قالوا:
وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث رسول الله «صلى الله
عليه وآله» علي بن أبي طالب «عليه السلام» في خمسين ومائة رجل ـ أو
مائتين كما ذكره ابن سعد ـ من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرساً،
ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفلس، ليهدمه.
فأغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة على محلة آل
حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي، والنعم،
والشاء.
وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى
الشام.
ووجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف:
رسوب، والمخذم ـ كان الحارث بن أبي شمر قلده إياهما ـ
وسيف يقال له: اليماني، وثلاثة أدرع (وكان عليه ثياب يلبسونه إياها).
واستعمل علي «عليه السلام» على السبي أبا قتادة،
واستعمل على الماشية والرثة عبد الله بن عتيك.
فلما نزلوا ركك (أحد أجبال طي) اقتسموا الغنائم، وعزلوا
للنبي «صلى الله عليه وآله» صفياً: رسوباً والمخذم، ثم صار له بعد
السيف الآخر، وعزل الخمس.
وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
ومرَّ النبي «صلى الله عليه وآله» بأخت عدي بن حاتم،
فقامت إليه وكلمته: أن يمن عليها.
فمنّ عليها، فأسلمت، وخرجت إلى أخيها، فأشارت عليه
بالقدوم على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقدم عليه([1]).
وذكر ابن سعد في الوفود:
أن الذي أغار، وسبى ابنة حاتم هو خالد بن الوليد([2]).
والفُلْس ـ بضم الفاء، وسكون اللام
ـ:
صنم لطيء ومن يليها([3]).
وفي نص آخر ذكره الواقدي:
أن علياً «عليه السلام» دفع رايته إلى سهل بن حنيف،
ولواءه إلى جبار بن صخر السلمي، وخرج بدليل من بني أسد يقال له: حريث،
فسلك بهم على طريق فيد (جبل)، فلما انتهى بهم إلى موضعٍ قال: بينكم
وبين الحيّ الذي تريدون يوم تام، وإن سرناه بالنهار وطئنا أطرافهم
ورعاءهم، فأنذروا الحيّ، فتفرقوا، فلم تصيبوا منهم حاجتكم، ولكن نقيم
يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نسري ليلتنا على متون الخيل، فنجعلها
غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح.
قالوا:
هذا الرأي!
فعسكروا، وسرحوا الإبل، واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم
يتقصّون ما حولهم، فبعثوا أبا قتادة، والحباب بن المنذر، وأبا نائلة،
فخرجوا على متون خيل لهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود،
فقالوا: ما أنت؟!
قال:
أطلب بغيتي.
فأتوا به علياً «عليه السلام»،
فقال:
ما أنت؟!
قال:
باغ.
قال:
فشدوا عليه.
فقال:
أنا غلام لرجل من طيء من بني نبهان، أمروني بهذا الموضع
وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسراً([4])
(شراً)، فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم، ثم قلت: لا أعجل حتى آتي
أصحابي بخبر بيِّن، من عددكم وعدد خيلكم، ورقابكم، ولا أخشى ما أصابني،
فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم.
قال علي «عليه السلام»:
أصدقنا ما وراءك.
قال:
أوائل الحيّ على مسيرة ليلة طرادة، تصبحهم الخيل
ومغارها حين غدوا.
قال علي «عليه السلام» لأصحابه:
ما ترون؟!
قال جبار بن صخر:
نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم
غارون، فنغير عليهم، ونخرج بالعبد الأسود ليلاً، ونخلف حريثاً مع
العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله.
قال علي «عليه السلام»:
هذا الرأي.
فخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادى، وهو ردف بعضهم
عقبة (نوبة)، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف، فلما انهار الليل كذب
العبد، وقال: قد أخطأت الطريق وتركتها ورائي.
قال علي «عليه السلام»:
فارجع إلى حيث أخطأت.
فرجع ميلا أو أكثر، ثم قال:
أنا على خطأ.
فقال علي «عليه السلام»:
إنَّا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحيّ،
قدموه، لتصدقنا، أو لنضربن عنقك.
قال:
فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت إن
صدقتكم أينفعني؟!
قالوا:
نعم.
قال:
فإني صنعت ما رأيتم، إنه أدركني ما يدرك الناس من
الحياء، فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحيّ من غير محنة ولاحق فآمنهم،
فلما رأيت منكم ما رأيت، وخفت أن تقتلوني كان لي عذر، فأنا أحملكم على
الطريق.
قالوا:
أصدقنا.
قال:
الحيّ منكم قريب.
فخرج معهم حتى انتهى إلى أدنى الحيّ، فسمعوا نباح
الكلاب وحركة النعم في المراح والشاء.
فقال:
هذه الأصرام (الجماعات) وهي على فرسخ، فينظر بعضهم إلى
بعض.
فقالوا:
فأين آل حاتم؟!
قال:
هم متوسطو الأصرام.
قال القوم بعضهم لبعض:
إن أفزعنا الحيّ تصايحوا، وأفزعوا بعضهم بعضاً، فتغيب
عنا أحزابهم في سواد الليل، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر معترضاً،
فقد قرب طلوعه فنغير، فإن أنذر بعضهم بعضاً لم يخفَ علينا أين يأخذون،
وليس عند القوم خيل يهربون عليها، ونحن على متون الخيل.
قالوا:
الرأي ما أشرت به.
قال:
فلما اعترضوا الفجر أغاروا عليها، فقتلوا من قتلوا،
وأسروا من أسروا، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم
يخف عليهم أحد تغيب، فملأوا أيديهم.
قال:
تقول جارية من الحي، وهي ترى العبد الأسود ـ وكان اسمه
أسلم ـ وهو موثق: ما له؟! هُبِل([5]).
هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم!
قال يقول الأسود:
أقصري يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدّمت ليضرب
عنقي.
قال:
فعسكر القوم، وعزلوا الأسرى وهم ناحية نفير، وعزلوا
الذرية، وأصابوا من آل حاتم أخت عدي، ونسيات معها، فعزلوهن على حدة.
فقال أسلم لعلي «عليه السلام»:
ما تنتظر بإطلاقي؟!
فقال:
تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
قال:
أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت.
قال:
ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟!
قال:
نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إلي من أن أكون مع غيرهم
مطلقاً، يصيبني ما أصابهم، فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى.
وقال:
أنا معهم حتى ترون منهم ما أنتم راؤن.
فقائل يقول له من الأسرى:
لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم!
وقائل يقول:
مرحباً بك وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت، لو
أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشد منه، ثم آسيت بنفسك.
وجاء العسكر، واجتمعوا، فقربوا الأسرى، فعرضوا عليهم
الإسلام، فقال: والله، إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود.
قال:
يقول رجل من الحي ممن أسلم: يا عجباً منك، ألا كان هذا
حيث أخذت، فلما قتل من قتل، وسبي منا من سبي، وأسلم منا من أسلم،
راغباً في الإسلام تقول ما تقول؟! ويحك أسلم واتبع دين محمد.
قال:
فإني أسلم وأتبع دين محمد. فأسلم وترك، وكان يعد فلا
يفي، حتى كانت الردة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة، فأبلى بلاء
حسناً.
قال الواقدي:
فحدثت هذا الحديث عبد الله بن جعفر الزهري، فقال: حدثني
ابن أبي عون قال: كان في السبي أخت عدي بن حاتم لم تقسم، فأنزلت دار
رملة بنت الحارث.
وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي «عليه
السلام»، وكان له عين بالمدينة، فحذره فخرج إلى الشام.
وكانت أخت عدي إذا مر النبي «صلى
الله عليه وآله» تقول:
يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علينا
منّ الله عليك.
كل ذلك يسألها رسول الله «عليه
السلام»:
من وافدك؟!
فتقول:
عدي بن حاتم.
فيقول:
الفار من الله ورسوله؟! حتى يئست.
فلما كان يوم الرابع مرّ النبي «صلى الله عليه وآله»،
فلم تتكلم، فأشار إليها رجل: قومي فكلميه.
فكلمته، فأذن لها ووصلها، وسألت عن الرجل الذي أشار
إليها، فقيل: علي، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟!
فقالت:
لا والله، ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي، وطرف
ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا
وجه أحد من أصحابه([6]).
وفي نص آخر:
أنه «صلى الله عليه وآله» مضى حتى مرَّ ثلاثاً.
قالت:
فأشار إليَّ رجل من خلفه: أن قومي فكلميه.
قالت:
فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن
عليّ، منّ الله عليك.
قال:
قد فعلت، فلا تعجلي، حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك، ثم
آذنيني.
فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ،
فقيل:
علي بن أبي طالب.
وقدم ركب من بلى، فأتيت رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، فقلت:
قدم رهط من قومي.
قالت:
وكساني رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وحملني،
وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت على أخي، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟!
فقلت:
أرى أن نلحق به([7]).
وفي نص آخر، قالت:
يا محمد، أرأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء
العرب؟! فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني،
ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام،
ولم يرد طالب حاجة قط. أنا ابنة حاتم طيء.
فقال لها النبي «صلى الله عليه
وآله»:
يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً
لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق([8]).
ونقول:
إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات، نجملها فيما يلي من
مطالب:
([1])
راجع: سبل الهدى والرشاد ج6 ص218 والمغازي للواقدي ج3 ص984 و
985 والسيرة الحلبية ج3 ص205 وراجع: المواهب اللدنية وشرحه
للزرقاني ج4 ص48 و 49 و 50 وتاريخ الخميس ج2 ص120 و 121
والإصابة ج4 ص329 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج69 ص194 ـ 203
وإحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص234 ـ 237 وراجع: الطبقات الكبرى
لابن سعد ج2 ص164 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص624 وإمتاع
الأسماع ج2 ص45.
([2])
راجع: سبل الهدى والرشاد ج6 ص218 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1
ص322 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج69 ص193.
([3])
شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج4 ص48 وراجع: معجم البلدان ج4
ص273 وج5 ص205 وتخريج الأحاديث والآثار ج2 ص194 والطبقات الكـبرى
= =
لابن
سعد ج1 ص322 وج2 ص164 وتاريخ مدينة دمشق ج69 ص193 وتاريخ
الإسلام للذهبي ج2 ص624 وإمتاع الأسماع ج2 ص45 و 142.
([4])
أي لا أدرك لكي أؤخذ أسيراً.
([5])
أي رماه الله بالهبل.
([6])
المغازي للواقدي ج3 ص985 ـ 989. وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج69
ص194 ـ 198 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص234 ـ 238.
([7])
الإصابة ج4 ص329 و (ط دار الكتب العلمية) ج8 ص180 عن ابن
إسحاق، وابن الأثير، وأبي نعيم، والطبراني، والخرائطي في مكارم
الأخلاق، وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص205 وراجع: شرح المواهب
اللدنية للزرقاني ج4 ص49 و50 وأسد الغابة ج5 ص475.
([8])
السيرة الحلبية ج3 ص205 و (ط دار المعرفة) ج3 ص224 والبداية
والنهاية
= =
ج2
ص271 وج5 ص80 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص109 وج4 ص132
وتاريخ مدينة دمشق ج11 ص359 وج36 ص446 وج69 ص202 و 203 وسبل
الهدى والرشاد ج6 ص376 ومستدرك الوسائل ج11 ص194 وجامع أحاديث
الشيعة ج14 ص210 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» ج10
ص398 ونهج السعادة للمحمودي ج7 ص362 وكنز العمال ج3 ص664
والدرجات الرفيعة ص355.
|