وفي النصوص:
أنه «صلى الله عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام» في بني جذيمة: «أنت
هادي أمتي، ألا إن السعيد من أحبك، وأخذ بطريقتك، ألا إن الشقي كل
الشقي، من خالفك، ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة»([1]).
فقد دلتنا هذه الكلمة على أمور ثلاثة أساسية وذات أهمية
بالغة هي:
إن وصف النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام»
بأنه هادي أمته، يدلنا على أن ما أجراه «عليه السلام» في بني جذيمة ـ
ليس هو مجرد إيصال حقوق مالية إلى أصحابها.. وإنما هو يرتبط بالهداية
إلى الحق، وتعريف الناس بما يرضى الله تعالى..
ولعل مما يدلنا على ذلك تنوّع العطاءات، وتنوع أسبابها،
حيث أظهرت أحكاماً وأسراراً دقيقة وعميقة، مثل أن لروعات النساء، وفزع
الصبيان قيمة مادية، وأنه لا بد من دية الأجنة إذا أسقطت في مثل هذه
الحالات.
يضاف إلى ذلك:
أنها دلتنا على مسؤولية حقيقية لولي الأمر وهو الرسول ووصيه والإمام من
بعده.. عن أمثال هذه الأمور، وأنها ليست مسؤولية أدبية أو سلطوية، بل
هي مسؤولية مادية حقيقية وواقعية، ويحتاج إلى إبراء ذمته من هذا الحق
المالي، وأن هذا الحق قد أثبته الله على نفسه أيضاً.
ولأجل ذلك صرح «عليه السلام» بأنه أراد ببعض ما أعطاه
أن يبرئ ذمة الله ورسوله.
وليتأمل المتأمل مليا في جعل ذلك من الوفاء بذمة الله
تعالى أيضاً..
كما أن عدم علم صاحب الحق بمقدار الحق الذي ضاع له لا
يعني أن لا يعطي ما يوجب براءة ذمة الله ورسوله مما لا يعلمه.. بل لا
بد من إعطاء ما يفي بما يعلمون، وبما لا يعلمون أيضاً..
وهذه وسواها أمور لم تكن واضحة للناس، لولا فعل علي
«عليه السلام» في هذه الحادثة، وقد لا تخطر لأحد على بال..
والأهم من ذلك كله:
أنه «عليه السلام» أعطاهم من أجل أن يرضوا عن رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ليحفظ دينهم ويصون إيمانهم.
وهي تدل على أنه لا بد لمن يتصدى لإنصاف الناس، ويتحمل
مسؤوليتهم أن يكون عارفاً بأسرار الشريعة، واقفاً على دقائقها
وحقائقها، وكوامنها وأهدافها..
إنه «صلى الله عليه وآله» بين أن حقيقة السعادة تنال
بأمرين:
أحدهما:
أن يحب عليا «عليه السلام» كما هو في جميع حالاته يحبه وفي الرضا وفي
الغضب، في الرخاء وفي البلاء، بل هو يحبه حتى حين يحكم عليه، أو على
ولده بالقتل حين يستحق ذلك، ولا ينقص ذلك من محبته وتفانيه فيه شيئاً.
أما حب علي «عليه السلام» لأنه شجاع مثلاً، فهو ليس
حباً لعلي «عليه السلام»، بل هو حب للشجاعة التي سيحبها حتى لو كانت في
أعداء الله، وأعداء الإنسانية، فهذا الحب لا ينفع صاحبه، ولا يسعده في
الدنيا والآخرة، ولا ينيله رضا الله تبارك وتعالى.
الثاني:
الأخذ بطريقة علي «عليه السلام»، بمعنى أن ينسجم فيه العمل الجوارحي مع
المشاعر، ويستجيب لدعوتها، وهذا ما يعبر عنه بالتأسي والإقتداء، وأما
الحب العقيم، الذي لا يلد العمل الصالح، فليس بذي قيمة، وليس من موجبات
السعادة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
إنه «صلى الله عليه وآله» تحدث عن الأخذ بطريقة علي
«عليه السلام»، ولم يأمر بعمل نفس علي، لا من حيث الكم، ولا من حيث
الكيف، بحيث يكون لعمل الناس نفس قيمة وخلوص عمل علي «عليه السلام»..
وسائر حالاته وآثاره، بل المطلوب هو أن يتبع المؤمن سبيله، وطريقته،
وعلي «عليه السلام» هو القائل: «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن
أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»([2]).
وهذا هو السبب أيضاً في أنه «صلى الله عليه وآله» قد
رتب الشقاء والبوار على مخالفة طريقة علي «عليه السلام»، لا على فقدان
الأعمال لخصوصيات وقيمة عمل علي «عليه السلام»، وذلك لطف آخر من الله
تعالى ورسوله «صلى الله عليه وآله» في هذه الأمة، وذلك واضح لا يخفى..
([1])
الأمالي للطوسي (ط سنة 1414) ص498 وبحار الأنوار ج21 ص143
وموسوعة احاديث أهل البيت «عليهم السلام» ج11 ص219.
([2])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص71 ومختصر بصائر الدرجات
ص154 ومستدرك الوسائل ج12 ص54 وبحار الأنوار ج33 ص474 وج40
ص340 وج67 ص320 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص34 وموسوعة أحاديث
أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج5 ص91 وج7 ص165 وج8 ص425
ونهج السعادة ج4 ص33 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص205
وينابيع المودة (ط دار الأسوة) ج1 ص439 وقواعد المرام في علم
الكلام لابن ميثم البحراني ص185 والمجالس الفاخرة للسيد شرف
الدين ص305.
|