صفحة :25-68   

الفصل السادس: محاولة اغتيال علي

 التآمر لقتل علي :

    لا شك في أن غياب علي «عليه السلام» عن الساحة كان سيسعد الكثيرين، ويبهجهم، وحيث إن ذلك لم يحصل، فلا عجب إذا فكر المعنيون بامره مباشرة بتولي تغييبه بصورة غامضة وذكية، فتآمروا على ذلك، ودبروه وحاولوا تنفيذه، ويبدو أن ذلك كان بعد قتل الزهراء «عليها السلام»، ولكن يظهر من الإحتجاج للطبرسي: أن ذلك كان بعد غصب فدك، وبعد احتجاج السيدة الزهراء وعلي «عليهما السلام» على أبي بكر وحزبه فيها..

وفي جميع الأحوال نقول:

  قال ابن عباس: «ثم تآمروا وتذاكروا، فقالوا: لا يستقيم لنا أمر ما دام هذا الرجل حياً.

فقال أبو بكر: من لنا بقتله؟

فقال عمر: خالد بن الوليد.

فأرسلا إليه، فقالا: يا خالد، ما رأيك في أمر نحملك عليه؟!

فقال: احملاني على ما شئتما، فوالله، لو حملتماني على قتل ابن أبي طالب لفعلت.

فقالا: والله ما نريد غيره.

قال: فإني له.

فقال أبو بكر: إذا قمنا في الصلاة، صلاةالفجر، فقم إلى جانبه، ومعك السيف، فإذا سلمت، فاضرب عنقه.

قال: نعم.

فافترقوا على ذلك.

فسمعت ذلك بنت عميس وهي في خدرها، فبعثت خادمتها إلى الزهراء «عليها السلام»، وقالت لها:

إذا دخلت الباب، فقولي: {إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}([1]).

فلما أرادت أن تخرج قرأتها.

فقال لها أمير المؤمنين «عليه السلام»: اقرئي مولاتك مني السلام وقولي لها: إن الله عز وجل يحول بينهم وبين ما يريدون.. إن شاء الله.

ثم إن أبا بكر لما فكَّر فيما أمر به من قتل علي «عليه السلام». عرف أن بني هاشم يقتلونه، وستقع حرب شديدة، وبلاء طويل. فندم على ما أمره به، فلم ينم ليلته تلك حتى أصبح، ثم أتى المسجد، وقد أقيمت الصلاة. فتقدم فصلى بالناس مفكراً، لا يدري ما يقول.

وأقبل خالد، وتقلد السيف حتى قام إلى جانب علي «عليه السلام». وقد فطن علي «عليه السلام» ببعض ذلك.

    فلما فرغ أبو بكر من تشهده جلس متفكراً حتى كادت الشمس تطلع، وخاف الفتنة، وخاف على نفسه، فقال قبل أن يسلم في صلاته:

«يا خالد، لا تفعل ما أمرتك، فإن فعلت قتلتك»، ثم سلّم عن يمينه وشماله.

قال الصدوق «رحمه الله»:

فقال «عليه السلام»: ما هذا الأمر الذي أمرك به، ثم نهاك قبل أن يسلّم.

قال: أمرني بضرب عنقك، وإنما أمرني بعد التسليم.

فقال: أوكنت فاعلاً؟!

فقال: أي والله، لو لم ينهني لفعلت.. إلخ..

    فوثب علي «عليه السلام»، فأخذ بتلابيب خالد، وانتزع السيف من يده، ثم صرعه، وجلس على صدره، وأخذ سيفه ليقتله.

واجتمع عليه أهل المسجد ليخلصوا خالداً، فما قدروا عليه.

فقال العباس: حلفوه بحق القبر وصاحبه لما كففت.

2 ـ  وفي نص آخر: فقال علي لخالد: أكنت تريد أن تفعل ذلك؟!

قال: نعم.

    فمدّ يده إلى عنقه، فخنقه بإصبعيه، حتى كادت عيناه تسقطان من رأسه. فقام أبو بكر، وناشده بالله أن يتركه، وشفع إليه الناس في تخليته، فخلاه.

وانطلق إلى المنزل. وجاء الزبير، والعباس، وأبو ذر، والمقداد، وبنو هاشم، واخترطوا السيوف، وقالوا: والله، لا تنتهون حتى يتكلم ويفعل. واختلف الناس، وماجوا، واضطربوا.

    وخرجت نسوة بني هاشم يصرخن، وقلن:

«يا أعداء الله، ما أسرع ما أبديتم العداوة لرسول الله وأهل بيته. لطالما أردتم هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله» فلم تقدروا عليه، فقتلتم ابنته بالأمس. ثم أنتم تريدون اليوم أن تقتلوا أخاه، وابن عمه ووصيه، وأبا ولده؟! كذبتم ورب الكعبة، ما كنتم تصلون إلى قتله».

    حتى تخوّف الناس أن تقع فتنة عظيمة.

3 ـ وفي رواية أخرى لأبي ذر «رحمه الله»: أنه لما أراد خالد قتل علي «عليه السلام»، أخذ أمير المؤمنين «عليه السلام» خالداً بأصبعيه، السبابة والوسطى في ذلك الوقت، فعصره عصراً، فصاح خالد صيحة منكرة، ففزع الناس، وهمتهم أنفسهم، وأحدث خالد في ثيابه وجعل يضرب برجليه الأرض ولا يتكلم.

فقال أبو بكر لعمر: هذه مشورتك المنكوسة، كأني كنت أنظر إلى هذا. وأحمد الله على سلامتنا.

وكلما دنا أحد ليخلصه من يده لحظه، تنحى عنه رعباً، فبعث أبو بكر وعمر إلى العباس.

فجاء وتشفع إليه، وأقسم عليه، فقال: بحق هذا القبر ومن فيه، وبحق ولديه وأمهما إلا تركته.

ففعل ذلك، وقبل العباس بين عينيه([2]).

طوق خالد:

    4 ـ  ثم كان خالد بعد ذلك يرصد الفرصة والفجأة لعله يقتل علياً «عليه السلام» غِرَّةً، ومن حوله شجعان، قد أمروا أن يفعلوا كلما يأمرهم خالد به.

فرأى علياً «عليه السلام» يجيء من ضيعة له منفرداً بلا سلاح، فقال خالد في نفسه: الآن وقت ذلك.

    فلما دنا منه «عليه السلام»، وكان في يد خالد عمود من حديد، فرفعه ليضرب به على رأس علي، فوثب «عليه السلام» إليه، فانتزعه من يده، وجعله في عنقه، وقلّده كالقلادة، وفتله.

    فرجع خالد إلى أبي بكر، واحتال القوم في كسره فلم يتهيأ لهم ذلك، فأحضروا جماعة من الحدادين، فقالوا: لا نتمكن من انتزاعه إلا بعد جعله في النار، وفي ذلك هلاك خالد.

    ولما علموا بكيفية حاله، قالوا: علي هو الذي يخلصه من ذلك، كما جعله في جيده. وقد ألان الله له الحديد، كما ألانه لداود.

    فشفع أبو بكر إلى علي «عليه السلام»، فأخذ العمود، وفك بعضه من بعض([3]).

الحدث بتفاصيله المثيرة:

5 ـ  عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن العباس، قالا: كنا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار، وإذا بخالد ابن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره، وكثر صهيل خيله، وإذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلاً.

فأقبل حتى نزل عن جواده، ودخل المسجد، ووقف بين يدي أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم، فهالهم منظره.

ثم قال: اعدل يا بن أبي قحافة، حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل؟! وما ارتفعت إلى هذا المكان إلا كما يرتفع الطافي من السمك على الماء، وإنما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك وسياسة الجيوش، وتقديم العساكر، وأنت بحيث أنت، من لين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلة التحصيل، لا تحمي ذماراً، ولا تضرم نارا، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك خيراً.

إني رجعت منكفئاً من الطائف إلى جدة في طلب المرتدين، فرأيت علي بن أبي طالب، ومعه عتاة من الدين حماليق، شزرات أعينهم من حسدك، بدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك.

منهم: ابن ياسر، والمقداد، وابن جنادة أخو غفار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعله من ولد عقيل أخيه.

فتبين لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشح علي بدرع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب.

وقد نزل علي على عين ماء اسمها روية.

فلما رآني اشمأز وبربر، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته.

فبادرته بالسلام استكفاء، واتقاء، ووحشة. فاستغنمت سعة المناخ، وسهولة المنزلة، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته.

فبدأني ابن ياسر بقبيح لفظه، ومحض عداوته، فقرعني هزواً بما تقدمت به إليَّ بسوء رأيك.

فالتفت إلي الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد، أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أوكنت فاعلاً يا أبا سليمان؟!

فقلت له: إي والله، لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك.

فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلي طبعه الذي أعرفه به عند الغضب، فقال: يا بن اللخناء! مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر؟! أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟! ويلك إني لست من قتلاك، ولا من قتلى صاحبك، وإني لأعرف بمنيتي منك بنفسك.

ثم ضرب بيده إلى ترقوتي، فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني، فدعا إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ، فمد عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي، ينفتل له كالعلك المسخّن.

وأصحابي هؤلاء وقوف، ما أغنوا عني سطوته، ولا كفوا عني شرته، فلا جزاهم الله عني خيراً، فإنهم لما نظروا إليه كأنهم نظروا إلى ملك موتهم.

فوالذي رفع السماء بلا أعماد، لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون، من أشد العرب، فما قدروا على فكه. فدلني عجز الناس عن فتحه أنه سحر منه، أو قوة ملك قد ركبت فيه.

ففكه الآن عني إن كنت فاكه، وخذ لي بحقي إن كنت آخذاً، وإلا لحقت بدار عزي، ومستقر مكرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الديار.

فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟! كأن ولايتي ثقل على كاهله، وشجاً في صدره.

فالتفت إليه عمر، فقال: فيه دعابة لا تدعه حتى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في خلده، فجريا منه مجرى الدماء، لا يدعانه حتى يهينا منزلته، ويورطاه ورطة الهلكة.

ثم قال أبو بكر لمن بحضرته: ادعوا إلي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفك هذا القطب غيره.

قال: وكان قيس سياف النبي، وكان رجلاً طويلاً، طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار، وكان أشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين «عليه السلام».

فحضر قيس، فقال له: يا قيس! إنك من شدة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب من عنق أخيك خالد.

فقال قيس: ولم لا يفكه خالد عن عنقه؟!

قال: لا يقدر عليه.

قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان ـ وهو نجم عسكركم، وسيفكم على أعدائكم ـ كيف أقدر عليه أنا؟!

قال عمر: دعنا من هزئك وهزلك، وخذ فيما حضرت له.

فقال: أحضرت لمسألة تسألونها طوعاً، أو كرهاً تجبروني عليه؟!

فقال له: إن كان طوعاً، وإلا فكرهاً.

قال قيس: يا بن صهاك! خذل الله من يكرهه مثلك، إن بطنك لعظيمة، وإن كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك [عجب.

قال:] فخجل عمر من قيس بن سعد، وجعل ينكت أسنانه بأنامله.

فقال أبو بكر: وما بذلك منه، اقصد لما سألت.

فقال قيس: والله، لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم وحدادي المدينة، فإنهم أقدر على ذلك مني.

فأتوا بجماعة من الحدادين، فقالوا: لا ينفتح حتى نحميه بالنار.

فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضباً، فقال: والله، ما بك من ضعف عن فكه، ولكنك لا تفعل فعلاً يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من أن أباك رام الخلافة ليبتغي الإسلام عوجاً، فحصد (أو فخضد) الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعز الإسلام بوليه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.

قال: فاستشاط قيس بن سعد غضباً، وامتلأ غيظاً، فقال: يا بن أبي قحافة! إن لك عندي جواباَ حمياً، بلسان طلق، وقلب جري، ولولا البيعة التي لك في عنقي لسمعته مني.

والله، لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة لي في علي بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}([4]).

أقول قولي هذا غير هائب منك، ولا خائف من معرتك، ولو سمعت هذا القول منك بدأةً لما فتح لك مني صلحاً. إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنه رجل لا يقعقع بالشنان، ولا يغمز جانبه كغمز التينة، ضخم صنديد، وسمك منيف، وعز باذخ أشوس، بخلافك والله أيتها النعجة العرجاء، والديك النافش، لاعزّ صميم، ولا حسب كريم.

وأيم الله، لئن عاودتني في أبي لألجمنك بلجام من القول يمج فوك منه دماً، دعنا نخوض في عمايتك، ونتردى في غوايتك، على معرفة منا بترك الحق واتباع الباطل.

وأما قولك: إن علياً إمامي، ما أنكر إمامته، ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهداً بإمامته وولايته، يسألني عنه؟! فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحب إلى أن انقض عهده وعهد رسوله، وعهد وصيه وخليله.

وما أنت إلا أمير قومك، إن شاؤوا تركوك، وإن شاؤوا عزلوك.

فتب إلى الله مما اجترمته، وتنصل إليه مما ارتكبته، وسلم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، وتعلم أي الفريقين شر مكاناً وأضعف جنداً.

وأما تعييرك إياي فإنه (في أنه: ظ.) مولاي، هو والله، مولاي ومولاك ومولى المؤمنين أجمعين.

آه.. آه.. أنى لي بثبات قدم، أو تمكن وطئ حتى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة، ولعل ذلك يكون قريباً، ونكتفي بالعيان عن الخبر.

ثم قام، ونفض ثوبه ومضى.

وندم أبو بكر عما أسرع إليه من القول إلى قيس.

وجعل خالد يدور في المدينة والقطب في عنقه أياماً.

ثم أتى آت إلى أبي بكر، فقال له: قد وافى علي بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينه، واحمر وجهه.

فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي، والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فأتياه فقالا: يا أبا الحسن! إن أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فلم يجبهما.

فقالا: يا أبا الحسن! ما ترد علينا فيما جئناك له؟!

فقال: بئس والله الأدب أدبكم، أليس يجب على القادم أن لا يصير إلى الناس في أجلبتهم إلا بعد دخوله في منزله، فإن كان لكم حاجة فاطلعوني عليها في منزلي حتى أقضيها إن كانت ممكنة إن شاء الله تعالى.

فصارا إلى أبي بكر، فأعلماه بذلك.

فقال أبو بكر: قوموا بنا إليه.

ومضى الجمع بأسرهم إلى منزله، فوجدوا الحسين «عليه السلام» على الباب يقلب سيفاً ليبتاعه، قال له أبو بكر: يا أبا عبد الله! إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك.

فقال: نعم.

ثم استأذن للجماعة، فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد، فبدأ به الجمع بالسلام، فرد عليهم السلام مثل ذلك، فلما نظر إلى خالد قال: نعمت صباحاً يا أبا سليمان! نِعمَ القلادة قلادتك.

فقال: والله يا علي، لا نجوت مني إن ساعدني الأجل.

فقال له علي «عليه السلام»: أف لك يا بن دميمة، إنك ـ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ عندي لأهون، وما روحك في يدي لو أشاء إلا كذبابة وقعت على إدام حار فطفقت منه، فاغن عن نفسك غناءها، ودعنا بحالنا حكماء، وإلا لألحقنك بمن أنت أحق بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى، وخذ فيما بقي. والله، لا تجرعت من الجرار المختمة إلا علقمها. والله، لقد رأيت منيتي ومنيتك وروحي وروحك، فروحي في الجنة وروحك في النار.

قال: وحجز الجميع بينهما، وسألوه قطع الكلام.

فقال أبو بكر لعلي «عليه السلام»: إنا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان، وإنما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل ـ يا أبا الحسن ـ مقيماً على خلافي، والإجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك، ويزيدك تنويماً إلى تنويمك.

فقال علي «عليه السلام»: لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش.

وأما ابن الوليد الخاسر، فإني أقص عليك نبأه: إنه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع مني في موضع رفع، ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عندما خطر بباله، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله.

فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله؟! أم عن نفسك تفعل هذا؟!.

فقال علي «عليه السلام»: يا أبا بكر! وعلى مثلي يتفقه الجاهلون؟!

إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي.

فقال: يا علي! ستغدر بك أمتي من بعدي، كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة، فاصبر، أنت كبيت الله: من دخله كان آمنا، ومن رغب عنه كان كافراً، قال الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}([5]).

وإني وأنت سواء إلا النبوة، فإني خاتم النبيين، وأنت خاتم الوصيين.

وأعلمني عن ربي سبحانه بأني لست أسل سيفاً إلا في ثلاثة مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، ولم يقرب أوان ذلك بعد.

فقلت: فما أفعل يا رسول الله بمن ينكث بيعتي منهم، ويجحد حقي؟!

قال: فاصبر حتى تلقاني، وتستسلم لمحنتك حتى تلقى ناصراً عليهم.

فقلت: أفتخاف علي منهم أن يقتلونني؟!

فقال: تالله، لا أخاف عليك منهم قتلاً ولا جراحاً، وإني عارف بمنيتك وسببها، وقد أعلمني ربي، ولكني خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين، وهو حديث، فيرتد القوم عن التوحيد.

ولولا أن ذلك كذلك، وقد سبق ما هو كائن، لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن، ولرويت أسيافاً، وقد ظمئت إلى شرب الدماء.

وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزري، ونعم الخصم محمد والحكم الله.

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن! إنَّا لم نرد هذا كله، ونحن نأمرك أن تفتح لنا الآن عن عنق خالد هذه الحديدة، فقد آلمه بثقله، وأثر في حلقه بحمله، وقد شفيت غليل صدرك منه.

فقال علي «عليه السلام»: لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء، وأقرب للفناء. ولو قتلته والله، ما قدته برجل ممن قتلهم يوم فتح مكة وفي كرته هذه، وما يخالجني الشك في أن خالداً ما احتوى قلبه من الإيمان على قدر جناح بعوضة.

وأما الحديد الذي في عنقه فلعلي لا أقدر على فكه، فيفكه خالد عن نفسه، أو فكوه أنتم عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدعونه صحيحاً.

فقام إليه بريدة الأسلمي، وعامر بن الأشجع فقالا: يا أبا الحسن! والله، لا يفكه عن عنقه إلا من حمل باب خيبر بفرد يد، ودحا به وراء ظهره، وحمله وجعله جسراً تعبر الناس عليه وهو فوق زنده.

وقام إليه عمار بن ياسر، فخاطبه أيضاً فيمن خاطبه، فلم يجب أحداً.

إلى أن قال له أبو بكر: سألتك بالله وبحق أخيك المصطفى رسول الله إلا ما رحمت خالداً، وفككته من عنقه.

فلما سأله بذلك استحيى، وكان «عليه السلام» كثير الحياء، فجذب خالداً إليه، وجعل يخذف من الطوق قطعة قطعة ويفتلها في يده، فانفتل كالشمع.

ثم ضرب بالأولى رأس خالد، ثم الثانية، فقال: آه يا أمير المؤمنين.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: قلتها على كره منك، ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك، ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله عن عنقه.

وجعل الجماعة يكبرون ويهللون، ويتعجبون من القوة التي أعطاها الله سبحانه أمير المؤمنين «عليه السلام»، وانصرفوا شاكرين([6]).

إيضاح: رأيت هذا الخبر في بعض الكتب القديمة بأدنى تغيير.

ونقول:

إن لنا مع الرواية المتقدمة وقفات عديدة، هي التالية:

لا دليل على كذب الرواية المتقدمة:

إننا قبل كل شيء نقول:

ليس ثمة ما يصلح أن يكون دليلاً على كذب ما ورد في النصوص المتقدمة، بل لعل هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد على أن غياب علي «عليه السلام»، والخيرة من محبيه عن ساحة الصراع كان غاية أمنياتهم. حتى لو كان هذا الغياب مستنداً إلى قتلهم إن أمكنهم ذلك.

وقد صرح معاوية في رسالته لمحمد بن أبي بكر، بقوله: «فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه، وخالفه على أمره. وهما به الهموم، وأرادا به العظيم الخ..»([7]).

وتقدم أنهم تهددوا علياً «عليه السلام» بالقتل حين جيء به لبيعة أبي بكر.

وسيأتي إن شاء الله كيف أن عمر قرر قتل أهل الشورى المخالفين لقرار ابن عوف.. ومن بينهم علي «عليه السلام».. والشواهد على هذا الأمر عديدة..

الرواية من المشهورات:

قال المجلسي «رحمه الله»: «ثم اعلم أن هذه القصة من المشهورات بين الخاصة والعامة، وإن أنكره بعض المخالفين»([8]).

الحديث عند أهل السنة:

أما هذا الحديث عند أهل السنة، فقد قال ابن أبي الحديد: «إنه سأل النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد، عن السبب في عدم قتلهم لعلي «عليه السلام»..

إلى أن قال له: «أحق ما يقال في حديث خالد؟!

فقال: إن قوماً من العلوية يذكرون ذلك.

ثم قال: وقد روي: أن رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل، صاحب أبي حنيفة، فسأله عما يقوله أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة، بنحو الكلام والفعل الكثير، أو الحدث؟!

فقال: إنه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال!

فقال الرجل: وما الذي قاله أبو بكر؟!

قال: لا عليك.

فأعاد عليه السؤال ثانية، وثالثة، فقال: أخرجوه، أخرجوه، قد كنت أُحدَّث أنه من أصحاب أبي الخطاب.

قلت له: فما الذي تقوله أنت؟!

قال: أنا استبعد ذلك، وإن روته الإمامية..

ثم قال: أما خالد، فلا أستبعد منه الإقدام عليه، بشجاعته في نفسه، ولبغضه إياه.. ولكنني أستبعده من أبي بكر، فإنه كان ذا ورع، ولم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة، ومنع فدك، وإغضاب فاطمة وقتل علي، حاشا لله من ذلك..

فقلت له: أكان خالد يقدر على قتله؟!

قال: نعم، ولم لا يقدر على ذلك، والسيف في عنقه، وعلي أعزل، غافل عما يراد به؟! قد قتله ابن ملجم غيلة، وخالد أشجع من ابن ملجم.

فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك، كيف ألفاظه؟!

فضحك وقال: «كم عالم بالشيء وهو يسائل».

ثم قال: دعنا من هذا..»([9]).

ونقول:

من الواضح، أن استدلالات ابن أبي زيد لا تصح.. وذلك لما يلي:

1 ـ إنه يحاول التأكيد على أن ذلك من مرويات الإمامية.. مع أنه هو نفسه قد روى لنا قصة زفر بن الهذيل.. وفيها: أن دليل أبي حنيفة هو فعل أبي بكر هذا..

2 ـ إستبعاده صدور ذلك من أبي بكر، وقوله: إنه كان ذا ورع.. يناقض قوله: لم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة، ومنع فدك، وإغضاب فاطمة، وقتل علي «عليه السلام»..

فإن من يرتكب تلك الأمور، لا يصح وصفه بما وصفه به، ولا يصح أن يقال: حاشا لله من ذلك.. أو فقل: من هذا لا يتحرج من أن يفعل ذاك، ولا يحجزه عن ذلك شيء.. إلا إن كان هو الإضرار بمصالحه..

وقال أبو القاسم الكوفي:

«احتج بذلك قوم من فقهاء العامة بشهرته منه، فقالوا: لا يجوز الكلام بعد التشهد وقبل التسليم، فإن أبا بكر فعل ذلك للضرورة.

وقال آخرون: لا يجوز ذلك، فإن أبا بكر قال ذلك بعد أن سلم في نفسه»([10]).

وقال ابن شاذان:

«فقيل لسفيان وابن حي، ولوكيع: ما تقولون فيما كان من أبي بكر في ذلك؟!

فقالوا جميعاً: كانت سيئة لم تتم.

وأما من يجسر من أهل المدينة، فيقولون: وما بأس بقتل رجل في صلاح الأمة، إنه إنما أراد قتله لأن علياً أراد تفريق الأمة وصدهم عن بيعة أبي بكر.

فهذه روايتكم على أبي بكر إلا أن منكم من يكتم ذلك، ويستشنعه فلا يظهره.

وقد جعلتم هذا الحديث حجة في كتاب الصلاة، في باب من أحدث قبل أن يسلم وقد قضى التشهد: إن صلاته تامة.

وذلك أن أبا بكر أمر خالد بن الوليد بأمر، فقال: إذا أنا سلمت من صلاة الفجر فافعل كذا وكذا.

ثم بدا له في ذلك الأمر، فخاف إن هو سلم أن يفعل خالد ما أمره به، فلما قضى التشهد قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك [به]، ثم سلم.

وقد حدث به أبو يوسف القاضي ببغداد، فقال له بعض أصحابه: يا با يوسف، وما الذي أمر أبو بكر خالد بن الوليد [به]؟!

فانتهره وقال له: اسكت، وما أنت وذاك»؟!([11]).

موقف المعتزلي:

هذا.. ومن الغريب أيضاً: قول ابن أبي الحديد في موضع آخر من كتابه، وهو يورد مطاعن الشيعة على أبي بكر:

«الطعن الثاني عشر، قولهم: إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم، فقال: لا يفعلن خالد ما أمرته.

قالوا: ولذلك جاز عند أبي حنيفة أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام، وغيره من مفسدات الصلاة، من دون تسليم». وبهذا احتج أبو حنيفة.

والجواب:

أن هذا من الأخبار التي تنفرد بها الإمامية، ولم تثبت.

وأما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه لأجل هذا الحديث، وإنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي، وليس هو من الصلاة وأذكارها، ولا من أركانها، بل هو ضدها، ولذلك يبطلها قبل التمام، ولذلك لا يسلم المسبوق تبعاً لسلام الإمام، بل يقوم من غير تسليم، فدل على أنه ضد للصلاة، وجميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد على وتيرة واحدة، ولذلك استوى الكل في الإبطال قبل التمام، فيستوي الكل في الإنتهاء بعد التمام.

وما يذكره القوم من سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد، ولو كان أبو بكر يريد ذلك لأمر خالداً أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف وهو نائم ليلاً في بيته، ولا يعلم أحد مَن الفاعل([12]).

ونقول:

إن في كلامه هذا مواضع عديدة للنظر والمناقشة:

فأولاً: إنه قال: إن هذه الأخبار تنفرد بها الإمامية. مع أنه هو نفسه قد ذكر عن زفر بن الهذيل.. أن أبا حنيفة قد استند في فتواه في الخروج من الصلاة بغير التسليم إلى فعل أبي بكر..

ومن الواضح: أن أبا حنيفة، وكذلك زفر، لم يكونا من الإمامية..

ثانياً: قوله: إن أبا حنيفة لم يستند في فتواه إلى هذا الحديث، يكذبه ما نقله هو نفسه عن زفر بن الهذيل من أن أبا حنيفة قد استند في فتواه إلى هذا الحديث بالذات..

ثالثاً: إن مجرد الاستبعاد لا يكفي لتكذيب الأخبار..

رابعاً: ما ذكر، من أنه لو كان أبو بكر يريد ذلك لأمر خالداً بقتله، وهو نائم في بيته، ولا يعلم أحد من الفاعل.

غير مقبول.. فإن المعتزلي لم يكن حاضراً في ذلك الوقت ليعرف: إن كان بإمكان خالد أن يصل إلى علي «عليه السلام» في داخل بيته، أم لم يكن ذلك ممكناً له..

كما أن الوصول إلى علي «عليه السلام»، لأجل قتله لم يكن بالأمر السهل، مع شدة حذره، وكمال يقظته. إلا إن كان في حال الصلاة، كما صنع ابن ملجم. وقد عرفنا: أنه حين بات على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة، لم يتمكنوا من إلحاق الأذى به، رغم أنهم كانوا مسلحين، وكان هو أعزلاً.

خامساً: إن تدبير مؤامرات من هذا القبيل يخضع لاعتبارات يلاحظها المعنيون، ربما تخفى على من لم يكن حاضراً، بل شريكاً معهم.. فلعل الخطة كانت تقضي بارتكاب الجريمة، فإذا ثار الهاشميون من جهة، فالأمويون يواجهونهم من الجهة الأخرى.. ويتخذ الخليفة ـ من ثم ـ صفة المصلح والساعي في درء الفتنة بين الفريقين، ويقوم بحماية المجرم، وحفظه تحت شعار التقوى والورع، وحفظ الإسلام، والمسلمين.. وإبعاد الأخطار الكبرى و.. و..

سادساً: ما زعم أنه حجة لأبي حنيفة.. لا مجال لنسبته لأبي حنيفة: فلعله لم يخطر على باله أصلاً وفي جميع الأحوال نقول: إن زفر أعرف بأبي حنيفة، وأقرب إليه منه.

السحاب عمامة، لا رداء:

وقد ذكرت احدى الروايات المتقدمة أن علياً «عليه السلام» كان يلبس رداء رسول الله «صلى الله عليه وآله»، واسمه السحاب..

مع أن المعروف هو أن «السحاب» اسم عمامة رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكساها علياً «عليه السلام»([13])، وقد عممه بها في غزوة الخندق على رأسه تسعة اكوار([14]).

بالأمس قتلتم ابنته:

1 ـ ذكرت الرواية: أن نساء بني هاشم خرجن يصرخن، وقلن: «قتلتم ابنته بالأمس، ثم أنتم تريدون اليوم أن تقتلوا أخاه إلخ..» مع أن الرواية نفسها تقول: إن أسماء بنت عميس لما سمعت ذلك: «بعثت خادمتها إلى الزهراء»:

مما يعني أن الزهراء «عليها السلام» كانت على قيد الحياة، إلا إذا كان المقصود: أنها بعثتها إلى بيت الزهراء «عليها السلام»، التي كانت قد استشهدت..

أو يكون المقصود بقولها: «قتلتم ابنته»: أنكم أوردتم عليها ضرباً سوف يؤدي إلى استشهادها «عليها السلام»..

أو يكون الراوي قد ذكر اسم الزهراء «عليها السلام» على سبيل الغلط والإشتباه. وقد كان قصده أن يقول: بعثت بها إلى علي.

2 ـ إن قول الهاشميات هذا يدلنا على أن استشهاد الزهراء على يد تلك العصبة كان معروفاً لدى الناس منذئذ وأنها لم تمت نتيجة مرض عرض لها. كما قد يحلو للبعض أن يسوق له..

طوق خالد من جديد:

ونحن في غنى عن التنويه بالمرارة الكبيرة التي يتركها طوق خالد على نفس خالد، الذي وضعه علي «عليه السلام» في عنقه أمام ذلك الجيش الذي كان بقيادته.. وحوله الأبطال والرجال، وهو يعيش حالة الزهو والغطرسة، والإحساس بالتفوق بسلاحه، وبمن هم حوله من الشجعان الذين تحت إمرته، ورهن إشارته.

والذي يزيد في هذه المرارة، أنه يرى أبغض الناس إليه يتغلب عليه، وهو أعزل من السلاح. وليس حوله من الأعوان من يقدر على مساعدته في شيء..

وقد استفاد من نفس سلاح خالد، الذي كان أعده ليكون وسيلة فتكه به فأذله به، وجعل منه أضحوكة، أو فقل: مثار عجب، ووسيلة تندر، وسبباً يدعو للفرجة عليه، والعبث به.. وأسف محبيه له، وشعور الجميع بعجزهم عن مساعدته..

ويكفي في ذلك قول خالد: «قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرت به أضحوكة لأهل الديار..».

    والأغرب والأصعب من ذلك: أن الذي فعل به ذلك كان وحده القادر على مساعدته، وعلى إخراجه مما هو فيه.

    فلا بد من الحضور بين يديه، والخضوع له، والتماس رضاه، والصبر على القوارع واللواذع، والإعتراف بالحق الذي طالما جحده خالد وفريقه، وتآمروا على طمسه، وإثارة الشبهات حوله..

    وقد خضع خالد، ومعه جميع من وراءه، ممن دبّر وقرّر، وأمر.. خضعوا للأمر الواقع.. ورضي علي «عليه السلام» بتخليص خالد من المأزق الذي وضع نفسه فيه..

ولكن المفاجأة الكبرى كانت بإظهار علي «عليه السلام» لمعجزة هي من أعظم المعجزات بصورة متأنية وتدريجية، تثير فضول كل ناظر ومراقب، وتدفعه لمراقبتها، وتمني طول مداها واستمرارها، بكل لهفة وشغف.. ألا وهي الطريقة التي اختارها «عليه السلام» لفك الطوق عن خالد.. فإنها أظهرت: أن الرجل الذي يحاولون قتله ليس كسائر الناس، بل هو رجل إلهي، يملك من القدرات الغيبية، ما يحتم على كل عاقل منصف أن يخضع لإمامته، وأن ينقاد له..

    وذلك أنه «عليه السلام» جعل يقتطع بأصابعه من عمود الحديد الذي هو قطب رحى قطعةً قطعة، ويفتلها بيده، فتنفتل كالشمع، ثم ضرب بالأولى رأس خالد، ثم الثانية، فاضطر لأن يقول: آه، يا أمير المؤمنين!!

ولم يزل يقطع الحديد على هذا النحو إلى أن أزاله عن عنق خالد.. وجعل الجماعة يهللون ويكبرون، ويتعجبون الخ..

إخلاص أسماء بنت عميس:

ثم           إنه لا شك في أن أسماء بنت عميس حين أخبرت أمير المؤمنين «عليه السلام» بما يجري إنما انطلقت من شعورها بالواجب الشرعي والأخلاقي. ولم تكن تنتظر مكافأة منه «عليه السلام» ولا من غيره، بل لا مانع من أن تتجسس على زوجها لصالح علي «عليه السلام».. إذا كان ذلك هو ما يوجبه الله عليها في حالات كهذه، يراد بها قتل وصي الاوصياء غدراً وفي الاحاديث ما يدل على ذلك.. وأنه لا يجوز الوفاء لمن يغدر بالمؤمنين، ولا أن يجعل الإنسان نفسه أميناً لمن يخون الله ورسوله، ويخون أماناته.

هذا كله على فرض صحة الرواية المشار إليها. وفقاً لما يذهب إليه أبو حنيفة وغيره..

    وقد يقال:       كيف جازفت أسماء بإرسال خادمتها بهذا الأمر إلى الزهراء «عليها السلام»، ألا تكون قد عرضت نفسها للخطر، لو أفشت تلك الخادمة سرها لمولاها أبي بكر؟!. أو باحت به لمن يواليه أو يميل إليه؟!.. كما أنها كان يمكنها أن تجعل من هذا السر وسيلة ابتزاز ضد سيدتها، فتهددها بإفشائه، كلما أرادت الحصول على شيء لا يمكنها الحصول عليه في الظروف العادية؟!

ونجيب:

إن النص يقول: إن أسماء فقط هي التي سمعت كلام المتآمرين، وعرفت نواياهم. وهي طلبت من الخادمة أن تقرأ هذه الآية حين تدخل على الزهراء «عليها السلام»، وحين تخرج.

فمن الذي قال: إن الخادمة قد عرفت بالأمر ومن قال: إنها كانت قادرة على ان تستنبط من الكلام وجود مؤامرة فعلية؟!

ولو فرض أنها أدركت ذلك، فمن الذي قال لها: إن المتآمر هو هذا الشخص أو ذاك؟!

ثم إن هذه الخادمة بعد أن شاركت في إفشال المؤامرة، قد أصبحت تخشى من افتضاح دورها في ذلك.

يضاف إلى ما تقدم: أن الأمور قد تسارعت، وتلاحقت فلم تكن هناك فرصة لأي تحرك، فإن الحديث جرى ليلاً.. والتنفيذ كان حين فجر تلك الليلة..

    على أن من الممكن والمقبول جداً أن تكون تلك الخادمة من الصالحات، وعلى مثل رأي أسماء.. وكانت مأمونة لدى سيدتها..

وقد يشهد على ذلك: أننا لم نسمع أنه قد بدر منها ما يشير إلى إفشائها سرّ أسماء، طيلة حياتها..

أبو بكر في مأزق:

    وقد يقول قائل هنا: إن أبا بكر إذا كان ندم على ما أمر به خالداً، وخشي من أن يتعرض بنو هاشم له بسوء، لو أن علياً «عليه السلام» قُتل بسيف خالد.. وإذا كان لم ينم تلك الليلة.. فلماذا لم يذهب ليلاً إلى خالد في بيته، ويحذره من تنفيذ ما أمره به، وينام من ثم قريرالعين؟!

ويمكن أن يجاب: بأنه لا شيء يدل على أن أبا بكر كان شجاعاً إلى حد أنه يجرؤ على أن يتنقل في الليالي وحده، ولا سيما بعد أن أصبح يواجه النقمة من بني هاشم.. ومن سعد بن عبادة ورهطه، ومن كثيرين من الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار الذين بايعوه مكرهين، أو مضطرين، فلعله كان يخشى على نفسه من انتقام هؤلاء، حين يصادفونه في تلك الأزقة المظلمة وحده.

    ولعلك تقول أيضاً: لماذا لم يخبر خالداً بما يريد، وبأنه لم يعد راغباً في قتل علي «عليه السلام» حين التقيا في المسجد قبل شروع الصلاة؟!

    ويجاب أيضاً: بأنه لا دليل على أن أبا بكر قد صادف خالداً قبل شروعه في الصلاة، بل قد يظهر من بعض نصوص هذه الرواية: أن الصلاة قد أقيمت قبل حضور خالد، فلم يكن له سبيل إلى إعلامه بعدوله عن قراره سوى هذه الوسيلة التي أوجبت الإفتضاح له ولخالد على حد سواء.

ولا مجال للقول بأنه كان يمكن لأبي بكر أن يأمر عمر بن الخطاب بإخبار خالد بعزوفه عن هذا الأمر.

إذ لا دليل على حضور عمر لتلك الصلاة بالخصوص، ولو حضر فقد لا يوافق أبا بكر على رأيه هذا.

وحتى لو وافقه على ذلك، فقد كان يجب عليه أن ينتظر مجيء خالد، الذي قد يتأخر، فيكون عدم دخوله في الصلاة مع الناس من موجبات إثارة الظنون والشكوك فيه.

تقرير علي لخالد:

    وقد لفت نظرنا: تقرير علي «عليه السلام» لخالد، إن كان سيفعل ما أمره به أبو بكر، قبل أن يتخذ في حقه أي إجراء، فلما أجاب بالإيجاب، وظهر أنه قد أعدّ وسائل التنفيذ، حيث اشتمل على السيف الذي أعده لذلك. بادر إلى إمساكه بإصبعيه، إلى غير ذلك مما ذكرته الرواية.

    فلو أن خالداً أنكر ذلك، أو أنه ذكر أمراً آخر زعم أن أبا بكر قد طلبه منه، فإن علياً «عليه السلام» سوف لا يفعل شيئاً تجاه خالد، حتى لو كانت أسماء قد أخبرته بوجود مؤامرة عليه. فإن إخبارها لا يكفي في إدانة خالد ولا غيره.

ومن فوائد هذا التقرير حفظ أسماء بنت عميس وخادمتها من أن تحوم الشكوك حولهما، فيما يرتبط بإفشاء السر الذي قد يحتمل اطلاعهما عليه بنحو أو بآخر.

وأما سبب اعتراف خالد بهذا الأمر رغم خطورته، فلأنه كان يشعر بالأمن من سطوة علي «عليه السلام» ولأنه يعرف أن الخليفة وسائر قريش لن يدعوا علياً «عليه السلام» يقتله.

أو أنه أراد أن يظهر التجلد في هذا المقام العسير، الذي عرف فيه أن أمره قد افتضح، فلا يجديه الإنكار.

أخذه بإصبعيه وتطويقه بقطب الرحى:

ثم إن أخذ علي «عليه السلام» خالداً بإصبعيه، على النحو الذي ذكرته الرواية، حيث صاح صيحة، وأحدث في ثيابه، وكادت عيناه تسقطان من رأسه، يشير إلى مدى ضعف خالد، وسقوطه عن المحل الذي يضع فيه نفسه، أو يضعه فيه أولياؤه ومحبوه. فإنه ـ على حد تعبير أميرالمؤمنين «عليه السلام» ـ: كان أضيق إستاً من ذلك..

    كما أن ظهور هذا الأمر أمام أهل المسجد، ثم وضع الطوق في عنقه، حين لقيه خارج المدينة ففضحه أمام عسكره، الذي كان فيه الأبطال والشجعان.. ولم يكن علي يحمل سلاحاً.. وغير ذلك مما جرى. إن ذلك كله يدخل في سياق التشهير بخالد لإظهار حقيقته وحجمه الطبيعي أمام الملأ. وأنه إنما يصول بقدرة غيره ويبطش بالناس على سبيل الغدر، ولا شيء أكثر من ذلك.

قتل رسول الله :

    وقول نساء بني هاشم: لطالما أردتم هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله» فلم تقدروا عليه.. يدل على أن استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يكن شائعاً بين الناس.. فكيف يجتمع هنا مع ما كنا قد قررناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي من أنه «صلى الله عليه وآله» قد قضى شهيداً مسموماً؟!..

    ونجيب بأمرين:

الأول: إن ما ذكرناه لا يدل على معروفية ذلك وشيوعه.. ولذلك استندنا فيه إلى النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة «عليهم السلام». ثم إلى قرائن من الروايات التي أوردها غيرهم، وتضمنت الإشارة والتلميح دون التصريح.

الثاني: أن يكون مقصود نساء بني هاشم هو القتل بالسلاح، لا القتل بواسطة دس السم الذي قد يخفى على اكثر الناس.

تناقض واختلاف:

1 ـ قد يقال: إن ثمة تناقضاً واختلافاً بين نصوص هذه الحادثة، فمنها ما صرّح: بأن علياً «عليه السلام» كان وحده منفرداً وبدون سلاح، حين لقيه خالد، وأراد أن يضربه بعمود من حديد.. فأخذه علي «عليه السلام»، وطوقه إياه..

ومنها: رواية الديلمي، التي تقول: إنه «عليه السلام» كان في جماعة منهم: عمار، والمقداد، وأبو ذر، والزبير، وغلامان آخران أحدهما لعله من ولد عقيل بن أبي طالب «رحمهما الله تعالى».

ونقول:

لو صح وجود تناقض في بعض النصوص، فهو لا يسقط جميع نصوص الرواية عن الإعتبار، بل هو يدل على سقوط مورد التناقض عن صلاحية الإستدلال به، حيث لا يدرى أي النصين هو الصحيح.

ويحتاج لترجيح أحد النصين إلى الرجوع إلى وسائل أخرى، مثل التصحيح السندي لأحدهما، وتضعيف الآخر، ونحو ذلك.

على أن من الجائز أن يكون «عليه السلام» قد انفرد عن اصحابه هؤلاء، بعد أن رآه خالد معهم، فأراد أن يغدر به..

2 ـ وتناقض آخر فإن رواية الديلمي تقول: إنه «عليه السلام» أخذ بترقوة خالد، وجعل يسوقه حتى بلغ به إلى رحى للحارث بين كلده الثقفي. فأدار قطبها على عنقه..

وتقول الرواية الأخرى: إن عمود الحديد كان في يد خالد، فرفعه ليضربه به، فوثب «عليه السلام»، فأخذه من يده ثم طوقه به.

    والظاهر: أن الواقعة واحدة لم تتكرر.. فلا محيص لرفع التناقض من القول: بأنه وثب إلى العمود الذي في يد خالد، فانتزعه منه ثم جره إلى موضع الرحى، فوضع ذلك العمود نفسه في عنقه. أو أنه أراد أن يطعنه عموداً أعظم منه فكان عمود الرحى هو المطلوب فطوقه اياه..

بحق القبر ومن فيه:

    أظهرت النصوص المتقدمة شدة تأثير القسم بالقبر وبصاحبه على أمير المؤمنين «عليه السلام»، حتى إن العباس هو الذي أشار عليهم بالإستفادة من هذا الأمر، لإقناع علي «عليه السلام» بفك الطوق عن خالد، مظهراً ثقته من النتيجة.

وهذا أمر بالغ الأهمية، خصوصاً إذا قيس بما أظهره الفريق الآخر من عدم الإهتمام بموت رسول الله «صلى الله عليه وآله».. كما قرره أمير المؤمنين «عليه السلام»، حين قال له أبو بكر: ما لي أراك متحازناً؟!

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: إنه عناني ما لم يعنك.. متهماً إياه بعدم الإهتمام لموت سيد المرسلين «صلى الله عليه وآله»، الأمر الذي اضطر أبا بكر إلى محاولة تبرئة نفسه من ذلك، فانقلب موقفه من استهجان حزن علي «عليه السلام» إلى السعي لجمع الشواهد على أنه هو الآخر أيضاً حزين([15]).

    ولعل من الشواهد الظاهرة على ذلك: قولهم: إن أبا بكر أظهر مزيداً من التماسك أو عدم الإهتمام الظاهر حين وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حتى عدوا ذلك من شجاعته، التي لا تبلغها حتى شجاعة علي «عليه السلام»، الذي كان لا يحسد على حالته حين وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله».

    ويؤيد ذلك أنهم تركوا جنازة النبي «صلى الله عليه وآله»، وانصرفوا إلى سقيفة بني ساعدة، سعياً للحصول على الخلافة بعده، فلم يحضروا دفنه، ولم يخبروا بأمرهم هذا الصاحب الشرعي لهذا المقام، ولا أحداً من بني هاشم.. رغم بيعتهم لعلي «عليه السلام» في يوم الغدير، برعاية وأمر من رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه، وفق الهدى والأمر الإلهي الصارم والحازم، حسبما أوضحناه في كتاب: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

خالد يهاجم أبا بكر!!:

    وقد لاحظنا: أن خالداً حين قدم على أبي بكر مطوقاً بقطب الرحى بادر أبا بكر بقواذع القول، وقوارصه، واتهمه بالضعف، وبعدم الأهلية للمقام الذي وضع نفسه فيه..

ونظن أن سبب ذلك أنه:  أراد تحريض أبي بكر على علي «عليه السلام» من جهة ـ كما ظهر من قوله لأبي بكر عن علي وجماعته: شزرات أعينهم من حسدك، أبدت حنقاً، وقرحت آماقهم لمكانك. مع أن هذه مجرد ادِّعاءات من قبل خالد.

ثم أراد خالد أيضاً أن يغطي بذلك على ضعفه الظاهر بتحميل آمره مسؤولية ما حدث..

مع العلم: بأن أبا بكر لم يحضر ذلك السجال الذي جرى بين أمير المؤمنين «عليه السلام» وبين خالد، ولا عاين ما جرى.. بل كان خالد هو المبادر للتعدي على علي «عليه السلام»، رغم أنه كان قد ذاق مرارة المواجهة معه، في المسجد، في صلاة الصبح، حين أخذ رقبته بإصبعيه حتى أحدث في ثيابه، وكادت عيناه أن تسقطا..

الناس جعلوا أبا بكر في ذلك المقام:

    وقد صرح خالد بأن: أبا بكر لم يأخذ موقعه الذي هو فيه استناداً إلى تصريح أو تلميح من الله ورسوله، وإنما الناس هم الذين جعلوه فيه مع تحفظنا الشديد حتى على هذا أيضاً. فإن أبا بكر نفسه هو الذي مهد الأمور ليصل إلى هذا المقام. وأعانه على ذلك أولئك الذين دبر الأمر معهم..

الحديث عن المرتدين:

    وقد ورد في كلمات خالد إشارة إلى حربه مع المرتدين.. وسيأتي في كتابنا هذا إن شاء الله بعض ما يرتبط بهذا الأمر، حين التعرض لموقف علي «عليه السلام» مما يسمى بحروب الردة.. وقلنا: إنها تسمية غير صحيحة.

أين لقي خالد علياً ؟!:

    ويستوقفنا هنا: ما ورد في رواية الديلمي، من أن خالداً لقي علياً «عليه السلام» ومن معه حين رجوعه من الطائف إلى جدة..

وهذا معناه: أن تطويق خالد قد حصل بعيداً عن مدينة الرسول «صلى الله عليه وآله» بعشرات الكيلومترات.. ولم تذكر لنا الرواية سبب سفر علي «عليه السلام» ومن معه إلى تلك المناطق النائية..

    وقد حددت الرواية الموضع وسمته بـ «روية». وربما يكون الصحيح هو: «رويثة».

قال ابن السكيت: منهل بين مكة والمدينة، وهي على ليلة من المدينة. كذا قال المجد. وصوابه: ليلتين، لأنها بعد وادي الروحاء ببضعة عشرة ميلاً، ولذا قال الأسدي: إنها على ستين ميلاً من المدينة([16]).

    ولكن يبقى الإشكال قائماً، فإن رويثة لا تقع بين الطائف وجدة.

عمر عظيم البطن، كبير الكرش:

    وقد وصف قيس بن سعد عمر بن الخطاب: بأنه عظيم البطن، كبير الكرش. وهي الصفات التي حاولوا أن يلصقوها بعلي أمير المؤمنين «عليه السلام».. وقد بينا بطلان ذلك فيما تقدم..

علي يغيب أياماً:

    وصرحت رواية الديلمي: بأن علياً «عليه السلام» لم يكن في المدينة، بل بقي غائباً عنها أياماً، وكان خالد يتجول في أزقتها والقطب في عنقه في تلك الأيام إلى أن عاد علي «عليه السلام».

وهذا لا شك مما يزيد في فضح حقيقة ما يدعيه خالد لنفسه من الشجاعة. ويزيده ذلاً إلى ذل، وخزياً إلى خزي..

نِعمَ القلادة قلادتك:

    ولا نريد أن نتوقف كثيراً أمام قول أمير المؤمنين «عليه السلام» لخالد، وهو بين يديه: «نعم القلادة قلادتك». لكي يظهر خالد على حقيقته، وحيث ثارت ثائرة خالد، وأظهر خبث طويته، وسوء نواياه حين أجاب بقوله:

«والله يا علي، لا نجوت مني إن ساعدني الأجل».

    فظهر حينئذٍ حِلم أمير المؤمنين «عليه السلام» عنه، وسماحته، وسجاحة خُلُقه، وسلامة نواياه. ولم يكلمه إلا بما هو أهله عند الله.

على مثلي يتفقه الجاهلون؟!:

    وقد أظهرت رواية الديلمي أيضاً: كيف أن أبا بكر قد حاول أن يوحي للناس: أن علياً «عليه السلام» هو الذي تعرض لخالد، واعتدى عليه، لمجرد أنه من أصحاب أبي بكر، مما يعني: أن أبا بكر وخالد كانا ضحية ملاحقة علي «عليه السلام» لهما.

    وبذلك يكون قد حرّف الوقائع عمداً، وصرف الناس عن الربط بين ما جرى بينه وبين خالد وعلي حين صلاة الصبح.. حيث قال أبو بكر وهو في الصلاة: «لا تفعل يا خالد ما أمرتك، فإن فعلت قتلتك» أو نحو ذلك.

    فبادر علي «عليه السلام» إلى حكاية ما جرى، لكي يبطل بذلك ما يسعى إليه أبو بكر.

ولكن أبا بكر واصل حديثه بطريقة تظهر تجاهله لما أجاب به علي «عليه السلام»، حيث أضاف إليه: اتهام علي «عليه السلام» بتقاعده عن نصرة الإسلام، وقلة رغبته في الجهاد.

    فصعّد علي «عليه السلام» من صراحته وقال له: على مثلي يتفقه الجاهلون.. ثم بيّن غدرهم به، وذكَّرهم بما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمرهم به، وأنه فرض طاعته عليهم.. وذكّرهم أيضاً بما أوصاه به من قتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين. وأنه لولا خوف ردتهم عن التوحيد لجرّد سيفه في من غدر به، وخان الله ورسوله فيه.

فتراجع أبو بكر.. وطلب منه أن يفك الحديد عن عنق خالد، فقد شفى غليل صدره منه.

وما أشد وقع هذه الكلمة على أبي بكر، الذي يدعي لنفسه مقام خلافة النبي «صلى الله عليه وآله»، ويريد أن يفتي ويقضي بينهم، وهذا علي «عليه السلام» يصمه بوصمة الجاهل الذي يريد أن يتفقه ويتعالم على العالم..

المسألة ليست شخصية:

وحين طلب أبو بكر من علي «عليه السلام» أن يفك خالداً، قال له: «فقد آلمه بثقله، وأثر في حلقه بحمله، وقد شفيت غليل صدرك منه».

    وهذا يعني: أنه اعتبر تصرف علي «عليه السلام» تجاه خالد قد جاء لدوافع شخصية، وأنه يريد أن يشفي غليل صدره منه..

    فأوضح علي «عليه السلام»: أن القضية ليست كذلك. وأن ما جرى لخالد هو أقل بكثير مما يستحقه عند الله، ووفق شرائعه.. وأنه لا يزال يرتكب الجرائم والعظائم، ويقتل الأبرياء حتى في مسيره الذي كان راجعاً منه، حيث التقى بأمير المؤمنين «عليه السلام»، وجرى له معه ما جرى..

فكوه أنتم إن كان ما تدعونه صحيحاً:

    واللافت: أنه «عليه السلام» قد وضع معادلة هنا مفادها: أن من يفك خالداً يكون هو الإمام الحق.. حيث قال: «فكوه أنتم عنه؛ فأنتم أولى به، إن كان ما تدَّعونه صحيحاً..».

    ووجه هذه المعادلة ظاهر، فإن الإمام هو ذلك الذي أعطاه الله القدرة على التصرف في كل ما فيه تأييد للدين، وحفظ للإيمان.. تماماً كما أعطى الله عيسى «عليه السلام» القدرة على إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإخبار الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم([17])..

    وهو قد واجههم بالأمر الواقع، فالرجل بين أيديهم، والطوق في عنقه، فإن كانوا صادقين في دعوى أهليتهم لخلافة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلبيادروا إلى فك الطوق عنه..

    وإلا.. فليسلموا هذا الأمر لمن يفعل ذلك.. وليس هو إلا علي «عليه السلام» الذي طوقه به أولاً، وقد جاؤوا يلتمسون أن يفكه عنه ثانياً.

بئس الأدب أدبكم:

    وحين قـال «عليه السلام» للأقـرع الباهـلي، والأشـوس الثقفي: بئس ـ والله ـ الأدب أدبكم. خاطبهما بصيغة الجمع، ليشمل الكلام من وراءهما، ممن لم يراع هذا الأدب الرفيع، لكي يفهم الجميع أن هؤلاء الناس لا يعرفون أبسط قواعد الآداب، أوهم على الأقل لا يتقيدون بها، طلباً للرفعة ولو بالأساليب غير المقبولة أخلاقياً.

    فهل يمكن أن يكون هؤلاء في موقع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}([18]).

    وهل من يفقد الشيء يمكن أن يعطيه لغيره؟!

نحن نأمرك:

أما قول أبي بكر لعلي «عليه السلام»: «نحن نأمرك أن تفتح لنا الآن عن عنق خالد هذه الحديدة»، فلعله أراد أن يتعامل مع علي «عليه السلام» من موضع التسلط والهيمنة.. التي تقضي بإصدار الأوامر منه، والتنفيذ من الرعية.. ولم يرد أن ينتهج أسلوب الرجاء والإلتماس، لأنه وجد أن ذلك يستبطن ضعفاً وتراجعاً.

وكأنه يريد من جهة ثانية أن يعطي انطباعاً بأن علياً «عليه السلام» قد اعتدى على خالد، وأن على المعتدي أن يتراجع عن عدوانه. وأن أبا بكر سيكون هو المحسن له إن لم يلاحقه لمجازاته بهذا العدوان.

ولكن علياً «عليه السلام» أسقط هذا التدبير، واستباح هذا التفكير حين أظهر الإستهانة بخالد، وتعامل معه بطريقة اضطرته للإستغاثة والإعتراف، واضطرت أبا بكر وسواه للإستسلام للأمر الواقع.. وهكذا كان.


([1]) الآية 20 من سورة القصص.

([2]) راجع النصوص المتقدمة في: علل الشرايع (ط دار المحجة للثقافة) ص226 و 227 و (ط المكتبة الحيدرية سنة 1385هـ) ج1 ص191 و 192 والخرايـج والجرايح ج2 ص757 و 758 والإستغاثة ص19 ـ 21 وتشييد المطاعن، وإحقاق الحق، وكتاب سليم بن قيس ج2 ص871 ـ 873 و (بتحقيق الأنصاري) ج2 ص227 ـ 228 و 394 و 395 وتفسير القمي ج2 ص155 ـ 159ونور الثقلين ج4 ص186 ـ 189 ومجمع النورين للمرندي ص118 ـ 119وإثبات الهداة (ط سنة 1366هـ) ج4 ص554 و 555 والإحتجاج ج1 ص231 ـ 234 و 251 و 252 و 240 و 241 و 242 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج1 ص117 ـ 118 وبحار الأنوار ج28 ص305 ـ 306 وج29 ص124 ـ 127 و 131 ـ 133 و 136 ـ 138 و 140 و 145 و 159 ـ 174. ومدينة المعاجز ج3 ص149 و 151 ـ 153. وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص118 ـ 120 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج8 ص428 ـ 433 وغاية المرام للسيد هاشم البحراني ج5 ص348 ـ 351 وإرشاد القلوب للديلمي ص378 ـ 384 والإيضاح لابن شاذان ص155 ـ 159 و 158 عن سفيان بن عيينه، والحسن بن صالح بن حي، وأبي بكر بن عياش، وشريك بن عبد الله، وجماعة من فقهائهم، ولكنه لم يذكر وضع الطوق في عنق خالد. والمسترشد للطبري ص451 ـ 454 والمحلى لابن جمهور الأحسائي.

([3]) الخرائج والجرائح ج2 ص757 ومدينة المعاجز ج3 ص150 وبحار الأنوار ج29 ص160 و (ط حجرية) ج8 ص99 وإثبات الهداة ج2 ص426 ح209.

([4]) الآية 92 من سورة النحل.

([5]) الآية 125 من سورة البقرة.

([6]) إرشاد القلوب للديلمي ص378 ـ 384 والأنوار العلوية ص148 ـ 153 وبحار الأنوار ج29 ص161 ـ 174 وقد رواه المجلسي عن بعض الكتب القديمة. وراجع: الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي ص166 ـ 169.

([7]) مروج الذهب ج3 ص11 ـ 13 و (تحقيق شارل پلا) ج3 ص200 والإحتجاج للطـبرسي ج1 ص272 وبحـار الأنـوار ج33 ص577 وقـاموس الرجـال = = للتستري ج10 ص119 وصفين للمنقري ص120 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج6 ص44 وغاية المرام ج5 ص309 وج6 ص123.

([8]) بحار الأنوار ج29 ص138.

([9]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص301 و 302 وغاية المرام للسيد هاشم البحراني ج5 ص346 و 347.

([10]) الإستغاثة لأبي القاسم الكوفي ج1 ص15.

([11]) الإيضاح لابن شاذان ص157 و 159.

([12]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص222 و 223.

([13]) راجع: البحار ج16 ص250.

([14]) البحار ج20 ص203.

([15]) الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص312 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج7 ص230 وحياة الصحابة ج2 ص82 وعن نهاية الإرب ج18 ص396 ـ 397.

([16]) راجع: وفاء الوفاء ج4 ص1224 و 1225.

([17]) قال تعالى في سورة آل عمران الآية 49 حكاية عن قول عيسى لقومه: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.

([18]) الآية 4 من سورة القلم.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان