وقد استشار عمر المسلمين في المسير إلى حرب الفرس،
فأشار علي «عليه السلام» عليه بترك ذلك، فعمل بمشورته، فلاحظ النصوص
التالية:
1 ـ
في رواية الطبري عن سيف: أن عمر بن الخطاب في أول يوم من السنة الرابعة
عشرة خرج حتى عسكر بصرار، ثم استشار أصحابه في المسير إلى بلاد فارس،
فقال العامة: سر، وسر بنا معك، فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعهم حتى
يخرجهم منه في رفق.
فقال:
أعدوا واستعدوا، فإني سائر، إلا أن يجيء رأي هو أمثل من ذلك.
ثم أحضر ذوي الرأي واستشارهم، فأشاروا عليه بإرسال رجل
آخر، ويرميه بالجنود، فإن فتح الله على يده فبها، وإلا أعاده وندب
رجلاً غيره..
فنادى عمر الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، وأرسل إلى
علي «عليه السلام» وقد استخلفه على المدينة، فأتاه، والى طلحة وكان
بعثه على المقدمة، وإلى ابن عوف والزبير، ثم قام خطيباً، فكان مما قال:
أيها الناس، إني إنما كنت كرجل منكم، حتى صرفني ذوو
الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم رجلاً، وقد أحضرت هذا الأمر من
قدمت ومن خلفت، وكان علي «عليه السلام» خليفته على المدينة، وطلحة على
مقدمته بالأعوص،
فأحضرهما ذلك([1]).
وروى سيف هذا الحديث نفسه عن عمر بن
عبد العزيز، وفيه:
أن طلحة كان ممن تابع، وأن ابن عوف نهاه عن المسير، وأن الذي أشار
بإرسال رجل آخر هو عبد الرحمن بن عوف([2]).
ونقول:
إننا نشير إلى بعض الأمور ضمن الفقرات التالية:
تقول الرواية السابقة:
إن
عمر أظهر للعامة أنه موافق لهم على المسير، ولم يكن يريد ذلك في
الواقع، ولكنه أراد أن يخرجهم من رأيهم هذا برفق، وأن يسوقهم إلى ما
يريد بلطف.
فإذا كان هذا صحيحاً، فالسؤال هو:
لماذا لا يتخذ قراره وفق قناعاته من دون حاجة إلى الإستشارة؟! حتى لا
يحتاج إلى سوق الناس برفق إلى الخروج من رأيهم.. مع أنه كان يقرر ويفرض
رأيه في العديد من الأحوال المشابهة..
فهل لنا أن نحتمل:
أن يكون الهدف من هذه الإستشارات هو كشف محبه من مبغضه؟!
أو أنه أراد تبرير قعوده عن مواجهة الأخطار، والإكتفاء
بإرسال غيره إليها، لا سيما وأنه لم يكن من أهل الإقدام في الحروب، بل
فر في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» في العديد من المواطن، ومنها
يوم أحد وخيبر وحنين؟! ولم يجرؤ على الظهور يوم الخندق، مع أن النبي
«صلى الله عليه وآله» قد ضمن على الله الجنة لمن يبارز عمرو بن عبد ود.
وفي بعضها قال أن من بارز فله الإمامة من بعده، كما تقدم.
ويلاحظ هنا:
أن رواية البلاذري لما جرى في القادسية قد جاءت على خلاف رواية غيره
لها..
فغير البلاذري يقول:
إن علياً «عليه السلام» أشار على عمر بعدم الشخوص.
ورواية البلاذري تقول: إن علياً «عليه السلام» أشار على عمر بالشخوص..
وتقول رواية البلاذري أيضاً:
إن عمر طلب من علي «عليه السلام» أن يخرج فأبى.. وفيها:
«كتب المسلمون إلى عمر يعلمونه كثرة من تجمع لهم من أهل
فارس، ويسألونه المدد.
فأراد أن يغزو بنفسه، وعسكر لذلك، فأشار عليه العباس
وجماعة من مشايخ الصحابة بالمقام، وتوجيه الجيوش والبعوث.. ففعل ذلك.
وأشار عليه علي «عليه السلام» بالمسير.
فقال له:
إني قد عزمت على المقام.
وعرض على علي «عليه السلام» الشخوص فأباه([3]).
ونقول:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
ما رواه الطبري عن سيف بن عمر، إما موضوع أو محرّف، حتى
لقد قال بعضهم: «لم يخل خبر منه من تحريف»([4]).
فلا اعتداد بما رواه هنا عن سيف، إلا إذا وافق فيه
غيره..
وتقدم:
أن عمر بن الخطاب قد استشار أولاً العامة، فأشاروا عليه بالمسير إلى
القادسية، فجاراهم وأظهر موافقتهم، مبْطِناً أن يخرجهم من هذا الرأي في
رفق، ولكنه عاد فاستشار ذوي الرأي، فأشاروا عليه بالبقاء، وإشخاص غيره
ليقوم بهذه المهمة..
ونحن لم نستطع أن نعرف السبب في القيام بهاتين
الخطوتين، إلا إذا كان أراد أن يعرف هوى العامة في أي اتجاه، أو يعرف
محبه من غيره..
فإن كان هذا هو الهدف، فالسؤال هو:
لماذا لم يرجعوا إلى الناس في يوم السقيفة أيضاً، ليعرفوا هواهم في أي
اتجاه؟!.
ولماذا لم يستشر عمر بن الخطاب العامة في أمر الخليفة
بعده، ليعرف رأيهم قبل أن ينشيء الشورى لكي تأتي بعثمان؟!.
وربما يقال:
إنه أراد أن يعرف محبه من غيره، فإن محبه بنظره لا يرغب بتعريضه
للأخطار.. فيشير عليه بالبقاء، وأما مبغضه، فيرغب بالتخلص منه فيشير
عليه ـ بزعمه ـ بالمسير مع أن هذا النوع من الآراء لا يكشف المحب من
المبغض إذ يمكن أن ينظر المشير إلى المصلحة للدين وأهله.
بعض الروايات تقول:
إن البعض أشار بإرسال سعد على رأس الجيش إلى القادسية، ولم تصرح بإسم
ذلك البعض بل هي نسبت ذلك إلى جميع ذوي الرأي كما يظهر منها([5]).
مع أن رواية أخرى للطبري تقول:
إن عمر نفسه قد اقترح إسم النعمان بن مقرّن([6]).
ورواية ثالثة لسيف تذكر:
أن عبد الرحمان بن عوف هو الذي اقترح رجلاً آخر غير عمر([7]).
لكن ابن أعثم يقول:
إن الذي أشار عليه بإرسال سعد هو علي «عليه السلام»([8]).
وقد يقال:
هذا هو الأوضح والأصرح، وإن كانت روايته لا تستقيم في
بعض وجوهها الأخرى كما سنوضحه، وعلى كل حال فإن إبهام اسم المشير في
الرواية الأولى يشير إلى ذلك، أما الرواية الثانية فربما تكون قد
اختزلت النص، وحذفت فقرة إشارته «عليه السلام» على عمر، حين استشار أهل
الرأي، واكتفت بذكر خطاب عمر للعامة بعد ذلك.
ونحن نذكر هنا كلام ابن أعثم حول ما جرى، فنقول:
علي
يشير بسعد بن أبي وقاص:
ذكر ابن أعثم:
أنه لما بلغ عمر بن الخطاب ما يجري على الجبهة الشرقية مع الفرس جمع
المهاجرين والأنصار، وشاورهم في أن يصير إلى العراق، فكلهم أشار عليه
بذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، إن جيشاً تكون فيه أنت خير من جيش لم
تحضره.
وقام علي بن أبي طالب «عليه
السلام»، فقال:
يا أمير المؤمنين، إن كل إنسان يتكلم بما يحضره من الرأي. والرأي عندي
أن لا تصير إلى العراق بنفسك، فإنك إن صرت إلى العراق، وكان مع القوم
حرب، واختلط الناس لم تأمن أن يكون عدو من الأعداء يرفع صوته ويقول:
قتل أمير المؤمنين، فيضطرب أمر الناس ويفشلوا في حرب عدوهم، ويظفر بهم
العدو.
ولكن أقم بالمدينة، ووجه برجل يكفيك أمر العدو، وليكن
من المهاجرين والأنصار البدريين.
فقال عمر:
ومن تشير علي أن أوجه يا أبا الحسن؟
قال:
أشير عليك أن توجه رجلاً يشرح باليسير، ويسرّ بالكثير.
فقال عمر:
من هذا؟! أشر علي.
قال علي «عليه السلام»:
أما أنا فإني أشير عليك أن توجه إليهم سعد بن أبي وقاص، فقد عرفت
منزلته من رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال عمر:
أحسنت، هو لها، ما لها سواه.
قال:
ثم دعا سعد بن أبي وقاص إلخ»([9])..
ونقول:
إننا نسجل هنا ما يلي:
ذكر المهاجرون والأنصار:
أن السبب في ترجيحهم لعمر أن يسير بنفسه إلى العراق هو: أن جيشاً يكون
فيه خير من جيش لم يحضره.
ونقول:
أولاً:
إن هذا الكلام غير دقيق، ولا مقبول على إطلاقه، بل المعيار هو أن يكون
حضوره مؤثراً في حفظ الجيش، وفي استجلاب النصر له.
ولذلك نقول:
إن غيابه عن الجيش أحياناً قد يكون هو الأولى والأصوب،
كما ظهر من بيانات أمير المؤمنين «عليه السلام» الذي أوضح لهم أن في
حضور عمر خطر كبير لا مجال للإغضاء عنه..
كما أن حضوره في بعض الأحيان، وفي ظروف أخرى قد يكون
ضرورياً وفي محله كما هو الحال في قضية مسيره إلى بيت المقدس.كما سيأتي
إن شاء الله.
ثانياً:
كيف يمكن أن نوفق بين هذا النص، وبين ما ذكره سيف، الذي هو عكس ذلك
تماماً، فقد ادعى: أنهم أشاروا عليه بإرسال شخص آخر، ويرميه بالجنود،
فإن فتح الله على يديه فبها، وإلا أعاده وندب غيره.
وقد قلنا أكثر من مرة:
أن سيف بن عمر غير مأمون في الرواية، فلا يعتد إلا بما يوافقه عليه
غيره.
يلاحظ:
أن كلام علي «عليه السلام» قد تضمن نوعين من الكلام:
أحدهما:
يرتبط بعمر نفسه، حيث ألمح إليه أنه سيكون هو شخصياً في موضع الخطر..
وقد أثبت عمر في كل مواقفه مع رسول الله «صلى الله عليه
وآله» أنه لا يفرط في حياته، ولا يعرض نفسه للخطر حتى لو كان ثمن ذلك
الجنة، بوعد من النبي «صلى الله عليه وآله» له، كما كان الحال في
الخندق كما أن مواقفه في سائر المشاهد تؤيد ذلك.
الثاني:
إنه قد بيّن له أن وجود عمر في ذلك الجيش قد يهيء الفرصة لمكيدة العدو،
لتفعل فعلها في إحلال الهزيمة بالمسلمين، ولعل أهون تلك المكائد أن
يقول قائل منهم: قتل أمير المؤمنين. فيفشل المسلمون في حرب عدوهم، وتحل
الكارثة بهم.
وذكرت رواية ابن أعثم:
أن علياً «عليه السلام» رشح سعداً لمحاربة الفرس، قائلاً لعمر: فقد
عرفت منزلته من رسول الله «صلى الله عليه وآله».
وكان قبل ذلك قد اقترح على عمر أن يكون من يتولى هذه
المهمة من البدريين..
ونقول:
أولاً:
إننا نرى أن كون رأس الجيش لحرب فارس بدرياً أمر راجح، فإن ذلك أدعى
لتقيد ذلك القائد، والتزامه، ومراعاته حدود الشريعة في تعامله مع من هم
تحت يده، أو في جميع الأحوال. كما أن ذلك يعطيه قدرة على إدارة الأمور،
من حيث أنه يهيء الناس لطاعته والإنقياد له.. في هذا الأمر..
وهو أيضاً أبعد عن التنافس، والتحاسد، أو التنازع على
موقع القيادة بين الذين يجدون أنفسهم أهلاً لها..
غير أن ذلك لا يكفي للقول:
بأن علياً «عليه السلام» كان يرجح سعداً لهذه المهمة، فهناك آخرون أكفأ
من سعد، فلماذا لم يرشح «عليه السلام» الأشتر، أو هاشم بن عتبة
(المعروف بالمرقال)، فإنهما قد شاركا في تلك الحرب، وقد جاء هاشم بن
عتبة من الشام على رأس عشرة آلاف فارس ليشارك في حرب القادسية، وقد
شارك فيها بالفعل.
وهذا يشير إلى أنهما كانا يضطلعان بمهمات أساسية
ومؤثرة، وقد شاركا بصورة فاعلة وقوية في حرب نهاوند وحروب الشام أيضاً،
مع العلم بأن أمثال هؤلاء من أصحاب علي «عليه السلام» كانوا الذين
يأتون بالنصر في الفتوحات..
إلا أن يكون «عليه السلام» قد لاحظ:
أن سعداً لم يكن قد أعلن عن دخائل نفسه بصورة جلية..
ثانياً:
بالنسبة لمكانة سعد من رسول الله «صلى الله عليه وآله» نقول:
لم نجد فيما بأيدينا من نصوص ما يؤيد صحة ذلك.. ونحن
نطمئن إلى أن هذه الفقرة مدسوسة على أمير المؤمنين «عليه السلام»، من
قبل الرواة من أصحاب الأهواء.
ومن المعلوم أن
سعداً لم تكن له هذه المكانة عند علي «عليه السلام».. وهذا يدل على أن
ما يزعم من مكانة له عند الرسول «صلى الله عليه وآله» لا يصح، لأن
علياً «عليه السلام» لا يمكن أن يهين من يكرمه رسول الله «صلى الله
عليه وآله»..
فكيف إذا علمنا:
أن سعداً كان أحد أصحاب الشورى، وقد وهب حقه لابن عمه عبد الرحمان بن
عوف، وكان يعلم أن هوى ابن عوف في عثمان، لأن عبد الرحمان كان زوج أخت
عثمان لأمه، وقد قال علي «عليه السلام» في الخطبة الشقشقية مشيراً إلى
ذلك:
«فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن»([10]).
فالذي صغى لضغنه هو سعد، والذي مال لصهره هو عبد
الرحمان بن عوف، وضغن سعد إنما هو لأجل من قتلهم علي «عليه السلام» في
الجاهلية من أقاربه دفاعاً عن الإسلام.
يضاف إلى ذلك:
أن سعداً قعد عن بيعة علي «عليه السلام» وأبى أن يبايعه، فأعرض عنه علي
«عليه السلام»، وقال: {لَوْ
عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}([11])»([12]).
وكتب علي «عليه السلام» إلى والي
المدينة:
لا تعطين سعداً ولا ابن عمر من الفيء شيئاً إلخ..([13]).
ودعا عمار ابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص
إلى بيعة أمير المؤمنين «عليه السلام»، فأظهر سعد الكلام القبيح،
فانصرف عمار إلى علي «عليه السلام».
فقال علي «عليه السلام» لعمار:
دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود، وذنبي إلى محمد بن
مسلمة: أني قتلت أخاه يوم خيبر، مرحب اليهودي([14]).
وقال سعد لعمار:
إنَّا كنا نعدك من أكابر أصحاب محمد، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظمأ
الحمار فعلت وفعلت؟!
قال:
أيما أحب إليك، مودة على دخل أو مصارمة جميلة؟!
قال:
مصارمة جميلة.
قال:
لله علي ألاّ أكلمك أبداً([15]).
وكتب سعد إلى عمرو بن العاص:
«إنك سألتني عن قتل عثمان، وإني أخبرك أنه قتل بسيف سلته عائشة، وصقله
طلحة، وسمه علي بن أبي طالب «عليه السلام»، وسكت الزبير إلخ..([16]).
وليراجع ما جرى بين سعد وبين أمير المؤمنين «عليه
السلام» حين جاء سعد يطالب بعطائه، حين تخلفوا عنه في الجمل وصفين،
فاحتج «عليه السلام» عليه، ورده، ولم يعطه شيئاً([17]).
وذكرت رواية سيف المتقدمة:
أن عمر استخلف علياً «عليه السلام» على المدينة حين سار إلى القادسية.
ونحن نشك في ذلك:
أولاً:
لأن سيف بن عمر غير مأمون في رواياته، فإنه يضع ويحرف ويتصرف.. كما
وصفه المؤرخون والمترجمون له..
ثانياً:
إن علياً «عليه السلام» لم يكن ليتولى المدينة من قبل عمر، ولا من قبل
غيره ممن يسعون لتصغير عظيم منزلته على حد تعبيره([18]).
وقد عرضوا عليه ما هو أعظم وأهم من ذلك، وهو حرب الفرس
فرفض([19])،
وكان أبو بكر يريد أن يكلفه بقتال المرتدين بقيادة الأشعث بن قيس، فصده
عمر عن ذلك، لتوقعه أن يرفض علي «عليه السلام»، فإن أبى ذلك فلن يجد
أبو بكر أحداً يسير إليهم([20]).
بل هو لم يخرج مع عمر إلى الشام، رغم أن عمر أراده على
ذلك([21]).
والذي نراه هو أن عمر بن الخطاب كما سيأتي في موضوع
استشارته علياً «عليه السلام» في امر المسير إلى الشام قد يكون أوصاهم
بمراجعة علي «عليه السلام» فيما ينوبهم من أمر.. وأن يتعاملوا معه
«عليه السلام» كما يتعامل معه عمر نفسه.
لقد أشار البلاذري إلى أن عمر بن الخطاب عرض على أمير
المؤمنين علي «عليه السلام» الشخوص إلى القادسية، ليكون قائداً لجيش
المسلمين، فأباه، فوجه سعد بن أبي وقاص([22]).
وفصل
ذلك المسعودي، فقال:
«لما قتل أبو عبيد الثقفي بالجسر شق ذلك على عمر وعلى المسلمين، فخطب
عمر الناس وحضهم على الجهاد، وأمرهم بالتأهّب لأرض العراق، وعسكر عمر
بصِرار، وهو يريد الشخوص. وقد استعمل على مقدّمته طلحة بن عبيد الله،
وعلى ميمنته الزُّبير بن العوّام، وعلى ميسرته عبد الرحمان بن عوف.
ودعا الناس فاستشارهم، فأشاروا عليه بالمسير.
ثم قال لعلي «عليه السلام»:
«ما ترى يا أبا الحسن: أسير أم أبعث»؟!
قال:
«سر بنفسك، فإنه أهيب للعدو وأرهب»، وخرج من عنده.
فدعا العباس في جِلّة من مشيخة قريش
وشاورهم، فقالوا:
«أقم، وابعث غيرك، لتكون للمسلمين إن انهزموا فئة» وخرجوا.
فدخل عليه عبد الرحمان بن عوف،
فاستشاره، فقال عبد الرحمان:
«فُديتَ بأبي وأمي، أقم وابعث غيرك، فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك
كهزيمتك، وإنك إن تُهزم أو تُقتل يكفر المسلمون، ولا يشهدوا ان لا إله
إلا الله أبداً».
قال:
«أشِر عليَّ من أبعث؟»
قال:
سعد بن أبي وقاص.
فقال عمر:
أعلم ان سعداً رجل شجاع، ولكني أخشى أن لا يكون عنده (معرفة بـ) تدبير
الحرب.
قال:
عبد الرحمان: هو على ما تصف من الشجاعة، وقد صحب رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وشهد بدراً، فاعهد إليه عهداً، وشاورنا فيما أردت أن تحدث
إليه، فإنه لن يخالف أمرك، ثم خرج.
فدخل عليه عثمان بن عفان، فقال له:
يا أبا عبد الله، أشر عليّ: أسير أم أقيم؟!
فقال عثمان:
«أقم يا أمير المؤمنين، وابعث الجيوش، فإني لا آمن عليك إن أتى عليك
آتٍ أن ترجع العرب عن الإسلام، ولكن ابعث الجيوش وداركها بعضها على
بعض، وابعث رجلاً له تجربة بالحرب وبصيرة بها»
قال عمر:
ومن هو؟
قال:
علي بن أبي طالب.
قال:
فالقَه، وكلِّمه، وذاكره ذلك، فهل تراه يسرع إليه أم لا؟!
فخرج عثمان، فلقي علياً فذاكره ذلك، فأبى علي ذلك
وكرهه، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره.
فقال له عمر:
فمَن ترى؟!
قال:
سعيد بن زيد إلخ..([23]).
وأشار البلاذري إلى أن عمر عرض على علي «عليه السلام»
الشخوص إلى القادسية، ليكون قائداً لجيش المسلمين، فأباه، فوجه سعد بن
أبي وقاص([24]).
ونقول:
أولاً:
قد يحتمل بعض الباحثين: أن يكون عمر يريد أن يولي علياً «عليه السلام»
بعض تلك الجيوش، وينتدبه للتوجه إلى بعض البلاد، ثم يعزله، ليثير
الشبهة حول أهليته، أو حول نواياه، ليضعف موقعه، ويحط من مقامه..
ثانياً:
تقدم: أن أبا بكر كان قد فكر في إرسال علي «عليه
السلام» لقتال المرتدين، فقال له عمرو بن العاص: لا يطيعك([25]).
فإذا كان «عليه السلام» لا يطيع أبا بكر، مع أن المدعى
أن المرتدين كانوا خطراً داخلياً ـ وإن كنا لم نر لهؤلاء المرتدين
أثراً في عهد أبي بكر كما أوضحناه ـ ، فهل يطيع عمر في القتال لأجل فتح
البلاد، وبسط النفوذ؟!.. مع العلم: بأن شيئاً لم يتغير فيما يرتبط برأي
علي «عليه السلام» في غاصبية أبي بكر وعمر للمقام الذي جعله الله تعالى
له بنص يوم الغدير، وغيره..
ثالثاً:
تقدم حين الحديث عن مشورة عمرو بن العاص على أبي بكر بعدم انتداب علي
«عليه السلام» لحرب المتنبئين بعض ما يفيد في استجلاء دلالات هذا
التصرف من عمر، وهذا الموقف من علي، فراجع ما ذكرناه سابقاً.
رابعاً:
إنها قد صرحت:
بأن الناس كلهم أشاروا على عمر بالمسير إلى العراق في مناسبة القادسية،
ومنهم
علي «عليه السلام». وسيأتي
أنه بالنسبة للمسير إلى نهاوند أشاروا عليه بعدم المسير، باستثناء علي
«عليه السلام»، فإنه أشار عليه بالمسير.. مع أن ما ذكر هنا سبباً لعدم
المسير إليهم هو نفسه السبب الذي ذكر له في مشورة نهاوند، فكيف اختلف
الرأي لعلي «عليه السلام» في الموردين، مع كون نفس المبررات قائمة
فيهما، ألا يدل ذلك على عدم صحة ما نقله المسعودي هنا عن علي «عليه
السلام»؟
[كما أن ما استدل به المشيرون على عمر بالشخوص إلى
العراق قد استدلوا بنفس الدليل الذي نسبه هنا إلى علي «عليه السلام»].
خامساً:
ما نسب إلى عبد الرحمان بن عوف هنا، من أنه إذا هزم عمر أو قتل يكفر
المسلمون، ولا يشهدوا ألا إله إلا الله.. غير صحيح. فإن بقاء المسلمين
على إسلامهم ليس لأجل عمر، كما أن عمر قد قتل بعد ذلك على يد أبي
لؤلؤة، ولم يكفر المسلمون، ولا كفر بعضهم. ومجرد وقوع الهزيمة على عمر
لا يلزم منه أيضاً كفر أحد..
وقد استشهد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، ولم
يكفروا، فهل يكفرون بموت عمر.
سادساً:
زعمت الرواية: أن الذي أشار بتولية سعد بن أبي وقاص هو عبد الرحمان بن
عوف. مع أن رواية الفتوح قد ذكرت أن علياً «عليه السلام» هو المشير على
عمر بسعد.
اقتراح عثمان على عمر إرسال علي «عليه السلام» لمحاربة
الفرس كان منسجماً مع سياستهم في جعل علي «عليه السلام» يعمل تحت
رايتهم وإمرتهم، ويخدم دولتهم، ويعترف لهم بالأمر وبالإمرة.
ولكن قد يتخوف عمر من احتمالات أن يستفيد علي «عليه
السلام» من الفرصة للتوجه نحو نوع من الإستقلال بالأمر عنهم، والإتجاه
نحو عصيان أوامرهم، وعدم الإنقياد لهم.
ولكنه قد يكون بصدد تدبير تلافي ذلك، بالتصميم على
الإسراع في عزل علي «عليه السلام» عن مقامه، بمجرد إنجاز المهمة
الموكلة إليه.. متذرعاً له وللناس بضعف علي «عليه السلام»، أو بأي شيء
آخر ينقص من مقامه، ولو بأن يضع حول كفاءته في التدبير والإدارة علامة
استفهام.
ولولا أن البلاذري قد أيد ما ذكرته هذه الرواية عن عرض
عمر على علي «عليه السلام» أن يوليه حرب الفرس.. لكنا قد شككنا في صحة
هذا أيضاً، وألحقناه بغيره مما كان لنا عليه علامات استفهام تقدمت.
وأما بالنسبة لأسباب رفض علي «عليه السلام» هذا العرض
من عمر، فلا شك في أنها وجيهة، فإنه كان يعرف أن غيره قادر على إنجاز
هذه المهمة، فلماذا يتصدى هو لها، ويدفع ثمن ذلك أن يمكِّنهم من تقوية
حكمهم، بادعاء أنه عمل تحت رايتهم، وخضع لأوامرهم، واعترف بقيادتهم
وبشرعية حكمهم وما إلى ذلك.
على أنه سيأتي إن شاء الله أن أصحاب علي «عليه السلام»
هم الذي قاموا بالدور الأساس في الفتوحات، وهي إنما حصلت بتدبيرهم وعلى
أيديهم.
قد يقال:
كيف يقترح عثمان إرسال علي «عليه السلام» لحرب الفرس، وهو يعلم: أن عمر
قد طلب من أبي بكر أن لا يشرك علياً «عليه السلام» في الحروب ، باعتبار
أنه إن رفض علي «عليه السلام» الخروج لم يخرج الناس بعدها.
ويجاب:
أولاً:
لعل عثمان لم يطلع على ما جرى بين أبي بكر وعمر بهذا الخصوص.
ثانياً:
لعله علم به ولكنه ظن أن علياً «عليه السلام» قد غير مواقفه في هذا
الأمر، وأصبح مستعداً لقبول مهمة من هذا القبيل، بسبب ما ظهر من مرونته
في التعامل مع أبي بكر وعمر في بعض المجالات.
ثالثاً:
لعله رأى أن هذه المشاركة أصبحت تنسجم مع توجهات علي «عليه السلام»
الذي لا يمكن أن يسمح بتعرض الإسلام والمسلمين للخطر.. وحرب الفرس تحمل
مخاطر هائلة على الإسلام وعلى المسلمين وكيانهم ووجودهم، فكيف يمكن أن
يمتنع عن المشاركة إذا كانت هذه هي الحال.
ولم يلتفت إلى أن الأمور لم تبلغ إلى هذا الحد، وأن ثمة
خيارات من شأنها دفع هذا الخطر من دون حاجة إلى مشاركته التي قد يستفيد
منها مناوئوه، لإثارة الشبهة حول الحق الذي أخذ منه بالقوة والقهر.
([1])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص480 و 481 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص2.
([2])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص481 و 482 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص3.
([3])
فتوح البلدان ص255 و (ط مكتبة النهضة) ج2 ص313.
([4])
بهج الصباغة ج7 ص421.
([5])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص480 و 481 و 482 و (ط مؤسسة الأعلمي)
ج3 ص3 و 4. وتاريخ اليعقوبي (ط سنة 1394هـ) ج2 ص132.
([6])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص483 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص180
ومروج الذهب (تحقيق شارل پلا) ج3 ص53.
([7])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص483 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص3.
([8])
الفتوح لابن أعثم ج1 ص172و 173.
([9])
الفتوح لابن اعثم ج1 ص172و 173.
([10])
راجع: نهج البلاغة (بشرح محمد عبده) ج1 ص35 (الخطبة الشقشقية).
([11])
الآية 23 من سورة الأنفال.
([12])
مروج الذهب (تحقيق شارل پلا) ج3 ص204.
([13])
قاموس الرجال ج4 ص312 و 313 عن الكشي، ومستدرك الوسائل ج16 ص79
وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص524 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص136
وإختيار معرفة الرجال (رجـال الكشي) ج1 ص197 ورجـال ابن = =
داود ص48 والتحرير الطاووسي ص74 ونقد الرجال للتفرشي ج2 ص305
والدرجات الرفيعة ص445 وطرائف المقال ج2 ص137 ومستدركات علم
رجال الحديث ج1 ص537.
([14])
الإمامة والسياسة ج1 ص54 و (تحقيق الزيني) ج1 ص52 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص73 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص27 وشرح إحقاق الحق
(الملحقات) ج32 ص461.
([15])
عيون الأخبار لابن قتيبة ج3 ص111 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص24
والمعارف لابن قتيبة ص550.
([16])
الإمامة والسياسة ج1 ص48 و (تحقيق الزيني) ج1 ص48 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص67 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني
ص363 والغدير ج9 ص83 و 140 وج10 ص128 وراجع: تاريخ المدينة
لابن شبة ج4 ص1174.
([17])
راجع القضية في كتاب: صفين للمنقري ص551 و 552 وأعيان الشيعة
ج1 ص517.
([18])
راجع مصادر قوله: «اللهم عليك بقريش، فإنهم قطعوا رحمي،
وأكفأوا إنائي، وصغروا عظيم منزلتي» في كتابنا: علي «عليه
السلام» والخوارج.
([19])
مروج الذهب ج2 ص309 و 310 وفتوح البلدان (تحقيق صلاح الدين
المنجد ـ مطبعة النهضة) ج2 ص313.
([20])
الفتوح لابن أعثم ج1 ص72 و (ط دار الأضواء) ج1 ص57.
([21])
شرح النهج للمعنزلي ج12 ص78 وبحار الأنوار ج29 ص638 والتحفة
العسجدية ص146 وغاية المرام ج6 ص92.
([22])
فتوح البلدان (تحقيق صلاح الدين المنجد) ج2 ص313.
([23])
مروج الذهب للمسعودي (تحقيق شارل پلا) ج3 ص51 و 52 و (ط بيروت)
ج2 ص309 و 310.
([24])
فتوح البلدان (بتحقيق صلاح الدين المنجد ـ مطبعة النهضة) ج2
ص313.
([25])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص129.
|