعها، ورآها المشركون عرفوها، وقال بعضهم لبعض: هذا عدوكم الذي جئتم تطلبونه، هذا محمد وأصحابه.

قال: فخرج غلام من المشركين، من أشدهم بأساً، وأكفرهم كفراً، فنادى أصحاب النبي: يا أصحاب الساحر الكذاب، أيكم محمد؟! فليبرز إليَّ.

فخرج إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وهو يقول: ثكلتك أمك أنت الساحر الكذاب، محمد جاء بالحق من عند الحق.

قال له: من أنت؟!

قال: أنا علي بن أبي طالب، أخو رسول الله، و ابن عمه، وزوج ابنته.

قال: لك هذه المنزلة من محمد؟!

قال له علي: نعم.

قال: فأنت ومحمد شرع واحد، ما كنت أبالي لقيتك أو لقيت محمداً، ثم شد على علي وهو يقول:

لاقـيـت يـا عـلي ضـيـغــماً([2])            قـرماً كـريـماً في الـوغـا مـعـلَّـــما

ليثاً شديداً من رجـال خثعمـاً             يـنـصر ديـنـاً مـعـلـماً ومحــكـــما

فأجابه علي بن أبي طالب «عليه السلام» وهو يقول:

لاقـيـت قرنـاً حدثـاً وضيغـماً             ليثـاً شديـداً في الـوغـا  غشمشـما

أنـــا عـــلي ســأبـير خثعــماً             بـكـل خـطِّـيٍّ يـري النقـع دمــا

وكـل صـارم يثبت الضرب فينعـما([3])

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فاختلف بينهما ضربتان، فضربه علي «عليه السلام» ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى أمير المؤمنين «عليه السلام»: هل من مبارز؟!

فبرز أخ للمقتول، وحمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه أمير المؤمنين «عليه السلام» ضربة، فقتله وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي «عليه السلام»: هل من مبارز؟!

فبرز له الحارث بن مكيدة، وكان صاحب الجمع، وهو يعد بخمسمائة فارس، وهو الذي أنزل الله فيه: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، قال: كفور ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ قال: شهيد عليه بالكفر ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»: يعني باتباعه محمداً.

فلما برز الحارث، حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار.

ثم نادى علي «عليه السلام»: هل من مبارز؟!

فبرز إليه ابن عمه، يقال له: عمرو بن الفتاك، وهو يقول:

أنـا عـمـرو وأبـي الـفـتـــــاك            وبـيـدي نـصـل سـيـف هـتـــاك

أقطـع بـه الـرؤس لمـن أرى كـذاك

فأجابه أمير المؤمنين «عليه السلام» وهو يقول:

هــاكـهـــا مــترعـة  دهـاقـــا             كأس  دهــاق مـزجـت زعـاقـــا

إنـــي امــرؤ إذا مــا لاقــــــا             أقــد  الهــام وأجـــذ ســاقــا([4])

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي «عليه السلام» ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي «عليه السلام»: هل من مبارز؟!

فلم يبرز إليه أحد، فشد أمير المؤمنين «عليه السلام» عليهم حتى توسط جمعهم، فذلك قول الله: ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً، فقتل علي «عليه السلام» مقاتليهم، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وأقبل بسبيهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فبلغ ذلك النبي، فخرج وجميع أصحابه حتى استقبل علياً «عليه السلام» على ثلاثة أميال من المدينة.

وأقبل النبي «صلى الله عليه وآله» يمسح الغبار عن وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» بردائه، ويقبل بين عينيه ويبكي، وهو يقول:

«الحمد لله يا علي الذي شد بك أزري، وقوَّى بك ظهري. يا علي، إنني سألت الله فيك كما سأل أخي موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أن يشرك هارون في أمره، وقد سألت ربي أن يشد بك أزري».

ثم التفت إلى أصحابه وهو يقول:

«معاشر أصحابي لا تلوموني في حب علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فإنما حبي علياً من أمر الله، والله أمرني أن أحب علياً وأدنيه، يا علي، من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أحبه الله، وحقيق على الله أن يسكن محبيه الجنة.

يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله أبغضه ولعنه، وحقيق على الله أن يوقفه يوم القيامة موقف البغضاء، ولا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً»([5]).

ونقول:

لا بأس بعطف النظر إلى الأمور التالية:


 

([1]) أي كنا حول النبي «صلى الله عليه وآله» كأجمع ما يكون.

([2]) هذا الشعر ورد هكذا، ولا يخفى عدم استقامة الوزن في هذا الشطر. ولعل الصحيح:

لاقيت حقــاً يا عـلي ضـيـغـماً            ليثـاً شديـداً في الـوغـا  غشمشـما

([3]) هذا الشطر غير مستقيم الوزن.

([4]) يلاحظ ما في هذا البيت من اختلال الوزن. وكذلك الحال في شعر ابن الفتاك.

([5]) بحار الأنوار ج21 ص84 ـ 90 عن تفسير فرات ص593 ـ 598.

 
   
 
 

موقع الميزان