وقد حاول البعض التشكيك في حديث المباهلة، بأنحاء أخرى،
فنقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده:
«أن الروايات متفقة على أن النبي «صلى الله عليه وآله»
اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما. ويحملون كلمة «نساءنا» على
فاطمة، وكلمة «أنفسنا» على علي فقط».
ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد
اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، حتى راجت على كثير من أهل السنة.
ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن كلمة
«نساءنا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته، لا سيما إذا كان له أزواج،
ولا يفهم هذا من لغتهم.
وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان.
ثم إن وفد نجران الذين قالوا:
إن الآية نزلت فيهم، لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم.
وكل ما يفهم من الآية أمر النبي «صلى الله عليه وآله»
أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الإجتماع
رجالاً ونساءً، وأطفالاً، ويبتهلون إلى الله بأن يلعن هو الكاذب فيما
يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه، وثقته بما يقول.
كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب، سواء كانوا نصارى نجران
أو غيرهم، على امترائهم في حجاجهم، ومماراتهم فيما يقولون، وزلزالهم
فيما يعتقدون، وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن
يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين
والمبطلين في صعيد واحد، متوجهين إلى الله تعالى في طلب
لعنه، وإبعاده من رحمته؟! وأي جراءة على الله، واستهزاء بقدرته وعظمته
أقوى من هذا؟!
قال:
أما كون النبي
«صلى الله عليه وآله» والمؤمنين كانوا على يقين
مما يعتقدون في عيسى «عليه السلام» فحسبنا في بيانه قوله تعالى: ﴿مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾([1])
فالعلم في هذه المسائل الإعتقادية لا يراد به إلا اليقين.
وفي قوله:
﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ..﴾([2])
وجهان:
أحدهما:
أن كل فريق يدعو الآخر، فأنتم تدعون أبناءنا، ونحن ندعو
أبناءكم، وهكذا الباقي.
وثانيهما:
أن كل فريق يدعو أهله، فنحن المسلمين ندعو أبناءنا
ونساءنا وأنفسنا، وأنتم كذلك.
ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس،
وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم من القول بالتخصيص([3]).
ونقول:
إننا نذكر هنا ما أوردناه في كتابنا الصحيح من سيرة
النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»([4]).
وهو كما يلي:
أولاً:
ما زعمه من أن مصادر هذا الحديث هم الشيعة غير صحيح، فقد روي هذا
الحديث في صحاح أهل السنة ومجاميعهم الحديثية والتفسيرية وبطرقهم. ومن
غير المعقول أن يكون الشيعة قد دسوا هذه الروايات في تلك المجاميع.. إذ
إن ذلك يؤدي إلى سقوطها، ومنها صحيح مسلم والترمذي، وتفسير الطبري،
والدر المنثور، وسائر صحاح ومصادر أهل السنة..
ثانياً:
لو صح ما
زعمه، لأفسح المجال للقول:
بأن الدس في كتب أهل السنة ميسور لكل أحد، من قبل
الشيعة وغيرهم، والنتيجة هي: أن تصبح روايات أهل السنة كلها مسرحاً
لتلاعب جميع الفئات، ولا مجال للوثوق بها، وتسقط بذلك عن الإعتبار..
ثالثاً:
إن كان المقصود بالشيعة خصوص الصحابة والتابعين الذين رووا هذا الحديث،
فالأمر يصبح أشد خطورة، إذ هو يؤدي إلى نسبة جماعة من أئمة أهل السنة،
ورواة حديثهم، وفقهائهم، إلى التشيع والشيعة، مع أنه لا يرتاب أحد في
تسننهم، بل فيهم من هو من الأركان في التسنن..
رابعاً:
بالنسبة لقوله عن الشيعة: «ويحملون كلمة نساءنا على
فاطمة، وكلمة أنفسنا على علي فقط» نقول:
إن التعبير بالنساء والأبناء جار وفق ما يقتضيه طبعه
العام، وإن كان مصداقه ينحصر في فرد واحد، تماماً كما هو الحال في قوله
تعالى:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾([5]).
إذ لا مصداق للمفهوم العام سوى علي بن أبي طالب «عليه السلام» حين تصدق
بالخاتم وهو راكع، وهي قضية يعرفها كل أحد.
وكذلك الحال في قوله:
﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾([6])،
التي لا يقصد بها سوى الأئمة الإثني عشر..
ومن المعلوم:
أن الله لا يأمر بإطاعة أمثال فرعون ويزيد ونمرود.
ومنه:
آية التطهير التي قصد بها خصوص الخمسة أصحاب الكساء.
وكذلك الحال في قوله تعالى:
﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ
المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾([7])،
مع أن المقصود بها خصوص أصحاب الكساء والتسعة من ذرية الإمام الحسين
«عليه السلام». كما دلت عليه الروايات.
ولا يقصد بها من كان من الضالين، أو الجبارين، كالذين
قتلوا واضطهدوا أبناء عمهم من أبناء علي «عليه السلام»، والذين أحرقوا
قبر الأمام الحسين
«عليه السلام»، وإن كانوا من قرابته «صلى الله عليه
وآله».
ومنه:
قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ﴾([8])،
ونحن نعلم أن إثبات بنات للنبي
«صلى الله
عليه وآله» غير الزهراء «عليها السلام» صعب المنال، فراجع كتابنا «بنات
النبي أم ربائبه»، وكتاب: «القول الصائب في إثبات الربائب»، وكتاب:
«البنات ربائب»، وكتاب «ربائب النبي شبهات وردود»..
خامساً:
بالنسبة لقوله: «إن العربي لا يطلق كلمة نساءنا على بنت
الرجل، لا سيما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم» نقول:
ألف:
إن الذين أوردوا هذه الروايات التي طبقت الآية على علي
وفاطمة «عليهما السلام»، كانوا من العرب الأقحاح، الذين عاشوا في عصر
النبوة وبعده، وقد سجلها أئمة اللغة، وعلماء البلاغة في كتبهم
ومجاميعهم، ولم يسجلوا أي تحفظ على هذه الروايات..
ب:
لو صح إشكال هذا الرجل، فهو وارد على قوله هو
أيضاً، فإنه يزعم: أن وفد نجران لم يكن معه نساءٌ ولا أولادٌ، فما معنى
أن تقول الآية: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ﴾؟!.
فكيف يمكنه تطبيق الآية؟!.
ج:
إن المقصود هو أن يُبْلِغَهم أنه يباهلهم في قضية بشرية
عيسى بجميع الأصناف البشرية التي لها خصوصية الإشتراك في العلم
والأهلية، وفي الدعوى، وفي إثباتها. وهم هنا من النساء والأطفال
والرجال، حتى لو لم يكن الجامعون للشرائط المشار إليها منهم سوى فرد
واحد من كل صنف.
فهو كقول القائل:
شرفونا وسنخدمكم: نساءً، ورجالاً، وأطفالاً. أي أن جميع الأصناف سوف
تشارك في خدمتهم، حتى لو شارك واحد أو اثنان من كل صنف.
سادساً:
زعم هذا القائل: أن ظاهر الآية هو أن المطلوب هو دعوة
المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب جميع نسائهم ورجالهم
وأبنائهم، ويجمع النبي جميع أبناء ونساء ورجال المؤمنين، ثم يبتهلون.
ونقول:
إن هذا لا يمكن أن يكون هو المراد من الآية، لأنه من
طلب المحال. ويحق للنصارى أن يرفضوا هذا الطلب، لأنه يثبت أن ثمة
تعنتاً، وطلباً لما لا يكون. وهو يستبطن الإعتراف بصحة ما عليه
النصارى.. إذ لو لم يكونوا على حق لما لجأ إلى التعنت وطلب المحال.
سابعاً: قد يقال:
إن كان
المقصود هو:
نساء وأبناء الوفد، ونساء وأبناء النبي، فيرد إشكال:
إنه لم يكن مع الوفد نساء وأبناء..
ويجاب عنه:
بأن
الناس كثيراً ما كانوا يسافرون ومعهم نساؤهم وأبناؤهم. وكان النبي «صلى
الله عليه وآله» يصطحب معه في حروبه إحدى زوجاته، وكان المشركون يأتون
بنسائهم في حروبهم، كما كان الحال في بدر، وأحد، رغم الأخطار المحدقة.
أما الوفود فلا يحتمل فيها مواجهة أخطار، أو تعرض لأذى،
وأسر وسبي إلا في حدود ضئيلة، فالداعي إلى استصحاب النساء والأطفال، لا
يواجهه أي مانع أو رادع..
ثامناً:
زعم هذا القائل: أن النبي «صلى
الله عليه وآله» والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى «عليه
السلام». ونقول:
لا شك في أن الآية تدل على يقين النبي «صلى الله عليه
وآله» بذلك، وقد دل فعل النبي «صلى الله عليه وآله» في المباهلة على أن
الذين أخرجهم معه كانوا أيضاً على يقين من ذلك.
ودل على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿فَنَجْعَلْ
لَعْنتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾([9]).
حيث إنهم جميعاً كانوا شركاء في الدعوى، وعلى يقين من صحتها. ووعي تام
لتفاصيلها، ومعرفة بدقائقها وحقائقها.
وأما بالنسبة لسائر المؤمنين فلا شيء يثبت أنهم كانوا
على يقين من ذلك، فلعل بعضهم كان خالي الذهن عن كثير من التفاصيل.
وربما لو عرضت عليه لتحير فيها.
بل لقد صرح القرآن بأن الشكوك كانت
تراود أكثرهم، فقال: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَ
وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾([10]).
تاسعاً:
ونضيف إلى ما تقدم:
ألف:
إنه لا معنى لقوله: إن الآية قد تعني أن يفوض إلى النصارى دعوة الأبناء
والنساء من المؤمنين، ويدعو المؤمنون أبناء ونساء النصارى في المباهلة،
إذ كيف يسلط النبي «صلى الله عليه وآله» النصارى على أبناء ونساء
المؤمنين، ثم يطلب من النصارى أن يسلطوه على دعوة نسائهم وأبنائهم.. في
حين أن المباهلة لا تحتاج إلى ذلك، بل يمكن أن يأتي كل فريق بمن أحب،
لكي يباهل بهم الجماعة التي تأتي من قبل الفريق الآخر؟!
ب: لو صح ما ذكره، فقد كان المطلوب هو المشاركة في دعوة
الفريقين لمن ذكرتهم الآية من الفريقين معاً، أي أن يدعو المسلمون
أبناءهم وأنفسهم ونساءهم، وأبناء وأنفس ونساء النصارى أيضاً.
ج:
لو صح ذلك، لتخير كل فريق ما قد لا يتوقعه الفريق الآخر، إذ قد يتخير
من الزوجات زينب بنت جحش مثلاً، وليس عائشة، ولا يتخير فاطمة.
وقد يتخير من الأبناء الحسن فقط دون الحسين، وقد يتخير
من الأنفس نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله».
عاشراً:
بالنسبة لدعوة النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه نقول:
إن الشيعة لا يقولون بأن الآية تفرض
ذلك، بل هم يقولون:
إن المراد بقوله: ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾([11])
هو الرجال من أهل بيت الرسول «صلى الله عليه وآله»، الذين يكون حضورهم
بمثابة حضور نفس النبي «صلى الله عليه وآله»، وهم إنما يحضرون بدعوة
بعضهم بعضاً([12]).
([1])
الآية 61 من سورة آل عمران.
([2])
الآية 61 من سورة آل عمران.
([3])
تفسير المنار ج3 ص322 و 323 وتفسير الميزان ج3 ص236.
([4])
الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج29 ص12 ـ
17.
([5])
الآية 55 من سورة المائدة.
([6])
الآية 59 من سورة النساء.
([7])
الآية 23 من سورة الشورى.
([8])
الآية 59 من سورة الأحزاب.
([9])
الآية 61 من سورة آل عمران.
([10])
الآية 106 من سورة يوسف.
([11])
الآية 61 من سورة آل عمران.
([12])
راجع: تفسير الميزان ج3 ص242 و 243.
|