وقبل وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» بتسعة عشر
يوماً كان النداء بالولاية، الذي رواه الإمام الكاظم، عن أبيه عن
جده «عليهم السلام»، عن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال:
أمرني رسول الله «صلى الله عليه
وآله» أن أخرج فأنادي في الناس:
ألا من ظلم أجيراً أجره فعليه لعنة الله. ألا من توالى غير مواليه
فعليه لعنة الله. ألا ومن سب أبويه فعليه لعنة الله.
قال علي بن أبي طالب «عليه
السلام»:
فخرجت فناديت في الناس كما أمرني النبي «صلى الله عليه وآله».
فقال لي عمر بن الخطاب:
هل لما ناديت به من تفسير؟!
فقلت:
الله ورسوله أعلم.
قال:
فقام عمر وجماعة من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله»، فدخلوا
عليه، فقال عمر: يا رسول الله، هل لما نادى علي من تفسير؟!
قال:
نعم، أمرته أن ينادي: ألا من ظلم أجيراً أجره فعليه لعنة الله،
والله يقول:
﴿قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾([1])،
فمن ظلمنا فعليه لعنة الله.
وأمرته أن ينادي:
من توالى غير مواليه فعليه لعنة الله، والله يقول:
﴿النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾([2])،
ومن كنت مولاه فعلي مولاه، فمن توالى غير علي فعليه لعنة الله.
وأمرته أن ينادي:
من سب أبويه فعليه لعنة الله، وأنا أشهد الله وأشهدكم أني وعلياً
أبوا المؤمنين، فمن سب أحدنا فعليه لعنة الله.
فلما خرجوا قال عمر:
يا أصحاب محمد، ما أكد النبي لعلي في الولاية في غدير خم، ولا في
غيره، أشد من تأكيده في يومنا هذا.
قال خباب بن الأرت:
كان هذا الحديث قبل وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» بتسعة عشر
يوماً([3]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا النداء بمضمونه، لا بد أن يثير لدى الناس أكثر من سؤال، فإن
الأمور التي نادى بها لا يجهل الناس حرمتها، وليس في النداء بها
إبهام في معناها القريب والظاهر. ولكن نفس هذا الوضوح هو منشأ
الغموض، فإنهم يعلمون: أن وضوحه يجعل النداء به على هذا النحو غير
مفهوم.
ولو كان ثمة من يحتاج إلى تذكير وتأكيد على الحرمة،
فيمكن القيام بذلك في الجلسات، وفي خطب الجمعة، وعند حضورهم لصلاة
الجماعة وما إلى ذلك.
فإذا وجد الناس للوهلة الأولى أنه ضرورة للنداء،
فلا بد أن تثور الأسئلة لديهم عن سبب ذلك ومغزاه..
2 ـ
ثم إنهم لا بد أن يتساءلوا عن الجامع الذي برر جمع هذه الثلاثة، في
نداء واحد، إذ لماذا ربط «صلى الله عليه وآله» بين ظلم الأجير
أجره، وبين تولي الإنسان غير مواليه؟! ثم ما الذي برر ضم هذين إلى
موضوع سب الأبوين؟!
3 ـ
كما أن تولي أمير المؤمنين «عليه السلام»، وانتدابه للقيام بهذا
النداء، يثير هو الآخر التعجب والتساؤل..
4 ـ
ولأجل ذلك بادر عمر بن الخطاب إلى سؤال علي «عليه السلام» عن تفسير
ذلك، ولكنه لم يجد الجواب عند علي «عليه السلام»، بل أحال علم ذلك
على الله ورسوله.. فزاد بذلك الحماس لمعرفة الدوافع والأسباب،
واتسعت دائرة الإتهامات، وكثر المهتمون باستجلاء الحقيقة..
5 ـ
ولم يعد الأمر مقصوراً على عمر، بل تعداه إلى غيره، فقام معه جماعة
من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله»، فدخلوا على رسول الله «صلى
الله عليه وآله» وسألوه عن الأمر.. ولم نجدهم يفعلون مثل ذلك في
الحالات المشابهة، فدل ذلك على أنهم رأوا أن النداء يتضمن أمراً
خفياً، وأنه يعنيهم الإطلاع عليه.
6 ـ
وكانت المفاجأة الكبرى لعمر في تفسير رسول الله «صلى الله عليه
وآله» لمضمون النداء، حيث ظهر له أنه يضارع في خطورته وأهميته ما
جرى في يوم عرفة، وفي يوم الغدير. وأنه مكمل لهما..
فالمراد بالأجير:
أهل البيت «عليهم السلام»، وعلى الأمة أن تؤدي لهم «عليهم السلام»
أجر إبلاغ الرسالة بنص القرآن الكريم:
﴿قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾([4]).
والمراد بالمولى الذي يجب توليه، ويلعن الله من
تولى غيره هو علي «عليه السلام»، الذي هو أولى بالمؤمنين من
أنفسهم. وهو ـ كرسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ مولى كل مؤمن
ومؤمنة..
والمراد بالأب الذي لا يجوز سبه، ويلعن الله تعالى
من يسبه هو علي أيضاً..
7 ـ
يبدو لنا: أن قوله في الفقرة الثالثة: من سب أبويه فعليه لعنة
الله، كان هو المفتاح الذي أراد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن
يفتح به أبواب الحيرة أمام عمر وغيره من الصحابة، حيث لا بد أن
يستوقفهم الحديث عن سب الأبوين ، في حين أن المتعارف هو الحديث عن
عقوقهما في مقابل برهما..
واللافت هنا:
أن علياً «عليه السلام» قد سب على منبر أهل الإسلام حوالي ألف شهر.
8 ـ
وقد اعترف عمر بن الخطاب نفسه مباشرة هنا بأن التأكيد على الولاية
في هذا النداء أشد مما جرى في غدير خم وغيره من شأن هذا أن يضاعف
من مسؤوليته عما جرى حين وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وسوف يصعب عليه التماس العذر لنفسه. وكذلك التماس الناس له العذر
في ذلك..
9 ـ
ولا ينبغي أن نهمل الإشارة هنا إلى أنه قد ظهر أن الذي تعارف عليه
الناس هو إرادة الأب والأم معاً من كلمة «الأبوين»، ولكن قد ظهر في
هذه الرواية: أن المراد بهما: النبي «صلى الله عليه وآله»، وعلي
«عليه السلام».. وذلك على القاعدة التي أطلقها رسول الله «صلى الله
عليه وآله»: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة».
10 ـ
وقد أظهر ما جرى: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يمارس أرقى
الأساليب المؤثرة في تركز المفهوم في اذهان الناس.. وبصورة تفرض
على الآخرين الحرص بأقوى صوره على اقتناص الفكرة التي يريد إبلاغهم
إياها قبل أن يتفوه بها.. رغم أن تلك الفكرة قد تكون مُرَّةً
بالنسبة لأولئك الناس.. وربما يكونون في الحالات العادية من أشد
الناس اهتماماً بخنقها، وبالتعتيم عليها، ومصادرتها، أو اغتيالها
من عقول الناس، فإن لم يمكنهم ذلك عملوا على مسخها، وتشويهها بكل
الوسائل..
1 ـ
عن ثابت، عن أنس، قال: انقضَّ كوكب على عهد رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: انظروا إلى هذا
الكوكب، فمن انقضَّ في داره، فهو الخليفة من بعدى.
فنظروا، فإذا هو قد انقضَّ في منزل علي «عليه
السلام»، فأنزل الله تعالى:
﴿وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ
عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾([5])»([6]).
2 ـ
وفيه أيضاً: بسنده إلى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنت جالساً
مع فتية من بني هاشم عند النبي «صلى الله عليه وآله»، إذ انقضَّ
كوكب، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: من انقضَّ هذا النجم
في منزله، فهو الوصي من بعدى.
فقام فتية من بني هاشم، فنظروا، فإذا الكوكب قد
انقضَّ في منزل علي بن أبي طالب «عليه السلام». قالوا: يا رسول
الله، قد غويت في حب علي «عليه السلام»، فأنزل الله تعالى :
﴿وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ
عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
إلى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلَ﴾([7])»([8]).
3 ـ
عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: اجتمع أصحاب
رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة في العام الذي فتح فيه مكة،
وقالوا: يا رسول الله، من شأن الأنبياء، أنهم إذا استقام أمرهم أن
يوصوا إلى وصي، أو من يقوم مقامه بعده، ويأمر بأمره، ويسير في
الأمة بسيرته.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
قد وعدني ربي بذلك، أن يبين لي ربي عز وجل من يختاره للأمة خليفة
بعدي. ومن هو الخليفة على الأمة: بأنه ينزل من السماء نجم، ليعلموا
من الوصي بعدي.
قال:
فلما فرغوا من صلاتهم، صلاة العشاء الآخرة، في تلك
الساعة. والناس ينظرون ما يكون، وهي ليلة مظلمة، لا قمر فيها، وإذا
بضوء قد أضاء منه المشرق والمغرب.
وقد نزل نجم من السماء إلى الأرض، وجعل يدور على
الدور، حتى وقف على حجرة علي بن أبي طالب «عليه السلام» وله شعاع
عظيم هائل.
وقد أضاءت بشعاعه الدور، وقد فزع الناس، وصار على
الحجرة.
قال:
فجعل الناس يكبرون ويهللون، وقالوا: يا رسول الله،
نجم من السماء، قد نزل على ذروة حجرة دار علي بن أبي طالب «عليه
السلام».
قال:
فقام، وقال: هو ـ والله ـ الوصي من بعدي، والقائم
بأمري، فأطيعوه ولا تخالفوه، وقدموه ولا تتقدموا عليه، فهو والله
خليفة الله في أرضه بعدي.
قال:
فخرج الناس من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال واحد من المنافقين:
ما يقول محمد في ابن عمه إلا بالهوى، وقد ركبته الغواية حتى لو
أمكن أن يجعله نبياً، لجعله نبياً.
قال:
فنزل جبرئيل «عليه السلام» وقال: يا محمد، ربك يقرؤك السلام، ويقول
لك إقرأ:
﴿بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾([9])»([10]).
ونقول:
1 ـ
إن انقضاض كوكب من السماء، وسقوطه في موضع بعينه ليس من الأمور
التي تخضع لإرادات الناس العاديين، بل هو حدث كوني لا يرى الناس أن
لهم فيه حيلة، ولا إلى بلوغه وسيلة..
كما لا سبيل لهم إلى تحديد موقع سقوط الكوكب، إذا
لم يقع على مرأى مباشر منهم. فقول رسول الله «صلى الله عليه وآله»
لهم: من انقضَّ في داره فهو الخليفة من بعدي، لا يمكن إلا أن يكون
بوحي من الله تبارك وتعالى.. إذ لا يعقل أن تجعل الإمامة والخلافة،
وقيادة الأمة وهدايتها معلقة على الصدفة المحضة، فلعل الكوكب قد
وقع في الصحراء، أو في إحدى ساحات أو طرقات وأزقة المدينة، ولم يقع
في دار أحد. أو وقع في داركافر، أو منافق أو جاحد، أو امرأة أو
مجنون. أو جاهل أو ما إلى ذلك.. فهل يمكن أن تسلم الأمة لأمثال
هؤلاء؟!
2 ـ
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان قد بين لبني هاشم، ولغيرهم
في مناسبات كثيرة من هو الإمام والخليفة من بعده، ومن ذلك حديث
إنذار العشيرة الأقربين.
ولكن النفوس تأبى، والأهواء تمنع من الإستسلام
والرضا.. فكانوا ينسبون النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الهوى
والعصبية في ذلك.
فكأن الله تعالى أراد أن يخرج هذا الأمر عن دائرة
اختيار رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ليفهمهم أن الأمر قرار
إلهي، لا حيلة للنبي، ولا لغيره فيه. فما عليهم إلا الرضا به،
والبخوع له. والكف عن إثارة الهواجس الباطلة بالطريقة التي لا
يرضاها الله تبارك وتعالى..
3 ـ
ما ذكرته الرواية الأخيرة، من أن أحد المنافقين خرج، وهو يتهم رسول
الله «صلى الله عليه وآله» بالعمل بالهوى، وبأنه قد ركبته الغواية
في علي «عليه السلام»، ربما كان قبل انقضاض الكوكب، وبعد إخبار
النبي «صلى الله عليه وآله» بانقضاضه.. ثم لما حصل ما حصل نزلت
الآيات المباركة.
فإن هذا هو المسار الطبيعي للحدث، إذ لا معنى لأن
يتهم ذلك المنافق النبي «صلى الله عليه وآله» بالعمل بالهوى
والغواية، بعد ظهور هذه المعجزة العظيمة، التي كان قد أخبرهم بها
قبل وقوعها.
وروي عن جابر بن عبد الله، قال:
كنا عند النبي «صلى الله عليه وآله»، فأقبل علي بن أبي طالب «عليه
السلام»، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: قد أتاكم أخي.
ثم التفت إلى الكعبة فضربها
بيده، ثم قال:
والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم
القيامة.
ثم قال:
إنه أولكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله،
وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.
قال:
فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾([11]).
قال:
وكان أصحاب محمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذا أقبل علي
«عليه السلام» قالوا: قد جاء خير البرية([12]).
ونقول:
نلاحظ هنا ما يلي:
1 ـ
صرحت الرواية: بأن هذا الذي جرى كان بجوار الكعبة، فدل ذلك على أن
هذه القضية قد حصلت إما في عمرة القضاء، أو في فتح مكة، أو في حجة
الوداع.
2 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» يقول لأصحابه حين أقبل علي «عليه
السلام»: «قد أتاكم أخي..» مع أن الحاضرين قد رأوا علياً «عليه
السلام» مقبلاً، كما رآه رسول الله «صلى الله عليه وآله». مما
يعني: أنه «صلى الله عليه وآله» قد اتخذ من إقبال علي «عليه
السلام» ذريعة للحديث عن علي «عليه السلام»، وإبلاغهم أمراً يرى
«صلى الله عليه وآله» أن إبلاغهم له لازم وضروري..
وهذا الأمر إما للتأكيد على أمر سبق بيانه، أو هو
تأسيس لأمر جديد، أو هما معاً، وهذا هو الظاهر كما بينته المضامين
التي صدرت عنه «صلى الله عليه وآله»..
3 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» قد ذكر في هذه الرواية ما يلي:
ألف:
ما هو بمثابة التذكير بأمر سابق، يريد للناس أن لا ينظروا إليه على
أنه حدث عابر، بل هو أمر له أهميته البالغة، ويراد التأسيس والبناء
عليه، ألا وهو موضوع أخوة علي «عليه السلام» لرسول الله «صلى الله
عليه وآله»، التي تجلت في عملية المؤاخاة في مطلع الهجرة وقبلها.
ب:
تقرير أمور هامة وأساسية لصيانتها عن التلاعب، وإفشال محاولات
إنكارها، ألا وهي كونه «عليه السلام» أولهم إيماناً، وأوفاهم بعهد
الله، وأقومهم بأمر الله.
4 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» بين أمرين:
أولهما:
أفضلية علي «عليه السلام» على جميع الصحابة في ذاته، وشخصيته
الإسلامية، فهو أولهم في الإيمان، وأولهم في العمل والممارسة، فإنه
أوفاهم بعهد الله.
ثانيهما:
إنه «صلى الله عليه وآله» فضل علياً «عليه السلام» عليهم بأمور
ترتبط بالحكومة والسلطة، وهي: كونه أقومهم بأمر الله، وأعدلهم في
الرعية، وأقسمهم بالسوية، والأقوم بأمر الله، فقد أخرجهم «صلى الله
عليه وآله» عن عمومه بذكر الرعية والقسمة.. ليدل بصورة واضحة على
أنه يريد أن يسد أمامهم باب منافسته «عليه السلام» في أمر الحكومة
والولاية.
5 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» قد وجه خطابه إلى الصحابة بصورة مباشرة،
فقال: أولكم، أوفاكم، أقومكم، أعدلكم، أقسمكم، أعظمكم. وإنما لم
يقل: أول الناس مثلاً، لكي يمنع من ظهور أي تأويل، أو توهُّم يريد
أن يدعي: أنه يتحدث عن سائر الناس، ولم يقصد الحاضرين عنده، أو
الصحابة.. أو كبارهم.. أو نحو ذلك..
6 ـ
وقوله «صلى الله عليه وآله»: أعظمكم عند الله مزية يشير إلى أن هذا
الأمر قد ترك آثاره في مجال أسمى وأعظم من أن يمكنهم التصرف أو
الإخلال فيه، لأنه أصبح قراراً إلهياً ماضياً..
وقد نزلت فيه آية مباركة تحسم كل جدل، ولا ينالها
خطأ ولا خطل، ألا وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾([13]).
7 ـ
إن الطريقة التي اتبعها الرسول «صلى الله عليه وآله» في بيان ما
يريد، جاءت فريدة ورائعة، حيث أرفق الحدث بحركة غير متوقعة، وهو:
أنه «صلى الله عليه وآله» التفت إلى الكعبة وضربها بيده، ليدلهم
على أن ثمة أمراً اقتضى هذا التصرف الخارج عن المألوف.. لا بد أن
يتلمسه المتأمل حين ينتهي الحدث، ليكتشف مبرارته، ثم يبقى يعيش في
ذهنه، ويتمكن من استحضاره من خلال تذكره لهذه الحركة التي تشده،
فتستخرجه من أعماق الذاكرة، وتحضره أمامه، ليتبصَّره وهو على درجة
عالية من التألق والوضوح.
أما لو أورد «صلى الله عليه وآله» كلامه بعفوية
وترسُّل، لكان على الذاكرة أن تبذل جهداً كبيراً للعثور عليه بين
ذلك الركام الهائل من الصور المتناثرة.. وربما لا توفق للعثور عليه
أصلاً..
8 ـ
وقد ترك هذا الحدث أثره الظاهر في نفوس الناس، إلى حد أنهم كانوا
إذا أقبل علي «عليه السلام» قالوا: «قد جاء خير البرية».
9 ـ
وبذلك يكون «صلى الله عليه وآله» قد أقام الحجة عليهم، وأكد حضورها
في عقولهم وقلوبهم، حين ربطها بهذا الحدث، الذي أصبح يتبادر إلى
أذهانهم بصورة عفوية، فتجذره في عمق الوجدان، وتمازج مع المشاعر،
التي تنطلق لتعبر عن نفسها بعفوية ظاهرة.
10 ـ
إن ضرب الكعبة بيده، ربما أريد به لفت النظر إلى أن ما يريد أن
يقرره له مساس بالكعبة وحفظها.. وتأكيد موقعها ومكانتها في
النفوس..
كما أنه مرتبط بالتوحيد الذي تمثله الكعبة، وهي
الرمز الأعظم والثابت له على مدى العصور والدهور.
فلا بد من الإنقياد والطاعة لله الواحد تبارك
وتعالى، والقبول بأن الأمر له.. وأن على الناس أن لا ينقادوا
لأهوائهم، وأن لا يستجيبوا لطموحاتهم في أقدس الأمور، وأشدها
حساسية.
11 ـ
وبعد.. فإن هذه الروايات قد وردت في مصادر لا تمت إلى الشيعة
بصلة.. وقد دونها أناس لا يقولون بالإمامة، أو فقل: لا ينسجمون في
مذاهبهم الإعتقادية مع نظام الإمامة، وما يترتب على الإعتقاد به من
واجبات ومسؤوليات.
وربما يمكن استفادة أمور أخرى من النص المتقدم، وقد
يكون بعضها أدق وأعمق، وأوضح وأصرح مما ذكرناه، غير أننا نكل أمر
البحث عنها وبلورتها إلى القارئ إن شاء.
عن أم سلمة زوجة النبي «صلى
الله عليه وآله» قالت:
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» في مرضه الذي توفي فيه: ادعوا
لي خليلي.
فأرسلت عائشة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله
«صلى الله عليه وآله» وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.
فرجع أبو بكر، وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.
فرجع عمر، وأرسلت فاطمة «عليها السلام» إلى علي،
فلما جاء قام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدخل، ثم جلل علياً
«عليه السلام» بثوبه.
قال علي «عليه السلام»:
فحدثني بألف حديث، يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله
«صلى الله عليه وآله» فسال عليَّ عرقه، وسال عليه عرقي([14]).
وهذا الحديث بهذا المضمون عن بشير الدهقان، عن أبي
عبد الله «عليه السلام»، وعن غيره كثير([15]).
ونقول:
أوردنا هذا الحديث، لنشير:
إلى أنه لا مجال للإشكال عليه بأنه كيف يحدث النبي «صلى الله عليه
وآله» بألف حديث في مثل هذه العجالة؟! فإن هذا مما لا يمكن حدوثه
في العادة.
ونجيب:
أولاً:
من الذي قال: إن هذا التعليم كان بالوسائل العادية.. وباللغة
والألفاظ المتعارفة والمألوفة. فلعل ثمة طريقة أو لغة أخرى يمكن
اختزال الألفاظ فيها إلى أقل القليل، وبنحو لا يخدش في دلالاتها؟!
ومن الذي قال:
إن هذه المناجات لم تستمر ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولا سيما مع
تصريح الرواية بعرق النبي والوصي «صلى الله عليهما وآلهما» حتى سال
عرق كل منهما على الآخر.
ثانياً:
إن العلم نور يقذفه الله في القلب([16])،
فلعل الله تعالى قد تصرف في النبي وفي علي «صلى الله عليهما
وآلهما» حتى أمكن نقل هذا النور منه إليه، فحمل عنه ألف حديث يفتح
له من كل حديث ألف حديث.
وفي الروايات ما يشير إلى انتقال علم الإمامة أو
أسرارها بطرق غير عادية، لحظة اجتماع الإمام السابق باللاحق، قبيل
وفاة السابق([17]).
عن علي بن محمد بن المنكدر، عن أم سلمة زوجة النبي
«صلى الله عليه وآله»، وكانت من ألطف نسائه، وأشدهن له حباً بعد
زوجته خديجه «عليها السلام»، قال: وكان لها مولى يحضنها ورباها،
وكان لا يصلي صلاة إلا سب علياً وشتمه.
فقالت:
يا أبة، ما حملك على سب علي؟!
قال:
لأنه قتل عثمان وشرك في دمه.
قالت له:
لولا أنك مولاي وربيتني، وأنك عندي بمنزلة والدي ما حدثتك بسر رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، ولكن اجلس حتى أحدثك عن علي وما رأيته
في حقه.
قالت:
أقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» وكان يومي، وإنما كان يصيبني
في تسعة أيام يوم واحد، فدخل النبي وهو يخلل أصابعه في أصابع علي
«عليه السلام» واضعاً يده عليه، فقال: يا أم سلمة، أخرجي من البيت،
وأخليه لنا.
فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع الكلام، ولا أدري ما
يقولان، حتى إذا قلت: قد انتصف النهار، وأقبلت فقلت: السلام عليك
يا رسول الله، ألج؟!
فقال النبي «صلى الله عليه
وآله»:
لا تلجي، وارجعي مكانك.
ثم تناجيا طويلاً حتى قام عمود
الظهر، فقلت:
ذهب يومي، وشغله علي، فأقبلت أمشي حتى وقفت على الباب، فقلت:
السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!
فقال النبي «صلى الله عليه
وآله»:
لا تلجي.
فرجعت، فجلست مكاني، حتى إذا
قلت:
قد زالت الشمس، الآن يخرج إلى الصلاة فيذهب يومي، ولم أر قط يوماً
أطول منه، فأقبلت أمشي حتى وقفت فقلت: السلام عليك يا رسول الله،
ألج؟!
فقال النبي «صلى الله عليه
وآله»:
نعم تلجي.
فدخلت وعلي واضع يده على ركبتي رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، قد أدنى فاه من أذن النبي «صلى الله عليه وآله»، وفم
النبي «صلى الله عليه وآله» على أذن علي يتساران، وعلي يقول:
أفأمضي وأفعل؟!
والنبي يقول:
نعم.
فدخلت، وعلي معرض وجهه حتى دخلت، وخرج.
فأخذني النبي «صلى الله عليه وآله» وأقعدني في
حجره، فأصاب مني ما يصيب الرجل من أهله من اللطف والإعتذار، ثم
قال: يا أم سلمة، لا تلوميني، فإن جبرئيل أتاني من الله بما هو
كائن بعدي، وأمرني أن أوصي به علياً من بعدي، وكنت جالساً بين
جبرئيل وعلي، وجبرئيل عن يميني وعلي عن شمالي، فأمرني جبرئيل أن
آمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني ولا
تلوميني، إن الله عز وجل اختار من كل أمة نبياً، واختار لكل نبي
وصياً، فأنا نبي هذه الأمة، وعلي وصيي في عترتي، وأهل بيتي، وأمتي
من بعدي([18]).
ونقول:
نحتاج إلى التذكير هنا بالعديد من الأمور، نذكر
منها:
1 ـ إن
مكانة علي «عليه السلام» لدى أم سلمة لا تعدلها مكانة أحد بعد رسول
الله «صلى الله عليه وآله».. وإذا كانت «رضوان الله تعالى عليها»
أشد نساء النبي حباً له «صلى الله عليه وآله»، فلا بد أن تكون
أشدهن حباً لمن يحبه رسول الله «صلى الله عليه وآله»..ولا سيما
بملاحظة أقوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيه، وعظيم ثناء
الله تعالى عليه..
وبذلك يتأكد:
أن قداسة ومكانة علي عندها، وموقعه في منظومتها الإعتقادية يجعلها
في غاية التوتر، والنفور ممن ينحرف عنه ويميل إلى غيره، فكيف بمن
يناوئه ويعاديه، أو يسبه ويشتمه؟!
فإذا كان الذي رباها يسب علياً «عليه السلام»،
ويشتمه عند كل صلاة، فالمتوقع أن ترفضه، وتنفر منه، وتقف منه
موقفاً في غاية السلبية، لأنه يمس أقدس شخصية عندها بعد رسول الله
«صلى الله عليه وآله»..
ولكن الملاحظ هنا:
أنها ليس فقط لم تفعل شيئاً من ذلك، وإنما عاملته معاملة هي غاية،
في الرفق، واللطف به، والأدب معه، وضبط النفس.
وقد تصرفت معه بطريقة فتحت بها باب فهمه، وأيقظت
وجدانه، وأطلقت بصيرته من عقال التعصب الأعمى على آفاق مفعمة
بالصفاء والنقاء، والتأمل الواعي والهادي.. وأخذت بيده إلى سبيل
الرشاد والسداد، فتاب وأناب، وشملته ألطاف الرب الرحيم التواب،
الغفور، والوهاب..
وقدمت أم سلمة النموذج الأمثل للمرأة العاقلة، التي
تعي مسؤولياتها، فتبادر إلى القيام بها على أكمل وجه، وأتمه.
2 ـ
إنها «رحمها الله» قد مهدت لما تريد بإفهامها إياه أنها لا تتعامل
معه بانفعالاتها وتعصبها الذي يريد أن يفرض خياره وقراره على
الآخرين، بل تتعامل معه من موقع الحرص عليه، وابتغاء الخير له،
والعرفان بالجميل والوفاء لحقه، من حيث أنه هو البادئ بالتفضل
عليها بالتربية والرعاية لها. ثم من موقع الإحترام والإكبار، لا من
الإستهانة به والإستهتار بمقامه، فأخبرته بأنها تنظر إليه على أنه
بمنزلة والدها..
3 ـ
ثم إنها «رضوان الله تعالى عليها» اعتبرته موضعاً لثقتها، وأهلاً
لإيثارها إياه بسر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وميزته بذلك عن
غيره، وهذا يزيده رضاً بنصحها، واطمئناناً إلى صدق نيتها ولهجتها
تجاهه، وابتغائها المصلحة له..
4 ـ
إن هذه الرواية بينت: أن علياً «عليه السلام» قد علم بما هو كائن
بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، من الرسول نفسه، الذي كان
يتلقى ذلك من جبرئيل «عليه السلام» في نفس اللحظة.. وجبرئيل إنما
يخبر عن الله سبحانه..
ثم تلقى من النبي «صلى الله عليه وآله» الأوامر
والتوجيهات الإلهية بطريقة تعامله مع تلك الحوادث. وكان جبرئيل هو
الذي يأمره بإبلاغ علي «عليه السلام» بتلك التوجيهات..
فدل ذلك على أن علياً «عليه السلام» لا يتعامل مع
الأمور بانفعالاته، واجتهاداته الشخصية، وإنما وفق خطة إلهية
مرسومة ومبينة. فلا مجال للطعن في أي موقف يتخذه «عليه السلام»،
ولا يمكن نسبة التقصير أو الخطأ فيه إليه بأي حال من الأحوال.
5 ـ
يلاحظ: أن الأمر لم يقتصر على إخبار علي «عليه السلام» بما يكون
بعد الرسول «صلى الله عليه وآله» في خصوص حياة علي «عليه السلام»،
بل أخبره «صلى الله عليه وآله» بما هو كائن بعده إلى يوم القيامة،
وأعطاه توجيهاته وأمره فيه.. فدل ذلك: على أن لعلي «عليه السلام»
نوعاً من الحضور والتعاطي بنحو من الأنحاء مع تلك الأحداث المستمرة
إلى يوم القيامة، وإن لم ندرك نحن بصورة تفصيلية كيفية، وآفاق ومدى
هذا الحضور، وذلك التعامل وحدود ذلك التأثير.