الفصل الأول:وصايا النبي في مرض الوفاة..

   

صفحة :323-346   

إبعثي بها إلى علي :
عن سهل بن سعد قال: كان عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» سبعة دنانير وضعها عند عائشة، فلما كان في مرضه قال: يا عائشة، ابعثي الذهب إلى علي، ثم أغمي عليه، وشغل عائشة ما به، حتى قال ذلك مراراً، كل ذلك يغمى على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويشغل عائشة ما به، فبعث به إلى علي فتصدق به( ).
ونقول:
1 ـ لا نرى مبرراً لتواني عائشة عن امتثال أمر النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا سيما بعد أن كرره عليها مراراً، إلا أنها لم تشأ أن ترسلها إلى علي «عليه السلام»، الذي كانت لا تطيق ذكره بخير أبداً..
2 ـ ألا يعتبر ما فعلته عائشة من موجبات الأذى لرسول الله «صلى الله عليه وآله»..
3 ـ لا نستطيع أن نصدق أن الناس قد تركوا النبي «صلى الله عليه وآله» وحده في مرض موته، بحيث تنشغل به زوجته بمفردها، وهل يمكن أن تتركه فاطمة، وسائر زوجاته، والحسنان، وزينب، وغيرهن؟!..
بل إن نفس الرواية قد صرحت بوجود أشخاص آخرين كان يمكنها أن تبعث الدنانير مع واحد منهم.. وهو نفس الشخص الذي بعث النبي «صلى الله عليه وآله» الدنانير معه، بعد أن استنقذها من عائشة..
بل إن نفس قوله «صلى الله عليه وآله»: ابعثي الذهب إلى علي، يدل على تمكنها من فعل ذلك، وأن الأشخاص الذين يمكن أن يطلب منهم ذلك كانوا في متناول يدها.
وصية رسول الله ’:
عن إبراهيم بن شيبة الأنصاري، قال: جلست إلى الأصبغ بن نباته، قال: ألا أقرئك ما أملاه علي بن أبي طالب «عليه السلام».
فأخرج إلي صحيفة، فإذا مكتوب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
«هذا ما أوصى به محمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أهل بيته وأمته. وأوصى أهل بيته بتقوى الله ولزوم طاعته.
وأوصى أمته بلزوم أهل بيته.
وأهل بيته يأخذون بحجزة نبيهم «صلى الله عليه وآله»، وإن شيعتهم يأخذون بحجزهم يوم القيامة.
وإنهم لن يدخلوكم باب ضلالة، ولن يخرجوكم من باب هدى»( ).
ونقول:
1 ـ إن هذه الرواية ذكرت: أن علياً «عليه السلام» أملى وصية رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الأصبغ، ولم تذكر: أن هذه الوصية كانت مكتوبة عند علي «عليه السلام»، فيحتمل أن يكون «عليه السلام» قد أملاها على الأصبغ من حفظه.
2 ـ لا يشترط في الوصية أن تكون مكتوبة، بل تكفي الوصية بالقول.
3 ـ ويؤكد هذه الوصية شهرة علي «عليه السلام» باسم الوصي.. وقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب طائفة من الأشعار المتضمنة لإطلاق لفظ «الوصي» عليه.. وهذه النصوص بالقياس إلى سائر ما تضمن هذا الوصف له، نقطة من بحر، لا مجال للإحاطة به..
4 ـ إن علياً «عليه السلام» لا يكتفي بمجرد نقل الوصية إلى الأصبغ بالقول. بل هو يمليها عليه ليكتبها، لتكون وثيقة يمكن أن تتداولها الأيدي، وليثبت مضمونها، كنص ثابت المضمون، في منأى عن النسيان، وعن النقيصة والزيادة، أو النقل بالمعنى.
5 ـ والوصية صرحت بأنها معنية بفريقين من الناس هما: أهل بيت النبي «صلى الله عليه وآله» أولاً. والأمة ثانياً.
وقد أوصى أهل بيته «عليهم السلام» بأمرين:
أولهما: تقوى الله سبحانه..
والثاني: لزوم الطاعة له تبارك وتعالى..
ولو اقتصر على الأمر بتقوى الله، فقد يفسَّر ذلك بمجرد الخوف، الذي لا يستتبع عملاً. ولكنه حين ذكر لزوم الطاعة والإستقامة عليها، فإنه يكون قد قرن الشعور القلبي بالحركة العملية، التي أرادها حائزة لوصف الدوام والمثابرة الدؤوب، لأنه يريدهم أسوة، وقدوة للأمة، أي أن المطلوب هو الكون معهم، وعدم الإستقلال، أو الإستبداد بشيء دونهم.
وهذه هي حقيقة اتخاذهم أئمة وقادة في كل الأمور. إذ لا يكفي مجرد الخضوع لسلطتهم، إن تسلموا زمام السلطة.
6 ـ قد أكد ذلك «صلى الله عليه وآله» حين بين أن المطلوب هو أن يكون التعامل معهم على حدّ تعاملهم هم مع نبيهم، حيث قال عن أهل البيت «عليهم السلام»: «وأهل بيته يأخذون بحجزة نبيهم».
7 ـ إن المراد بأهل بيته، أهل بيت النبوة، وليس المراد الساكنين معه في البيت، ولا مطلق الذرية.
وهم ـ أعني أهل بيت النبوة ـ أناس مخصوصون، بينهم «صلى الله عليه وآله» حين نزلت آية التطهير، وهم الذين كانوا معه تحت الكساء: علي وفاطمة، والحسنان «عليهم السلام».
وأضافت نصوص أخرى: بقية الأئمة الاثني عشر «صلوات الله وسلامه عليهم».
8 ـ ثم انتقل «صلى الله عليه وآله» لبيان: أن من كان من شيعتهم في الدنيا سوف ينتفع بهذا التشيع في الآخرة، حيث سيأخذ بحجزته، ليدخل الجنة معهم.
9 ـ قد ذكر «صلى الله عليه وآله» ما دل على أن التشيع لهم، معناه الإلتزام بخطهم واتباعهم، والكون معهم، لأنهم لا يدخلون من يكون معهم في باب ضلالة، ولا يخرجونه من باب هدى.
10 ـ قلنا فيما سبق: إن هذه الروايات قد رواها غير الشيعة، ودونوها في كتبهم، فإن أراد بعض الناس أن يرفضها، فعليه أن يقدم مبرراً معقولاً، يوضح سبب رواية علمائهم ورواتهم لها، ويعلل إيرادهم لها في مصادرهم..
درع وسيف وبغلة الرسول ’:
عن إبراهيم بن إسحاق الأزدي ، عن أبيه قال: أتيت الأعمش سليمان بن مهران أسأله عن وصية رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: ائت محمد بن عبد الله فاسأله.
قال: فأتيته، فحدثني عن زيد بن علي «عليه السلام».
قال: لما حضرت رسول الله «صلى الله عليه وآله» الوفاة، ورأسه في حجر علي «عليه السلام»، والبيت غاص بمن فيه من المهاجرين والأنصار، والعباس قاعد قدامه، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا عباس، أتقبل وصيتي، وتقضي ديني، وتنجز موعدي؟!
فقال: إني امرؤ كبير السن، كثير العيال، لا مال لي.
فأعادها عليه ثلاثاً كل ذلك يردها عليه.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: سأعطيها رجلاً يأخذها بحقها، لا يقول مثل ما تقول ثم قال: يا علي أتقبل وصيتي، وتقضي ديني، وتنجز موعدي؟!
قال: فخنقته العبرة، ولم يستطع أن يجيبه، ولقد رأى رأس رسول الله «صلى الله عليه وآله» يذهب ويجيء في حجره.
ثم أعاد عليه.
فقال له علي «عليه السلام»: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فقال: يا بلال، ائت بدرع رسول الله.
فأتى بها.
ثم قال: يا بلال، ائت براية رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فأتى بها.
ثم قال: يا بلال، ائت ببغلة رسول الله بسرجها ولجامها.
فأتى بها.
ثم قال: يا علي، قم فاقبض هذا بشهادة من في البيت من المهاجرين والأنصار، كي لا ينازعك فيه أحد من بعدي.
قال: فقام علي «عليه السلام» حتى استودع جميع ذلك في منزله، ثم رجع( ).
ونقول:
1 ـ لعل إسحاق الأزدي قد لاحظ: أن الشريعة السمحاء تحث على الوصية، وأن الله تعالى ورسوله قد أمرا بالوصية قبل حلول المنية، فلا يعقل أن يكون «صلى الله عليه وآله» أول من خالفه، فسأل عنها ليعرف مضمونها، وما آل حالها في مجال الإلتزام والتطبيق..
كما أنه كان يرى أن الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم يقرون لعلي «عليه السلام» بالوصاية .. وإن كان بعضهم يحاول التكتم على مضمونها بإظهار عدم العلم بها وبه، أو يضطرب ويتناقض في بيان ذلك المضمون، فأحب أن يسمع ما يقوله الأعمش في ذلك..
2 ـ لقد رأينا الأعمش قد أحال السائل على غيره .. فلماذا أحاله؟! ولماذا اختار محمد بن عبد الله بالذات، ليكون هو المجيب؟!
ونجيب بما يلي:
ألف: بالنسبة لسبب الإحالة فالذي يبدو لنا هو أن الأعمش كان يحاذر من الجهر بالحقيقة، لأنها سوف تكلفه غالياً عند السلطان، وعند الأخطبوط الأموي، ومن يدور في فلكه وسائر المناوئين لعلي أميرالمؤمنين «عليه السلام» من الخوارج وغيرهم.
ب: إنه آثر أن يعطي إحالته على الغير قدراً من الصدق والواقعية، حين اختار من يعرف أنه سيجهر بالحقيقة ولو بدرجة محدودة، ويكون قد دلنا بذلك على أنه هو أيضاً ـ أعني الأعمش ـ يقول بنفس ما يقول محمد بن عبد الله..
3 ـ صرحت الرواية: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» حين مات كان رأسه في حجر علي «عليه السلام» وهذا يكذب ما ينقل عن عائشة من أنه «صلى الله عليه وآله» مات ورأسه بين حاقنتها وذاقنتها.
4 ـ تقول الرواية: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أوصى والبيت غاص بمن فيه من المهاجرين والأنصار.. فدل على أن المنع من كتابة الكتاب لم يفدهم في صد رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن الوصية لعلي، وإتمام الحجة على الناس في هذا الشأن.. وإن كانت وصيته غير مكتوبة. فإن ذلك لا يقلل من قيمته، إذ لا يشترط في الوصية أن تكون مكتوبة.
5 ـ إن المطلوب هو: الوصية بأمور محدودة جداً مثل قضاء الدين، وإنجاز العدات.. وليس المطلوب الوصية بالخلافة والإمامة، لأن الأمر لله تعالى في يضعه حيث يشاء، كما صرح به رسول الله «صلى الله عليه وآله» أكثر من مرة وقد عينه الله ورسوله لهم، وصدر منه النص عليه في مناسبات عديدة، ثم نصبه لهم يوم غدير خم وبايعوه.
6 ـ وقد عرض النبي «صلى الله عليه وآله» في وصيته هذه أموراً يسيرة، وهي قبول وصيته، وقضاء دينه، وإنجاز عداته.. وبدأ بعرض هذه الأمور على عمه العباس.
ولكن العباس رفض قبول ذلك، متذرعاً بكبر السن، وكثرة العيال، وبأنه لا مال له .. ويلاحظ على ذلك الأمور التالية:
ألف: إن العباس هو أقرب الناس نسباً إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويفترض أن يعتبره مصدر كرامته وعزته حتى بمنطق العصبية، فضلاً عن كرامة الله تعالى له بمقام النبوة، فيندفع إلى تلبية أي طلب له، وتوفير كل الحاجات، والمساعدة في أي شأن يحتاج فيه إلى المساعدة.
ب: إن العباس كان مبجلاً عند أقرانه لأسباب عديدة، وسيزيده اعتماد النبي «صلى الله عليه وآله» عليه، وإيكال تنفيذ الأمور إليه رفعة شأن، وعلو مقام..
ج: إن العباس ـ فيما نعلم ـ كان من أصحاب الأموال، الذين نحروا الإبل ليطعموا المشركين في مسيرهم إلى بدر لحرب النبي «صلى الله عليه وآله»، وكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل، فأين ذهبت أمواله، وعلى أي شيء أنفقها؟!
وكيف يكون عند عثمان من الأموال ما جهز به جيش العسرة إلى تبوك حسب زعمهم الذي أثبتنا كذبه، ويصبح العباس بين ليلة وضحاها لا مال له يقضي به دين رسول الله الذي قد لا يكون سوى دراهم يسيرة جداً لعلها لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة؟! إذ لا شك في أن العباس لم ينفق أمواله في سبيل الله.. ولا في الصدقات، ولا في غير ذلك من الطاعات والمبرات!!
فهل من المعقول أن يفضل العباس بضعة دراهم على الفوز بمقام «الوصي»لأكرم رسول، وأفضل الخلائق؟!
د: ما شأن كبر السن بهذه الأمور اليسيرة التي طلبها منه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والتي لا تحتاج لأي حركة أو جهد؟
مع أن مع العباس أبناءه القادرين على معاونته، والمستعدين لطاعة أوامره.
5 ـ ألم يفهم العباس من تكرار الرسول طلبه ثلاث مرات أنه «صلى الله عليه وآله» كان حريصاً على أن يقبل العباس منه هذه المهمة؟!
و: على أنه لا شيء يدل على أنه «صلى الله عليه وآله» كان يريد من العباس أن ينفق أمواله في قضاء دين الرسول، بل لعله يريد منه أن يتولى إنجاز عداته، وقضاء دينه مما تركه هو نفسه «صلى الله عليه وآله».
غير أن العباس قد فهم ذلك وقد ترك النبي «صلى الله عليه وآله» ليفهم ما يشاء، وليسمع الناس، وليروا إصرار النبي «صلى الله عليه وآله»، ورفض العباس فإن ذلك مطلوب له أيضاً، لأنه يريد أن يفهم الناس معنى بعينه، كما سيتضح..
7 ـ وقد ظهر ذلك المعنى الذي أراده «صلى الله عليه وآله» في تعامل وفي كلمات النبي «صلى الله عليه وآله» مع علي «عليه السلام» فقد أشهد الحاضرين في ذلك البيت على إقباض علي «عليه السلام» درعه، ورايته، وبغلته بسرجها وبلجامها، ففهم أن الغرض من هذا الإشهاد هو المنع من منازعة أحد له في ذلك..
8 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» لم يطلب أن يقبل وصيته في هذه الأمور الثلاثة بعد صرفه النظر عن العباس إلا من علي «عليه السلام».. مخاطباً إياه باسمه، كما خاطب العباس باسمه، ليدل على أن هذا التحديد والتعيين مقصود له «صلى الله عليه وآله»..
ولعل من ثمراته: أن يبطل دعاوى العباسيين المتوقعة بأن لهم حقاً بشيء من الأمر، استناداً إلى الأقربية النسبية إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
وإذا بطل الإستناد إلى الأقربية النسبية، فستبطل كل دعاوى الحق بالإستناد إلى الإشتراك إلى القرشية بطريق أولى، حيث استدل أبو بكر وعمر على الأنصار في السقيفة: بأنهم أولياء النبي «صلى الله عليه وآله» وعشيرته، فهم أحق بسلطانه.
9 ـ ولا بد من التأمل ملياً في سر اختيار رسول الله «صلى الله عليه وآله» هذه الأمور الثلاثة دون سواها، واختصاص علي «عليه السلام» بها، وهي: الدرع، والراية ، والبغلة ، ثم اشتراطه «صلى الله عليه وآله» على بلال أن يأتي بالبغلة بسرجها ولجامها.
فهل يريد «صلى الله عليه وآله» أن يقول لنا: إن الدرع رمز للحرب، التي يحتاج إليها خليفته «صلى الله عليه وآله» للدفاع عن الإسلام وأهله، فإذا انضم إلى الراية التي رمز القيادة، وعنوان السلطان، فإن الصورة تصبح أكثر وضوحاً، وأقوى تعبيراً..
أما البغلة فهي التي عرف اختيار رسول الله «صلى الله عليه وآله» لها للتنقل في المواقع المختلفة، وفي أكثر الحالات، في السلم، وفي الحرب أيضاً، مصرحاً بأنه اختارها لأنها تتواضع عن خيلاء الخيل، وترتفع عن الحمار، وشيمة الأنبياء التواضع، والتوسط في أمورهم كلها..
وهذا كله يشير إلى أنه لعلي «عليه السلام» مواقعه، وصفاته وسماته، وأخلاقه، وحالاته.
10 ـ وفي نفس هذا السياق نلاحظ: أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقل: يا بلال إئت بدرعي، ورايتي، وبغلتي، بل أضاف الكلام في المواضع الثلاثة إلى كلمة «رسول الله»، فقال: درع رسول الله، وراية رسول الله، وبغلة رسول الله، مع أنه لو أورد الكلام على النحو الأول لكان أيسر وأخصر..
ولكنه «صلى الله عليه وآله» أراد أن يؤكد هذا المفهوم في ذهن القارئ، ويرسخه ملفَّعاً بخصوص هذا اللثام، ليظهر به الخصوصية التي يريد للناس أن يتلقفوها بوضوح تام.
11 ـ ثم يزيد الأمر وضوحاً، بتصريحه «صلى الله عليه وآله» بأنه يريد أن يُشْهِد الحاضرين من المهاجرين والأنصار على إقباضه هذه الأمور الثلاثة لعلي «عليه السلام»: فدل ذلك على أنه ليس بصدد إعطائه أمراً عادياً، فإن الناس حين يريدون إعطاء درع أو راية لأحد، لا يرون أنهم بحاجة إلى الإشهاد، فضلاً عن إشهاد من حضر من المهاجرين والأنصار.
12 ـ ثم إنه «صلى الله عليه وآله» بالغ بالتصريح والتوضيح حين أعرب عن هدفه من هذا الإشهاد، فقال: «كي لا ينازعك فيه أحد من بعدي»، إذ لماذا يتخوف رسول الله «صلى الله عليه وآله» من منازعة أحد علياً «عليه السلام» في خصوص هذه الأمور؟!
وما المبرر لأن يتوقع «صلى الله عليه وآله» منهم ذلك، وألم ينازع الناس علياً في بعض ما هو أغلى ثمناً، وأعظم أهمية وشأناً بنظر الناس من درع وراية وبغلة؟!
أليس لأن لهذه الأمور الثلاثة معنى هاماً يدعوهم إلى النزاع عليها، واستلابها من علي «عليه السلام»؟! ويريد النبي «صلى الله عليه وآله» أن يضيِّق ويضيِّع عليهم الفرص للحصول عليها؟!
وهل لهذا كله تفسير معقول غير ما قلناه في معناه ومغزاه؟!
وصايا النبي ’ لعلي ×:
عن علي «عليه السلام» قال: «أوصاني النبي «صلى الله عليه وآله» إذا أنا مت، فغسلني بست قرب من بئر غرس، فإذا فرغت من غسلي، فادرجني في أكفاني، ثم ضع فاك على فمي.
قال: ففعلت. فأنبأنى بما هو كائن إلى يوم القيمة».
وروي نحو ذلك عن الإمام الصادق «عليه السلام»( ).
وعن عمرو بن أبي شعبة قال: «لما حضر رسول الله «صلى الله عليه وآله» الموت دخل عليه علي «عليه السلام» فأدخل رأسه معه ثم قال: يا علي، إذا أنا مت فاغسلني، وكفني، ثم أقعدني، وسائلني، واكتب»( ).
وكان فيما أوصى النبي «صلى الله عليه وآله» به علياً «عليه السلام» قوله:
«ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك، وأمسح بها وجهك.
ثم وجهني إلى القبلة.
وتول أمري.
وصل علي أول الناس.
ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي.
فأخذ علي «عليه السلام» رأسه، فوضعه في حجره..
إلى أن تقول الرواية:
ثم قُبِضَ «صلى الله عليه وآله»، ويد أمير المؤمنين تحت حنكه، ففاضت نفسه «صلى الله عليه وآله» فيها، فرفعها إلى وجهه، فمسحه بها.
ثم وجَّهَهُ، وغمضه، ومد عليه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره( ).
وكان مما أوصى به رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يدفن في بيته الذي قبض فيه.
ويكفن بثلاثة أثواب. أحدهما: يمان.
ولا يدخل قبره غير علي «عليه السلام»( ).
وفي نص آخر عن ابن عباس: لما مرض رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر، فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، من يغسلك منا، إذا كان ذلك منك؟!
قال: ذاك علي بن أبي طالب، لأنه لا يهم بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة على ذلك.
فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، فمن يصلي عليك منا إذا كان ذلك منك؟!
قال: مه رحمك الله!
ثم قال لعلي: يا ابن أبي طالب، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني.
إلى أن قال: واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري، [ثم أخرجوا عني ساعة، فإن الله تعالى أول من يصلي علي] فأول من يصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل [ثم ملك الموت]. في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، ثم الحافون بالعرش، ثم سكان أهل سماء فسماء، [ثم ادخلوا علي زمرة زمرة، فصلوا علي، وسلموا تسليماً].
ثم جلُّ أهل بيتي ونسائي، الأقربون فالأقربون. يومون إيماءً، ويسلمون تسليماً، لا يؤذوني بصوت نادبة، ولا مرنَّة.
[قال أبو بكر: فمن يدخل قبرك؟!
قال: الأدنى فالأدنى من أهل بيتي، مع ملائكة لا ترونهم.
قوموا نادوا عني إلى من وراءكم.
فقلت للحارث بن مرة: من حدثك هذا الحديث؟!
قال: عبد الله بن مسعود].
وذكر الثعلبي ما يقرب من هذه القضية، لكنه ذكر اسم أبي بكر بدل عمار، وعلي.
ثم إن ما وضعناه بين قوسين إنما هو من رواية الثعلبي( ).
وفي نص آخر: أوصى أن يخرجوا عنه، حتى تصلي عليه الملائكة( ).
ويذكر نص آخر: أن مما أوصى به النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» قوله:
«يا علي، كن أنت وابنتي فاطمة، والحسن والحسين، وكبروا خمساً وسبعين تكبيرة، وكبر خمساً وانصرف. وذلك بعد أن يؤذن لك في الصلاة.
قال علي «عليه السلام»: بأبي وأمي، من يؤذن غداً؟!
قال: جبرئيل «عليه السلام» يؤذنك.
قال: ثم من جاء من أهل بيتي يصلون علي فوجاً فوجاً، ثم نساؤهم، ثم الناس بعد ذلك( ).
الوصية حين الإحتضار:
وحين أغمي على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في مرض موته جاء الحسن والحسين «عليهما السلام» يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأراد علي «عليه السلام» أن ينحيهما عنه.
فأفاق رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم قال: يا علي، دعهما، أشمهما ويشماني، وأتزود منهما ويتزودان مني.
ثم جذب علياً «عليه السلام» تحت ثوبه، ووضع فاه على فيه، وجعل يناجيه.
فلما حضره الموت قال له: ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمر الله، فإذا فاضت نفسي، فتناولها بيدك، وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري، وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله عز وجل.
وأخذ علي «عليه السلام» برأسه فوضعه في حجره، وأغمي عليه، فبكت فاطمة، فأومأ إليها بالدنو منه، فأسر إليها شيئاً تهلل وجهها، القصة.
ثم قضى، ومد أمير المؤمنين يده اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثم وجهه، ومد عليه أزاره، واستقبل بالنظر في أمره( ).
ونقول:
إن لنا مع النصوص المتقدمة عدة وقفات هي التالية:
هل أغمي على النبي ’:
لا مجال لتأييد حديث إغماء الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، الذي معناه: الغيبوبة، وفقد الشعور بما حوله. أما إن أريد به معنى لا يتضمن الغيبوبة، ولا ينافي معرفته وشهوده لكل ما هو مكلف بالشهادة عليه فلا مانع منه.. كأن يكون المراد بالإغماء: عدم قدرته على التكلم مع الناس أو نحو ذلك، مما لا ينافي كمال إدراكه لكل ما كان يدركه قبل عروض هذه الحالة له..
أما بالنسبة لسائر ما تضمنته الرواية، فربما يكون قد مضى بعض ما يفيد في بيان ما يرمي إليه، وقد يمر معنا بعضه الآخر، إن اقتضى الأمر ذلك..
النبي ’ بعد موته:
تقدم قوله «صلى الله عليه وآله»: اغسلني، وكفني، ثم أقعدني، وسائلني، واكتب.. وهو يدل على أمرين:
أولهما: إنه «صلى الله عليه وآله» حي حتى بعد موته، وأن حياته هذه هي غير حياة الشهداء..
الثاني: أن كلامه حجة بعد مماته، كما هو حجة في حال حياته..
ويشهد لحياته بعد الموت ما يلي:
1 ـ ورد في زيارتنا للمعصومين «عليه السلام» ـ والنبي أعظم منهم شأناً ـ: «أشهد أنك ترى مقامي، وتسمع كلامي، وترد سلامي»( ).
2 ـ بل قالوا: إن الأخبار قد تواترت بحياة النبي «صلى الله عليه وآله» في قبره، وكذلك سائر الأنبياء «عليهم السلام»( ).
3 ـ وقالوا أيضاً: إن صلاتنا معروضة على النبي «صلى الله عليه وآله»، وإن سلامنا يبلغه، وهم أحياء عند ربهم كالشهداء( ).
ويؤكد ذلك النص القرآني على: أن النبي «صلى الله عليه وآله» شاهد على أمته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾( ). وقال تعالى عن شهادة النبي «صلى الله عليه وآله» على جميع الأنبياء: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾( ). فهو شهيد على الأنبياء السابقين، مع أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن قد ولد بعد.. بل كان ولا يزال نوراً محدقاً بالعرش.. فذلك يدل على أن شهادته على الأمة لا تقتصر على خصوص من عاشوا معه في حال حياته..
علي × الوصي والإمام:
وقد دل أمره «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» بأن يضع فمه على فمه، وسماعه منه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة على:
أن لعلي «عليه السلام» خصوصية ليست لأحد سواه، وهي ترتبط بعلم الإمامة، واختيار الله تعالى له، ليختصه بهذا العلم، ليكون دليلاً وشاهداً على اختصاصه بالإمامة نفسها.
لأن الإمامة تثبت بطرق ثلاثة:
الطريق الأول: الإختيار الإلهي لشخص معين، والدلالة عليه بالنص الصريح.
الطريق الثاني: ثبوت أن لديه العلم الخاص الذي يؤثر الله به من يشاء من عباده، وقد دلت الرواية المتقدمة على أن لدى علي «عليه السلام» علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.
الطريق الثالث: إعطاؤه مقاماً لا يكون إلا لنبي أو لإمام، مثل مقام الشاهدية على الأمة، أو إقداره على تصرفات لا يقدر عليها إلا من كان له مقام النبوة والإمامة، أو إيكال أمور إليه لا يصح إيكالها إلى غير المعصوم، الذي هو نبي أو وصي نبي، مثل أن يتولى غسله، والصلاة عليه.
علي يقضي الدين، وينجز العداة:
وفي الروايات الكثيرة أن علياً «عليه السلام» هو الذي يقضي دين رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وينجز عداته، ويبرئ ذمته( )..
 

([1]) سبل الهدى والرشاد ج12 ص250 عن ابن سعد والطبراني برجال الصحيح، وراجع: مجمع الزوائد ج3 ص124 والعهود المحمدية للشعراني ص158 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص239 وإمتاع الأسماع ج14 ص515 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص627 والمعجم الكبير ج6 ص198 و السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص472.

([2]) راجع: نظم درر السمطين ص240 وينابيع المودة ص273 و(ط دار الأسوة) ج2 ص365 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج2 ص166 وكتاب الأربعين للشيرازي ص376 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج9 ص477 وج18 ص504.

([3]) علل الشرائع ج1 ص168 وبحار الأنوار ج22 ص459.

([4]) بصائر الدرجات ص304 وبحار الأنوار ج40 ص213 و 214 و 215 وج22 ص517 و 514 عنه، ومستدرك الوسائل ج2 ص189 وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص190 ومستدركات علم رجال الحديث ج1 ص649.

([5]) بصائر الدرجات ص303 وبحار الأنوار ج40 ص213 و 214 وج22 ص518 عن بصائر الدرجات، وعن الخرائج والجرائح، والكافي. وراجع: مكاتيب الرسول ج1 ص415 ومستدركات علم رجال الحديث ج6 ص75.

([6]) الإرشاد للمفيد ص94 ـ 98 و (ط دار المفيـد) ج1 ص187 وبحار الأنـوار = = ج22 ص470 و 521 عنه، وعن إعلام الورى ص82 ـ 84 و (ط أخرى) 143 ـ 144 و (ط مؤسسة آل البيت) ج1 ص267 وعن مناقب آل أبي طالب ج1 ص203 ومصباح الفقيه (ط.ق) ج1 ق2 ص346 وجواهر الكلام ج4 ص11 وراجع: قصص الأنبياء للراوندي ص357 والدر النظيم ص194 والحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب للسيد فخار بن معد ص304.

([7]) بحار الأنوار ج22 ص 493 و 494 وج87 ص379 عن الطرائف ص42 و 43 و45 وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص231 و 234 و350 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج3 ص83 و (ط دار الإسلامية) ج2 ص779 ومستدرك الوسائل ج2 ص206.

([8]) الأمالي للصدوق ص732 و 733 وبحار الأنوار ج22 ص507 و 531 عنه، وكشف الغمة ص6 ـ 8 و (ط دار الأضواء ـ بيروت) ج1 ص17 عن الثعلبي، وروضة الواعظين ص72 وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص231.

([9]) سبل الهدى والرشاد ج 12 ص 329 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص527 والبداية والنهاية ج5 ص285.

([10]) بحار الأنوار ج22 ص 493 و 494 وج78 ص42 و 43 و45 عن الطرائف، وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص350 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج3 ص83 و (ط دار الإسلامية) ج2 ص779.

([11]) مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج1 ص293 و 294 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص203 وبحار الأنوار ج22 ص521 و 522 والأمالي للصدوق ص736.

([12]) راجع: عدة الداعي ص56 وجامع أحاديث الشيعة ج12 ص364 و 516 و 523 ومستدرك الوسائل ج10 ص345 وبحار الأنوار ج97 ص295.

([13]) سبل الهدى والرشاد ج10 ص466 و 486 وج12 ص355 و 356 و 360 عن إنباه الأزكياء بحياة الأنبياء، وعن التذكـرة للقرطبي، والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص82 و 84 و 432 وج35 ص385.

([14]) سبل الهدى والرشاد ج12 ص355 عن الأنوار في أعمال الأبرار للأردبيلي الشافعي، وعن التذكرة للقرطبي. وراجع: فتاوى عبد القاهر بن طاهر البغدادي، وتنوير الحلك للسيوطي ص5.

([15]) الآية 45 من سورة الأحزاب.

([16]) الآية 41 من سورة النساء.

([17]) كتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ج1 ص136 وبحار الأنوار ج21 ص380 و381 وج28 ص55 وج36 ص109 و 311 و 355 وج38 ص1 و 73 و 103 و 111 و 334 وج39 ص33 و 216 وج72 ص445 وج99 ص106 والخصال ج2 ص84 والأمالي للصدوق ص450 وعيون أخبار الرضا «عليه السلام» ج1 ص9 وكفاية الأثر ص76 و 135 و 217 ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي ج1 ص432 وشرح الأخبار ج1 ص113 و 117 و 211 ومائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي ص140 والأمالي للطوسي ص600 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص396 وج2 ص247 وج3 ص16 وكتاب الأربعين للماحوزي ص192 والعمدة لابن البطريق ص181 والمزار لابن المشهدي ص577 وإقبال الأعمال لابن طاووس ج1 ص507 والطرائف ص133 وكتاب الأربعين للشيرازي ص53 عن المناقب لابن المغازلي الشافعي ص261 ح309 وبشارة المصطفى للطبري ص101 و 258 وكشف الغمة ج1 ص341 ونهج الإيمان ص196 و 440 وفضائل أمير المؤمنين «عليه السلام» لابن عقدة الكوفي ص204 وتفسير نور الثقلين ج3 ص624 وتفسير القمي ج2 ص109 ومسند الإمام الرضا «عليه السلام» للعطاردي ج1 ص123 و 127 وجامع أحاديث الشيعة ج23 ص252.

 

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان