عن علي بن الحسين «عليهما السلام»،
قال:
خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذات يوم وصلى الفجر، ثم قال: معاشر
الناس، أيكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلوا باللات والعزى ليقتلوني. وقد
كذبوا ورب الكعبة.
قال:
فأحجم الناس وما تكلم أحد، فقال «صلى الله عليه وآله»: ما أحسب علي بن
أبي طالب فيكم؟!
فقام إليه عامر بن قتادة، فقال:
إنه وعك في هذه الليلة، ولم يخرج يصلي معك، أفتأذن لي أن أخبره؟!
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
شأنك.
فمضى إليه فأخبره، فخرج أمير المؤمنين علي «عليه
السلام» كأنه أنشط من عقال، وعليه إزار قد عقد طرفيه على رقبته، فقال:
يا رسول الله، ما هذا الخبر؟!
قال:
هذا رسول ربي يخبرني عن ثلاثة نفر قد نهضوا إلي لقتلي، وقد كذبوا ورب
الكعبة.
فقال علي «عليه السلام»:
يا رسول الله، أنا لهم سرية وحدي، هو ذا ألبس علي ثيابي.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
بل هذه ثيابي، وهذه درعي، وهذا سيفي.
فدرَّعه، وعممه، وقلده، وأركبه فرسه.
وخرج أمير المؤمنين «عليه السلام»، فمكث «صلى الله عليه
وآله» ثلاثة أيام، لا يأتيه جبرئيل بخبره، ولا خبر من الأرض.
فأقبلت فاطمة بالحسن والحسين «عليهم
السلام» على وركيها، تقول:
أوشك أن ييتم هذين الغلامين.
فأسبل النبي «صلى الله عليه وآله»
عينه يبكي، ثم قال:
معاشر الناس، من يأتيني بخبر علي أبشره بالجنة.
وافترق الناس في الطلب، لعظم ما رأوا بالنبي «صلى الله
عليه وآله»، وخرج العواتق، فأقبل عامر بن قتادة يبشر بعلي «عليه
السلام»، وهبط جبرئيل على النبي «صلى الله عليه وآله»، فأخبره بما كان
فيه.
وأقبل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ومعه أسيران،
ورأس، وثلاثة أبعرة، وثلاثة أفراس.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
تحب أن أخبرك بما كنت فيه يا أبا الحسن؟!
فقال المنافقون:
هو منذ ساعة قد أخذه المخاض، وهو الساعة يريد أن يحدثه!
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
بل تحدث أنت ـ يا أبا الحسن ـ لتكون شهيداً على القوم.
قال:
نعم ـ يا رسول الله ـ لما صرت في الوادي، رأيت هؤلاء ركباناً على
الأباعر، فنادوني: من أنت؟
فقلت:
أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله.
فقالوا:
ما نعرف لله من رسول، سواء علينا وقعنا عليك أو على محمد، وشد علي هذا
المقتول، ودارت بيني وبينه ضربات، وهبت ريح حمراء سمعت صوتك فيها يا
رسول الله وأنت تقول: قد قطعت لك جربان درعه، فاضرب حبل عاتقه. فضربته
فلم أحفه.
ثم هبت ريح صفراء، سمعت صوتك فيها
يا رسول الله، وأنت تقول:
قد قلبت لك الدرع عن فخذه، فاضرب فخذه. فضربته ووكزته،
وقطعت رأسه ورميت به.
وقال لي هذان الرجلان:
بلغنا أن محمداً رفيق شفيق رحيم، فاحملنا إليه ولا تعجل علينا، وصاحبنا
كان يعد بألف فارس.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: يا علي، أما الصوت
الأول الذي صك مسامعك فصوت جبرئيل «عليه السلام».
وأما الآخر فصوت ميكائيل «عليه السلام»، قدم إلي أحد
الرجلين. فقدمه، فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله.
فقال:
لنقل جبل أبي قبيس أحب إلي من أن أقول هذه الكلمة.
فقال:
يا علي، أخره واضرب عنقه.
ثم قال:
قدم الآخر.
فقال:
قل لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله.
فقال:
ألحقني بصاحبي.
قال:
يا علي، أخره واضرب عنقه.
فأخره، وقام أمير المؤمنين «عليه السلام» ليضرب عنقه،
فهبط جبرئيل «عليه السلام» على النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا
محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لا تقتله، فإنه حسن الخلق، سخي
في قومه.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
يا علي، أمسك، فإن هذا رسول ربي عز وجل يخبرني أنه حسن الخلق، سخي في
قومه.
فقال المشرك، تحت السيف:
هذا رسول ربك يخبرك!
قال:
نعم.
قال:
والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، وأنا أشهد
أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
هذا ممن جره حسن خلقه وسخاؤه إلى جنات النعيم([1]).
ونقول:
1 ـ
دلت هذه الواقعة: على أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان على يقين من
فشل محاولة قتله على يد هؤلاء الثلاثة، ولا شك في أنه قد علم ذلك
بواسطة جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، كما ذكره «صلى الله عليه وآله»
لعلي «عليه السلام».
2 ـ
إن معرفته هذه لا تعني أن يقف مكتوف الأيدي تجاه مؤامراتهم، إذ قد يكون
فشل مؤامرتهم مرهوناً بتصرف معين من قبل المؤمنين أنفسهم، ولولا ذلك
لتبدلت الأمور، ووقع المحذور ـ أي أنه خبر مشروط بأمر اختياري لا بد من
إنجازه، فإذا لم يتحقق الشرط، لم يجب تحقق المشروط، ويدل على هذا
الإشتراط: نفس مبادرة النبي «صلى الله عليه وآله» لانتداب المسلمين
لمواجهة المتآمرين..
3 ـ
ولأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعلم بأحوال أصحابه، ويعرف من
يقدم منهم ومن يحجم. فإنه عرف أن علياً «عليه السلام» غير موجود بينهم
بمجرد عدم إجابته طلبه، إذ لو كان حاضراً فلا بد أن يبادر إلى ذلك..
وكان «صلى الله عليه وآله» يعلم أيضاً: أن أحداً غيره
لم يكن على استعداد للتضحية في مثل هذه الحالات..
وقد ظهر:
أنه على حق فيما قال، حين أخبره عامر بن قتادة بأن علياً «عليه السلام»
قد وعك في تلك الليلة..
4 ـ
وحين قال عامر بن قتادة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: أفتأذن لي أن
أخبره؟!
قال له رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
شأنك.
أي أنه «صلى الله عليه وآله» لم يصدر أمراً باستحضار
علي «عليه السلام»، بل أرجع الأمر إلى عامر بن قتادة. ولو أنه أجابه
بالإيجاب لتوهم متوهم أن علياً «عليه السلام» قد اضطر للخروج إلى
المتآمرين، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» أراد منه ذلك. ولو ترك
وشأنه، فلعله يؤثر السلامة على الخروج كما آثرها غيره.
5 ـ
وقد أراد علي «عليه السلام» أن يخرج وحده للمتآمرين، لأن من لم ينتدب
لهم حين طلب منهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك لا يستحق أن ينال
شرف المشاركة في أمر كان كارهاً له..لأن مشاركته هذه ستكون لأجل أن
ينال المكاسب على يد غيره، ومن دون أن يقدم هو أي شيء يستحقها به..
6 ـ
وقد أراد «صلى الله عليه وآله» بإلباس علي «عليه السلام» درعه، وإعطائه
سيفه، وإركابه فرسه، وتعميمه، وتقليده بيده، أن يدل على كمال خصوصيته
عنده، وعلى أنه يمثله أدق تمثيل.
وقد دل مجيء فاطمة بأولادها بعد انقطاع خبر علي «عليه
السلام» عنهم ثلاثة أيام، على أن لعلي «عليه السلام» عيالاً هم أحب
الخلق إلى الله، وكان لغير علي «عليه السلام» زوجات، ولكن لا كفاطمة.
وكان لهم أولاد، ولكنهم ليسوا مثل الحسنين، فإن كان حب العيال منع غيره
من المخاطرة بنفسه، فلماذا لم يمنع علياً «عليه السلام» حب هؤلاء
الصفوة الذين لا نظير لهم على وجه الأرض من الخاطرة بنفسه؟!
7 ـ
قد يحاول البعض إثارة الشبهة حول صحة هذه الرواية من جهتين:
إحداهما:
أن عامر بن قتادة ليس له ذكر في كتب تراجم الصحابة..
ونجيب:
إن الذين ترجموا للصحابة إنما ذكروا من وجدوا له رواية،
أو من ورد له ذكر في حادثة، أو نحو ذلك.. ولا شيء يدل على أنهم قد
استقصوا جميع الأحاديث، وكل المؤلفات في التاريخ، والعقيدة، والأخلاق
والسياسة، وما إلى ذلك.. ولا يزال أهل التتبع يستدركون على السابقين ما
فاتهم في مختلف الموضوعات، ومنها التراجم.
الثانية:
إن هذا الحديث لم يتداوله كتاب السيرة، ولا تناقلته الألسن، بل بقي
تداوله محصوراً في نطاق معين.
ونجيب:
أولاً:
ما زال كتَّاب السيرة يستدرك اللاحق منهم على السابق، وأنت تجد في
الكتب المتفرقة أحاديث وأحداثاً وتفاصيل كثيرة، لا تجدها في الكتب التي
حظيت باهتمام رواد كتابة السيرة الرسمية، التي يهتم الحكام بتوجيه
الأنظار إليها..
ثانياً:
إن هذا الحدث مروي عن علي بن الحسين السجاد «عليه السلام». وهو يتضمن
فضيلة كبرى لمن لم يزل محارباً بشراسة على جميع الأصعدة وفي جميع
المجالات..
والرواية التي ترد في كتب شيعة أهل البيت، وعن أحد
أئمتهم «عليهم السلام».. لا يسمح الآخرون لأنفسهم بأخذها وترويجها. كما
لا يسمحون لأتباعهم بالإطلاع على كتب شيعة أهل البيت، ويحاولون محاصرة
ثقافتهم، واستبعاد كل ما له ارتباط بها وبهم من قريب، أو من بعيد.
8 ـ
ويبقى هنا سؤال: كيف يمكن أن نتصور إعطاء الجنة لشخص لمجرد أنه سبق
غيره في حمل خبر علي «عليه السلام» إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، والحال أن الصدفة قد تكون هي التي مكنت هذا من حمل الخبر إليه،
وحرمت ذاك.
ولعل الذي عرف خبر علي «عليه السلام» قبل غيره يكون من
الفاسقين، أو من المنافقين؟!.
ونجيب:
أولاً:
بأن الرواية نفسها قد أوضحت: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان على
علم بما جرى عن طريق جبرئيل «عليه السلام»، وقد عرض «صلى الله عليه
وآله» على علي «عليه السلام» أن يخبره بما كان..
فمن الذي قال:
إنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعلم بتعليم من الله ـ بشخص الذي
سيأتيه بخبر علي «عليه السلام»، وبأنه من أهل الجنة؟!
ثانياً:
إن الذي يهتم بأن يدخل السرور على قلب رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
لا بد أن يسارع إلى إعلامه بمجيء علي «عليه السلام».
أما من يكره علياً «عليه السلام»، ولا يهتم لسرور رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فإنه سوف يتثاقل عن ذلك، بل هو سيسعى لحجب
هذا الخبر السار عنه.. وسوف يسبقه غيره إلى إخباره «صلى الله عليه
وآله» بمجيئه..
ويؤكد ذلك:
أنه «صلى الله عليه وآله» لم يجعل ثواباً دنيوياً لهذا العمل، بل جعل
له ثواباً أخروياً، يزهد أهل الدنيا به.. بل قد لا يصدقه الكثيرون
منهم، ولا يدخل في جملة طموحاتهم أو رغباتهم..
9 ـ
إن قول النفر الثلاثة لعلي «عليه السلام»: سواء علينا: وقعنا عليك، أو
على محمد. يدل على ما بلغه أمير المؤمنين «عليه السلام» من عظيم الأثر
في النكاية بأهل الشرك، حتى أصبحوا يعدلونه بالنبي «صلى الله عليه
وآله» نفسه.. وهم إنما يعرفونه من خلال أثره في الحروب، ولا يعرفونه من
خلال مقامه عند الله تعالى، ومن خلال ميزاته الإيمانية والإنسانية،
فإنهم لا يعترفون أولا يؤمنون بشيء من ذلك.
10 ـ
إن الملائكة حين ساعدت علياً «عليه السلام» على عدوه لم يؤثروا في
أجسادهم بصورة مباشرة، بل هم قد دلوا علياً «عليه السلام» على المواضع
التي إن استفيد منها أمكن إلحاق الضرر بذلك العدو..
وهذا يشير:
إلى أن الملائكة لا تريد أن تختزل من جهاد وتضحيات علي «عليه السلام»
شيئاً.. حتى على صعيد احتفاظ عدوه بقدراته الذاتية.
11 ـ
لقد لفت نظرنا هؤلاء الأعداء الذين يطمعون في أن تشملهم رحمة محمد «صلى
الله عليه وآله»، وتشملهم شفقته. مع أنهم ارتكبوا في حقه ما يستحقون به
أشد العقوبات.. لأنهم يريدون إطفاء نور الله تعالى بقتل نبيه بدون
مبرر، إذ لماذا يريدون أن يمنعوا الناس من اختيار ما يناسبهم؟! ولماذا
يريدون فرض الشرك عليهم؟! ولماذا يريدون أن يفرضوا عليهم الإلتزام
بأباطيل الجاهلية، وحفظ أضاليلها؟!
12 ـ
ورغم أن ما فعله أولئك المجرمون يكفي لإنزال أقسى العقوبات بهم، بما في
ذلك عقوبة القتل، إلا أن النبي «صلى الله عليه وآله» هيأ لهم فرصة
جديدة للخلاص، حين عرض عليهم الإسلام، ولكن استكبارهم وعتوهم خذلهم هذه
المرة أيضاً، فاستحقوا القتل بجميع المعايير والمقاييس، حتى الجاهلية
منها.
13 ـ
وكانت المفاجأة الأعظم هي تلك التي تجلت في نزول جبرئيل بالعفو عن
الشخص الثالث، بسبب سخائه، وحسن خلقه.. وكان ذلك هو سبب إيمانه، حين
لامس هذا العفو فطرته، وأيقظ وجدانه، وأنعش ضميره، لأنه جاء من دون
اشتراط إسلامه وإيمانه، بل جاء بعد رفضه الإيمان والإسلام حين عُرِض
عليه..
([1])
الأمالي للصدوق ص166 ـ 168 والخصال للصدوق ص94 ـ 96 وحلية
الأبرار ج2 ص88 ـ 90 وبحار الأنوار ج41 ص73 ـ 75 وشجرة طوبى ج1
ص179 ـ 181.
|