صفحة : 69-86   

الفصل السابع: ما جرى في بانقيا..

خالد في تجربة جديدة مع علي :

وبعد قتل مالك بن نويرة جرت محاولة من السلطة للإستيلاء على بانقيا، وهي ضيعة من ضياع أهل البيت «عليهم السلام».. فجرى بسبب ذلك ما بينته الرواية التالية:

بحذف الإسناد، مرفوعاً إلى جابر الجعفي قال: قلَّد أبو بكر الصدقات بقرى المدينة وضياع فدك رجلاً من ثقيف يقال له: الأشجع بن مزاحم الثقفي. وكان شجاعاً. وكان له أخ قتله علي بن أبي طالب في وقعة هوازن وثقيف.

فلما خرج الرجل عن المدينة جعل أول قصده ضيعة من ضياع أهل البيت «عليهم السلام» تعرف بـ: «بانقيا»، فجاء بغتة، واحتوى عليها وعلى صدقات كانت لعلي «عليه السلام»، فتوكل بها، وتغطرس على أهلها. وكان الرجل زنديقاً منافقاً.

فابتدر أهل القرية إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» برسول يعلمونه ما فرط من الرجل.

فدعا علي «عليه السلام» بدابة له تسمى السابح. وكان أهداها إليه ابن عم لسيف بن ذي يزن، وتعمم بعمامة سوداء، وتقلد بسيفين، وأجلب (أجنب ظ) دابته المرتجز، وأصحب معه الحسين «عليه السلام»، وعمار بن ياسر، والفضل بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن العباس، حتى وافى القرية، فأنزله عظيم القرية في مسجد يعرف بمسجد القضاء.

ثم وجه أمير المؤمنين بالحسين «عليه السلام» إلى ذلك الرجل يسأله المصير إليه.

فصار إليه الحسين «عليه السلام»، فقال: أجب أمير المؤمنين.

فقال: ومن أمير المؤمنين؟

فقال: علي بن أبي طالب.

فقال: أمير المؤمنين أبو بكر، خلفته بالمدينة.

فقال له الحسين «عليه السلام»: أجب علي بن أبي طالب.

فقال: أنا سلطان، وهو من العوام، والحاجة له، فليصر هو إلي.

فقال له الحسين «عليه السلام»: ويلك! أيكون مثل والدي من العوام، ومثلك يكون السلطان؟!

فقال: أجل، لأن والدك لم يدخل في بيعة أبي بكر إلا كرهاً، وبايعناه طائعين، وكنا له غير كارهين.

فصار الحسين «عليه السلام» إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، فأعلمه ما كان من قول الرجل. فالتفت إلى عمار، فقال: يا أبا اليقظان سر إليه، وألطف له في القول، واسأله أن يصير إلينا، فإنه لا يجب لوصي من الأوصياء أن يصير إلى أهل الضلالة، فنحن مثل بيت الله يؤتى ولا يأتي.

فصار إليه عمار، وقال: مرحباً يا أخا ثقيف، ما الذي أقدمك على مثل أمير المؤمنين في حيازته، وحملك على الدخول في مساءته، فصر إليه، وأفصح عن حجتك.

فانتهره عمار (الصحيح: فانتهر عماراً)، وأفحش له في الكلام.

وكان عمار شديد الغضب، فوضع حمائل سيفه في عنقه، فمد يده إلى السيف.

فقيل لأمير المؤمنين «عليه السلام»: إلحق عماراً، فالساعة يقطعونه.

فوجه أمير المؤمنين «عليه السلام» بالجمع، فقال لهم: لا تهابوه، وصيروا به إليَّ.

وكان مع الرجل ثلاثون فارساً من خيار قومه، فقالوا له: ويلك! هذا علي بن أبي طالب، قتلك والله وقتل أصحابك عنده دون النقطة.

فسكت القوم خوفاً من أمير المؤمنين «عليه السلام»، فسحب الأشجع على وجهه سحباً إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: دعوه ولا تعجلوا، فإن في العجلة لا تقوم حجج الله وبراهينه.

ثم قال أمير المؤمنين «عليه السلام» للأشجع: ويلك! بما استحللت أخذ أموال أهل البيت؟! وما حجتك في ذلك؟!

فقال له: وأنت فيمَ استحللت قتل هذا الخلق في كل حق وباطل؟! وإن مرضاة صاحبي لهي أحب إلي من اتباع موافقتك.

فقال علي «عليه السلام»: أيهاً عليك! ما أعرف من نفسي إليك ذنباً إلا قتل أخيك يوم هوازن، وليس بمثل هذا الفعل تطلب الثأر، فقبحك الله وترحك!

فقال له الأشجع: بل قبحك الله وبتر عمرك ـ أو قال: ترحك ـ فإن حسدك للخلفاء لا يزال بك حتى يوردك موارد الهلكة والمعاطب، وبغيك عليهم يقصر عن مرادك.

فغضب الفضل بن العباس من قوله، ثم تمطى عليه بسيفه فحل عنقه ورماه عن جسده بساعده اليمنى، فاجتمع أصحابه على الفضل، فسل أمير المؤمنين «عليه السلام» سيفه ذا الفقار، فلما نظر القوم إلى بريق عيني الإمام، ولمعان ذي الفقار في كفه رموا سلاحهم، وقالوا: الطاعة.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: أف لكم، انصرفوا برأس صاحبكم هذا الأصغر إلى صاحبكم الأكبر، فما بمثل قتلكم يطلب الثأر، ولا تنقضي الأوتار.

فانصرفوا ومعهم رأس صاحبهم، حتى ألقوه بين يدي أبي بكر.

فجمع المهاجرين والأنصار، وقال: يا معاشر الناس، إن أخاكم الثقفي أطاع الله ورسوله وأولي الأمر منكم، فقلدته صدقات المدينة وما يليها، فاعترضه ابن أبي طالب، فقتله أشنع قتلة، ومثل به أعظم مثلة.

وقد خرج في نفر من أصحابه إلى قرى الحجاز، فليخرج إليه من شجعانكم من يرده عن سنته، واستعدوا له من رباط الخيل والسلاح وما يتهيأ لكم، وهو من تعرفونه، إنه الداء الذي لا دواء له، والفارس الذي لا نظير له.

قال: فسكت القوم ملياً كأن الطير على رؤوسهم.

فقال: أخرسٌ أنتم، أم ذوو ألسن؟!

فالتفت إليه رجل من الأعراب يقال له: الحجاج بن الصخر، فقال له: إن صرت إليه سرنا معك، أما لو سار جيشك هذا لينحرنهم عن آخرهم كنحر البدن.

ثم قام آخر، فقال: أتعلم إلى من توجهنا؟! إنك توجهنا إلى الجزار الأعظم الذي يختطف الأرواح بسيفه خطفاً. والله، إن لقاء ملك الموت أسهل علينا من لقاء علي بن أبي طالب.

فقال ابن أبي قحافة: لا جزيتم من قوم عن إمامكم خيراً، إذا ذكر لكم علي بن أبي طالب دارت أعينكم في وجوهكم، وأخذتكم سكرة الموت، أهكذا يقال لمثلي؟!

قال: فالتفت إليه عمر بن الخطاب، فقال: ليس له إلا خالد بن الوليد.

فالتفت إليه أبو بكر، فقال: يا أبا سليمان، أنت اليوم سيف من سيوف الله، وركن من أركانه، وحتف الله على أعدائه، وقد شق علي بن أبي طالب عصا هذه الأمة، وخرج في نفر من أصحابه إلى ضياع الحجاز، وقد قتل من شيعتنا ليثاً صؤولاً، وكهفاً منيعاً، فصر إليه في كثيف من قومك، وسله أن يدخل الحضرة، فقد عفونا عنه، فإن نابذك الحرب فجئنا به أسيراً.

فخرج خالد، ومعه خمسمائة فارس من أبطال قومه، قد أثقلوا بالسلاح، حتى قدموا على أمير المؤمنين «عليه السلام».

قال: فنظر الفضل بن العباس إلى غبرة الخيل من بُعد وقال:يا أمير المؤمنين! قد وجه إليك ابن أبي قحافة بقسطل يدقون الأرض بحوافر الخيل دقاً.

فقال له: هون عليك يا بن العباس! والله، لو كان صناديد قريش، وقبائل حنين، وفرسان هوازن لما استوحشت إلا من ضلالتهم.

ثم قام أمير المؤمنين «عليه السلام»، فشد محزم دابته. واستلقى تهاوناً حتى وافوه، وانتبه بصهيل الخيل، فقال: يا أبا سليمان! ما الذي أتى بك إليَّ؟!

فقال: أتى بي من أنت أعلم به مني، يا أبا الحسن. أنت فهم غير مفهوم (الصحيح: مفهم)، وعالم غير معلم، فما هذه اللوثة التي بدرت منك، والنبوة التي قد ظهرت فيك؟! إن كرهت هذا الرجل فليس يكرهك، فلا تكن ولايته ثقلاً على كاهلك، ولا شجىً في حلقك، فليس بعد الهجرة بينك وبينه خلاف، فدع الناس وما تولوه، ضلَّ من ضل، وهدي من هدي، ولا تفرق بين كلمة مجتمعة، ولا تضرم ناراً بعد خمودها، فإنك إن فعلت ذلك وجدت غبه غير محمود.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: أتهددني بنفسك يا خالد، وبابن أبي قحافة؟! فما بمثلك ومثله تهديد، فدع عنك ترهاتك التي أعرفها منك، واقصد نحو ما وجهك له.

قال: فإنه قد تقدم إليَّ: أنك إن رجعت عن سنتك كنت مخصوصاً بالكرامة والحبور، وإن أقمت على ما أنت عليه من مخالفة الحق حملتك إليه أسيراً.

فقال له «عليه السلام»: يا بن اللخناء، أتعرف الحق من الباطل، ومثلك يحمل مثلي أسيراً، يا بن الرادة عن الإسلام.

ويلك! أتحسبني مالك بن نويرة الذي قتلته، ونكحت امرأته! يا خالد، جئتني برقة عقلك، واكفهرار وجهك، وشموخ أنفك. والله، لئن تمطيت بسيفي هذا عليك وعلى أوغادك لأشبعن من لحومكم عرج الضباع، وطلس الذئاب.

ويلك، لست ممن تقتلني أنت ولا صاحبك، وإني لأعرف قاتلي، وأطلب منيتي صباحاً ومساءً، وما مثلك يحمل مثلي أسيراً، ولو أردت ذلك لقتلتك في فناء هذا المسجد.

فغضب خالد وقال: توعد وعيد الأسد، وتروغ روغان الثعالب، وقال: ما أعداك في المقال، وما مثلك إلا من أتبع قوله بفعله.

عند ذلك قال أمير المؤمنين «عليه السلام» لخالد: إذا كان هذا قولك فشأنك، وسل عليه سيفه ذا الفقار. فلما نظر خالد إلى بريق عيني الإمام، ولمعان ذي الفقار في يده، نظر إلى الموت عياناً فاستخفى، وقال: يا أبا الحسن! لم نرد هذا.

فضربه الإمام «عليه السلام» بقفا ذي الفقار على ظهره، فنكسه عن دابته، ولم يكن أمير المؤمنين «عليه السلام» ليرد يده إذا رفعها، لئلا ينسب إليه الجبن.

ولحق أصحاب خالد من فعل أمير المؤمنين «عليه السلام» هول عجيب، ورعب عنيف.

فقال لهم: ما لكم لا تكافحون عن سيدكم؟! والله، لو كان أمركم إليَّ لتركت رؤوسكم، وهو أخف على يدي من جنى الهبيد على أيدي العبيد، وعلى هذا السبيل تقضون (تقضمون: ظ.) مال الفيء؟! أف لكم!

فقام إليه رجل من القوم يقال له: المثنى بن الصباح، وكان عاقلاً، فقال: والله، ما جئناك لعداوة بيننا وبينك، ولا عن غير معرفة بك، وإنا لنعرفك كبيراً وصغيراً، وأنت أسد الله في أرضه، وسيف نقمته على أعدائه، وما مثلنا من جهل مثلك، ونحن أتباع مأمورون، وأطواع غير مخالفين، فتباً لمن وجهنا إليك، أما كان له معرفة بيوم بدر، وأحد، وحنين؟!

فاستحى أمير المؤمنين «عليه السلام» من قول الرجل، وترك الجميع.

وجعل أمير المؤمنين «عليه السلام» يمازح خالداً، الذي كان ساكتاً لا ينطق بكلمة من ألم الضربة، قائلاً له: ويلك يا خالد! ما أطوعك للخائنين الناكثين! أما كان لك بيوم الغدير مقنع، إذ بدر إليك صاحبك في المسجد، حتى كان منك ما كان؟! فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لو كان مما رمته أنت وصاحباك ـ ابن أبي قحافة، وابن صهاك ـ شيء لكانا هما أول مقتولين بسيفي هذا، وأنت معهما، ويفعل الله ما يشاء.

ولا يزال يحملك على إفساد حالتك عندي، فقد تركت الحق على معرفة، وجئتني تجوب مفاوز البسابس، لتحملني إلى ابن أبي قحافة أسيراً، بعد معرفتك أني قاتل عمرو بن عبد ود ومرحب، وقالع باب خيبر، وأني لمستحيي منكم، ومن قلة عقولكم.

أوتزعم أنه قد خفي علي ما تقدم به إليك صاحبك، حين استخرجك إليَّ، وأنت تذكره ما كان مني إلى عمرو بن معدي كرب، وإلى أبي سلمة المخزومي.

فقال لك ابن أبي قحافة: لا تزال تذكر له ذلك، إنما كان ذلك من دعاء النبي «صلى الله عليه وآله»، وقد ذهب ذلك كله، وهو الآن أقل من ذلك، أليس كذلك يا خالد؟!

فلولا ما تقدم به إلي رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان لهما مني ما هما أعلم به منك.

يا خالد! أين كان ابن أبي قحافة، وأنت تخوض معي المنايا في لجج الموت خوضاً، وقومك بادرون في الإنصراف كالنعجة القوداء، وكالديك النافش، فاتق الله يا خالد، ولا تكن للخائنين رفيقاً، ولا للظالمين ظهيراً.

فقال: يا أبا الحسن! إني أعرف ما تقول، وما عدلت العرب والجماهير عنك إلا طلب دخول (ذحول) آبائهم قديماً، وتنكل رؤوسهم قريباً، فراغت عنك روغان الثعلب فيما بين الفجاج والدكادك، وصعوبة إخراج الملك من يدك، وهرباً من سيفك.

وما دعاهم إلى بيعة أبي بكر إلا استلانة جانبه، ولين عريكته، وأخذهم الأموال فوق استحقاقهم، ولقل اليوم من يميل إلى الحق، وأنت قد بعت الآخرة بالدنيا. ولو اجتمعت أخلاقك إلى أخلاقهم لما خالفك خالد.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: والله، ما أتى خالد إلا من قبل هذا الخؤون، الظلوم، المفتن، ابن صهاك، فإنه لا يزال يؤلِّب علىَّ القبائل، ويفزعهم مني، ويواسيهم من عطاياهم، ويذكرهم ما أنساهم الدهر. وسيعلم غب أمره إذا فاضت نفسه.

فقال خالد: يا أبا الحسن! بحق أخيك لما قطعت هذا من نفسك، وصرت إلى منزلك مكرماً، إذا كان القوم رضوا بالكفاف منك.

فقال له أمير المؤمنين «عليه السلام»: لا جزاهم الله عن أنفسهم ولا عن المسلمين خيراً.

قال: ثم دعا «عليه السلام» بدابته، فاتبعه أصحابه، وخالد يحدثه ويضاحكه، حتى دخل المدينة، فبادر خالد إلى أبي بكر، فحدثه بما كان منه.

فصار أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى قبر النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم صار إلى الروضة، فصلى أربع ركعات، ودعا، وقام يريد الإنصراف إلى منزله.

وكان أبو بكر جالساً في المسجد والعباس جالس إلى جنبه، فأقبل أبو بكر على العباس، فقال: يا أبا الفضل! ادع لي ابن أخيك علياً، لأعاتبه على ما كان منه إلى الأشجع.

فقال أبو الفضل: أوليس قد تقدم إليك صاحبك خالد بترك معاتبته؟! وإني أخاف عليك منه إذا عاتبته أن لا تنتصر منه.

فقال أبو بكر: إني أراك يا أبا الفضل تخوفني منه، دعني وإياه.

فأما ما كلمني خالد بترك معاتبته، فقد رأيته يكلمني بكلام خلاف الذي خرج به إليه، ولا أشك إلا أنه قد كان منه إليه شيء أفزعه.

فقال العباس: أنت وذاك يا بن أبي قحافة.

فدعاه العباس، فجاء أمير المؤمنين «عليه السلام» فجلس إلى جنب العباس.

فقال له العباس: إن أبا بكر اتبطأك (الصحيح: استبطأك)، وهو يريد أن يسألك بما جرى.

فقال: يا عم، لو دعاني هو لما أتيته.

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن! ما أرضى لمثلك هذا الفعل.

قال: وأي فعل؟!

قال: قتلك مسلماً بغير حق، فما تمل من القتل، قد جعلته شعارك ودثارك.

فالتفت إليه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: أما عتابك علي في قتل مسلم، فمعاذ الله أن أقتل مسلماً بغير حق، لأن من وجب عليه القتل رفع عنه اسم الإسلام.

وأما قتلي الأشجع، فإن كان إسلامك كإسلامه فقد فزت فوزاً عظيماً!!

أقول: وما عذري إلا من الله، وما قتلته إلا عن بينة من ربي، وما أنت أعلم بالحلال والحرام مني، وما كان الرجل إلا زنديقاً منافقاً، وإن في منزله صنماً من رخام يتمسح به ثم يصير إليك، وما كان من عدل الله أن يؤاخذني بقتل عبدة الأوثان والزنادقة.

فأفسح أمير المؤمنين «عليه السلام» بالكلام، فحجز بينهما المغيرة بن شعبة، وعمار بن ياسر، وأقسموا على علي «عليه السلام» فسكت، وعلى أبي بكر فأمسك.

ثم أقام أبو بكر على الفضل بن العباس، فقال: لو قيدتك (اقدتكَ.ظ.) بالأشجع لما فعلت مثلها.

ثم قال: كيف أقيدك بمثله وأنت ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وغاسله؟!

فالتفت إليه العباس فقال: دعونا ونحن حكماء، أبلغ من شأنك، إنك تتعرض لولدي، وابن أخي، وأنت ابن أبي قحافة بن مرة! ونحن بنو عبد المطلب بن هاشم، أهل بيت النبوة، وأولوا الخلافة، تسميتم بأسمائنا، ووثبتم علينا في سلطاننا، وقطعتم أرحامنا، ومنعتم ميراثنا، ثم أنتم تزعمون أن لا إرث لنا، ولأنتم أحق وأولى بهذا الأمر منا!!! فبعداً وسحقاً لكم أنى تؤفكون.

ثم انصرف القوم، وأخذ العباس بيد علي «عليه السلام»، وجعل علي يقول: أقسمت عليك يا عم أن لا تتكلم، وإن تكلمت لا تتكلم إلا بما يسره، وليس لهم عندي إلا الصبر، كما أمرني نبي الله «صلى الله عليه وآله»، دعهم، ما كان لهم يا عم بيوم الغدير مقنع، دعهم يستضعفونا جهدهم، فإن الله مولانا وهو خير الحاكمين.

فقال له العباس: يا بن أخي، أليس قد كفيتك، وإن شئت حتى أعود إليه فأعرفه مكانه، وأنزع عنه سلطانه.

فأقسم عليه علي «صلوات الله عليه»، فسكت([1]).

 

ونقول:

إن لنا مع الرواية المتقدمة الوقفات التالية:

الذين اصطحبهم علي :

إن أول ما يثير الإنتباه هنا: الأشخاص الذين اصطحبهم «عليه السلام» معه إلى ساحة التحدي، فقد كان الذين معه من أهل بيته وهم من الفتيان الذين كانوا في مقتبل العمر. فالحسين «عليه السلام» ولد في السنة الرابعة من الهجرة، وابن عباس ولد سنة الهجرة أو قبلها بثلاث سنوات، وعبد الله بن جعفر توفي النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في العاشرة.

فلم يبق سوى الفضل بن عباس وعمار بن ياسر الذي كان قد أسنّ، وقد ملئ إيماناً إلى مشاشه، والذي تقتله الفئة الباغية.. كما أخبر به رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وهذا أمر لافت، ويثير أكثر من سؤال عن سبب اختيار هؤلاء دون ذوي الأسنان من أهل بيته وذوي الشأن من أصحابه.. فإنه «عليه السلام» لم يكن يريد أن يزج بهم في حرب مع أحد، أو يعرضهم لأي مكروه..

إلا إن كان أراد «عليه السلام» أن يشهدهم ما يجري، أو أن يذكّر مناوئيه بأنهم إنما يقاتلون أبا الريحانتين، ويعتدون على حقوق سيدي شباب أهل الجنة.. وصفوة بني هاشم، وخيرتهم.. وزهرتهم.

مع ملاحظة: أن الفضل وعبد الله هما ابنا العباس، عم النبي «صلى الله عليه وآله».. وعبد الله بن جعفر هو ابن الطيار في الجنة. والحسين هو ابن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بنص القرآن الكريم..

كما أن إخراج هؤلاء معه قد حرم مناوئيه من ترويج اتهام له: بأنه قد خرج وأخرج معه رجاله وأعوانه ليفسد في الأرض، وليظهر الخلاف والعصيان..

مرونة ورفق:

وقد اختار علي ولده الحسين «عليهما السلام» ليكون رسوله إلى ذلك الرجل الباغي ربما ليظهر له:

1 ـ مسالمته له، وأنه لا يريد به شراً، ولذلك أرسل إليه ولده، الذي لا يزيد عمره على سبع أو ثمان سنوات. ولم يرسل له عماراً ولا الفضل بن العباس مثلاً..

2 ـ ليذكره بأنه إنما يعتدى على عترة الرسول وأهله، وعلى سيد شباب أهل الجنة الذي طهره الله هو وأبوه وأخوه من كل رجسٍ.

3 ـ إن خشونة وجلافة ذلك الأعرابي قد قابلها الحسين «عليه السلام» بالرفق والسماحة، والخلق الرضي، فلقب أمير المؤمنين الذي منحه الله تعالى ورسوله «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام».. وينكره ذلك الجلف الجافي، ويتنكر له..

ولم يناقشه الإمام الحسين «عليه السلام» في ذلك، بل هو داراه وجاراه، وقال: «فأجب علي بن أبي طالب».

4 ـ لكن ذلك الأعرابي تمادى في غطرسته وعنجهيته، فرفض أن يذهب إلى علي «عليه السلام».. واعتبر نفسه سلطاناً ـ وهو إنما كان مجرد وكيل لغاصب ـ ينابذ صاحب ذلك الحق المغتصب، ويتعنت عليه.. معتبراً باب مدينة علم النبي الأكرم ووصيه «صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما» من العوام!!

5 ـ ثم يذكره الحسين «عليه السلام» بمكانة والده، وموقعه؛ فلا يزيده ذلك إلا عناداً وعتواً، واستكباراً.

المزيد من الرفق واللطف:

وحين أخبر الإمام الحسين «عليه السلام» أباه بما جرى.. بقي «عليه السلام» مصراً على معاملة ذلك الشخص الخشن باللطف وبالرفق. فأرسل إليه عماراً مرة أخرى، وأمره بأن يلطف له بالقول، فانتهر عماراً، وأفحش له في الكلام..

ثم جيء بذلك الرجل البذيء والفاحش إلى أمير المؤمنين.. فكان أشد أذى، وأعظم بغياً، وأكثر جرأة. فغضب الفضل بن العباس، وضرب عنقه.. كما جاء في الرواية.

الإخبار بالغيب:

ولم يفوِّت علي «عليه السلام» الفرصة فذكَّر خالداً ومن معه بيوم الغدير.. ثم أعلمه بما يؤكد واقعية هذا النص النبوي والإلهي وأثره في المجال العلمي، حين كشف له عن أمر لم يحضره علي «عليه السلام»، وهو ما جرى بينه وبين أبي بكر حين أرسله إليه مع هذا الجيش الذي معه..

وبذلك يكون «عليه السلام» قد أقام الحجة عليه وعلى من معه، من خلال النص النبوي في يوم الغدير.. ثم من خلال الإثبات العملي لحقيقة أنه «عليه السلام» هو الذي يملك علم الإمامة، الذي من جملته معرفته بهذا الغيب..

غضب العباس:

ثم إنني لم أر العباس يغضب إلى هذا الحد إلا في هذا المورد ـ وما أزعم أنني واقف على جميع ما جرى للعباس معهم ـ لكنني متعجب من هذه الثورة العارمة التي بدرت منه «رحمه الله» في هذا الموقف!! حتى احتاج علي «عليه السلام» إلى تهدئته..

ولعل هذا الأمر يرجع إلى ما رآه العباس «رحمه الله» من نصر إلهي حققه أمير المؤمنين «عليه السلام»، حين رد كيد خالد، ومعه خمس مئة من رجاله.. بالإضافة إلى ظهور حجته «عليه السلام»، وسطوع برهانه..

يضاف إلى ذلك: أن العباس رأى أن ممالأته لهم، وليونته معهم جعلت حياة ولده الفضل في خطر أكيد.

وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على: استهانتهم بالعباس، وبغيره من بني هاشم، وعلى أنهم قد استفادوا من مجاراته لهم، واستطاعوا أن يمرروا خططهم عن طريقه، وأن ما يظهرونه له من احترام إنما يدخل في هذا السياق..

قتلت مسلماً بغير حق:

وقول أبي بكر لعلي «عليه السلام»: قتلت مسلماً بغير حق، مع أن الذي قتله هو الفضل.. إنما يريد به: أن قتل الرجل كان بأمر علي «عليه السلام» وبسببه، ولولا رضاه بقتله، لم يقدم عليه الفضل ولا غيره..


([1]) إرشاد القلوب للديلمي ص342 ـ 347 وبحار الأنوار ج29 ص46 ـ 63 والأنوار العلوية ص313 ـ 320.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان