ونلاحظ:
أن ما جرى في عرفة
.. وما صدر من أولئك الناس من إساءات وأذى لرسول الله
«صلى الله عليه وآله».. قد أسهم إسهاماً كبيراً في تعريف الأمة بالتقي
الوفي، والمطيع والصادق. وتمييزه عن المتآمر الطامح لما ليس له،
المتجرئ على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والساعي لتحقيق مآربه
الخاصة بكل ثمن..
وقد توفرت عناصر كثيرة جعلت هذا الأمر من أوضح الواضحات
لكل الناس: كبيرهم، وصغيرهم، عالمهم، وجاهلهم، مؤمنهم، وفاسقهم، ونذكر
من هذه العناصر ما يلي:
1 ـ
إن يوم عرفة
هو يوم يجتمع
فيه الحجيج كله في صعيد واحد.. ولا يجوز لهم الخروج منه، والتفرق عنه..
أما في منى
، أو في مكة
،
فالناس يتفرقون في حاجاتهم العبادية أو غيرها..
2 ـ
إنه يوم عبادة وابتهال، ودعاء ومناجات، وطلب حوائج الدنيا والآخرة،
وإظهار الندم، والتوبة والإستغفار..
3 ـ
وهو يوم يهتم فيه الإنسان بنفسه وبمصيره، وتصفية حساباته مع ربه، ولا
يهتم فيه بالدنيا وحطامها، ولا يمارس فيه السياسة، ولا يسعى فيه لنيل
المقامات الدنيوية.
وهو يوم يهيء الإنسان لإلتزام جادة التقوى، والإنسجام
مع الأوامر الإلهية، والإنضباط على أساسها، والخضوع للمشيئة الربانية.
4 ـ
وقد لفت النبي «صلى الله عليه وآله» نظرهم إلى فضل هذا اليوم، فأقروا
له ـ كما جاء في خطبة عرفة
في حجة الوداع حين سألهم عن يومهم، وعن شهرهم، وغير
ذلك..
5 ـ
وهو يوم لا نظير له في حياة هؤلاء الناس، لأنهم يجتمعون بحضور، وبرعاية
خير خلق الله، وأشرف، وأقدس، وأفضل المخلوقات.
فإذا بادر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى بيان أمر ما
في هذا اليوم، فلا بد أن يروا أنه من الأمور الهامة جداً، في دنياهم
وفي آخرتهم.. ويرى كل فرد ٍ فردٍ منهم أن عليه أن يهتم بكل توجيه وكل
كلمة تصدر منه وعنه «صلى الله عليه وآله»، ويلاحقها بدقة وبانتباه
فائق..
فإذا رأى أن أصحاب هذا النبي «صلى الله عليه وآله» في
هذا المقام بالذات يتمردون عليه، ويسيئون الأدب معه، وهم يدعون التقوى،
والورع والإخلاص، والتوبة، و.. و.. فإن ذلك سيشكل مفاجأة له تصل إلى حد
الصدمة.
6 ـ
للإحرام خصوصيته أيضاً، فالجميع في عرفة
وهو المكان المقدس، وكلهم على صفة الإحرام ـ الذي انعقد
بتلبيتهم داعي الله، وبراءتهم من الشرك، والإقرار بالمملوكية له تعالى،
ومالكيته لكل شيء.. وبأن الحمد والنعمة له تعالى.
وفي الإحرام يمتنعون عن الملذات، ويمارسون تجربة
السيطرة على أنفسهم، وعلى دوافعهم الغريزية، والإمتناع عن إيذاء أي
مخلوق، حتى النملة والقملة..
ويشعرون بمساواة غنيهم لفقيرهم، والملك بالسوقة، والعبد
بالسيد، والعالم بالجاهل أمام محكمة العدل الإلهية..
فهل يعقل بعد هذا أن يؤذوا رسول الله، أو أن يظلموا أيا
من عباد الله، أو أن يتمردوا على الله، أو أن يطمعوا بالدنيا، ويؤثروها
على الآخرة؟!
7 ـ
وفي موسم الحج يأتي الناس من كل حي وقبيلة وبلد، وينقلون ما رأوه، وما
سمعوه لمن وراءهم.. ولا بد أن يحجزهم هذا ويردعهم عن الإنسياق وراء
الإنفعالات الطائشة، ويصدهم عن التصرفات المشينة..
8 ـ
إن وجود الرسول يساعد على فهم ما يجري وعلى نشره على أوسع نطاق، كما
شرحناه فيما سبق.
9 ـ
قد تمازج الحدث المثير للإستهجان والإستغراب مع المشاعر العاطفية
والروحية، والبُعد العقيدي حيث سيعقبه بفترة وجيزة ارتحال رسول الله
«صلى الله عليه وآله» إلى الرفيق الأعلى..
ومن الواضح:
أن العلاقة بالحدث حين تترافق مع هزة مشاعرية وعاطفية، فإنها تصبح أكثر
صفاء وعمقاً ورسوخاً، وأبعد أثراً في مجال الإلتزام والوفاء..
10 ـ
إن للمكان أيضاً خصوصيته، فإنه من أقدس الأمكنة.
11 ـ
وللزمان أيضاً خصوصيته، فإن الحدث جاء في يوم من أيام الله الكبرى.
12 ـ
وللمناسبة دورها، فإن الحدث جاء في سياق أداء إحدى أهم عبادات الإسلام،
وهي عبادة الحج..
13 ـ
واختار «صلى الله عليه وآله» أسلوب خطاب الجماعة، لا الأفراد والأشخاص،
ربما ليفهمهم أن هذا واجب على الجميع، فلا يختص بفرد دون فرد، ولا بفئة
دون أخرى.
|