رسالة
لملك الروم وجوابها:
وروي:
أن ملك الروم كتب إلى عمر بن الخطاب بأسئلة لم يجد جوابها إلا عند علي
«عليه السلام».. فتولى «عليه السلام» الإجابة عنها..
فقد قال العاصمي ما ملخصه:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،
عن أبيه، عن جدّه قال:
لمّا ولّي عمر بن الخطاب الخلافة كان رجل من أصحابه يقال له: الحارث بن
سنان الأسدي([1])،
جرى بينه وبين رجل من الأنصار كلام ومنازعة، فلطمه الأنصاري على حرّ
وجهه، فقدّمه الحارث إلى عمر.
فقال عمر:
تريد قصاص الجاهليّة، أم قصاص الإسلام؟!
قال الحارث:
بل قصاص الجاهلية!
وكان في الجاهليّة من لطم حرّ وجه قطعت يده.
قال عمر:
يا حارث، لا قطع إلا في السرقة، قم فالطمه كما لطمك، فإن الله تعالى
يقول: {وَالحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ}([2]).
فغضب الحارث من ذلك، وانطلق إلى قيصر ملك الروم،
فتنصّر، فأعجب قيصر دخوله في النصرانيّة، وكان الحارث أوّل من ارتدّ،
فأمّا أهل الردّة فكانوا لا يتنصّرون، ولا يتهوّدون، ولا يتمجّسون.
إنّما قالوا: نصلّي ونصوم، ولا نؤدّي الزكاة([3])،
فأمّا أوّل من تنصّر في الإسلام فإنّه الحارث بن سنان.
فجمع قيصر بطارقته وأمرهم بالسجود له، وأخذ للحارث
سريراً مشبّكاً بالذهب، وأجرى عليه كلّ شهر ألف دينار، وكان عند قيصر
ثلاث مائة رجل من أسارى المسلمين، فعرض عليهم الحارث النصرانية،
ورغّبهم فيها، وزهّدهم في الإسلام، وقال لهم قيصر: من تنصّر منكم فأفعل
به([4])
(راجع الهامش).
يستعينون الله تعالى، فإن استعنتم به على الخير فما
بالكم تسرعون إلى الشرّ وتطلبون الملك، وتقاتلون على الدنيا، وتزهدون
في الترهّب والتعبّد؟! وإن كنتم تستعينون به على الشرّ فقد ظفرتم به.
وأخبرونا عن قولكم:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ
المُسْتَقِيمَ}
[هل] الصراط المستقيم غير الذي أنتم عليه حتى تسألوه؟! أم شككتم في
دينكم؟! أم كذّبتم نبيّكم؟!.
وأخبرونا عن قولكم:
{صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
[هل] أنعم الله على أمّة أفضل ممّا أنعم عليكم؟
وقد قال في الإنجيل:
«أتمم نعمتي عليهم» يعني: أمّة أحمد الذي بشّرنا به عيسى.
وأخبرونا عن قولكم:
{غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}
أفأنتم المغضوب عليكم؟! أم تتوقّعون الغضب من الله؟!
وأخبرونا عن قولكم:
{وَلاَ الضَّالِّينَ}
أفأنتم الضلّال؟! أم شككتم فيما جاء به محمّد؟! فهذه كلمات ما قرأناها
في التوراة، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل.
ووجدنا في التوراة:
أنّ لله إزاراً، ورداءاً، فأخبرونا ما إزاره وما رداؤه؟! وعلى ما
مقامه؟!
وأخبرونا عن ماء ليس من أرض ولا من سماء؟!
وأخبرونا عن رسول لا من الجنّ، ولا من الإنس، ولا من
الملائكة؟!
وأخبرونا عن شيء يتنفّس ولا روح فيه؟!
وأخبرونا عمّا أوحى الله إليه، لا من الجنّ، ولا من
الإنس، ولا من الملائكة؟!
وأخبرونا عن عصا موسى «عليه السلام» ما كانت؟! وما
اسمها؟! وكم طولها؟!
وأخبرونا عن جارية بكر في الدنيا لأخوين [و] في الآخرة
لواحد، وفي رقبتها لؤلؤ يقده خلق (كذا)؟!
وأخبرونا عن قبر سار بصاحبه؟!
وأخبرونا من الواحد إلى العشرين متّصلة، ومن العشرين
إلى المائة متفرّقة؟!
ثمّ طوى الكتاب ودفعه إلى بطريق من بطارقته، فبعثه [إلى
المدينة]، فقدم البطريق المدينة..
إلى أن تذكر الرواية:
أن البطريق لقي عمر وأعطاه الكتاب.
فلمّا كان غداة يومه دخل عليه علي بن أبي طالب «عليه
السلام» وجماعة من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله»، فقرأ عليهم
الكتاب، فبكوا بأجمعهم لحارث بن سنان، ثمّ دفع الكتاب إلى علي بن أبي
طالب «عليه السلام»، فقرأه وضحك، ثمّ قال: مر بدواة وقرطاس وقلم،
فأحضروها فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر النصرانيّة.
أمّا بعد..
فأمّا ما ذكرت من أمر الحارث بن سنان، فإنّه من يضلل
الله فلا هادي له، وما كان دخوله في الإسلام إلاّ طمعاً في الأموال،
فلمّا لم ينل ما طمع، مال إلى الّذي نال منها ما طمع، قال الله تبارك
وتعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}([5]).
وأما ما سألت عن قول:
{بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}،
فإنّ اسمه شفاء من كلّ داء، وعون على كلّ دواء.
وأمّا
{الرَّحْمَنِ}
فهو اسم لم يتسمّ به أحد سوى الرحمن؟!
وأمّا
{الرَّحِيمِ}
فـ [هو] رحيم لمن عصاه، ثمّ تاب وآمن وعمل صالحاً.
وأمّا قوله:
{الحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}،
فثناء أثنى الله تعالى على نفسه بما أنعم على عباده.
وأمّا قوله:
{مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ}
فإنّه يملك نواصي الخلق يوم القيامة، فكلّ من كان في الدنيا شاكاً به،
أو مشركاً أدخله النار، وكلّ من كان في الدنيا موقناً به مطيعاً له
أدخله الجنّة برحمته.
وأمّا قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
فنحن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وكلّ من كان من دوننا إذا عبده يشركون
معه شيئاً.
وأمّا قولك:
{وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}
فنستعين بالله على الشيطان أن لا يضلّنا كما أضلّكم، وتحسبون أنكم على
شيء.
وأمّا قوله:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ
المُسْتَقِيمَ}
فذلك الطريق الواضح إلى الجنّة، من عمل في الدنيا عملاً صالحاً فإنّه
يسلك هذا الطريق، فنحن نسأله توفيق العمل الصالح، فهو الذي نسأله سلوك
طريق الجنّة.
وأمّا قوله:
{صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}،
فتلك النعم التي أنعم الله على من كان قبلنا من النبيين والصدّيقين،
فنسأل ربّنا أن ينعم علينا كما أنعم عليهم.
وأمّا قوله:
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ}،
فأولئك اليهود بدّلوا نعمة الله كفراً، فغضب الله عليهم، وجعل منهم
القردة والخنازير. فنسأل ربّنا أن لا يغضب علينا كما غضب عليهم.
وأمّا قوله:
{وَلاَ الضَّالِّينَ}،
فأنتم معشر النصارى تركتم دين عيسى، واتّخذتموه وأمّه إلهين اثنين،
فنسأل ربّنا أن لا يُضِلّنا كما أضلّكم.
وأمّا قولكم في ربّ العالمين «ما إزاره وما رداؤه»؟!
فقد ذكره نبيّنا «صلى الله عليه وآله» فقال: [قال الله] عزّ وجلّ:
«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري»، فهو كما قال جلّ جلاله.
وما قلت من مقامه، فمقامه على القدرة.
وأمّا سؤالك عن الماء الذي ليس من
الأرض ولا من السماء:
فهو الماء الذي أخذه سليمان بن داود «عليه السلام» من عرق الخيل.
وأمّا سؤالك عن رسول لا [كان] من
الجنّ ولا من الإنس ولا من الملائكة:
فذلك الغراب الذي بعثه الله يبحث في الأرض، ليواري قابيل سوأة أخيه.
وأمّا سؤالك عن شيء يتنفّس ولا روح
فيه:
فذلك الصبح، قال تعالى: {وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ}([6]).
وأمّا سؤالك عن شيء أوحى الله إليه،
لا من الجنّ، ولا من الإنس، ولا من الملائكة:
فذلك النحل، قال الله تعالى: {وَأَوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}([7]).
وأمّا سؤالك عن عصا موسى: ممّ
كانت؟! وما اسمها؟!
فاسمها: زائدة، لأنّها [كانت] إذا دخل فيها الروح زادت،
وإذا خرج منها الروح نقصت، وكانت من عوسج، وكانت عشرة أذرع، وكانت من
الجنّة أنزلها جبرئيل على شعيب صلوات الله عليهما.
وأمّا سؤالك عن جارية بكر في الدنيا
لأخوين، وفي الآخرة لواحد [منهما] وفي رقبتها لؤلؤ، فمن سر لم يقده خلق
(كذا):
فتلك النخلة في الدنيا لي ولك [و] في الآخرة للمسلمين.
وأمّا سؤالك عن قبر سار بصاحبه:
فذلك يونس بن متى سار به الحوت وهو في بطنه.
وأمّا سؤالك عن الواحد إلى العشرين
متّصلة، فالواحد:
هو الله جلّ جلاله، والإثنان آدم وحواء.
وأمّا الثلاثة:
فجبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل. فهم رؤوس الملائكة.
وأمّا الأربعة:
فالتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان.
وأمّا الخمسة:
فخمس صلوات [في كلّ يوم وليلة].
وأمّا الستّة:
فتخليق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيام.
وأمّا السبعة:
فسبع سماوات.
وأمّا الثمانية:
[فهو قوله تعالى]: {وَيَحْمِلُ
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}([8]).
وأمّا التسعة:
فتسع أيات موسى، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}([9]).
وأما العشرة:
فـ [صيام عشرة أيّام على من تمتّع بالعمرة إلى الحجّ ولم يجد الهدي.
قال الله تعالى: {فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}([10]).
وأمّا الأحد عشر:
فقول الله [تعالى]:
{إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}([11]).
وأمّا الإثنا عشر:
فقول الله [تعالى]: {إِنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}([12]).
وأمّا الثلاثة عشر:
فقول يوسف لأبيه: {إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}([13]).
[في المناقب: فالأحد عشر إخوته، والشمس أبوه، والقمر أمه].
وأمّا الأربعة عشر:
فأربعة عشر قنديلاً من نور معلّقة بالعرش مكتوبة في التوراة، ليس في
القرآن، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل. [في المناقب: معلقة بين السماء
السابعة، والحجب تسرج بنور الله إلى يوم القيامة].
وأمّا الخمسة عشر:
فأنزل الله تعالى على داود [في المناقب: الكتب جملة منسوخة من اللوح
المحفوظ إلى سماء الدنيا] ليلة خمس عشرة من [شهر رمضان].
وأمّا الستّة عشر:
فستّة عشر صفّاً من الملائكة، ذكرهم الله تعالى في القرآن مجملاً [في]
قوله: {الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ}([14]).
وذكره في التوراة مفسّراً، وهم ستّة عشر صفاً.
أمّا السبعة عشر:
فسبعة عشر إسماً من الأسماء المكتوبات وضعها الله على جهنّم، ولولا ذلك
لزفرت جهنّم زفرة تحرق ما بين السماء والأرض. [في المناقب: من أسماء
الله، مكتوبة بين الجنة والنار].
وأمّا الثمانية عشر:
فثمانية عشر حجاباً من نور، [معلقة بين العرش والكرسي] ولولا ذلك لذاب
ما بين السماء والأرض من نور ربّ العزة. [وما بينهن من نور العرش].
وأمّا التسعة عشر:
فتسعة عشر ملكاً رؤوس الملائكة الزبانية، تحت كلّ واحد منهم ملائكة
بعدد رمل عالج، وبعدد قطر المطر، وبعدد ورق الأشجار، وبعدد أيام
الدنيا، ملائكة غلاظ شداد، قال الله تعالى:
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}([15]).
وأمّا العشرون:
فأنزل الله تعالى الإنجيل على عيسى «عليه السلام» بعشرين ليلة مضين من
رمضان. [في المناقب: وأما العشرون، فأنزل الزبور على داود «عليه
السلام» عشرين يوماً خلون من شهر رمضان].
وأمّا الثلاثون:
فقوله عزّ وجلّ: {وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً}([16]).
وأمّا الأربعون:
[فقوله تعالى]: {فَتَمَّ
مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}([17]).
وأمّا الخمسون:
فدية المرأة خمسون من الإبل. [في المناقب: وأما الخمسون، خمسين الف
سنة].
وأمّا الستون:
فإطعام ستّين مسكيناً.
وأمّا السبعون:
فقوله تعالى: {وَاخْتَارَ
مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً}([18]).
وأمّا الثمانون:
فحدّ القاذف.
وأمّا التسعون:
فنسوة داود «عليه السلام». [في المناقب: فتسع وتسعون نعجة].
وأمّا المائة:
فحدّ الزاني إذا كان بكراً.
ثم طوى الكتاب، وناوله البطريق، ومرّ على وجهه حتّى قدم
على القيصر، ودفع إليه الكتاب، ففكّه وقرأه، وعمد إلى الأسارى، فأطلقهم
وأجارهم. ثم قال للحارث بن سنان: إن رجعت عن دينك وإلى بلدك، لم أنقص
من عطائك شيئاً.
فقال الحارث:
لو قتلتني بالسيف، وأحرقتني بالنّار لم أرجع إلى بلدي، ولم أفارق
النصرانية([19]).
أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن:
وذكر ابن المسيب:
أن سبب قول عمر: أعوذ بالله من معضلةٍ ليس لها أبو حسن: أن ملك الروم
كتب إلى عمر يسأله عن مسائل، فعرضها على الصحابة، فلم يجد عندهم
جواباً، فعرضها على أمير المؤمنين «عليه السلام»، فأجاب عنها في أسرع
وقت، بأحسن جواب.
قال ابن المسيب: كتب ملك الروم إلى عمر:
من قيصر ملك بني الأصفر إلى عمر خليفة المؤمنين ـ
المسلمين ـ.
أما بعد..
فإني مسائلك عن مسائل فأخبرني عنها:
ما شيء لم يخلقه الله؟!
وما شيء لم يعلمه الله؟!
وما شيء ليس عند الله؟!
وما شيء كله فم؟!
وما شيء كله رجل؟!
وما شيء كله عين؟!
وما شيء كله جناح؟!
وعن رجل لا عشيرة له؟!
وعن أربعة لم تحمل بهم رحم؟!
وعن شيء يتنفس وليس فيه روح؟!
وعن صوت الناقوس ماذا يقول؟!
وعن ظاعن ظعن مرة واحدة؟!
وعن شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها، ما
مثلها في الدنيا؟!
وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة؟!
وعن شجرة نبتت من غير ماء؟!
وعن أهل الجنة، فإنهم يأكلون ويشربون، ولا يتغوطون ولا
يبولون، ما مثلهم في الدنيا؟!
وعن موايد الجنة، فإن عليها القصاع في كل قصعة ألوان لا
يخلط بعضها ببعض، ما مثلها في الدنيا؟!
وعن جارية تخرج من تفاحة في الجنة، ولا ينقص منها شئ؟!
وعن جارية تكون في الدنيا لرجلين وهي في الآخرة لواحد؟!
وعن مفاتيح الجنة ما هي؟!
فقرأ علي «عليه السلام» الكتاب، وكتب في الحال خلفه.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد..
فقد وقفت على كتابك أيها الملك، وأنا أجيبك بعون الله
وقوته، وبركته، وبركة نبينا محمد «صلى الله عليه وآله».
أما الشيء الذي لم يخلقه الله
تعالى:
فالقرآن لأنه كلامه وصفته، وكذا كتب الله المنزلة، والحق سبحانه قديم،
وكذا صفاته.
وأما الذي لا يعلمه الله فقولكم:
له ولد وصاحبة وشريك. ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، لم يلد
ولم يولد.
وأما الذي ليس عند الله:
فالظلم {وَمَا
رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ}([20]).
وأما الذي كله فم:
فالنار تأكل ما يلقى فيها.
وأما الذي كله رجل:
فالماء.
وأما الذي كله عين:
فالشمس.
وأما الذي كله جناح:
فالريح.
وأما الذي لا عشيرة له:
فآدم «عليه السلام».
وأما الذين لم يحمل بهم رحم:
فعصى موسى، وكبش إبراهيم، وآدم، وحواء.
وأما الذي يتنفس من غير روح:
فالصبح لقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ}([21]).
وأما الناقوس:
فإنه يقول: طقاً طقاً، حقاً حقاً، مهلاً مهلاً. عدلاً عدلاً، صدقاً
صدقاً، إن الدنيا قد غرتنا واستهوتنا، تمضي الدنيا قرناً قرناً، ما من
يوم يمضي عنا، إلا أوهى منا ركناُ، إن الموت قد أخبرنا أنا نرحل
فاستوطنا.
وأما الظاعن:
فطور سيناء لما عصت بنو إسرائيل، وكان بينه وبين الأرض المقدسة أيام،
فقلع الله منه قطعة، وجعل لها جناحين من نور، فنتقه عليهم، فذلك قوله:
{وَإِذْ
نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ}([22]).
وقال لبني إسرائيل:
إن لم تؤمنوا([23])
وإلا أوقعته عليكم. فلما تابوا رده إلى مكانه.
وأما المكان الذي لم تطلع عليه
الشمس إلا مرة واحدة:
فأرض البحر لما فلقه الله لموسى «عليه السلام»، وقام الماء أمثال
الجبال، ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها، ثم عاد ماء البحر إلى مكانه.
وأما الشجرة التي يسير الراكب في
ظلها مائة عام:
فشجرة طوبى. وهي سدرة المنتهى في السماء السابعة، إليها ينتهي أعمال
بني آدم، وهي من أشجار الجنة، ليس في الجنة قصر ولا بيت إلا وفيه غصن
من أغصانها، ومثلها في الدنيا الشمس، أصلها واحد، وضَوءُها في كل مكان.
وأما الشجرة التي نبتت من غير ماء:
فشجرة يونس. وكان ذلك معجزة له لقوله تعالى:
{وَأَنْبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}([24]).
وأما غذاء أهل الجنة:
فمثلهم في الدنيا الجنين في بطن أمه، فإنه يغتذي من سرته، ولا يبول ولا
يتغوط.
وأما الألوان في القصعة الواحدة:
فمثله في الدنيا البيضة، فيها لونان أبيض وأصفر، ولا يختلطان.
وأما الجارية التي تخرج من التفاحة:
فمثلها في الدنيا الدودة، تخرج من التفاحة ولا تتغير.
وأما الجارية التي تكون بين اثنين:
فالنخلة التي تكون في الدنيا لمؤمن مثلي ولكافر مثلك، وهي لي في الآخرة
دونك، لأنها في الجنة، وأنت لا تدخلها.
وأما مفاتيح الجنة:
فلا إله إلا الله، محمد رسول الله([25]).
قال ابن المسيب:
فلما قرأ قيصر الكتاب قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة.
ثم سأل عن المجيب فقيل له:
هذا جواب ابن عم محمد «صلى الله عليه وآله»، فكتب إليه:
سلام عليك.
أما بعد..
فقد وقفت على جوابك، وعلمت أنك من أهل بيت النبوة، و
معدن الرسالة، وأنت موصوف بالشجاعة والعلم، وأوثر أن تكشف لي عن
مذهبكم، والروح التي ذكرها الله في كتابكم في قوله:
{وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}([26]).
فكتب إليه أمير المؤمنين:
أما بعد..
فالروح نكتة لطيفة، ولمعة شريفة، من صنعة باريها، وقدرة
منشئها. وأخرجها من خزائن ملكه، وأسكنها في ملكه، فهي عنده لك سبب، وله
عندك وديعة، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك، والسلام([27]).
ونقول:
هناك نقاط عديدة يحسن التوقف عندها، نقتصر منها على ما
يلي:
ذكرت الرواية:
أن عمر سأل الحارث بن سنان: تريد قصاص الجاهلية أم قصاص الإسلام؟
ونحن لم نجد سبباً لهذا السؤال العمري، والحال أننا لم
نجده سأل مثل هذا السؤال في أي من القضايا التي ترافع فيها الآخرون
إليه.. إلا إن كان يرى أن الحارث ن سنان كان من المنافقين أو كان لا
يزال على شركه.. مع أن لا شيء يدل على الأول، كما أن الرواية نفسها
تصرح بعدم الثاني، فإنه كان مسلماً وقد كانت هذه القضية سبب إرتداده.
ربما يستظهر من رواية ابن المسيب:
أن عمر قد سأل الصحابة عن مسائل ملك الروم قبل أن يسأل علياً عنها،
ولعله كان يأمل أن يجد عند أحد منهم جواباً، لكي يتلافى سؤال علي «عليه
السلام»، الذي لم يزل نوره يتألق في سماء العلم الذي حباه الله تعالى
به دون كل أحد..
ولكنه لم يجد عند أحد منهم ما يشفي الغليل، فاضطر إلى
ما هو بالنسبة إليه من أبغض الحلال.
ورد في تفسير دق الناقوس روايات أكثر تفصيلاً في ذلك.
ولا مانع من صحة كلا الأمرين، فذكر شطراً من معاني دقاته لملك الروم،
وذكر شطراً أتم وأوفى لغيره، فلاحظ ما يلي:
1 ـ روى الصدوق «رحمه الله» بسنده إلى الحارث الأعور
قال:
بينما أنا أسير مع أمير الؤمنين علي ابن أبي طالب «عليه
السلام» في الحيرة، إذا نحن بديراني يضرب الناقوس.
قال:
فقال علي بن أبي طالب «عليه
السلام»:
يا حارث، أتدري ما يقول الناقوس؟
قلت:
الله ورسوله وابن عم رسوله أعلم.
قال:
إنه يضرب مثل الدنيا وخرابها، ويقول: لا إله إلا الله حقاً حقاً. صدقاً
صدقاً، إن الدنيا قد غرتنا وشغلتنا، واستهوتنا واستقوتنا. يا ابن
الدنيا. مهلاً مهلاً. يا ابن الدنيا. دقاً دقاً. يا ابن الدنيا. جمعاً
جمعاً. تفنى الدنيا قرناً قرناً. ما من يوم يمضي عنا. إلا أوهى منا
ركنا. قد ضيعنا داراً تبقى. واستوطنا داراً تفنى. لسنا ندري ما فرطنا.
فيها إلا لو قد متنا.
قال الحارث:
يا أمير المؤمنين، النصارى يعلمون بذلك؟!
قال:
لو علموا ذلك لما اتخذوا المسيح إلهاً من دون الله.
قال:
فذهبت إلى الديراني فقلت له: بحق المسيح عليك، لما ضربت بالناقوس على
الجهة التي تضربها.
قال:
فأخذ يضرب، وأنا أقول حرفاً حرفاً، حتى بلغ إلى موضع إلا لو قد متنا،
فقال: بحق نبيكم، من أخبركم بهذا؟
قلت:
هذا الرجل الذي كان معي أمس.
قال:
وهل بينه وبين النبي من قرابة؟!
قلت:
هو ابن عمه.
قال:
بحق نبيكم، أسَمِع هذا من نبيكم؟!
قال:
قلت: نعم.
فأسلم، ثم قال:
إني وجدت في التوراة: أنه يكون في آخر الأنبياء نبي.
وهو يفسر ما يقول الناقوس([28]).
2 ـ
لكن ابن شهرآشوب روى هذا الحديث قائلاً: «ذكره صاحب مصباح الواعظ،
وجمهور أصحابنا، عن الحارث الأعور، وزيد، وصعصعة، ابنا صوحان، والبراء
بن سبرة، والأصبغ بن نباتة، وجابر بن شرحبيل، ومحمود بن الكواء»([29]).
ثم ذكر
«رحمه الله»
نصاً لتفسير
كلام الناقوس يزيد على ضعفي الكلام المذكور في الرواية الآنفة الذكر،
فراجع([30]).
نضيف
هنا:
أن هذا النصراني وإن كان لا يستطيع تأكيد صحة هذا التفسير لكلام
الناقوس، ولكنه لا يملك ما يدل على كذبه فيما يدعيه من أن هذا من العلم
الخاص، المأخوذ عن الله مباشرة، أو بواسطة من أوحي إليه به..
ولكن الذي دعاه إلى الإيمان أن نفس الخبر الذي وجده عن
شخص سوف يتصدى لهذا الأمر قد دله على: أن هذا الأمر هو من الأمور التي
لا تحصل عادة، ولا يخطر على بال أحد أن يتصدى لتفسير كلام الناقوس،
فالإخبار عن وقوعه، ثم وقوعه قد دله على أن هذا الشخص الذي فعل ذلك، له
شأن غير عادي عند الله، وأنه تعالى أراد أن يجعله وسيلة هداية لبعض بني
البشر، من خلال إخبار الأنبياء عن ذلك، قبل مئات السنين من حدوث ذلك.
وقد لاحظنا:
أن الأسئلة التي جاء بها النصارى للمسلمين، تتفق وتختلف، فهناك أسئلة ـ
وإن كانت قليلة ـ يشترك فيها جميع السائلين أو عدد منهم، مثل السؤال عن
قبر سار بصاحبه، أو السؤال عما لا يعلمه الله، أو عما ليس لله، أو نحو
ذلك، ثم تختلف الأسئلة من شخص لآخر..
ولعل سبب ذلك:
يعود إلى أن هؤلاء، كانوا يلتقطون هذه الأسئلة من كتبهم، كل بحسب ما
تيسر له. فكانت بعض الأسئلة تثير اهتمامهم أكثر من غيرها، فيكثر أخذهم
لها.. ثم يأتي الباقي حسب الأمزجة والميول، والاجتهادات للأشخاص.
إن شدة الاختلاف بين الأسئلة في الرسالتين المتقدمتين
يشجع الباحث على الإعتقاد بأنهما رسالتان اختلفتا في مضمونهما، فكان لا
بد من اختلاف مضمون الإجابتين تبعاً لذلك.
وحيث إن من البعيد أن يكون مرسلهما شخص واحد، فلا بد من
افتراض أن يكون أحد القيصرين قد مات أو عزل، ثم أرسل الآخر برسالة أخرى
يطلب الإجابة عنها أيضاً.
بل قد يمكن افتراض أن يكون في بلاد الروم ملوك متعددون،
بحسب تعدد البلاد، وتباعدها. فأرسل كل ملك برسالة أسئلة تخصه..
بل قد يكون مرسل الرسالتين شخصاً واحداً، إذا لوحظ شدة
الإختلاف والتباين بين الأسئلة، فاعتقد أن الإجابة على الأسئلة في
الرسالة الأولى، لا تعني القدرة على الإجابة على الأسئلة التي في
الرسالة الثانية..
وقد ذكرت الرواية المتقدمة:
أن الحارث بن سنان كان أول من ارتد..
وذلك يثير علامة استفهام كبيرة عما زعموه من ارتداد
مانعي الزكاة وغيرهم ممن حاربهم أبو بكر، ويؤكد: أن هؤلاء إنما اعترضوا
على تولي أبي بكر للخلافة دون صاحبها الشرعي، الذي بايعوه يوم الغدير،
وهو علي بن أبي طالب.
وكثرة المعتقدين بأحقيته، لا يعني أنهم مستعدون لنصرته
مهما كلف الأمر.. بل يكون حالهم حال مؤيد به من أهل المدينة، من
الأنصار وغيرهم من المهاجرين، ومثل بني هاشم الذين صرحوا بأن قيامهم
معه سيكلفهم غالياً، ولا يطيقونه، وقد تقدم ذلك في بعض الفصول.
يضاف إلى ما تقدم:
أن علياً لم يكن ليفتح حرباً من شأنها أن تفسح المجال لسلبيات كبيرة،
ومنها أن ينتعش النفاق، وتحدث الردة لدى فريق كبير من الناس، بالإضافة
إلى إعتبار ذلك في عداد الخيانة، ونقض العهد والمواثيق.
إن
حدثاً كهذا لا بد أن يثير الكثير من الجدل في أوساط
المسلمين، ومن المتوقع أن يتناقله الناس بكثرة..
وإلى أمد طويل، فلماذا لا نجد لهذا
الرجل الكبير المسمى بحارث بن سنان فيما بأيدينا ذكراً
يفصح لنا عن شيء من تفاصيل حياته ودوره رغم كونه من الرؤساء كما قالته
الرواية..
فلعله هو جبلة بن الأيهم الذي ذكر لنا التاريخ ما جرى
له في قصة تشبه هذه القصة إلى حد بعيد.
أو لعل رجلاً باسم الحارث قد تبع جبلة، انتصاراً له،
فتنصر معه.. ولعل.. ولعل..
([1])
قال المعلق: ما وجدت للحارث بن سنان الأسدي ترجمة فيما بأيدينا
من كتب الرجال والتراجم.
([2])
الآية 194 من سورة البقرة.
([3])
أي إلى أبي بكر، بل نصرفها في فقرائنا.
([4])
قال المعلق: وبعده في أصلي نقص ورق كامل وهو ص301 ـ 302.
([5])
الآية 11 من سورة الحج.
([6])
الآية 18 من سورة التكوير.
([7])
الآية 68 من سورة النحل.
([8])
الآية 17 من سورة الحاقة.
([9])
الآية 10 من سورة الإسراء.
([10])
الآية 196 من سورة البقرة.
([11])
الآية 4 من سورة يوسف.
([12])
الآية 36 من سورة التوبة.
([13])
الآية 4 من سورة يوسف.
([14])
الآية 7 من سورة غافر.
([15])
الآية 30 من سورة المدثر.
([16])
الآية 142 من سورة الأعراف.
([17])
الآية 142 من سورة الأعراف.
([18])
الآية 155 من سورة الأعراف.
([19])
العسل المصفّى في تهذيب زين الفتى ج1 ص287 ـ 293 وراجع رواية
ابن عباس عن أن أخوين يهوديين سألا أمير المؤمنين «عليه
السلام» هذه الأسئلة عن الواحد إلى المئة. فأجاب عنها بما لا
يقرب مما ذكره في بحار الأنوار ج10 ص86 و 87 عن مناقب آل أبي
طالب ج1 ص511 و 512.
([20])
الآية 46 من سورة فصلت.
([21])
الآية 18 من سورة التكوير.
([22])
الآية 171 من سورة الأعراف.
([23])
لعل الصحيح: إن لم تؤمنوا أوقعته عليكم.
([24])
الآية 146 من سورة الصافات.
([25])
الغدير ج6 ص247 ـ 249 عن تذكرة الخواص ص87 وزين الفتى في شرح
سورة هل أتى للحافظ العاصمي.
([26])
الآية 85 من سورة الإسراء.
([27])
العسل المصفى في تهذيب زين الفتى ج1 ص287 و 295 تذكرة الخواص
ج1 ص353 ـ 359 والغدير ج6 ص247 ـ 249 عنهما.
([28])
الأمالي للصدوق (المجلس الأربعون) ص295 و 296 وبحار الأنوار ج2
ص321 و ج14 ص334 وج40 ص172 وج74 ص279 ومعاني الأخبار ص230
وروضة الواعظين ص443 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2
ص243 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص332 ومدينة المعاجز ج2 ص124.
([29])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص56 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص332.
وراجع: دستور معالم الحكم، الباب 7 ص133 ومصباح البلاغة
(مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص243 وبحار الأنوار ج40 ص172 وج74
ص279.
([30])
مناقب آل أبي طالب (المطبعة العلمية بقم) ج2 ص56 و (ط المكتبة
الحيدرية) ج1 ص332.
|