روى أبو المليح الهذلي عن أبيه قال:
كنا جلوساً عند عمر بن الخطاب إذ دخل علينا رجل من أهل الروم، قال له:
أنت من العرب؟!
قال:
نعم.
قال:
أما إني أسألك عن ثلاثة أشياء، فإن خرجت إلي منها آمنت بك، وصدقت نبيك
محمداً.
قال:
سل عما بدا لك يا كافر.
قال:
أخبرني عما لا يعلمه الله، وعما ليس لله، وعما ليس عند الله.
قال عمر:
ما أتيت يا كافر إلا كفراً.
إذ دخل علينا أخو رسول الله «صلى الله عليه وآله» علي
بن أبي طالب «عليه السلام»، فقال لعمر: أراك مغتماً.
فقال:
وكيف لا أغتم يا ابن عم رسول الله، وهذا الكافر يسألني عما لا يعلمه
الله، وعما ليس لله، وعما ليس عند الله، فهل لك في هذا شيء يا أبا
الحسن؟!
قال:
نعم.
قال:
فرج الله عنك، وإلا [و] قد تصدع قلبي.
فقد قال النبي
«صلى الله عليه وآله»: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أحب
أن يدخل المدينة فليقرع الباب.
فقال:
أما مالا يعلمه الله، فلا يعلم الله أن له شريكاً ولا وزيراً، ولا
صاحبة، ولا ولداً. وشرحه في القرآن {قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ}([1]).
وأما ما ليس عند الله، فليس عنده ظلم للعباد.
وأما ما ليس لله، فليس له ضد ولا ند، ولا شبه ولا مثل.
قال:
فوثب عمر، وقبل ما بين عيني علي «عليه السلام» ثم قال: يا أبا الحسن،
منكم أخذنا العلم، وإليكم يعود، ولولا علي لهلك عمر.
فما برح النصراني حتى أسلم، وحسن إسلامه([2]).
ونقول:
1 ـ
لماذا هذا الأسلوب القاسي الذي يمارسه عمر بن الخطاب ضد ذلك النصراني،
فيواجهه بكلمة يا كافر، في أول خطاب له معه؟!.. مع أنه لم تبدر من ذلك
النصراني أية بادرة عناد أو مكابرة!!
2 ـ
وبعد أن طرح النصراني أسئلته، أمعن عمر في استفزازه، رغم ظهور عجز عمر
عن جوابه. فقال له: «ما أتيت يا كافر إلا كفرا».
مع أن الله تعالى يأمر بالجدال معهم بالتي هي أحسن،
فيقول: {ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([3]).
3 ـ
وقد كان موقف عمر هذا فشلاً يضاف إلى فشل، لا سيما بعد أن ظهر: أن
أسئلة ما أتاه ذلك النصراني لم تكن من أسئلة الكفر، بل هي من الأسئلة
الإيمانية الصحيحة..
4 ـ
إن عمر هو الذي وضع نفسه في موقع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وجعل
نفسه في موقع المسؤول عن كل قضايا الدين والإيمان، حيث لا بد أن يعد
لها الإجابات الصحيحة والحاسمة، ولا يعذر بجهلها، ولا بعجزه عنها.. ما
دام أن عجزه هذا سوف يؤدي إلى اتهام الإسلام بالقصور والبطلان، ويمنع
الناس من الإيمان، ومن الدخول في رحمة الله..
عن أبي الطفيل قال شهدت الصلاة على أبي بكر الصديق، ثم
اجتمعنا إلى عمر بن الخطاب، فبايعناه، وأقمنا أياما نختلف إلى المسجد
إليه، حتى أسموه أمير المؤمنين، فبينما نحن عنده جلوس إذ أتاه يهودي من
يهود المدينة، ـ وهم يزعمون: أنه من ولد هارون أخي موسى بن عمران
«عليهما السلام» ـ حتى وقف على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين! أيكم
أعلم بنبيكم وبكتاب نبيكم حتى أسأله عما أريد. [أو قال: دلني على
أعلمكم بالله وبرسوله، وبكتابه وبسنته].
فأشار له عمر إلى علي بن أبي طالب
فقال:
هذا أعلم بنبينا وبكتاب نبينا.
قال اليهودي:
أكذاك أنت يا علي؟!
قال:
نعم.
قال:
سل عما تريد.
قال:
إني سائلك عن ثلاث، وثلاث، وواحدة.
قال له علي:
ولم لا تقول إني سايلك عن سبع؟!
قال له اليهودي:
أسألك عن ثلاث، فإن أصبت فيهن أسألك عن الثلاث الأخر، فإن أصبت فيهن
أسألك عن الواحدة، وإن أخطأت في الثلاث الأول لم أسألك عن شئ.
وقال له علي:
وما يدريك إذا سألتني فأجبتك، أخطأت أم أصبت؟!
قال:
فضرب بيده على كمه، فاستخرج كتاباً عتيقاً، فقال: هذا كتاب ورثته عن
آبائي وأجدادي، بإملاء موسى وخط هارون، وفيه هذه الخصال الذي أريد أن
أسألك عنها.
فقال علي:
والله عليك إن أجبتك فيهن بالصواب أن تسلم.
قال له:
والله لئن أجبتني فيهن بالصواب لأسلمن الساعة علي يديك.
قال له علي:
سل.
[في نص آخر: أنه سأله عن أول قطرة دم قطرت على وجه
الأرض، وأول].
قال:
أخبرني عن أول حجر وضع على وجه الأرض.
وأخبرني عن أول شجرة نبتت على وجه الأرض.
وأخبرني عن أول عين نبعت على وجه الأرض.
[وفي نص آخر: فقال له علي «عليه السلام»: يا هاروني،
أما أنتم فتقولون: أول قطرة قطرت على وجه الأرض حيث قتل أحد ابني آدم
صاحبه وليس كذلك، ولكنه حيث طمثت حواء، وقبل أن تلد ابنيها].
قال له علي:
يا يهودي، إن أول حجر وضع على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنه صخرة
بيت المقدس، وكذبوا، لكنه الحجر الأسود، نزل به آدم معه من الجنة،
فوضعه في ركن البيت، فالناس يمسحون به، ويقبلونه، ويجددون العهد
والميثاق فيما بينهم وبين الله. [وفي نص آخر: وكان أشد بياضاً من
الثلج، فاسود من خطايا بني آدم].
قال اليهودي:
أشهد بالله لقد صدقت.
قال له علي:
وأما أول شجرة نبتت على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنها الزيتونة،
وكذبوا، ولكنها نخلة العجوة، نزل بها معه آدم من الجنة، فأصل التمر كله
من العجوة.
[وفي نص آخر: أما أنتم فتقولون: أول شجر اهتز على وجه
الأرض الشجرة التي كانت منها سفينة نوح وليس هو كذلك، ولكنها النخلة
التي أهبطت من الجنة وهي العجوة، ومنها تفرع كل ما ترى من أنواع
النخل].
قال له اليهودي:
أشهد بالله لقد صدقت.
قال:
وأما أول عين نبعت على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنها العين التي
تحت صخرة بيت المقدس، وكذبوا، ولكنها عين الحياة التي نسي عندها صاحب
موسى السمكة المالحة، فلما أصابها ماء العين عاشت وسمرت([4])
فاتبعها موسى وصاحبه، فأتيا الخضر. [وفي نص كمال الدين: وكان الخضر على
مقدمة ذي القرنين، فطلب عين الحياة، فوجدها الخضر «عليه السلام»، وشرب
منها ولم يجدها ذو القرنين].
وفي نص آخر: [فهذا الماء لا يصيب ميتاً إلا حيي].
فقال اليهودي:
أشهد بالله لقد صدقت.
قال له علي:
سل.
[قال: فأخبرني كم لهذه الأمة من إمام هدى، هادين
مهديين، لا يضرهم خذلان من خذلهم].
[ومن معه من أمته في الجنة؟
قال: أما قولك: كم لهذه الأمة من إمام هدى، هادين
مهديين، لا يضرهم خذلان من خذلهم، فإن لهذه الأمة اثنا عشر إماماً
هادين مهديين، لا يضرهم خذلان من خذلهم.
وأما قولك: أين منزل محمد «صلى الله عليه وآله» في
الجنة، ففي أشرفها وأفضلها جنة عدن.
وأما قولك: من مع محمد من أمته في الجنة فهؤلاء الاثنا
عشر أئمة الهدى.
قال الفتى: صدقت، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لمكتوب
عندي بإملاء موسى وخط هارون بيده].
وفي نص آخر: قال:
أخبرني عن منزل محمد، أين هو في الجنة؟!
قال علي:
ومنزل محمد من الجنة جنة عدن في وسط الجنة، أقربه من عرش الرحمن عز
وجل.
قال له اليهودي:
أشهد بالله لقد صدقت.
قال له علي:
سل.
قال:
أخبرني عن وصي محمد في أهله كم يعيش بعده؟! وهل يموت أو يقتل؟!
[فقال له علي «عليه السلام»: ويحك يا يهودي، أنا وصي
محمد «صلى الله عليه وآله» أعيش بعده].
وفي نص آخر: قال علي:
يا يهودي، يعيش بعده ثلاثين سنة، [لا أزيد يوماً ولا
أنقص يوماً، ثم يبعث أشقاها شقيق عاقر ناقة ثمود، فيضربني ضربة ههنا في
مفرقي] ويخضب هذه من هذه، وأشار إلى رأسه. [ثم بكى «عليه السلام» بكاء
شديداً، قال: فصرخ الفتى وقطع كستيجه].
قال:
فوثب اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
زاد في نص آخر في كمال الدين: [وأنك وصيه ينبغي أن تفوق
ولا تفاق، وأن تعظم ولا تستضعف.
قال: ثم مضى به «عليه السلام» إلى منزله فعلمه معالم
الدين].
وفي نص آخر: [صدقت والله الذي لا إله إلا هو، إني
لأجدها في كتاب أبي هارون «عليه السلام» كتبه (كتابة) بيده، وأملاه
(وإملاء) عمي موسى «عليه السلام»]([5]).
وفي الحديث سقط كما ترى. وقد أكملناه من كمال الدين
للصدوقن ومن غيره.
وفيه قد نص عمر على أن علياً أعلم الأمة بنبيها
وبكتابه.
ولكن موسى الوشيعة([6])
يقول:
عمر أعلم الأمة على الإطلاق بعد أبي بكر، والانسان على نفسه بصيرة([7]).
قال أبو جعفر العبدي ـ يرفعه ـ: هذا الرجل اليهودي أقر
له من بالمدينة أنه أعلمهم. وكان أبوه كذلك فيهم([8]).
بيان : قوله «عليه السلام»: «لا أزيد يوماً»، أقول: فيه
إشكال، لأن وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» كان في صفر وشهادته «عليه
السلام» في شهر رمضان، وكان ما بينهما ثلاثين سنة إلا خمسة أشهر
وأياماً، فكيف يستقيم قوله «عليه السلام»: «لا أزيد يوماً ولا أنقص
يوماً»؟! ويمكن دفعه بأن مبنى الثلاثين على التقريب.
وقوله: «لا أزيد يوماً». أي على الموعد الذي وعدت لذلك،
وأعلمه والغرض: أن لشهادتي وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر. [أو يقال:
الكلام مبني على ما هو المعروف عند أهل الحساب من أنهم يسقطون ما هو
أقل من النصف يكلمون بما هو أزيد منه، فكل حد بين تسع وعشرين ونصف وبين
ثلاثين ونصف من جملة مصداقاته العرفية، فلا يكون شيء منهما زائداً على
ثلاثين سنة عرفية ولا ناقصاً عنها أصلاً، وإنما يحكم بالزيادة والنقصان
إذا كان خارجاً عن الحدين وليس فليس([9]).
ونقول: ونضيف إلى ذلك:
1 ـ
ونضيف إلى ذلك: أن الطفيل يقول: «أقمنا أياماً نختلف إلى المسجد إليه،
وهذا يشير إلى أن المسجد بقي هو مركز إدارة الشؤون حتى ذلك الحين..».
2 ـ
دل الحديث على أن عمر بن الخطاب إنما سمي «أمير
المؤمنين» بعد أيام من موت أبي بكر، أي أن هذا اللقب أصبح مفروضاً على
الناس بصورة قاطعة ونهائية.. وإن كان قد أطلق على أبي بكر أيضاً في بعض
الأحيان..
3 ـ
يستفاد من هذا النص: أن اليهودي التقى بعمر في المسجد.. مع أن دخول
الكفار إلى المساجد كان محظوراً..
إلا أن يقال:
إن المسجد كان يشتمل على مواضع أخرى لم تكن معدة للصلاة، فلم يكن يمنع
من وصول كل الناس إليها. ومن هذه المواضع الموضع المعروف بالصفة، وهو
موضع مظلل من المسجد كان يأوي إليه المساكين([10])،
وكان النبي «صلى الله عليه وآله» يهتم بأمرهم.
4 ـ
إن اليهودي طلب الأعلم بالنبي «صلى الله عليه وآله» وبكتاب النبي «صلى
الله عليه وآله»، مع أنه كان يكفيه أن يطلب عالماً من المسلمين ليطرح
عليه أسئلته..
ولعل السبب في ذلك:
أنه كان يريد أن يحسم الأمر بالنسبة لدخوله في هذا الدين وعدمه.. مع
علمه بأن الأسئلة سوف تنتهي إلى إثبات صدق النبي أ وكذبه، فإذا انتهت
إلى إثبات صدقه فلا بد له من معرفة وصي ذلك النبي، لكي يرجع إليه في
أمر دينه، ولكي لا يضيع في زحمة المدعين لما ليس لهم.
5 ـ
واللافت هنا: أن علياً «عليه السلام» كان أول همه هو: تعيين الحكم
والفيصل في الأمر، لكي لا يفسح المجال للتعنت، ومحاولة التملص
والهروب.. بادِّعاء عدم صحة الجواب.
6 ـ
إنه «عليه السلام» فرض على ذلك اليهودي أن يكون النقاش هادفاً ومثمراً،
حيث فرض عليه الإلتزام بلوازم البحث ونتائجه.
7 ـ
إذا كان ذلك اليهودي من أهل المدينة، فلماذا لم يأت إلى النبي ويسأله
عن تلك المسائل، فإنه «صلى الله عليه وآله» أقام بينهم عشر سنوات؟!
ولماذا لم يأت في عهد أبي بكر، وانتظر إلى عهد عمر؟!
إلا ان يقال:
إنه كان في الأصل من أهل المدينة، قبل إخراجهم منها بسبب بغيهم
وعدوانهم.. وقد قدمها الآن ليحقق في أمر النبوة. فكان ما كان حسبما
ذكرته الرواية.
4-
علي
وأسقف
نجران:
وقالوا:
إن أسقف نجران قدم على عمر بن الخطاب في صدر خلافته فقال: يا أمير
المؤمنين، إن أرضنا باردة شديدة المؤنة، لا يحتمل الجيش وأنا ضامن
لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملاً.
قال:
فضمنه إياه. فكان يحمل المال، ويقدم به في كل سنة، و يكتب له عمر
البراءة بذلك.
فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة، وكان شيخاً جميلاً
مهيباً، فدعاه عمر إلى الله، وإلى رسوله، وكتابه، وذكر له أشياء من فضل
الاسلام، وما يصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة.
فقال له الأسقف:
يا عمر! أتقرأون في كتابكم: {وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ}([11])
فأين (تكون) النار؟!
فسكت عمر، وقال لعلي «عليه السلام»:
أجبه أنت.
قال له علي «عليه السلام»:
أنا أجيبك يا أسقف، أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟! وإذا جاء
النهار أين يكون الليل؟!
فقال الأسقف:
ما كنت أرى أن أحدا ليجيبني عن هذه المسألة. مَنْ هذا الفتى يا عمر؟!
فقال:
علي بن أبي طالب، ختن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وابن عمه. وهو
أبو الحسن والحسين.
فقال الأسقف:
فأخبرني يا عمر! عن بقعة من الأرض طلع (طلعت) فيها الشمس مرة واحدة ثم
لم تطلع قبلها ولا بعدها؟!
قال عمر:
سل الفتى.
فسأله فقال:
أنا أجيبك هو البحر، حيث انفلق لبني إسرائيل، ووقعت فيه الشمس مرة
واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها.
فقال الأسقف:
أخبرني عن شيء في أيدي الناس شبه بثمار الجنة.
قال عمر:
سل الفتى.
فسأله، فقال علي أنا أجيبك هو القرآن، يجتمع عليه أهل
الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شيء، فكذلك ثمار الجنة.
فقال الأسقف:
صدقت. قال: أخبرني! هل للسموات من قفل؟!
فقال علي «عليه السلام»:
قفل السماوات الشرك بالله..
فقال الأسقف:
وما مفتاح ذلك القفل؟!
قال:
شهادة أن لا إله إلا الله، لا يحجبها شيء دون العرش.
فقال:
صدقت.
فقال:
أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض؟!
فقال علي «عليه السلام»:
أما نحن فلا نقول كما يقولون: دم الخشاف (لعله الخفاش). ولكن أول دم
وقع على وجه الأرض مشيمة حواء، حيث ولدت هابيل بن آدم.
قال:
صدقت. وبقيت مسألة واحدة، أخبرني أين الله؟!
فغضب عمر، فقال علي:
أنا أجيبك وسل عما شئت، كنا عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذ
أتاه ملك فسلم.
فقال له رسول
الله «صلى الله عليه وآله»:
من أين أرسلت؟!
فقال:
من السماء السابعة من عند ربي.
ثم أتاه آخر فسأله فقال:
أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي.
فجاء ثالث من الشرق، ورابع من المغرب، فسألهما فأجابا
كذلك.
فالله عز وجل هيهنا وهاهنا، في السماء إله، وفي الأرض
إله([12]).
ولا نرى أننا بحاجة للتعليق على هذا النص، فإنه أوضح من
الشمس، وأبين من الأمس..
5-
علي
يكذِّب كعب الأحبار:
ذكر الطبري:
أنه في السنة السابعة عشرة ضرب الطاعون العراق، ومصر، والشام. فجمع عمر
الناس في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، فاستشارهم في البلدان، فقال:
إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم، لأنظر
في آثارهم، فأشيروا علي ـ وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة من
إمارة عمر أسلم ـ فقال كعب: بأيها تريد أن تبدأ يا أمير المؤمنين؟
قال:
بالعراق.
قال:
لا تفعل إن الشر عشرة أجزاء، والخير عشرة أجزاء، فجزء الخير بالمشرق،
وتسعة بالمغرب، وإن جزءاً من الشر بالمغرب وتسعة بالمشرق، وبها قرن
الشيطان. وكل داء عضال.
كتب إلى السري، عن شعيب عن سيف، عن سعيد، عن الأصبغ، عن
علي، قال: قام إليه علي «عليه السلام»، فقال:
يا أمير المؤمنين، والله إن الكوفة لَلْهِجرة بعد
الهجرة، وإنها لقبة الإسلام، وليأتين يوم لا يبقى مؤمن إلا أتاها، وحن
إليها، والله لينصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط إلخ..([13]).
ونقول:
هل شعر علي «عليه السلام»:
أن
كعب الأحبار كان يعلم بما للكوفة وأهلها من موقع حميد، ومقام رشيد،
فأراد أن ينفر الناس من الكوفة ومن أهلها، ومن العراق كله؟! إذ لا نجد
مبرراً لحرص اليهود على إثارة الشبهات حول العراق والعراقيين إلا ذلك.
وكعب الأحبار كان حديث عهد بالإسلام، فإنه إنما أظهر
إسلامه لتوه، أي في نفس السنة التي حدث فيها هذا الحوار، ولم تمض بعدُ
له مدةٌ يمكننا أن نتصوره قد تأقلم بالإسلام، وتقبل تعاليمه، واقتنع
بها بصورة تامة.. بل قد رأينا أنه لم يزل يسعى لإشاعة أباطيله بين
المسلمين في مختلف سني حياته.
وكان الأئمة «عليهم السلام» يحرصون على رد أباطيل
اليهود، وتفنيد مزاعمهم، وتكذيب ترهاتهم..
وقد وصف علي «عليه السلام» كعب الأحبار بقوله: إنه
لكذّاب([14])
وكان كعب منحرفاً عن علي «عليه السلام»([15]).
كما أن الإمام الباقر «عليه السلام» قد كذّب كعباً في
بعض أباطيله، كروايته: «إن الكعبة لتسجد لبيت المقدس كل غداة»([16])،
وذلك سعياً من كعب إلى جعل الصخرة التي في بيت المقدس، والتي هي قبلة
اليهود([17])،
هي الأعلى والأكرم، وجعل الكعبة أقل شأناً منها، حتى إن قبلة المسلمين
وهي الكعبة تسجد لها كل غداة.
ونلاحظ هنا:
أنه «عليه السلام» اكتفى ببيان شأن الكوفة، وشأن أهلها ولم يشر إلى كعب
الأحبار بصورة مباشرة.. ربما لأنه كان حديث عهد بالإسلام، والناس سوف
يعذرونه على ظهور آثار اليهودية عليه في هذا الوقت.
ولكن الإمام الباقر «عليه السلام»
يصرح باسم كعب، ويقرر:
أنه قد كذب فيما قال.. لأن كعباً إنما قال هذا الكلام بعد أن مرت
السنون الطويلة على تظاهره بالإسلام، في حين أنه كان لا يكف عن الدس
فيه..
فكان لا بد من لفت أنظار الناس إلى هذه الحقيقة لكي
يحذروا ما ينقل لهم عنه، فقد يكون هناك الكثيرون لا يشعرون أو فقل لا
يلتفتون إلى ماضي كعب.. لكي يقارنوا ويربطوا بين أقواله المغرضة، أو
ليسعوا إلى التأكد منها.
وقد قال الإمام الصادق «عليه
السلام»، وهو يتحدث عن العلماء:
«ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به علمه، ويكثر به
حديثه، فذاك في الدرك الخامس من النار»([18]).
6-
علي
يجدد تكذيب كعب:
روي عن ابن عباس:
أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر، إذ قال عمر: يا
كعب، أحافظ أنت للتوراة؟!
قال كعب:
إني لأحفظ منها كثيراً.
فقال رجل من جنبة المجلس:
يا أمير المؤمنين، سله: أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه؟! ومم
خلق الماء الذي جعل عليه عرشه؟!
فقال عمر:
يا كعب، هل عندك من هذا علم؟!
فقال كعب:
نعم يا أمير المؤمنين، نجد في الأصل الحكيم: أن الله تبارك وتعالى كان
قديماً قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلما أراد
أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة، واللجج الدائرة،
فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وآخر ما بقي منها لمسجد
قدسه.
قال ابن عباس:
وكان علي بن أبي طالب «عليه السلام» حاضراً، فعظم عليٌّ ربه، وقام على
قدميه، ونفض ثيابه.
فأقسم عليه عمر، لما عاد إلى مجلسه، ففعل.
قال عمر:
غص عليها يا غواص، ما تقول يا أبا الحسن، فما علمتك إلا مفرجاً للغم؟!
فالتفت علي «عليه السلام» إلى كعب
فقال:
غلط أصحابك، وحرفوا كتب الله، وفتحوا (باب. ظ.) الفرية عليه.
يا كعب، ويحك، إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله، ولا
تسع عظمته. والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره.
ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته.
وعز الله وجل أن يقال:
له مكان يومى إليه.
والله ليس كما يقول الملحدون، ولا كما يظن الجاهلون،
ولكن كان ولا مكان، بحيث لا تبلغه الأذهان.
وقولي:
«كان»
عجز عن
كونه.. وهو مما علَّم من البيان. يقول الله عز وجل
{خَلَقَ الإِنْسَانَ،
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}([19]).
فقولي له:
«كان»
مما علمني من البيان، لأنطق بحججه
و عظمته. وكان ولم يزل ربنا مقتدرا على ما يشاء، محيطا بكل الأشياء.
ثم كوَّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب، ولا شبهة
دخلت عليه فيما أراد.
وأنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه
ظلمة، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء، كما خلق النور من غير
شيء.
ثم خلق من الظلمة نوراً، وخلق من النور ياقوتة، غلظها
كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت (أي: ذابت) لهيبته،
فصارت ماء مرتعداً، ولا يزال مرتعدا إلى يوم القيامة.
ثم خلق عرشه من نوره، و جعله على الماء.
وللعرش عشرة آلاف لسان، يسبح الله كل لسان منها بعشرة
آلاف لغة، ليس فيها لغة تشبه الأخرى.
وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب (مثل الشيباء)
وذلك قوله: {وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ}([20]).
يا كعب ويحك، إن من كانت البحار تفلته على قولك، كان
أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس، أو تحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه
حل فيه.
فضحك عمر بن الخطاب، وقال:
هذا هو الأمر، و هكذا يكون العلم، لا كعلمك يا كعب، لا عشت إلى زمان لا
أرى فيه أبا حسن([21]).
ونقول:
إن في القصة أموراً فائقة الأهمية، يحتاج بسط القول
فيها إلى مزيد من التأمل والتدقيق بمرامي كلام علي أمير المؤمنين «عليه
السلام»، دون أن يغيب عن الأنظار شبح العجز المهيمن على البشر عن بلوغ
كنه بليغ كلامه، أو نيل حقائق مرامه صلوات الله وسلامه عليه.
من أجل ذلك نكتفي بالإلماح إلى أمور يسيرة، وظاهرة
يدركها الناظر فيها بعفوية لا يشوبها شيء من التكلف، أو الإيغال المرهق
وغير المألوف.
1 ـ
إنه «عليه السلام» بدأ إعتراضه على كعب بالإعلان باستعظام ما يقوله هذا
الحبر اليهودي، واستفظاعه، وقرن ذلك بالمبادرة إلى الخروج من المجلس،
وهو تصرف غير معهود منه «عليه السلام» إلا في حالات التغيظ الشديد، لكي
يدرك الحاضرون في ذلك المجلس أن ثمة جرأة غير عادية، لا بد من التصدي
لها، ولا يجوز السكوت عنها، فضلاً عن الإستئناس والتفكه بها.
2 ـ
إن اعتراض علي «عليه السلام» كان على أمور عدة، منها:
ألف:
إن كعباً، ومن هم على شاكلته، قد حرفوا كتب الله.
ب:
إنهم فتحوا باب الفرية على الله تبارك وتعالى..
ج:
إنهم جعلوا الصخرة والهواء شريكين له تعالى في القدم. والقول بتعدد
القديم شرك ظاهر.
د:
إنهم جعلوا لله تعالى مكاناً يومى إليه، أي أنهم جعلوه في جهة. وهذا
معناه: القول بالتجسيم، وبغير ذلك من محاذير.
هـ:
إنهم جعلوه محلاً للحوادث..
و:
إنهم زعموا: أن الأذهان يمكن أن تحيط به.
ز:
إنهم انتقصوا من قدرته، ومن إحاطته بجميع الأشياء.
ح:
إنهم وقعوا في التناقض الذي تأباه العقول. حيث إن من كانت البحار
تَفْلَتُه لا تحويه صخرة بيت المقدس.. إلى غير ذلك من أمور أشار إليها
«عليه السلام».
3 ـ
ويلاحظ هنا: أنه «عليه السلام» لم يقل لكعب: إن الصخرة التي زعمت لا
تحويه ولا تسعه، بل قال: لا تحوي جلاله، ولا تسع عظمته، ليتحاشى أي شيء
يشير إلى التجسيم الإلهي، وكونه تعالى في جهة، وما إلى ذلك.
4 ـ
وقد ألمح «عليه السلام» إلى أن ما يذكرونه من أباطيل إنما أتاهم من جهة
الإلحاد، أو الجهل، ولا ثالث لهما..
وإنما أطلق عليهم وصف الإلحاد، لأن اطلاق هذه الأوصاف
الباطلة تعني نفي صفة الألوهية عنه تعالى، لأن الألوهية تلازم التنزيه
عن مثل هذه الأباطيل.
5 ـ
إن هذا الموقف منه «عليه السلام»:
ألف:
يدخل في سياق فضح اليهود، وإبطال ترهاتهم.
ب:
ومقاومة السياسة القاضية بمنع الناس من الأخذ عن رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وتوجيههم إلى أهل الكتاب ليأخذوا منهم.
ج:
كما أنه يسقط هيبة كعب الأحبار أمام الناس، ويمنع من أخذ الناس عنه من
دون تأمل أو تمحيص. وقد كان أهل الكتاب يسعون للهيمنة الفكرية على
المسلمين، ولتقديم أنفسهم كعلماء بكل ما كان ويكون..
حدثنا أبي رضي الله عنه قال:
حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري
قال: حدثني أبو عبد الله الرازي، عن أبي الحسن عيسى بن محمد بن عيسى بن
عبد الله المحمدي، من ولد محمد بن الحنفية، عن محمد بن جابر، عن عطاء،
عن طاووس قال: أتى قوم من اليهود عمر بن الخطاب، وهو يومئذ وال على
الناس، فقالوا:
أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم. وقد أتيناك نسألك عن
أشياء، إن أنت أخبرتنا بها آمنا وصدقنا واتبعناك.
فقال عمر:
سلوا عما بدا لكم.
قالوا:
أخبرنا عن أقفال السماوات السبع ومفاتيحها.
وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟!
وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس؟!
وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه؟!
وأخبرنا عن خمسة لم يخلقوا في الأرحام؟!
وعن واحد، واثنين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة،
وعن ثمانية، وتسعة، وعشرة، وحادي عشر، وثاني عشر؟!
قال:
فأطرق عمر ساعة، ثم فتح عينيه، ثم قال: سألتم عمر بن الخطاب عما ليس له
به علم، ولكن ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخبركم بما
سألتموني عنه.
فأرسل إليه، فدعاه، فلما أتاه قال
له:
يا أبا الحسن، إن معاشر اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم فيها بشيء.
وقد ضمنوا لي إن أخبرتهم أن يؤمنوا بالنبي «صلى الله عليه وآله».
فقال لهم علي «عليه السلام»:
يا معشر اليهود، اعرضوا علي مسائلكم.
فقالوا له مثل ما قالوا لعمر.
فقال لهم علي «عليه السلام»:
أتريدون أن تسألوا عن شيء سوى هذا؟!
قالوا:
لا يا أبا شبر وشبير.
فقال لهم علي «عليه السلام»:
أما أقفال السماوات فالشرك بالله، ومفاتيحها قول لا إله إلا الله.
وأما القبر الذي سار بصاحبه، فالحوت سار بيونس في بطنه
البحار السبعة.
وأما الذي أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس، فتلك
نملة سليمان بن داود «عليهما السلام».
وأما الموضع الذي طلعت فيه الشمس فلم تعد إليه، فذاك
البحر الذي أنجى الله عز وجل فيه موسى «عليه السلام»، وغرق فيه فرعون
وأصحابه.
وأما الخمسة الذين لم يخلقوا في الأرحام، فآدم وحواء،
وعصا موسى، وناقة صالح، وكبش إبراهيم «عليهم السلام».
وأما الواحد، فالله الواحد لا شريك له.
وأما الاثنان، فآدم وحواء.
وأما الثلاثة، فجبريل وميكائيل وإسرافيل. [لأنهم رأس
الملائكة على الوحي].
وأما الأربعة، فالتوراة والإنجيل، والزبور والفرقان.
وأما الخمس فخمس صلوات مفروضات على النبي «صلى الله
عليه وآله». [وفي المناقب: فالصلاة أنزلها الله على نبينا وعلى أمته
ولم ينزلها على نبي كان قبله، ولا على أمة كانت قبلنا، وأنتم تجدونه في
التوراة]
([22]).
وأما الستة، فقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾([23]).
وأما السبعة، فقول الله عز وجل: ﴿وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾([24]).
وأما الثمانية، فقول الله عز وجل:
{وَيَحْمِلُ
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}([25]).
[وفي المناقب: وأما العشرة فتلك عشرة كاملة].
وأما التسعة، فالآيات المنزلات على موسى بن عمران «عليه
السلام».
وأما العشرة، فقول الله عز وجل: ﴿وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾([26]).
وأما الحادي عشر، فقول يوسف لأبيه ﴿إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾([27]).
وأما الاثني عشر، فقول الله عز وجل لموسى «عليه
السلام»: ﴿اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾([28]).
[في المناقب: وأما الاثنا عشر، فالسنة اثنا عشر شهراً].
قال:
فأقبل اليهود يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وأنك ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ثم أقبلوا على عمر، فقالوا:
نشهد أن هذا أخو رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والله إنه أحق بهذا
المقام منك.
وأسلم من كان معهم وحسن إسلامهم([29]).
لكن ابن شهرآشوب روى هذه الأسئلة عن الواحد والاثنين
إلى مئة متصلة عن ابن عباس: أن أخوين يهوديين سألا أمير المؤمنين «عليه
السلام» عن واحد لا ثاني له، وعن ثان لا ثالث له، إلى مائة متصلة نجدها
في التوراة والإنجيل وهي في القران يتلونه..
والقسم المتبقي من الفقرات مذكور في رسالة ملك الروم
وأجوبتها المتقدمة من قبل علي «عليه السلام» في فصل أسئلة ملك الروم..
ولكن رواية ابن شهرآشوب([30])
أضافت ما بين العشرين إلى الثلاثين،
وهي الفقرات التالية:
وأما الأحد العشرون فألآن الله لداود فيها الحديد، وأما
في اثنين وعشرين فاستوت سفينة نوح، وأما الثلاثة وعشرون ففيه ميلاد
عيسى ونزول المائدة على بني إسرائيل، وأما في أربعة وعشرين فرد الله
على يعقوب بصره، وأما خمسة وعشرون فكلم الله موسى تكليماً بواد المقدس
كلمه خمسة وعشرين يوماً، وأما ستة وعشرين فقيام إبراهيم في النار أقام
فيها حيث صارت برداً وسلاماً، وأما سبعة وعشرون فرفع الله إدريس مكاناً
علياً وهو ابن سبع وعشرين سنة، وأما ثمان وعشرون فمكث يونس في بطن
الحوت([31]).
وعن جعفر بن شريح الحضرمي، عن مالك بن أعين الجهني، عن
أبي عبد الله «عليه السلام»، قال: لما ولي عمر بن الخطاب جاءه رجل
يهودي، فدخل عليه المسجد وهو قاعد ومعه أبو أيوب الأنصاري، فقال له:
أنت أمير المؤمنين؟!
قال:
نعم.
قال:
أنت الذي يسألك الناس ولا تسأل، وأنت تحكم ولا يحكم عليك؟!
قال له عمر:
نعم.
قال له:
فأخبرني عن خصال أسألك عنها.
قال:
سل.
قال:
أخبرني عن واحد ليس له ثان، واثنين ليس لهما ثالث، وثلاثة ليس لها
رابع، وأربعة ليس لها خامس، وخمسة ليس لها سادس، وستة ليس لها سابع،
وسبعة ليس لها ثامن، وثمانية ليس لها تاسع، وتسعة ليس لها عاشر، وعشرة
ليس لها حادي عشر.
فلم يجبه عمر، وأطرق ملياً.
فقال اليهودي: أخبرني عما أسألك.
فقال له أبو أيوب:
إن أمير المؤمنين عنك مشغول، ولكن ائت ذلك القاعد.
قال:
وعلي «عليه السلام» قاعد في المسجد معه جماعة. فجاء اليهودي حتى وقف
على علي «عليه السلام»، فقال: إني جئت إلى أميركم هذا، فسألته عن أشياء
فلم يجبني فيها بشيء، فأُرسلت إليك.
فرفع علي «عليه السلام» رأسه، ثم
قال:
وما هي، يا ابن هارون؟!
فأعاد عليه.
فقال علي «عليه السلام»:
أما الواحد الذي لا ثاني له، فالله الواحد تبارك وتعالى.
وأما الاثنان اللذان ليس لهما ثالث، فالشمس والقمر.
وأما الثلاثة التي ليس لها رابع، فالطلاق.
وأما الأربعة التي ليس لها خامس، فالنساء.
وأما الخمسة التي ليس لها سادس، فالصلاة.
وأما الستة التي ليس لها سابع، فالستة الأيام التي خلق
الله فيها السماوات والأرض.
وأما السبعة التي ليس لها ثامن، فالسماوات السبع.
وأما الثمانية التي ليس لها تاسع، فحملة العرش.
وأما التسعة التي ليس لها عاشر، فحمل المرأة.
وأما العشرة التي ليس لها حادي عشر، فالعشرة الأيام
التي تمم الله بها ميقات موسى «عليه السلام» في قوله عز وجل: ﴿وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾([32]).
فقال اليهودي:
أنت تعلم هذا فذاك ما نعتقده أشهد أنك أمير المؤمنين حقاً، وأسلم على
يده، فجز شعره، وغسل ثوبه، وعلمه شرائع الدين. وأتى عمر، فقال: اكتب
هذا في ديوان المسلمين([33]).
ونقول:
لا نرى حاجة إلى التعليق على هذه الرواية وسابقتها،
ولكننا نقول:
1 ـ
قال التستري ما مفاده: أن هذه الرواية والرواية السابقة قد اختلفتا في
جواب هذه الأعداد «وكلاهما صحيح، ولعله «عليه السلام» أجاب كلاً منهما
بحسبه»([34]).
2 ـ
يلاحظ في الرواية الأولى: أن عمر قال لعلي «عليه السلام»: إنه لم يجب
اليهود عن مسائلهم، ولم يذكر له: أنه لا يعلم أجوبة تلك المسائل!!
3 ـ
إنه وعد به اليهود أولاً: أنه إن أجاب عن أسئلتهم يصدقونه ويتبعونه..
مع أن المطلوب هو إسلامهم، واتباع الرسول.. فدل قولهم هذا على أن اتباع
الخليفة وتصديقه إنما هو بادعائه الإمامة والخلافة الحقيقية للرسول.
4 ـ
إن اليهود بعد سماعهم للأجوبة أقبلوا على عمر وشهدوا: أن علياً «عليه
السلام» ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، مع أن كلامهم في بداية
الأمر كان عن مجرد الإيمان. والإتباع للخليفة. ألا يدل ذلك على أنهم
يشيرون إلى صفات ودلالات ونعوت للخليفة بعد رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يجدونها عندهم، ومنها: أن الخليفة يكون ابن عم رسول الله، ومنها:
أنه يكون أخاه؟!
ويشهد لذلك:
حديث اليهوديين الذين ناظرا أبا بكر، حيث جاء فيه: أن هذه الأوصاف
بالذات موجودة في كتبهم، وقد تقدم ذلك في خلافة أبي بكر، فراجع.
5 ـ
دلت هذه الحادثة أيضاً على أن من الثابت لدى أهل الأديان بملاحظة ما
عندهم: أن الوصي يجب أن يملك العلم الخاص الذي يختص الله ورسوله به
الأوصياء، وأنه ليس من الناس العاديين، وأن بإمكانهم التعرف عليه من
هذا الطريق، وأن ثبوت وجود هذا العلم لديه كاف في إثبات إمامته، بل هو
كاف عندهم في إثبات النبوة والوحي لرسول الله قبله.
6 ـ
إن وجود هذا العلم يظهر المتغلب على مقام الإمام والإمامة، ويفضح أمره،
ويميزه عن الإمام الحقيقي.
7 ـ
قول أبي أيوب للسائل في الرواية الثانية: إن أمير المؤمنين مشغول عنك.
فيه تمويه ظاهر، لحفظ ماء وجه الخليفة حين ظهر عجزه عن الجواب.
8 ـ
التسعة التي لا عاشر لها.. يلاحظ: أن هذا يصلح شاهداً للقول: بأن أكثر
الحمل تسعة أشهر.. وليس أكثر من ذلك..
9 ـ
والحديث عن شعر ذلك اليهودي يشر إلى ما عرف عن أحبار اليهود من تطويل
الشعر. كما أنه حين أمره بغسل ثوبه يشير إلى إرادته نظيفاً وطاهراً من
الأوساخ والقاذورات والنجاسات.
10 ـ
إن هذه الرواية تدل على أن الكثير من الأحكام التي كانت في الشرائع
السابقة لا تزال هي عينها في هذه الشريعة، وهذا يؤكد أن المنسوخ منها
هو أقل القليل.
([1])
الآية 18 من سورة يونس.
([2])
البحار: ج40 ص286 عن صفوة الأخبار.
([3])
الآية 125 من سورة النحل.
([4])
التسمير: الإرسال، سمرت: ذهبت.
([5])
العسل المصفى في تهذيب زين الفتى ج1 ص305 و 306 والغدير ج6
ص268 و 269 عنه. وراجع: إعلام الورى ص368 وبحار الأنوار ج57
ص89 وج36 ص374 ـ 379 وكمال الدين ص294 ـ 296 وكتاب الغيبة
للنعماني ص97 ـ 100 وغاية المرام ج1 ص217 ـ 219 والإمام علي
«عليه السلام» في آراء الخلفاء للشيخ مهدي فقيه إيماني ص131 ـ
133 وفرائد السمطين ج1 ص354 ح280.
([6])
المراد به: موسى جار الله صاحب كتاب الوشيعة.
([8])
بحار الأنوار ج36 ص376.
([9])
بحار الأنوار ج36 ص377.
([10])
أنظر: لسان العرب ج9 ص195.
([11])
الآية 21 من سورة الحديد.
([12])
الغدير ج6 ص242 و 243 والعسل المصفى من تهذيب زين الفتى ج1
ص309 و 310 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص90 والإرشاد ج1 ص201 و
202 والإحتجاج ج1 ص209 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه
السلام» ص185 وبحار الأنوار ج10 ص58 وج31 ص594 وج40 ص248.
والفضائل لابن شاذان ص427 ـ 430 و (ط المطبعة الحيدرية) ص149
والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص162 وإثبات الهداة ج1 ص180
وإحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص223 عن در بحر المناقب لابن
حسنويه، وعن الأربعين لابن أبي الفوارس.
([13])
تاريخ الأمم والملوك ج40 ص59 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص160
وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص159 والكامل في التاريخ ج2 ص561.
([14])
أضواء على السنة المحمدية ص165 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص77
وبحار الأنوار ج34 ص289 ومكاتيب الرسول ج1 ص659 وطرائف المقال
ج2 ص105 وكتاب الأربعين للشيرازي ص304 والغدير ج7 ص278.
([15])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص77 وكتاب الأربعين
للشيرازي ص304 وبحار الأنوار ج34 ص289 والغدير ج7 ص278 وطرائف
المقال ج2 ص105.
([16])
الكافي ج4 ص239 وبحار الأنوار ج46 ص354 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة
آل البيت) ج13 ص262 و(ط دار الإسلامية) ج9 ص363 وجامع أحاديث=
= الشيعة ج10 ص63 ونور الثقلين ج2 ص214 ومنتقى الجمان ج3 ص26
وطرائف المقال ج1 ص494 وج2 ص105 وذخيرة المعاد (ط.ق) ج1 ق3
ص548. ويبدو أن كعباً قد استمر على تعظيم الصخرة، حتى إنه
حينما كان مع عمر في بيت المقدس، وسأله عمر: أين يجعل المسجد
والقبلة، قال: خلف الصخرة، فقال له عمر: ضاهيت اليهودية يا
كعب. فراجع هذه القضية بنصوصها المتقاربة في: الأنس الجليل في
أخبار القدس والخليل ج1 ص256 والأموال لأبي عبيد ص225 والإصابة
ج4 ص105 والأسرار المرفوعة ص457.
([17])
مقدمة ابن خلدون ص354.
([18])
الخصال ص352 وروضة الواعظين ص7 ومنية المريد ص139 والفصول
المهمة للحر العاملي ج1 ص609 وبحار الأنوار ج2 ص108 وج8 ص310.
([19])
الآية 4 من سورة الرحمن.
([20])
الآية 7 من سورة هود.
([21])
بحار الأنوار ج40 ص194ـ 196 وج30 ص101 ومجموعة ورام (تنبيه
الخواطر) ج2 ص5 و 6.
([22])
الآية 17 من سورة الحاقة.
([23])
ولعل المراد أنها لم تنزل بهذه الكيفية، إما بهذا العدد من
الركعات، أو في هذه الأوقات.
([24])
الآية 12 من سورة النبأ.
([25])
الآية 17 من سورة الحاقة.
([26])
الآية 142 من سورة الأعراف.
([27])
الآية 4 من سورة يوسف.
([28])
الآية 60 من سورة البقرة.
([29])
الخصال للصدوق ص456 ـ 457 وبحار الأنوار ج10 ص7 ـ 9.
([30])
مناقب آل أبي طالب ج1 ص511 و 512 و (ط المكتبة الحيدرية ـ
النجف) ج2 ص203 و 204 وبحار الأنوار ج10 ص86 و 87.
([31])
مناقب آل أبي طالب ج1 ص512 و (ط المكتبة الحيدرية ـ النجف) ج2
ص204 وبحار الأنوار ج10 ص87.
([32])
الآية 42 من سورة الزمر.
([33])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص109 عن
قضايا القمي، وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين
ص189 و190 وعن معادن الجواهر ج2 ص48 ح43.
([34])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص109.
|