صفحة : 115-117   

نتائج وآثار:

ثم إننا لا نريد أن نستقصي هنا آثار ونتائج هذا الحدث.. وإنما نريد لفت النظر إلى أمور بعينها منها، فنقول:

1 ـ إن ما جرى في عرفات ، قد أخرج قضية الإمامة وسواها من يد جماعة تسعى لاحتكار القرار فيها وفي غيرها. وهم القرشيون ، الذين يدعون أنهم هم أهل الحل والعقد في هذا الأمر كما في غيره.. وأصبحت من مسؤوليات الأمة بأسرها، فعلى الأمة أن تطالب بالعمل بتوجيهات رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وتنفيذ أوامره فيها..

ولعل هذا هو أهم إنجاز حصل في موقف النبي «صلى الله عليه وآله» هذا في عرفة ، فقد منع هذه الجماعة من ممارسة الإقطاع السياسي والديني القائم على أسس ومفاهيم جاهلية، دونما أثارة من علم، ولا دليل يهدي إلى الرشد، وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية، والأطماع الرخيصة، والأهواء والغرائز، والأحقاد المقيتة والبغيضة.

2 ـ وإنجاز آخر تحقق أيضاً، وهو أن موقف النبي «صلى الله عليه وآله» هذا قد دفع أولئك الناس إلى الإقدام على حركة تفضح كثيراً مما اختزنته نفوسهم. وهي حركة يفهمها الناس كلهم: الذكي والغبي، المرأة والرجل، والعالم والجاهل، والعدو والصديق، والمسلم وغير المسلم.. وهو أنهم أساءوا الأدب مع نبيهم، وعرف الناس أنهم لا يوقرونه، ولا ينقادون له، ولا يطيعون الله فيما أمرهم فيه ..

فقد رأى الجميع: أن هؤلاء الذين يدَّعون: أنهم يوقرون رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويتبركون بفضل وضوئه، وببصاقه، وحتى بنخامته ـ رأوا ـ أنهم لا يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول:

﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ([1]).

﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ([2]).

﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا([3]).

﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ([4]).

وغير ذلك من آيات تنظم تعاملهم، وتضع الحدود، وترسم معالم السلوك معه «صلى الله عليه وآله»، مما يكون الفسق والخروج عن الدين، في تجاهله، وفي تعديه.

هذا إلى جانب اعترافهم بما له «صلى الله عليه وآله» من فضل عليهم، وأياد لديهم، فإنه هو الذي أخرجهم ـ بفضل الله ـ من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وأبدلهم الذل بالعز، والشقاء بالسعادة، والنار بالجنان.

يضاف إلى ذلك كله: ادِّعاء هؤلاء أنهم قد جاؤوا مع هذا الرسول الأكرم والأعظم، في هذا الزمان الشريف، إلى هذا المكان المقدس ـ عرفات  ـ لأداء إحدى أهم شعائر الإسلام، وهي فريضة الحج، ولِعبادة الله سبحانه، وطلب رضاه، معلنين بالتوبة، وبالندم على ما فرطوا به في جنب الله، منيبين إليه سبحانه، ليس لهم في حطام الدنيا مطمع، ولا في زخارفها مأرب.

وهم يظهرون أنفسهم بمظهر من يسعى لإنجاز عمل صالح يوجب غفران ذنوبهم، ورفعة درجاتهم.

نعم، رغم ذلك كله: فإنه «صلى الله عليه وآله» استطاع أن يري الجميع بأم أعينهم: كيف أن حركة بسيطة منه «صلى الله عليه وآله» قد فضحتهم، وكشفت ما أبطنوه، حيث تبدل موقفهم من نبيهم بالذات، وظهر أنهم قد تحولوا إلى وحوش كاسرة، ضد هذا النبي بالذات.

وظهر كيف أنهم لا يوقرونه، ويرفعون أصواتهم فوق صوته، ويجهرون له بالقول أكثر من جهر بعضهم لبعضهم، ويعصون أوامره، ويتجاهلون زواجره.. و.. و.. كل ذلك رغبة في الدنيا، وزهداً في الآخرة، وعزوفاً عن الكرامة الإلهية، وعن طلب رضى الرحمن.

3 ـ الكل يعلم أن هؤلاء إذا كانوا لا يوقرون رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلا يمكن أن يتوقع أحد منهم الرفق والتوقير لغيره، لأن البشر كلهم دونه.

وقد أظهرت الأحداث اللاحقة هذه الحقيقة، حيث ضربوا ابنته حتى الإستشهاد، وأسقطوا جنينها.. فهل يمكن أن نتصور موقفهم تجاه علي «عليه السلام» الذي طفحت قلوبهم بالحقد عليه، ولهم قِبله ترات وثارات آبائهم، وإخوانهم وأبنائهم، الذين قتلهم على الشرك؟!

ولا يمكن لهؤلاء واتباعهم أن يقدموا أي تعليل لما صدر منهم إلا الإصرار على الباطل الصريح، والجحود للحق الظاهر والواضح.


 

([1]) الآية 1 من سورة الحجرات.

([2]) الآية 2 من سورة الحجرات.

([3]) الآية 7 من سورة الحشر.

([4]) الآية 59 من سورة النساء.

 
   
 
 

موقع الميزان