إن الآية
قابلت بين السقاية والعمارة، وبين الشخص الذي آمن.. ولكن البعض حاول
تفسير الآية، فقال: لا معنى لهذه المقابلة إذا أُبقي المعنى على ظاهره،
لأن الإنسان لا يقابل بعمل من الأعمال كالسقاية، بل يقابل العمل
بالعمل، أو الإنسان ذي العمل بإنسان آخر ذي عمل.
وذلك يدل:
على أنه لا بد من تقدير الكلام بحيث يكون على هذا النحو: أجعلتم أهل
سقاية الحاج، وأهل عمارة المسجد، كمن آمن؟! فصارت المقابلة بين
إنسانين، فاستقام بذلك السياق.
ونقول:
أولاً:
لا حاجة إلى هذا التقدير، فإن التعبير القرآني لم يجعل العمارة
والسقاية مقابل المؤمن بالله، ليرد ما أوردوه، بل جعل هذين الفعلين
الإختياريين مقابل شخص صدر منه هذا الفعل الإختياري أيضاً..
وإذا كان الفعلان الإختياريان، وهما:
السقايةن والعمارة، يراد توصيف الشخص بهما، لإثبات فضيلة وشرف له.
فتكون المقابلة الحقيقية بين شخص له عمل السقاية أو العمارة
الإختياريين، وبين شحص آخر له عمل إختياري آخر، هو الإيمان والجهاد..
أو يقابل بين عملين:
أحدهما: السقاية والعمارة. والآخر: الإيمان والجهاد..
ولعل هذا هو الأولى والأقرب، إن لم نقل:
إنه هو الأصوب.
ثانياً:
يلاحظ: أنه تعالى قد قابل بين أمرين حازهما علي «عليه السلام»، وهما:
الإيمان والجهاد، وأمرين آخرين لم يجمعهما شخص واحد، وهما: السقاية
للعباس، والعمارة لشيبة.. وبذلك يكون «عليه السلام» قد امتاز على كل
واحد منهما: من حيث الشكل، فجمع خصوصيتين مقابل خصوصية واحدة لهذا،
وأخرى لذاك.
ومن حيث
المضمون، لدلالة الآية على أن عملهما لم يكن فيه شيء لله، بل هو عمل
دنيوي جاهلي محض، خال من أية نفحة إلهية، أو أي نظرة إلى اليوم الآخر..
ثالثاً:
يلاحظ أيضاً: أن مستوى التضحية في السقاية والعمارة لا يصل إلى مستوى
البذل في الجهاد، الذي تبذل فيه الأرواح، ويقصد به الله واليوم الآخر،
ويكون منطلقاً من هذا الإيمان، ولا يراد به الدنيا.
رابعاً:
يلاحظ: أن الآية ذكرت السقاية والعمارة من دون إشارة للساقي والعامر،
لأن المطلوب بيان: أن هذه السقاية خاوية من المعنى الروحي، فهي على حد
أفعال أهل الجاهلية.. فلا داعي لفضح الناس بأن ينسبب لهم هذا الأمر
الذي يعد منقصة، لأنهم صاروا في جملة المسلمين، الذين يريد تعالى حفظ
ماء وجههم، وتهيئة الأجواء لهم، لتصفية نفوسهم، وتزكيتها وإصلاحها..
ولكنه تعالى
حين ذكر الطرف الآخر، وهو المجاهد الباذل لنفسه في الله، أشار إلى
شخصه، وجعله هو طرف الموازنة، والمقارنة، ليدل على مزيته وفضله، وعظيم
منزلته، وسامق مقامه.
|