صفحة :305-331   

 

الفصل الثامن: أبو بكر في القضاء والأحكام

تعزير من يؤذي المسلمين بأحلامه!:

وجاء بعض الناس برجل إلى أبي بكر، فقال: إن هذا ذكر أنه احتلم بأمي. فدهش.

وكان علي حاضراً، فقال «عليه السلام»: اذهب به فأقمه في الشمس، وحدّ ظله، فإن الحلم مثل الظل.

ولكنا سنضربه حتى لا يعود يؤذي المسلمين([1]).

ونقول:

من الواضح: أن الرجل المدعى عليه قد يكون صادقاً فيما ادَّعاه من احتلامه بأم ذلك الرجل. غير أنه لا معنى لمعاقبته على هذا الإحتلام، لأنه ليس فعلاً اختيارياً له، و لا هو مما يصح أن يؤمر به، أو يزجر عنه..

على أن الحلم ـ كما قال أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ أيضاً: بمثابة الظل، فهو لا حقيقة له وراء التخيل والتوهم. فإن صح إجراء الحد على الظل صح إجراء الحد على المحتلم..

لكن نفس جهر هذا الرجل بحلمه للناس فيه أذى للمرأة ولذويها. وهو يثير لدى الناس تخيلات يرغب الناس بعدم إثارتها.. وليس له أن يؤذي المؤمنين، ولو بهذا المقدار، لذلك حكم «عليه السلام» بضرب ذلك الرجل حتى لا يعود يؤذي المسلمين كما قرره «صلوات الله وسلامه عليه».

علي والمسجد الذي يسقط:

أبو بصير عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: أراد قوم على عهد أبي بكر أن يبنوا مسجداً بساحل عدن، فكان كلما فرغوا من بنائه سقط، فعادوا إليه. فسألوه، فخطب، وسأل الناس وناشدهم: إن كان عند أحد منكم علم هذا فليقل.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: احتفروا في ميمنته وميسرته في القبلة، فإنه يظهر لكم قبران مكتوب عليهما:

أنا رضوى، وأختي حباء، متنا لا نشرك بالله العزيز الجبار. وهما مجردتان، فاغسلوهما، وكفنوهما، وصلوا عليهما، وادفنوهما، ثم ابنوا مسجدكم، فإنه يقوم بناؤه.

ففعلوا ذلك، فكان كما قال «عليه السلام»([2]).

علي هو ذو الشهادتين:

ابن جريح، عن الضحاك، عن ابن عباس: أن النبي «صلى الله عليه وآله» اشترى من أَعرابي ناقة بأربعمائة درهم، فلما قبض الأعرابي المال صاح: الدراهم، والناقة لي.

فأقبل أبو بكر، فقال «صلى الله عليه وآله»: اقض فيما بيني وبين الأعرابي.

فقال: القضية واضحة، تطلب البينة.

فأقبل عمر، فقال كالأول.

فأقبل علي «عليه السلام»، فقال: أتقبل الشاب المقبل؟!

قال: نعم.

فقال الأعرابي: الناقة ناقتي، والدراهم دراهمي، فإن كان بمحمد «صلى الله عليه وآله» شيئاً (كذا) فليقم البينة على ذلك.

فقال «عليه السلام»: خل عن الناقة وعن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثلاث مرات، فلم يفعل. فاندفع فضربه ضربة، فاجتمع أهل الحجاز أنه رمى برأسه. وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضواً.

فقال: يا رسول الله، نصدقك على الوحي، ولا نصدقك على أربعمائة درهم!

وفي خبر عن غيره: فالتفت النبي «صلى الله عليه وآله» إليهما، فقال: هذا حكم الله، لا ما حكمتما به.

ورواية أخرى في حكومة أَعرابي آخر في تسعين درهماً، عن الصادق «عليه السلام» قال:

قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا علي أقتلت الأعرابي؟!

قال: لأنه كذبك يا رسول الله، ومن كذبك فقد حل دمه([3]).

ونقول:

تعلمنا هذه الرواية ما يلي:

1 ـ إن أبا بكر قد اعتبر القضية واضحة.. وكذلك عمر.. ولكنهما غفلا عن أن القاضي يجب أن يكون قادراً على الإستفادة في قضائه من جميع القوانين والضوابط الإيمانية.. ولا يكفي أن يعرف شيئاً، وتغيب عنه أشياء، فلعل ما غاب عنه كان أشد أهمية في إحقاق الحق مما حفظه.

2 ـ وتعلمنا أيضاً: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يعتصم بمقامه ولا استفاد من سلطانه، بل أفسح المجال لتأخذ القضية مداها، وفق الشرع الذي جاء به. فطلب من أبي بكر، ثم من عمر، ثم من علي «عليه السلام»: أن يتولى القضاء بينه وبين ذلك الأعرابي.

3 ـ ويلاحظ أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله» سأل الأعرابي، إن كان يقبل بقضاء علي «عليه السلام» أو لا يقبل. وهذا هو الغاية في الإنصاف والتواضع.

4 ـ إن هذه القضية هي نفس القضية التي تنسب إلى خزيمة بن ثابت، حيث سمي بذي الشهادتين. حين شهد للنبي «صلى الله عليه وآله» في قضية الفرس، ولكنه لم يقتل الأعرابي.

من الجائز تكرر الحادثة، مرة مع علي «عليه السلام»، ومرة مع خزيمة، الذي ربما يكون قد استفاد من موقف علي «عليه السلام». ويشهد لتعدد الحادثة اختلاف عناصر الرواية، فراجع وقارن([4]).

5 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» لم يبادر إلى القضاء في المسألة ولم يذهب إلى من عين للقضاء من قبله، بل ساق الأمور باتجاه اختيار قاضي تحكيم مقبول من قبل الطرف الآخر.

6 ـ «صلى الله عليه وآله» لم يجعل ابا بكر وعمر قاضيي تحكيم بل أمرهما باعطاء الحكم الذي يريانه مباشرة، ثم رفضه، فلما جاء علي «عليه السلام» عرض «صلى الله عليه وآله» على الأعرابي قبول حكمه، فاعلن رضاه به.

وهذا يعطي: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعلم أن ابا بكر وعمر لا يعرفان الحكم الشرعي في هذه القضية.. وأراد أن يعرف الناس ذلك ولكنه كان واثقاً من صحة قضاء علي فطلب من الاعرابي ان يعلن إن كان يرضى بقضائه أو لا يرضى..

شرب الخمر ولا يعلم بتحريمها:

ويقولون: إن أبا بكر أراد أن يقيم الحد على رجل شرب الخمر، فقال الرجل: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها. فارتج عليه، ولم يعلم وجه القضاء فيه.

فأرسل إلى علي «عليه السلام» يسأله عن ذلك.

فقال: مر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار، وينشدانهم: هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم، أو أخبره بذلك عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! فإن شهد بذلك رجلان منهم، فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه، وخل سبيله.

ففعل ذلك أبو بكر، فلم يشهد عليه أحد بذلك.. وكان الرجل صادقاً في مقاله، فاستتابه، وخلى سبيله([5]).

ونقول:

1 ـ هذه المسألة إنما تحتاج إلى التثبّت من صدق هذا الرجل الذي ادَّعى: أنه لا يعلم بتحريم الخمر. وهو أمر قد يبدو للوهلة الأولى بعيداً، حيث إن تحريم الخمر قد تكرر، وشاع وذاع إلى حد أصبح يصعب معه تصديق من يدَّعي عدم العلم به، وإن كان تصديق ذلك ممكناً في حق من يعيش في البادية، ولا يخالط أهل العلم والدين. وفي حق من يكون من أهل الحاجة الذين لا يتهيأ لهم الحصول على ثمن الخمر إلا نادراً جداً مع كونه قليل الاختلاط مع الناس الذين يشربونها في السر، فلا يسمع ما يدور بينهم من همس حول هذا الموضوع. فاحتاج ذلك إلى سؤال العارفين بالآيات وبالأحكام، إن كان أحدهم قد قرأ على هذا الرجل آيات تحريم الخمر، أو أسمعه النهي عنها..

2 ـ قد يقال: إذا كان هذا الرجل لم يعلم بتحريم الخمر، فهو لم يرتكب حراماً، فما معنى الأمر باستتابته؟!.

وجواب ذلك: أن المراد بالإستتابة هو: أن يتعهد بعدم معاودة الشرب للخمر من حينه، وليس المراد الإستتابة عن المعصية.

مات زوجها ساعة مخاضها:

وسأل رجل أبا بكر عن رجل تزوج بامرأة بُكْرةً (أي في الصباح) فولدت عشية، فحاز ميراثه الابن والأم. فلم يعرف.

فقال علي «عليه السلام»: هذا رجل له جارية حبلى منه، فلما تمخضت مات الرجل([6]).

أي كانت الجارية حبلى من المولى، فأعتقها وتزوجها بكرة، فولدت عشية، فمات المولى([7]).

وفاكهة وأبَّاً:

وروا: أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}([8]).

فقال: أي سماء تظلني؟! أو أية أرض تقلني؟! أم أين أذهب؟! أم كيف أصنع إذا قلت في كتاب الله بما لم أعلم؟! أما الفاكهة فأعرفها، وأما الأب فالله أعلم([9]).

وفي روايات أهل البيت «عليهم السلام»: إن ذلك بلغ أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: إن الأب هو الكلأ والمرعى، وإن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} اعتداد من الله على خلقه فيما غذاهم به، وخلقه لهم ولأنعامهم مما يحيى به أنفسهم([10]).

ونقول:

1 ـ قد يتخيل القارئ لجواب أبي بكر: أن السائل قد طلب من أبي بكر أن يرتكب احدى الكبائر، وأنه أصبح محاصراً ومجبراً على فعلها، ولا مناص له منها.

فاندفع بما يشبه الإستغاثة، طالباً النجدة، وتخليصه من البلاء الذي هو فيه؛ حتى قال:

«أي سماء تظلني؟! أو أي أرض تقلني؟! أم أين أذهب؟! أم كيف أصنع؟! إذا قلت في كتاب الله بما لم أعلم».

2 ـ إن الناس حين يسألون أبا بكر، فإنما يلزمونه بما ألزم به نفسه، حين تصدى لمقام خلافة الرسول «صلى الله عليه وآله». وهو المقام الذي يرجع إليه الناس فيما ينوبهم، وما يحتاجون إليه لمعرفة أحكام دينهم.. فلماذا يتبرم إذن؟! ولماذا يستغيث؟!

3 ـ إن الناس إذا لاموا أبا بكر، فإنما يلومونه على عدم معرفته بأحكام الدين، ولكنهم لا يرضون منه أن يقول بما لا يعلم. ولو فعل ذلك، واطلعوا عليه، فإنه لن يسلم من الإعتراض عليه، والإدانة له..

4 ـ قد فسرت الآية التالية لتلك الآية معنى الأب، حيث قالت {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}([11]) فدلَّت على: أن الأب هو متاع الأنعام، كما تكون الفاكهة متاعاً لبني الإنسان..

من يعمل عمل قوم لوط، يحرق:

وروي عن عبد الله ميمون، عن أبي عبد الله «عليه السلام»، قال: كتب خالد إلى أبي بكر:

سلام عليك. أما بعد، فإني أتيت برجل قامت عليه البينة أنه يؤتي في دبره كما تؤتى المرأة.

فاستشار فيه أبو بكر، فقالوا: اقتلوه.

فاستشار فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فقال: أحرقه بالنار، فإن العرب لا ترى القتل شيئاً.

قال لعثمان: ما تقول؟!

قال: أقول ما قال علي، تحرقه بالنار.

فكتب إلى خالد: أن أحرقه بالنار([12]).

ونقول:

لدينا العديد من الملاحظات، نذكر منها:

1 ـ تكرر نظير هذه القضية في عهد عمر، فاستشار عمر فيها، فأشار علي عليه بما سيأتي. وذلك قد يعني: أن أبا بكر استشار في هذا الأمر، دون أن يعلم عمر، فلما عرف الجواب من علي «عليه السلام» اكتفى به، وكتب إلى خالد بتنفيذ الحكم.. ولعل بعض الأسباب دعته إلى أن يتستر على هذا الأمر ما أمكنه، حتى إنه لم يعلم عمر به.

أو لعله اعلمه به لكن عمر أراد أن لا يحرق فاعل ذلك الأمر الشنيع بالنار، فطلب له حكماً أخف..

2 ـ إن تعليل علي «عليه السلام» لأمره بحرقه يشير إلى أن المطلوب بالعقوبة هو: أن تكون رادعة عن الفعل لغير الفاعل أيضاً. حيث إن العرب إذا كانوا لا يرون القتل شيئاً، فإنه لا يعود رادعاً لهم عن ارتكاب هذا الفعل الشنيع.

بل قد يعتبر البعض: أن القتل إنما هو للرجال، الذين لهم دور وموقع، بل قد يعتبرون القتل مصدر فخر واعتزاز لهم.. وقد يسهِّل ذلك عليهم ارتكاب نفس هذه المعصية الشنيعة، ويحسِّنها بنظرهم. لأن عقوبتها لا توجب انتقاصاً، وحطاً من مقام فاعلها..

3 ـ إن مبرر هذه الإستشارة إن كان هو عدم معرفة الخليفة بعقوبة مرتكب هذه المعصية.. فهذا غير مقبول بالنسبة لمن يضع نفسه في موقع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويضطلع بمهماته..

وإن كان عارفاً بالحكم لكنه أراد تغييره، فالمصيبة تكون أعظم، والمرارة أشد..

وإن كان عارفاً بالحكم، لكنه كان يرى أن هذه العقوبة ليست إلهية، إنما هي من نتاج رأي النبي «صلى الله عليه وآله»، وأنه لا مانع من استبدالها برأي جديد. فهذا هو البلاء المبرم، والداء الذي لا دواء له..

4 ـ لم نعرف السبب في عدم اقتناع ابي بكر بكلام علي «عليه السلام»، حتى توجه إلى عثمان، وطلب منه أن يبدي رأيه. هل أراد أن لا يظهر الإنقياد لقول علي؟! أو أراد أن يستدرج عثمان ليدلي برأي آخر لكي يأخذ به، لكي يظهر المخالفة لعلي، المستبطنة لتخطئته، ليظهر للناس أنه إنما يقول برأيه كما يقول غيره من الصحابة؟!

مما يعني: أنه لم يتلق من رسول الله «صلى الله عليه وآله» علماً خاصاً به، وأنه لا تميز له على غيره في الشريعة والأحكام وسواها.

وذلك يسقط المقولة التي تؤكد على أحقيته «عليه السلام» بالإمامة، والإتباع له، والإقتداء به.

وقد بذلت محاولة من هذا القبيل مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فجاء القرآن بتكذيبها، ومقرراً أنه «صلى الله عليه وآله» لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

أم أنه أراد أن يتخلص من رأي علي «عليه السلام»، لأنه يريد التخفيف على فاعل ذلك الأمر الشنيع.

5 ـ أما السبب في عدم عودته إلى رأي من أشار عليه بقتل ذلك العاصي، فهو: أن علياً «عليه السلام» قد قطع عليه الطريق في ذلك. حين بيّن له أن مجرد القتل ليس رادعاً لذلك الشخص، ولا لغيره، بل قد يعطي نتيجة مغايرة للنتيجة المتوخاة منه.

أبو بكر يقول في الكلالة برأيه!!:

سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، ومن الشيطان، (أراه ما خلا الولد والوالد)([13]).

فبلغ ذلك أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: ما أغناه عن الرأي في هذا المكان، أما علم أن الكلالة هم الأخوة والأخوات من قبل الأب والأم، ومن قبل الأب على انفراده، ومن قبل الأم أيضاً على حدتها، قال الله عز قائلاً:

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}([14]).

وقال جلّت عظمته:

{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}([15]).

زاد في نص آخر قوله: «فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي أن أرد شيئاً قاله أبو بكر»([16]).

ونقول:

لا حاجة إلى الإفاضة في بيان امر الكلالة، غير أننا نقول باختصار:

1 ـ إن ما ذكره أمير المؤمنين «عليه السلام» في معنى الكلالة هو ظاهر الآية الشريفة، وذكروا في بيان سبب تشريع هذا الحكم أنه إذا مات الرجل، ولم يخلف ولداً ولا والداً، يكون قد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة، قال ابن الأعسم:

إذا الكـلالات الثـلاث اجتمعتْ                    كـلالـة لـلأب مـنـهـا مـنـعـــتْ
واقـتـصـرت كـلالـة الأم عــلى                   ســدس أو الـثـلـث على ما فصلا
وأعطي الباقي الذي قد انتسـب                  مـن الـكــلالات بـــأم وبــــأب
وهـذه الـقـسـمـة لا محـالــــة                              جـاريـة فــي مـطـلـق الـكـلالـة

ثم قال: وتطلق الكلالة على مطلق الكلالة عدا الوالد والولد، ومراده هنا: الأخوة والأخوات([17]).

2 ـ إن أبا بكر كان يرى أولاً: أن الكلالة هي من لا ولد له خاصة، وكان يشاركه في رأيه هذا عمر بن الخطاب، ثم رجعا إلى ما قرأت وسمعت([18]).

وقد اختلف أبو بكر وعمر فيها، وكان عمر يصر على قوله، وهو: أن الكلالة ما لا ولد له([19]).

3 ـ إنه لا ريب في حرمة الإفتاء بالرأي، حتى لو أصاب، فإن أحكام الله توقيفية تحتاج إلى التعلم، لأن دين الله لا يصاب بالعقول.

4 ـ إن آية الكلالة مذكورة في القرآن، فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}([20]).

وقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}([21]).

وقد صرحت الآية: بأن الله تعالى يبين لنا معنى الكلالة حتى لا نضل، فلماذا لم يعرفها أبو بكر ولا عمر؟! حتى احتاجا إلى القول برأيهما فيها؟!.

5 ـ إن أبا بكر حين سئل عن معنى الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}([22]) قال: أي سماء تظلني، أو أي أرض تقلني، وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى، أو إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم([23]).

ومن المعلوم: أن آية الكلالة من كتاب الله أيضاً، فلماذا يقول فيها ما لا يعلم؟! مع أنها متضمنة أيضاً لحكم شرعي، في حين أن آية {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} ليس فيها ذلك!!.

6 ـ وذكر السيد المرتضى «رحمه الله»: أن هذه القضية تدل على أن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام الشريعة، ومن حاله هذه لا يصلح للإمامة.

فأجاب القاضي عبد الجبار المعتزلي: بأنه لا يجب في الإمام أن يعلم جميع الأحكام، وأن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه. وقد قال أمير المؤمنين «عليه السلام» بالرأي في مسائل كثيرة.

فأجاب السيد المرتضى علم الهدى «رحمه الله»: بأن الإمام لا بد أن يكون عالماً.. بجميع الأحكام الشرعية، ولا يصح قياسه على سائر الحكام من الملوك والسلاطين.

كما أننا قد أقمنا الأدلة على فساد القول بالرأي.

وأمير المؤمنين «عليه السلام» لم يقل برأيه أبداً.

وحديث بيع أمهات الأولاد لا يصح([24]).

ولنا أن نضيف إلى ما تقدم:

ألف: تقدم أن عمر هو الذي كان يسعى لتكريس فكرة أن الإمام لا يجب أن يعلم جميع الأحكام. وأن القول بالرأي هو المطلوب.. وقد أخذ ذلك منه عبد الجبار وغيره..

ب: إن القول بالرأي فاسد، خصوصاً فيما نحن فيه مما يطلب فيه الوقوف على الحكم الشرعي، ويتضمن تقسيم المواريث، وإعطاء هذا، وحرمان ذاك.

ج: إن المورد الذي نتحدث عنه هو مما ورد فيه نص قرآني صريح، وقد اعترف عبد الجبار: بأن الرأي لا مورد له حيث يوجد نص.

د: إن عبد الجبار اعترف: بأن أبا بكر قد جهل الحكم في مورد الكلالة، وفي سائر الموارد التي أشار إليها الشريف المرتضى «رحمه الله».

هـ: إن عبد الجبار قد خلط بين أمور كشفها أمير المؤمنين «عليه السلام» بوسائل مشروعة، وطبق عليها الأحكام الشرعية المنصوص عليها، وقد ذكرنا في كتابنا هذا عشرات الموارد التي من هذا القبيل.. وبين الموارد المنصوصة، وقد نسبها «عليه السلام» إلى نفسه، ليميز بين رأيه المستند للنص وبين رأي غيره المستند للتظني والحدس.

ونحن نعلم: أن علياً «عليه السلام» باب مدينة العلم، ومن أهل الذكر، وهو أعلى وأظهر مصاديق الراسخين في العلم..


([1]) راجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص356 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص179 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص51 والكافي ج7 ص263 وعلل الشرائع ج2 ص544 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص72 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص211 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص458 وبحار الأنوار ج40 ص313 وج76 ص119 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص491 و 492 والمصنف للصنعاني ج6 ص411 وكنز العمال ج5 ص835 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص172.

([2]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص356 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص179 وبحار الأنوار ج40 ص221 وج41 ص297 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص383 والخرائج والجرائح ج1 ص190 وفرج المهموم لابن طاووس ص223.

([3]) راجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص357 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص179 و 180 عن ابن بابويه في الأمالي، ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص60 وراجع ص61 و (ط مركز النشر الإسلامي) ج3 ص106 ـ 108 والأمالي للصدوق ص91 و (ط مؤسسة البعثة) ص163 والإنتصار ص238 ومستدرك الوسائل ج17 ص382 ـ 383 وبحار الأنوار ج40 ص222 و 241 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص97 ـ 99.

([4]) راجع: قاموس الرجال ج4 ص15 و 16 عن الكافي، وغيره. وراجع: المجموع للنووي ج20 ص224 والمحلى لابن حزم ج8 ص347 ونيل الأوطار ج5 ص271 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص108 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص276 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص201 والإختصاص للمفيـد ص64 وجامـع أحـاديـث الشيعـة ج25 ص101 ومسند أحمـد ج5 = = ص215 وسنن النسائي ج7 ص301 والمستدرك للحاكم ج2 ص17 والسنن الكبرى للبيهقي ج7 ص66 وج10 ص146 وفتح الباري ج8 ص398 والمصنف للصنعاني ج8 ص366 و 367 وبغية الباحث للحارث بن أبي أسامة ص305 والسنن الكبرى للنسائي ج4 ص48 والمعجم الكبير للطبراني ج22 ص379     ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج7 ص372 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص344 والدرجات الرفيعة ص310 والطبقات الكبرى لابن سعد ج4 ص378 وتاريخ مدينة دمشق ج16 ص367 وإمتاع الأسماع ج13 ص165 والسيرة الحلبية ج3 ص383.

والمرتجز هو: الفرس الذي كان مدار هذه القضية، وكان من أفراس رسول الله «صلى الله عليه وآله».

([5]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص356 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص178 والإرشاد للمفيد ج1 ص199 والكافي ج7 ص216 و 249 وتهذيب الأحكام ج10 ص94 وبحار الأنوار ج40 ص298 و 299 وج76 ص159 و 164 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص33 و 232 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص324 و 475 ومستدرك الوسائل ج18 ص19 و 114 = = وخصائص الأئمة ص81 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص297 و 298 و 515 و 516 وفقه القرآن للراوندي ج2 ص379 ونور الثقلين ج2 ص304 ونهج الإيمان لابن جبر ص368 وكشف اليقين للحلي ص68 وغاية المرام ج5 ص271 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص48 و 49 و 50.

([6]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص356 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص179 وبحار الأنوار ج40 ص221 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص176.

([7]) بحار الأنوار ج4 ص221.

([8]) الآية 31 من سورة عبس.

([9]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص357 و 358 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص180 والإرشاد للمفيد ج1 ص200 والفصـول المختـارة ص206 والمستجـاد من = = الإرشاد (المجموعة) ص117 وبحار الأنوار ج40 ص149 و 247 والصافي ج5 ص286 وج7 ص402 ونور الثقلين ج5 ص511 والميزان ج20 ص212 ونهج الإيمان ص369 وكشف اليقين ص69 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص175.

([10]) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج2 ص357 و 358 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص180 عن فتيا الجاحظ، وتفسير الثعلبي، والإرشاد للمفيد ج1 ص200 وراجع: الدر المنثور ج6 ص317 والبرهان (تفسير) ج4 ص429 ونور الثقلين ج5 ص511 والميزان ج20 ص212 وبحار الأنوار ج40 ص223 والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص116 والأصفى ج2 ص1408 والصافي ج7 ص402 ونهج الإيمان ص369 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص175.

([11]) الآية33 من سورة النازعات.

([12]) المحاسن ص112 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص160 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص421 ومستدرك الوسائل ج18 ص79 وبحار الأنوار ج76 ص69 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص434 ونصب الراية ج4  ص142 وكشف اللثام (ط.ج) ج10 ص495 ورياض المسائل ج13 ص502 وجواهر الكلام ج41 ص381.

([13]) هذه الفقرة لم تذكر في البحار، والإرشاد.

([14]) الآية 176 من سورة النساء.

([15]) الآية 12 من سورة النساء.

([16]) الإرشاد ج1 ص200 و 201 والفصول المختارة ص151 وبحار الأنوار ج40 ص247 وج101 ص344 ونهج الإيمان ص369 وكشف اليقين ص69.

وقول أبي بكر: إنه يقول في الكلالة برأيه، ذكره في: سنن الدارمي ج2 ص265 وشرح نهج البلاغـة للمعتـزلي ج17 ص201 و 202 والسنن الكـبرى للبيهقي ج6 = = ص224 وجامع البيان ج6 ص30 و (ط دار الفكر) ج4 ص376 وكنز العمال ج11 ص79 وتفسير الخازن ج1 ص333 وأعلام الموقعين ج1 ص82 والمصنف للصنعاني ج10 ص304 والمصنف لابن أبي شيبة ج11 ص415 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص470 والجامع لأحكام القرآن ج5 ص77. وراجع: مناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص310 وعون المعبود ج9 ص371 وتأويل مختلف الحديث ص26 ومعرفة علوم الحديث ص62 ومعرفة السنن والآثار ج5 ص49 وتخريج الأحاديث والآثار ج1 ص291 ونصب الراية ج5 ص40 والفتح السماوي ج2 ص465 وأضواء البيان ج4 ص194 وج7 ص342 والأحكام لابن حزم ج6 ص823 وأصول السرخسي ج2 ص133 والمستصفى للغزالي ص287 و 289 و 361 والمحصول للرازي ج4 ص334 والأحكام للآمدي ج4 ص41 و 187.

([17]) دائرة المعارف (ط دار الأعلمي) ج5 ص92.

([18]) الغدير ج7 ص104 و 105 والجامع لأحكام القرآن ج5 ص77 وفتح القدير ج1 ص434 والمحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي ج2 ص18 وتفسير البحر المحيط ج3 ص196.

([19]) راجع: الغدير ج7 ص105 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص595 و (ط دار المعرفة) ج1 ص471 ومستدرك الحاكم ج2 ص304 وصححه، وتلخيصه للذهبي (بهامشه في نفس الصفحة) والسنن الكبرى ج6 ص225. والمصنف للصنعاني ج10 ص303 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص402 وكنز العمال ج11 ص79 وجامع البيان ج4 ص379.

([20]) الآية 12 من سورة النساء.

([21]) الآية 176 من سورة النساء.

([22]) الآية 31 من سورة عبس.

([23]) الغدير ج7 ص103 و 104 وفتح الباري ج13 ص229 وعن تفسير ابن جزي ج4 ص180 ومقدمة في أصول التفسير لابن تيميـة ص30 وأعـلام الموقعين = = ج1 ص54 وتفسير الخازن ج4 ص374 وتفسير أبي السعود ج9 ص12 والدر المنثور ج6 ص317 وعن أبي عبيد، وعبد بن حميد..

وراجع: المصنف ج7 ص180 وكنز العمال ج2 ص545 وتخريج الأحاديث والآثار ج4 ص157 والمحلى لابن حزم ج1 ص61 والإرشاد للمفيد ج1 ص200 وعين العبرة ص9 والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص116 وبحار الأنوار ج30 ص693 وج40 ص247 ومجمع الزوائد ج9 ص240 والصافي ج7 ص402 ونور الثقلين ج5 ص511 والميزان ج20 ص211 وجامع البيان ج1 ص55 وتفسير السمرقندي ج1 ص36 وتفسير الثعلبي ج10 ص134 وتفسير البغوي ج4 ص449 والجامع لأحكام القرآن ج19 ص223 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص6 وج4 ص504 والبرهان للزركشي ج1 ص295 والإتقان في علوم القرآن ج1 ص304 وفتح القدير ج5 ص387 وتفسير الآلوسي ج30 ص47 ونهج الإيمان ص369.

([24]) راجع كلام السيد المرتضى والقاضي عبد الجبار في: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص201 و 202.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان