قال الزبير:
وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة، قال:
حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قال:
لما بويع أبو بكر، واستقر أمره، ندم قوم كثير من
الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا
باسمه، وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك
الكلام.
وكان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم، وهم سهيل بن عمرو،
أحد بنى عامر بن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان.
وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
ثم دخلوا في الاسلام، وكلهم موتور قد وتره الأنصار.
أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر.
وأما الحارث بن هشام، فضربه عروة بن عمرو، فجرحه يوم
بدر، وهو فار عن أخيه.
وأما عكرمة بن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عفراء، وسلبه
درعه يوم بدر زياد بن لبيد، وفى أنفسهم ذلك.
فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء،
فقام سهيل بن عمرو فقال:
يا معشر قريش، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار،
وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلك حظ عظيم، وشأن غالب، وقد دعوا إلى
أنفسهم، وإلى علي بن أبي طالب، وعلي في بيته لو شاء لردهم، فادعوهم إلى
صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم، فوالله إني لأرجو
الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم.
ثم قام الحارث بن هشام، فقال:
إن يكن
الأنصار تبوأت الدار والايمان من قبل، ونقلوا رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
إلى دورهم من دورنا، فآووا ونصروا، ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال([1])،
وكفونا العمل، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه، فإنهم قد خرجوا مما
وسموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف، وإن نزعوا عنه فقد
فعلوا الأولى بهم والمظنون معهم.
ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال:
والله لولا
قول رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»:
(الأئمة من قريش) ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه قول
لا شك فيه ولا خيار، وقد عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم
الأمر ولا أخرجناهم من الشورى، وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور،
ونزغات الشيطان، ومالا يبلغه المنى، ولا يحمله الامل.
أعذروا إلى القوم، فإن أبوا فقاتلوهم، فوالله لو لم يبق
من قريش كلها إلا رجل واحد لصير الله هذا الامر فيه.
قال:
وحضر أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، إنه ليس
للأنصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا
فحسبنا حيث انتهى بها، والا فحسبهم حيث انتهى بهم، وأيم الله لئن بطروا
المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنهم على الإسلام كما ضربونا عليه.
فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش،
وتطيعه الأنصار.
فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط قام خطيبهم ثابت بن
قيس بن شماس فقال: يا معشر الأنصار، إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله
أهل الدين من قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من أقوام كلهم
موتور، فلا يكبرن عليكم، إنما الرأي والقول مع الأخيار المهاجرين، فإن
تكلمت رجال قريش، الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء، فعند ذلك قولوا
ما أحببتم، وإلا فامسكوا([2]).
ونقول:
لا حاجة بنا إلى التعليق على هذا النص، غير أننا نحب
تذكير القارئ بما يلي:
إن الأنصار حين ندموا على بيعة أبي بكر، لم يهتفوا باسم
سعد بن عبادة، حتى الخزرج منهم، ولا باسم أي كان من الأنصار، أو
المهاجرين، بل هتفوا باسم علي «عليه السلام»، دون سواه، لأنه «عليه
السلام» هو الذي سمعوا الآيات والنصوص النبوية بالإمامة والخلافة عليه،
وهو الذي نصبه لهم في غدير خم في حجة الوداع إماماً وولياً، وبايعوه،
وقال له بعض من انقلب عليه:
بخٍ بخٍ لك يا علي، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة..
وأراد «صلى الله عليه وآله» أن يكتب له بذلك قبيل موته،
فاتهمه بالهُجر، بعض من شمر عن ساعد الجد لتشييد بيعة صاحبه، وثم هاجم
بيته فكان أن هتفوا باسمه دون سواه، لأنه هو الذي يملك كل المواصفات
المقبولة والمعقولة، والمرضية لمقام الإمامة، وخلافة النبوة..
ولأنه «عليه السلام» هو الذي ظهر أنه لا يهتم إلا برضا
الله ورضا رسوله، ولو هوجم بيته، وهتكت حرمته، وأحرق بيته، وقتل ولده،
وضربت زوجته، وهي سيدة نساء العالمين، ضرباً يودي بها إلى الموت ولو
بعد حين.. رغم أنه قالع باب خيبر، وهازم الأحزاب، ونصر الله نبيه بيده
يوم بدر وأحد، والنضير، وقريظة وذات السلاسل، ويوم حنين وغير ذلك..
علي
لم يخرج إلى مؤيديه:
وقد صرحت الرواية:
بأن الأنصار هتفوا بإسم علي «عليه السلام»، ولكنه «عليه
السلام» التزم داره، ولم يخرج إليهم.
وهذا معناه:
ألف:
إنه كان يعلم أن ندم الأنصار كان متأخراً، وأن هتافهم
بإسمه لا يفيد الآن شيئاً، لأن نقض ما أبرم لن يكون ميسوراً إلا إذا
سفكت الدماء، وقتل الناس بعضهم بعضاً، وثارت الفتن، وبثت الأحقاد.
وهذا هو المحذور الذي كان «عليه السلام» يريد للأمة أن
لا تقع فيه.
ب:
إن هذا الإعتكاف منه «عليه السلام» يدلل على أنه لم يكن هو الذي دبر
هذا الذي جرى من الأنصار، بل كان مبادرة عفوية، ومجرد صحوة ضمير منهم،
فلا داعي لإصطياد أهل الأهواء، وصناع الفتن بالماء العكر.
ج:
إنه يدل أيضاً على أنه لا يريد لهذه الحركة أن تتنامى
إلى الحد الذي توجد بسببها مشكلة توجب المزيد من تعقيد الأمور.
كما أنه لا يريد أن يواجه الأنصار بالرد والرفض المؤدي
لشعورهم بالفشل والخيبة، لأن شعورهم الذي دفعهم لهذا الموقف شعور نبيل
ومرضي لله، لكن المانع من مجاراة هذا الشعور ليس هو خطأ الأنصار، بل هو
إصرار المتشبثين بالحكم على الإحتفاظ به، ولو بقيمة إحراق الأخضر
واليابس..
وتقدم:
أن المهاجرين جزعوا لحركة الأنصار هذه..
وسبب هذا الجزع أنهم توقعوا أن تنجرّ الأمور إلى نزاع
مسلح يكلفهم أثماناً باهظة جداً، ثم لا يعلم إلا الله ماذا ستكون
النتائج..
والمهاجرون وإن كان أكثرهم يؤيد أبا بكر، ويلتزم
بالدفاع عن موقعه، ولكن المشكلة بالنسبة إليهم هي:
أولاً:
أنهم ليسوا في بلادهم، ولا بين عشائرهم ولا في محيطهم
الذي نشأوا فيه.
ثانياً:
إنهم يخشون صولة علي «عليه السلام» والهاشميين.
ثالثاً:
إنهم يعلمون أن خيار وكبار الصحابة سيكونون مع علي
«عليه السلام»..
ألف:
يلاحظ: أن القريشيين الثلاثة الذين كانوا يدبرون للحرب
مع الأنصار، بالإضافة إلى أنهم ظنوا: أن علياً «عليه السلام» حين اعتزل
في بيته، فظنوا أنه انسحب، وخرج عن دائرة التحدي ذاهلين عن أن اعتزاله
هذا ليس معناه أنه يريد أن يلقي الحبل على الغارب، وأن يفسح المجال
لقريش لكي توقع بالأنصار.
فإنه «عليه السلام» وجميع من معه من الهاشميين، وخيار
الصحابة وسواهم يقرون ويعترفون بفضل الأنصار، وعظيم منزلتهم، وبالغ
أثرهم، ولا يمكن التفريط بهم في الساعات الحرجة..
ب:
واللافت هنا:
أن الأنصار يهتفون بإسم علي «عليه السلام»، ولكن هؤلاء القرشيين ـ وعلى
رأسهم سهيل بن عمر يتهمونهم بأنهم: إنهم دعوا إلى أنفسهم، ويعتبرون
دعوتهم هذه نقضاً لبيعتهم أبا بكر، فيحتاجون إلى تجديد هذه البيعة.
ج:
ويعتبر الحارث بن هشام أن دعوة الأنصار هذه تحبط عمل
الأنصار، وتسقط كل فضائلهم، وتضيع أعمالهم في خدمة هذا الدين.. حيث
قال: فإنهم لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه، فإنهم قد خرجوا مما وسموا به.
د:
إن عكرمة يحتج بحديث الأئمة من قريش.. ولكنه نسي قول
أمير المؤمنين «عليه السلام»: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة..
هـ:
لقد حدد ثابت بن قيس خطيب الأنصار ـ الضابطة، وبيَّن
المعيار.. وهو أن هؤلاء الذين تكلموا بما تكلموا به هم أهل الدنيا،
وكلهم موتور.. فلا عبرة بأقوالهم..
والعبرة إنما هي بأقوال الأخيار، وأهل الآخرة من
المهاجرين.. فإن تكلموا بما تكلم به أهل الدنيا، فمعنى ذلك أن المعايير
أصبحت مفقودة، والضوابط غير موجودة.. وإن قالوا ما يمليه عليهم العقل
والشرع والدين فاقبلوا منهم، ولا تنساقوا مع أهل الدنيا، ولا تجاروهم
الكلام، فإنهم يسوقونكم إلى أجواء العصبية الجاهلية، ومنطق أهل
الأهواء.
وحين تهجم عمرو بن العاص على الأنصار في المسجد «التفت
فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فندم على قوله، للخؤولة التي بين
ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولان الأنصار كانت تعظم علياً، وتهتف
باسمه حينئذ.
فقال الفضل:
يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا
أن نجيبك، وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلا أن يأمرنا فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب،
وشتم عمرواً، وقال:
آذى الله ورسوله، ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش، وتكلم
مغضبا، فقال:
يا معشر قريش، إن حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، وقد
قضوا ما عليهم، وبقى ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة،
فنقله إلى المدينة، وكره له قريشا، فنقله إلى الأنصار، ثم قدمنا عليهم
دارهم، فقاسمونا الأموال، وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني
وإيثار الفقير.
ثم حاربنا الناس، فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى
فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نعم، فقال:
﴿وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾([3]).
ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت
والحي، ساء به الواتر، وسر به الموتور. فاستحق من المستمع الجواب، ومن
الغائب المقت، وإنه من أحب الله ورسوله أحب الأنصار، فليكفف عمرو عنا
نفسه.
قال الزبير:
فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أيها
الرجل، أما إذا غضب علي فاكفف.
وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشاً:
أيال قريش
أصلحـوا ذات بيننـا وبينكم قد طال حبل التـماحك([4])
فلا
خير فيكم بعدنا فارفقوا بنـا ولا خـير فينـا بعـد فهر بن
مالـك
كلانا على الأعداء كـف طويلـة إذا كـان يـوم فيه جب الحوارك([5])
فلا تذكروا ما كان منـا ومنكـم ففي ذكر ما قد كان مشى
التساوك([6])
قال الزبير:
وقال علي للفضل: يا فضل، انصر الأنصار بلسانك ويدك،
فإنهم منك وإنك منهم، فقال الفضل:
قلت يا عمرو مقـالاً فـاحشــاً إن تـعـد
يـا عـمــروٌ الله فـلـــك
إنـما الأنصـار سيـف قــاطــع مـن تـصبه ظبة السيف هلــك([7])
وسـيـوف قـاطـع مـضـربهــا وسـهـام الله فـي يـــوم
الحـلــك
نصـروا الـديـن وآووا أهـلــه مـنـزل رحــب ورزق مـشـــترك
وإذا الحــرب تـلـظـت نـارها بـركــوا فـيــها إذا المــوت
بــرك
ودخل الفضل على علي «عليه السلام» فأسمعه شعره، ففرح به،
وقال: وريت بك زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك، وابعث
به إلى الأنصار.
فلما بلغ ذلك الأنصار، قالت:
لا أحد يجيب إلا حسان الحسام.
فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل، فقال:
كيف أصنع بجوابه! إن لم أتحر قوافيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في
القوافي.
فقال له خزيمة بن ثابت:
أذكر علياً وآله يكفك عن كل شئ فقال:
جـزى الله
عـنـا والجـزاء بـكـفه أبا حـسن عنـا ومـن كـأبي حسـن
سبقت قريشا بالذي أنـت أهلـه فصدرك مشروح، وقلـبـك ممتحن
تمـنت رجـال مـن قريش أعـزة مكانك هيهات الهزال من السمن!
وأنت من الاسلام في كل موطن بمنزلة الدلـو البطـين مـن الـرسن
غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبـة أمات بهـا التقوى وأحيا بها الإحن
فكنت المرجى من لؤي بن غالب لما كان منـهـم، والذي كان
لم يكن
حفظت رسول الله فينـا وعهـده إليك ومن أولى به منـك من ومن!
ألست أخاه في الهـدى ووصـيـه وأعـلـم منـهم بالكتـاب
وبالسنن
فحقك ما دامت بنجد وشيجـة عظـيـم علينـا ثـم بعـد على اليمن
قال الزبير:
وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب، فخرج
إلى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم:
يا معشر قريش، إن الله جعل الأنصار أنصاراً، فأثنى
عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش
وتره الاسلام، ودفعه عن الحق، وأطفأ شرفه، وفضل غيره عليه، يقوم مقاماً
فاحشا فيذكر الأنصار، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت
معهم، لأن رسول الله قال لهم: «أزول معكم حيثما زلتم».
فقال المسلمون جميعاً:
رحمك الله يا أبا الحسن! قلت قولاً صادقاً([8]).
ونقول:
يستوقفنا هنا ما يلي:
صرحت الرواية:
بأن الأنصار كانت تعظم علياً.. وكأن المقصود أن هذا
التعظيم كان هو الأمر الطبيعي لدى الأنصار، لا من حيث أنها تريد ترشيحه
للخلافة أو لا تريد.
وذلك على خلاف أكثر المهاجرين الذين كانوا ينأون
بأنفسهم عنه، ويسعون إلى تصغير قدره، والحط من مقامه.. وفقاً لما روي
عنه «عليه السلام»: اللهم عليك بقريش، فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا
إنائي، وصغروا عظيم منزلتي([9]).
وقد لاحظنا هنا أموراً:
أحدها:
أنه يرى أن علياً «عليه السلام» هو مرجعيته، وليس أباه
العباس بن عبد المطلب، مع أن العباس أسن من علي «عليه السلام»، وهو عم
علي «عليه السلام» ووالد الفضل هذا.
الثاني:
إن ما يثير الإعجاب والإكبار هو هذه الإنضباطية التامة
من قبل أصحاب أمير المؤمنين «عليه السلام»، فلا يتصرفون من عند أنفسهم،
ولا يتركون لإنفعالاتهم أن تستأثر بمواقفهم، أو أن تخل بهذا الإنضباط
الدقيق والصارم..
فسلام الله عليك يا أمير المؤمنين وعلى من علمتهم،
وربيتهم، وهديتهم ورحمة الله وبركاته..
الثالث:
إن أصحابه «عليه السلام» صادقون وصريحون حتى مع مناوئيهم، ولا يهابون
أن يخبروهم بأنهم سوف يبلغون قادتهم بما كان منهم..
وهذا الصدق وهذه الصراحة، مسؤولية ورسالة وقيمة لا
يحملها ولا يؤديها إلا أهلها من الأحرار، والشجعان من الرجال، الذين
يحترمون أنفسهم، ويريدون أن يفرضوا قيمهم حتى على أعدائهم، ومنها
الإلتزام بالصدق والصراحة، وأن يروا ذلك قيمة ويتخذوه منهجاً، يعطي
الإنسان قدراً من الإحترام والقيمة.
الرابع:
إن هذا الأمر الذي يجري بين عمرو بن العاص والأنصار لا
ربط له بعلي «عليه السلام» بحسب الظاهر، بل هو مسألة مساجلات في أمر
يخص الفريقين، من حيث تنافسهما في أمر الخلافة وصراعهما على النفوذ،
ولم يذكر علي «عليه السلام» في كلام ابن العاص، ولا في كلام غيره،
فلماذا يريد الفضل أن يبلغه بما يجري، وبما سمعه من عمرو بن العاص؟!
ولماذا لم يقل ابن العاص للفضل:
لا شأن لعلي «عليه السلام» في هذا الأمر؟!
أليس سبب ذلك أنهم يرون أن لعلي الحق في التدخل لنصرة
كل مظلوم، وتأييد الحق لكل ذي حق.. وأن يتصدى للفتنة التي يريد أن
يثيرها أي كان من الناس.؟!
وقد جاء دفاع علي «عليه السلام» عن الأنصار حين بدا أن
الصراع أصبح بينهم وبين قريش، ولم يكن هناك أي أثر لقضية أمير المؤمنين
في البين.. وبدا أن عمرو بن العاص يريد أن ينكر كل فضل، بل كل أثر
للأنصار في نصرة الإسلام، وأن ينكر أن يكون الأنصار قد أحسنوا إلى قريش
وسواها ممن هاجر إليهم..
بل هو يقلب الحقائق، ويجعل المهاجرين من قريش هم أهل
الفضل على الأنصار، حتى ليقول: «ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا،
أحرزناهم من كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب، حتى أمنوا الخوف. فلما
جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم».
فلما رأى علي «عليه السلام» أن هذا هو منطق التزوير
لحقائق التاريخ، بهدف جعله ذريعة للظلم والتعدي، كان لا بد له من
التصدي له، والإعلان بالنكير عليه..
واللافت:
أنه «عليه السلام» لم يتكلم بطريقة المنكر لكلام ابن
العاص، أو المؤنب له.. بل تكلم بطريقة المقرر للحقائق، والراوي لها،
والمرسل لها إرسال المسلمات، ثم هو يصرح بأن الفريق الآخر لا يزال
مطالباً بواجبات لم ينجزها.
وقد أكد «عليه السلام»
على البعد الأخلاقي في تعامل الأنصار مع القضايا، وأنه قد تجاوز الحدود
في رقيه، وفي قيمته. وفي امتداد آفاقه.
وقد ساق «عليه السلام» بياناته، ورسم حركته وموقفه
بطريقة اضطرت قريشاً نفسها لأن تبادر إلى التصدي لعمرو بن العاص، لأنه
«عليه السلام» وضعها في مأزق حقيقي، حين صرح بالحقائق الدامغة، بطريقة
لا تسيغ لأحد التملص منها، إلا إن كان يريد أن يتنكر لأبده البديهيات،
وأوضح الواضحات، ولا سيما في الأمور الأخلاقية والواقعية، لأن هذا
التنكر سيلحق بقريش ضرراً بالغاً هي في غنى عنه..
وحين وجدت قريش نفسها في مأزق.. ولا يمكنها أن تقدم أي
مبرر معقول، أو مقبول لهذا التعدي على الأنصار.. تخوفت من أن يؤدي
سكوتها عن عمرو بن العاص، ومن معه إلى تصدي علي «عليه السلام» له ولهم،
دفاعاً عن الحق، ونصرة للمظلوم.
وانحياز علي «عليه السلام» للأنصار ضدها معناه انحياز
بني هاشم، والأخيار من الصحابة بجميع فئاتهم معه، فبادرت إلى التراجع
خطوة إلى الوراء، ولكنها لم تعترف بالخطأ، بل اكتفت بالإعلان عن دافعها
للتراجع، وهو أن لا يغضب علي «عليه السلام»، فقالوا لابن العاص: أيها
الرجل، أما إذا غضب علي فاكفف..
وهذا وإن كان في حد نفسه غير كاف، ولكنه «عليه السلام»
لم يكن يريد أكثر من لجم الطوفان، ودرء الفتنة، ولو بهذا المقدار..
وقد طلب «عليه السلام» من الفضل أن ينصر الأنصار
بلسانه، فإنه منهم وهم منه.. ونعتقد أن المقصود بهذا التعبير هو أنهم
أهل مرام واحد. وهناك أيضاً قواسم مشتركة من حيث الأخوة الإيمانية،
وسلامة الطوية. واشتراك في الغايات والأهداف الكبرى.. في مقابل الفئة
الأخرى التي وإن كان الفضل منها في نسبه، وهم عشيرته، وعصبته، ولكنه
غريب عنهم في فكره وفي قيمه، وفي سلوكه، وفي أهدافه وغاياته.
فالمحرك له هو رضا الله، وهدفه الحفاظ على الدين وأهله،
والمحرك لهم هو طموحاتهم، وأهواؤهم، وأهدافهم هي الحصول على الدنيا بأي
قيمة كانت.
وعن شعر الفضل نقول:
1 ـ
إن الأمر الذي
لم نكن
نتوقعه هو أن علياً «عليه السلام» قد منح الفضل بن العباس وسام شاعر
قريش وفتاها.. مع أننا إذا راجعنا الكتب المهتمة بالشعر العربي نلاحظ:
تجاهلهم الواضح للفضل وشعره. ولا حاجة إلى بيان دوافعهم إلى هذا
التجاهل.
2 ـ
لقد ظهرت دلائل واقعية هذا الوسام من تحير حسان بن ثابت
في الجواب عن شعر الفضل، وإظهار عجزه عن مجاراته: حتى أشاروا عليه بأن
يتحاشى ذلك، ويكتفي بطرح موضوع آخر في شعره، لا يتصل بشعر الفضل..
وهكذا كان..
3 ـ
إن مشورة خزيمة بن ثابت على حسان بأن يقتصر في شعره على
مدح أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، فإنه يكفيه عن كل شيء.. تدل على
عظمة أمير المؤمنين، التي كانت قريش تسعى للتعتيم عليها قدر الإمكان،
كما تقدم في كلامه «عليه السلام»..
4 ـ
ورد في شعر حسان: أن علياً «عليه السلام» سبق قريشاً
بالفضل والمقام.. وتمنى رجال من قريش نيل مقامه.. وهم بالنسبة إليه
بمثابة الفاقد من الواجد، والهزال من السمن..
5 ـ
ورد في شعر حسان أيضاً أن علياً أخو النبي «صلى الله
عليه وآله» ووصيه، وأعلمهم بالكتاب وبالسنن..
وقد جاء تهديد علي «عليه السلام» لقريش حاسماً وحازماً،
مؤيداً بالقسم بالله تعالى.. وعلي «عليه السلام» الذي لا يخيس بوعده،
ولا بعهده لا يمكن أن يحنث بيمينه!!. فكيف إذا كان هذا اليمين على فعل
أمر كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قرره، فقد قال لهم بعد أن
استنكر ظلم سفهاء قريش الموتورين، ومن أطفأ الله شرفه، وفضَّل غيره
عليه: «فاتقوا الله، وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم، لأن رسول
الله قال لهم: أزول معكم حيث زلتم..
فقال المسلمون جميعاً:
رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولاً صادقاً..
فاضطر عمرو بن العاص إلى الخروج من المدينة حتى رضي عنه
علي والمهاجرون([10]).
([1])
مواقف الشيعة للأحمدي الميانجي ج3 ص162 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج6 ص24.
([2])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص25.
([3])
الآية 9 من سورة الحشر.
([5])
كناية عن الشدة، والحارك: عظم على الظهر.
([6])
التساوك: المشي الضعيف.
([8])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص36.
([9])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) الرسالة رقم (36) وقسم الخطب
رقم (212) و (32) و (137) وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص96
وج2 ص119 والغارات ج1 ص309 وج2 ص454 و429 و430 وأنساب الأشراف
(بتحقيق المحمودي) ج2 ص74 فما بعدها، وبحار الأنوار (ط قديم)
ج8 ص621 والإمامة والسياسة ج1 ص155. وراجع كتابنا: دراسات
وبحوث في التاريخ والإسلام ج1 ص175 و176 للإطلاع على مصادر
أخرى.
([10])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص36.
|