روي عن الصادق «عليه السلام»:
أن
أمير المؤمنين «عليه السلام» بلغه عن عمر بن الخطاب شيء، فأرسل إليه
سلمان &
وقال: قل له: قد بلغني عنك كيت وكيت، وكرهت أعتب عليك في وجهك، فينبغي
أن لا تذكر فيَّ إلا الحق، فقد أغضيت على القذى حتى يبلغ الكتاب أجله.
فنهض سلمان
&
وبلغه ذلك، وعاتبه، وذكر مناقب أمير المؤمنين «عليه السلام»، وذكر
فضائله وبراهينه.
فقال عمر:
عندي الكثير من فضائل علي «عليه السلام»، ولست بمنكر فضله، إلا أنه
يتنفس الصعداء، ويظهر البغضاء.
فقال سلمان
&:
حدثني بشيء مما رأيته منه.
فقال عمر:
نعم يا أبا عبد الله، خلوت به ذات يوم في شيء من أمر الجيش، فقطع
حديثي، وقام من عندي وقال: مكانك حتى أعود إليك، فقد عرضت لي حاجة، فما
كان بأسرع من أن رجع علي ثانية وعلى ثيابه وعمامته غبار كثير، فقلت له:
ما شأنك؟!
فقال:
أقبل نفر من الملائكة وفيهم رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يريدون مدينة بالمشرق يقال لها: صيحون. فخرجت لأسلم عليه، وهذه
الغبرة ركبتني من سرعة المشي.
قال عمر:
فضحكت متعجباً حتى استلقيت على قفاي، وقلت له: النبي «صلى الله عليه
وآله» قد مات وبلي، وتزعم أنك لقيته الساعة، وسلمت عليه؟! فهذا من
العجائب!! مما لا يكون!!
فغضب علي «عليه السلام» ونظر إلي،
وقال:
أتكذبني يا ابن الخطاب.
فقلت:
لا تغضب، وعد إلى ما كنا فيه، فإن هذا مما لا يكون أبداً.
قال:
فإن أنت رأيته حتى لا تنكر منه شيئاً استغفرت الله مما قلت وأضمرت،
وأحدثت توبة مما أنت عليه، وتركت حقاً لي؟!.
فقلت:
نعم.
فقال:
قم.
فقمت معه فخرجنا إلى طرف المدينة
وقال:
غمض عينيك! فغمضهما، فمسحهما بيده ثلاث مرات.
ثم قال لي:
افتحهما.
ففتحتهما، فنظرت، فإذا أنا برسول الله «صلى الله عليه
وآله» ومعه رجل (أي نفر) من الملائكة لم أنكر منه شيئاً. فبقيت والله
متحيراً أنظر إليه.
فلما أطلت النظر قال لي:
هل رأيته.
فقلت:
نعم.
قال:
أغمض عينيك، فغمضتهما.
ثم قال:
افتحهما، ففتحتهما. فإذا لا عين ولا أثر.
فقلت له:
هل رأيت من علي «عليه السلام» غير ذلك.
قال:
نعم، لا أكتم عنك خصوصاً أنه استقبلني يوماً وأخذ بيدي ومضى بي إلى
الجبانة. وكنا نتحدث في الطريق.
وكان بيده قوس فلما صرنا في الجبانة رمى بقوسه من يده
فصار ثعباناً عظيماً مثل ثعبان موسى «عليه السلام»، وفتح فاه وأقبل
(نحوي) ليبتلعني.
فلما رأيت ذلك طار قلبي من الخوف، وتنحيت، وضحكت في وجه
علي «عليه السلام» وقلت: له الأمان يا علي بن أبي طالب. أذكر ما كان
بيني وبينك من الجميل.
فلما سمع هذا القول استفرغ ضاحكاً،
وقال:
لطفت في الكلام، فنحن أهل بيت نشكر القليل، فضرب بيده إلى الثعبان
وأخذه بيده، وإذا هو قوسه الذي كان بيده.
ثم قال عمر:
يا سلمان! إني كتمت ذلك عن كل أحد، وأخبرتك به يا أبا عبد الله! فإنهم
أهل بيت يتوارثون هذه الأعجوبة كابراً عن كابر.
ولقد كان إبراهيم يأتي بمثل ذلك.
وكان أبو طالب وعبد الله يأتيان بمثل ذلك في الجاهلية.
وأنا لا أنكر فضل علي «عليه السلام»، وسابقته، ونجدته،
وكثرة علمه، فارجع إليه واعتذر عني إليه، واثن عني عليه بالجميل([1]).
وفي نص آخر:
عن سلمان الفارسي «رضي الله عنه»
(قال:)
إن علياً «عليه السلام» بلغه عن عمر ذكر شيعته، فاستقبله في بعض طرقات
بساتين المدينة وفي يد علي «عليه السلام» قوس [عربية]، فقال [علي]: يا
عمر، بلغني عنك ذكرك لشيعتي.
فقال:
أربع [على] ظلعك.
فقال علي «عليه السلام»:
إنك لها هنا؟!
ثم رمى بالقوس على الأرض، فإذا هي ثعبان كالبعير،
فاغراً فاه، وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه.
فصاح عمر:
الله الله يا أبا الحسن، لا عدت بعدها في شيء، وجعل يتضرع إليه، فضرب
[علي] يده إلى الثعبان، فعادت القوس كما كانت، فمضى عمر إلى بيته
مرعوبا.
قال سلمان:
فلما كان في الليل دعاني علي «عليه السلام» فقال: صر إلى عمر، فإنه حمل
إليه من ناحية المشرق مال، ولم يعلم به أحد، وقد عزم أن يحبسه، فقل له:
يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق، ففرقه على من جعل لهم، ولا
تحبسه، فأفضحك.
فقال سلمان:
فمضيت إليه، وأديت الرسالة.
فقال:
حيرني أمر صاحبك، فمن أين علم [هو] به؟!
فقلت:
وهل يخفى عليه مثل هذا؟!
فقال:
يا سلمان، اقبل مني ما أقول لك: ما علي إلا ساحر، وإني لمشفق [عليك]
منه، والصواب أن تفارقه، وتصير في جملتنا.
قلت:
بئس ما قلت، لكن علياً وارث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه، وعنده ما
هو أكثر (مما رأيت) منه.
قال:
ارجع (إليه) فقل له: السمع والطاعة لأمرك.
فرجعت إلى علي «عليه السلام»، فقال:
أحدثك بما جرى بينكما.
فقلت:
[أنت] أعلم به مني، فتكلم بكل ما جرى بيننا، ثم قال: إن رعب الثعبان في
قلبه إلى أن يموت([2]).
ونقول:
إننا نشير هنا إلى بعض الأمور في ضمن الفقرات التالية:
لا ريب في أن ما يجترحه الأنبياء من معجزات، وما يظهره
الله سبحانه لهم ولأوصيائهم من كرامات، ثم ما يقومون به من خوارق
العادات بحكم ما خولهم الله إياه، إنطلاقاً من مصالح العباد ـ إن ذلك ـ
جزء من تاريخهم، الذي لا بد من تسجيله، وحفظه وتداوله، لأجل الفكرة
فيه، وأخذ العبرة منه، وتثبيت العقيدة به، وتعميق الوعي له، وتبلوره
وتحققه في القلوب، وزيادة تجليه ووضوحه في الأذهان والعقول.
ولكن المؤلفين والمصنفين اعتادوا على تحاشي الإفاضة في
أمثال هذه الأمور، ربما لأنهم وجدوها حاسمة وباتة، لا يجد العقل والفكر
الكثير من الفرص للتعبير عن نفسه، وإظهار وجوده معها.
ونحن..
في كتابنا هذا حاولنا أن نتمرد على هذا القرار، الذي وجدناه جائراً على
الحقيقة وظالماً لها، وسعينا للتعامل مع ما يمر معنا من معجزات وكرامات
وخوارق للعادات بنفس الجدية، وبنفس القدر من الإهتمام، وأعطيناه بعض
قسطه من البحث، والتحليل والتدبر، في مختلف جهاته بنفس المستوى الذي
أعطيناه لأي حدث عادي آخر.
وذلك لقناعتنا بأن لكل نوع من الناس مجالاته وتنوعاته
المناسبة له، فلا بد لمن أراد أن يؤرخ لهم من أن يعكس ذلك بدقة وأمانة،
وإن كانت حين يراد نقلها إلى محيط فريق آخر يتبلور شعور بغربتها عن ذلك
المحيط الذي يراد نقلها إليه..
فالمعجزة والكرامة، وخوارق العادات هي جزء من حياة
وحركة الأنبياء وأوصيائهم، فلماذا لا تعطى قسطها كأي أمر عادي آخر؟!.
ولماذا نريد أن نقيس حياتهم على حياتنا؟! ولماذا
نُحكِّم فيها نفس المعايير؟! ونفرض عليها نفس النظرة التي نتعامل بها
مع بعضنا البعض؟! ما دمنا لسنا منهم، ولا نقدر على كثير مما يقدرون
عليه، ولا نميل إلى كثير مما يميلون إليه، ولتكن هذه المفردة التي نحن
بصدد الحديث عنها من هذا القبيل..
حين يكون لا بد من العتاب، فمعنى
ذلك:
أن ثمة حقاً قد اضيع، وحدوداً قد انتهكت، وأنه لا بد من اعادة الأمور
إلى نصابها.. ثم التقيد بالقيود والإلتزام بالوقوف عند الحدود..
وأما كراهة علي «عليه السلام» العتب على عمر في وجهه،
فيشير إلى الرغبة في إبقاء الأمور على الوتيرة التي هي عليها، فلا
تراجع عن القناعات، ولا تصعيد في المواقف..
وقد دلتنا كلمته «عليه السلام» هنا:
على أنه
يؤثر تجميد الأمور والإنتظار من دون أن يتخلى عن قضيته، بل هو يريد أن
يبقيها على حيويتها حتى يبلغ الكتاب أجله، ولا يحركها باتجاه تصعيدي
وتصادمي.
وقد دلنا ذلك بوضوح على:
أن القضية المحورية لا تزال حية ومؤثرة، وفي تفاعل مستمر، يدل على ذلك
قوله «عليه السلام»: «أغضيت على القذى..».. مما يعني: أن هذا القذى
المؤذي لا يزال مؤثراً، ويحتاج إلى التحمل، ثم الإغضاء.
ودل على ذلك أيضاً:
أن سلمان ذكر لعمر براهين أمير المؤمنين ومناقبه وفضائله، حتى احتاج
عمر إلى الإعتراف بها كلها، والتصريح بأنه ليس بصدد إنكار شيء منها..
وقد ذكر عمر:
أن الذي يدعوه إلى هذا النوع من التعامل هو أنه يرى علياً «عليه
السلام» يتنفس الصعداء، ويظهر البغضاء..
وللتدليل على قوله هذا أورد قضية تضمنت تعرضه لأمر مخوف
من قبل علي «عليه السلام»، لعلها جاءت على سبيل المداعبة المقصودة،
لإفهامه أمراً كان لا بد من تكراره له باستمرار، وهو: أن علياً «عليه
السلام» لم يكن يتعامل مع المعتدين عليه من موقع الضعف والوهن، أو
العجز، وإنما من موقع التكرم، والصفح والعفو، لإدراك مصلحة الإسلام
العليا.
وأن على مناوئيه أن يدركوا هذه الحقيقة، فلا تغرهم
جحافلهم وعساكرهم، ولا جموعهم وكثرة الناس من حولهم.. وأن كل فتوحاتهم،
لا تعطيهم قوة، ولا تمنع من أخذ الحق منهم، إذا حانت ساعة الصفر لذلك.
ولعل عمر قد استحق هذه المداعبة المقصودة من علي «عليه
السلام»، لكي لا يتجاوز حده، فيظهر سخريته مما أخبره به «عليه السلام»
من أمر سلامه على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الذي مر في نفر من
الملائكة يريدون مدينة بالمشرق.
فإنه لا يحق لعمر ولا لغيره التطفل على عالم لا صلة له
به، ولا يعرف عنه شيئاً، فإنه إذا كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون،
فما بالك برسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي له مقام الشهادة على
الخلق، وعلى الأنبياء الذين سبقوه، والذي يخاطبه من يزور قبره بقوله:
أشهد أنك ترى مقامي، وترد سلامي، وتسمع كلامي([3])..
أو نحو ذلك.
ولماذا لا يظهره الله تعالى لبعض خلقه؟! أليس الله على
كل شيء قدير؟!
وإذا كانت الملائكة قد ظهرت على مريم، وعلى الأنبياء،
فلماذا لا تظهر لعلي «عليه السلام»، وهو أفضل الخلق بعد النبي «صلى
الله عليه وآله»، فضلاً عن مريم «عليها السلام»؟!
وكيف لا يغضب علي «عليه السلام» من عمر، حين يكذبه، مع
أن الله سبحانه قد شهد له بالطهارة من الرجس في قرآنه العظيم..
وكيف لا يغضب؟! وقد أراه رسول «صلى الله عليه وآله» رأي
العين، وكان قد أعطاه عهداً إن أراه إياه أن يترك له حقه الذي اغتصبه
منه، ولكنه لم يفِ بما وعد.
وقد لوحظ أنه «عليه السلام» أخذ على عمر العهد بأن يريه
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويترك عمر حق علي لعلي «عليه السلام»،
ولهذا دلالات مختلفة..
فأولاً:
إنه «عليه السلام» قد جعل إرجاع الحق إليه في مقابل أن يريه دلالة من
دلائل إمامته، فكأنه «عليه السلام» لا يكتفي في التدليل على حقه
بالتذكير بالبيعة له يوم الغدير، وبنزول الآيات فيه، وبأقوال النبي
المؤكدة على إمامته، وولايته، وخلافته من بعده، بل هو يجعل ثمن ذلك ما
يتضمن تجسيداً عملياً لتجلي صفات الإمامة فيه، من حيث تصرفه بالغيوب،
وهيمنته على العوالم الأخرى..
ثانياً:
إنه «عليه السلام» يطلب من عمر أن يترك له حقاً هو له، ولا يطلب منه أن
يمنحه هذا الأمر، أو أن يعطيه إياه.. فإن تلك التعابير قد تشي بحق لعمر
تعلق بهذا الأمر، ويريد علي «عليه السلام» منه أن يتنازل له عنه بقيمة
هذا الفعل الذي يقوم به، فكأن الذي جعل لعلي «عليه السلام» الحق
بالمطالبة بهذا الأمر، هو نفس هذا الإنجاز الذي قدمه، ولولاه لبقي
الأمر لأهله..
ولكنه حين عبر بالترك لحق هو له يكون قد بين أن ما يقوم
به إنما هو للإثبات العملي لما يدعيه من غاصبية عمر لهذا الأمر، وأنه
ليس لعمر أي حق فيه من الأساس.
على أنه ليس لعمر أن ينسب أمر الثعبان إلى علي «عليه
السلام»، فإن علياً لم يصنع شيئاً سوى أنه رمى بقوسه من يده؛ فمجرد أن
يتحول القوس إلى ثعبان مما لا يطالب به علي «عليه السلام»، ولا يوجب
ذلك لوماً له، فضلاً عن أن يوجب الحقد عليه. وذكره بما ليس فيه. ولا
سيما من عمر الذي لم يعترف لعلي بشيء مما أخبره به علي «عليه السلام»،
بل كذبه بصورة صريحه، وضحك متعجباً من كلامه حتى استلقى على قفاه.
كما أنه حين أراه علي
«عليه السلام»
ذلك بأم عينيه لم يف له بما وعده به، مما يدل على أنه لم يعتبر، ولم
يتراجع عن موقفه بصورة عملية وصادقة، بل كان لا يزال يتردّى في غياهب
الشك والتهمة لعلي «عليه السلام» بالسحر، أو نحو ذلك.
وقد صرح بذلك في النص الأخير
المتقدم، فقال لسلمان:
اقبل مني ما أقول لك: ما علي إلا ساحر.
فرده سلمان، وقال:
لكن علياً وارث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه، وعنده ما هو أكثر مما
رأيت منه.
ولعل عمر كان قد صرح بشيء من ذلك أي باتهام علي «عليه
السلام» بالسحر ونحوه لبعض الناس، فبلغ ذلك علياً «عليه السلام» فأرسل
إليه سلمان ليوقفه عند حده.
ولعله فهم من هذه المطالبة:
أن عدم استجابته لعلي «عليه السلام» قد توقعه فيما هو أشد مما وقع فيه
في قضية الثعبان والقوس، فأعلن أنه لا ينكر فضل علي «عليه السلام»
وسابقته، وكثرة علمه، وأظهر التودد له، وطلب من سلمان أن يبلغه اعتذار
عمر إليه، وأن يثني عليه بالجميل.
لقد بين النص الأخير طبيعة الحديث الذي دار بين علي
«عليه السلام» وعمر، وهو أنه «عليه السلام» عاتب الخليفة على ذكره
لشيعته «صلوات الله وسلامه عليه»..
وذلك أن بعض شيعة علي «عليه السلام» اختلف مع بعض شيعة
عمر، فترافعا إلى عمر، فمال عمر إلى الذي يتشيع له على الرجل الآخر.
ولعله أطلق كلاماً يمس به شيعة علي «عليه السلام»، فطالبه علي «عليه
السلام» بما قال، لا لأنه يريد أن ينتصر لذلك الرجل لمجرد كونه من
شيعته، بل لأن ذلك الرجل قد تعرض للظلم، ولا بد لعلي «عليه السلام» أن
ينصر المظلوم.. وكيف إذا كان قد ظلم مرتين:
أولاهما:
بتضييع حقه.
والأخرى:
بانتهاك حرمته لأجل دينه ومعتقده وانتمائه؟!
ولكن عمر واجه علياً «عليه السلام» بظلم آخر، حيث واجهه
بكلام خارج عن سنة العدل والإنصاف، بقوله له: اربع على ظلعك..
ومعنى هذه الكلمة:
إنك ضعيف، فلا تحاول طلب ما تقصر عنه..
وهذا في الحقيقة
جواب من يريد أن يجعل من ضعف الآخرين سبباً لتضييع
حقوقهم، ومنعهم من المطالبة بها. وهو أمر غير مقبول من أي كان من
الناس..
مع أن علياً «عليه السلام» هو
القائل:
الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له. والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه([4]).
وكان لا بد من إقناع عمر بأن سكوته «عليه السلام» ليس
عن ضعف، وإنما لأن الله ورسوله يأمرانه بالسكوت.
ولن يقتنع عمر منه بمجرد إدعاء القوة والقدرة على
المواجهة..
وحتى لو أراد «عليه السلام» أن يظهر له شيئاً من قوته
بصورة عملية، فإن المجال يبقى واسعاً أمام عمر لإقناع نفسه وغيره: بأن
المعيار ليس هو القوة البدنية، والشجاعة الشخصية، فإن الكثرة تغلب
الشجاعة، وعمر لديه الجيوش الضاربة في طول البلاد وعرضها، ويستطيع أن
يتغلب بها على شجاعة علي «عليه السلام»، ويسقط قدراته البدنية..
فلذلك لم يجرب علي معه هذا الخيار أيضاً.. بل لجأ إلى
أسلوب إقناع لا يملك عمر فيه حيلة، حتى لو كان جميع أهل الأرض معه..
وهو التصرف في الأمور من خارج دائرة القدرات المادية، فإن من يقدر على
تحويل القوس إلى ثعبان كالبعير، قادر على القضاء على كل القدرات التي
يفكر عمر ومن معه بالإستعانة بها..
وقد أخبر علي «عليه السلام» أن رعب الثعبان مستقر في
قلب عمر إلى أن يموت..
لم يدر عمر بن الخطاب من أين علم علي «عليه السلام»
بالمال الذي جاءه.. ثم حكم بأنه قد علمه عن طريق السحر، فما علي «عليه
السلام» بنظره إلا ساحر.. وكأنّ عمر يرى أن السحر يوصل إلى العلم
بالغيب!!
وهذا يدل على عدم معرفته بعلي «عليه السلام»، أو على
تجاهله لما يعرفه منه، ويدل أيضاً على عدم معرفته بالسحر، وبقدرات
الساحر.
ويدل على كثرة الكرامات والعجائب التي كانت تصدر من بني
هاشم.
كما أنه يدل على أنه لا يفرق بين ما هو كرامة ومعجزة
إلهية، وبين ما هو خداع، وشعوذة، وتسخير للمخلوقات، التي لا تعلم
الغيب، ولا تقدر على تحويل القوس إلى ثعبان، تماماً كما حول موسى «عليه
السلام» العصا إلى حية تلقف ما يأفكون.
وقد أظهر عمر بن الخطاب أن له جماعة مناوئة لعلي «عليه
السلام»، وأنه يسعى لتكثيرها من جهة، كما يسعى لإبعاد الناس عن علي
«عليه السلام»، وضمهم إلى جماعته من جهة أخرى.
وقد بلغ به الأمر حداً جعله يطمع بسلمان، ويعرض عليه
مفارقة علي «عليه السلام»، والإنضمام إلى جماعته. وكأنه لا يعرف سلمان
الذي كان شديد الإلتزام بما يؤمن به. وقد بلغ في إيمانه وطهره وقداسته
مرتبة استحق بها أن يقول النبي «صلى الله عليه وآله»: سلمان منَّا أهل
البيت..
معرفة
سلمان بعلي
:
وقد أظهر سلمان:
أن ما يعرفه من علي «عليه السلام» أكثر مما ظهر منه، ولذلك قال لعمر عن
معرفة علي «عليه السلام» بالمال الذي وصل إلى عمر في الخفاء: «وهل يخفى
عليه مثل هذا»؟!!.
وقال لعلي «عليه السلام» حين عرض «عليه السلام» عليه أن
يخبره بما جرى بينه وبين عمر: «أنت أعلم به مني» ولم يقل له: أنت تعلم
به كما أنا أعلم به..
كما أن سلمان كان يعرف منشأ علم علي، وأسباب تصرفاته،
وهو أنه وارث من أسرار النبوة أكثر مما ظهر منه لعمر.
علي
يصحح، ويوضح:
وخطب عمر، فقال:
إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البريء عند الله، فيدسر
كما يدسر الجزور، ويشاط لحمه كما يشاط الجزور. يقال: عاص. وليس بعاص!!
فقال علي «عليه السلام»:
فكيف ذاك؟! ولمَّا تشتد البلية، وتظهر الحمية، وتسبى الذرية، وتدقهم
الفتن دق الرحى بثفالها؟!([5]).
ونقول:
1 ـ
يدسر: أي يدفع. ويشاط لحمه: يقطع ويبضع. والثفال: جلدة تبسط تحت الرحى،
فيقع عليها الدقيق.
2 ـ
إن سياق هذا النص يعطي: أن علياً «عليه السلام» لم يرتض من عمر تطبيق
ذلك القول على الحالة التي كانت قائمة آنئذٍ، فبادر إلى التصحيح
والتوضيح، مبيناً: أن شرائط حصول ذلك غير متوفرة، ثم بين تلك الشرائط
بالتفصيل، وأنها اشتداد البلية، وظهور الحمية، وسبي الذرية، وفتن قاسية
تدقهم دق الرحى بثفالها..
3 ـ
إن هذا الذي جرى يدل على أن هذا الكلام الذي ساقه عمر لم يكن من كلامه
على الحقيقة، بل هو قول سمعه عمر كما سمعه غيره. لكن الفرق هو: أن عمر
لم يحسن فهمه، وأخطأ في تطبيقه. فاحتاج إلى التوضيح والتصحيح من
العارفين..
وقد تقبل ذلك عمر، ولم يعترض، ولم يتأفف!!.
4 ـ
فاذا صح ما قلناه، فيرد سؤال: لماذا لم يشأ عمر أن يذكر تلك الأقوال
بصيغة الرواية، فينسبها إلى قائلها الحقيقي، وهو رسول الله «صلى الله
عليه وآله» فيما هو ظاهر؟!
5 ـ
هل هذا يعني أن سائر ما ينسب إلى عمر من تنبؤات ـ إن صحت نسبته إليه ـ
كان قد سمعه من النبي «صلى الله عليه وآله»؟! أو ممن سمع منه، وأخذ
عنه، ثم تظاهر هو بأنه يقوله من عند نفسه؟!
6 ـ
لماذا كان يسعى عمر لتخويف الناس من المرحلة التي تأتي بعده، ويريد
تطبيق الحديث الشريف عليها؟! هل يريد أن يمن على الناس بأن عهده عهد
رخاء وتوسع، وأمن وفتوحات، وما إلى ذلك؟!
ثم هو يريد أن يحذرهم من عهد يأتي بعده، ربما يكون لعلي
«عليه السلام» فيه أثر وحضور ونشاط.
ويظن:
أن أعداء علي «عليه السلام» لن يتركوه وشأنه، فيريد أن يثير التهم
والإحتمالات السيئة، والظنون والتشاؤم بهذا العهد، وأن يلحق به وصمة
الظلم، والتعدي، ويبعث في الناس الرعب والخوف، والحذر، والشك، وما إلى
ذلك.
خطبة لعلي
تنسب لعمر بن الخطاب:
صحيح أن أبا بكر وعمر قد تمكنا من إقصاء علي «عليه
السلام» عن الحكم والخلافة.. ولكن ذلك لم يكن نقطة الحسم للصراع، بل
كان نقطة انطلاق الصراع.
وقد وجد محبو عمر بن الخطاب، وأولياؤه أنفسهم في دائرة
السجال السياسي والفكري والإعتقادي، والديني مع الفئات الأخرى..
وأدركوا أنهم يواجهون صراعاً مريراً ومؤلماً لا طاقة لهم به، لأن
الخلفاء الذين يسعون للدفاع عنهم، قد استلبوا الخلافة من أناس ليس لهم
على وجه الأرض شبيه ولا نظير.
فإن علياً «عليه السلام» هو نفس رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، بنص آية المباهلة، وهو القمة في كل درجات الصلاح، والعلم
والتقوى، والحكمة، والشجاعة، والفصاحة، والبلاغة، وكل ما هو خير وفضل
وكمال.
ولم يكن لدى الغاصبين ما يليق أن يتشبث به أحد، لادعاء
شيء من ذلك يحسن عرضه في المواجهة السياسية، والفكرية، والإعتقادية..
أي أن غاصبي الخلافة لبسوا قميصاً ليس لهم، وتحقق وظهر
لهم مصداق قول أمير المؤمنين «عليه السلام»: «لقد تقمصها ابن أبي
قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل،
ولا يرقى إلي الطير»([6]).
فكان لا بد لهم من استعارة فضيلة، أو قضية، أو حدث
تاريخي أو حكمة، أو كلمة، أو موقف من هنا، أو
تسوّلٍ أو سرقة شيء من ذلك من هناك، فشنت الغارات
وأبيحت السرقات للفضائل والكمالات من النبي «صلى الله عليه وآله» تارة
ومن علي «عليه السلام» أخرى.. وربما من غيرهما ثالثة..
وإن مراجعة ما يذكره المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة
الجزء الثاني عشر لعمر من كلمات وخطب، وفضائل تظهر: أن الكثير مما ينسب
إليه، قد استعير أو انتهب، أو سرق، أو اغتصب من النبي وعلي
«صلى الله عليهما على وآلهما الطاهرين».
ولكن ابن أبي الحديد تغافل عن ذلك كله، فنسبه إلى عمر،
مرسلاً له إرسال المسلمات.. ولكنه لم يجد بداً من الجهر بواحدة منها،
وهي التالية:
قال المعتزلي عن عمر:
«خطب يوماً، فقال: أيها الناس، ما الجزع مما لا بد منه!
وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول! وإنما الشيء من أصله.
وقد مضت قبلكم الأصول، ونحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله!
إنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتبل فيهم المنايا نصب
المصائب، في كل جرعة شرق. وفى كل أكلةٍ غصص، لا تنالون نعمة إلا بفراق
أخرى، ولا يستقبل معمر من عمره يوماً إلا بهدم آخر من أجله. وهم أعوان
الحتوف على أنفسهم.
فأين المهرب مما هو كائن! ما أصغر المصيبة اليوم، مع
عظم الفائدة غداً! وما أعظم خيبة الخائب، وخسران الخاسر،
{يَوْمَ
لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ، إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ}([7]).
ثم قال المعتزلي:
وأكثر الناس روى هذا الكلام لعلي «عليه السلام»، وقد
ذكره صاحب «نهج البلاغة» وشرحناه فيما سبق([8]).
يسأل علياً
ما نسي أن يسأل عنه النبي
:
عن قضايا القمي قال:
لقي عمر بن الخطاب أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: يا أبا الحسن،
خصال عقلتها (غفلتها)، ونسيت أن أسأل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
عنها، فهل عندك فيها شيء؟!
قال:
وما هي؟!
قال [عمر]:
الرجل يرقد، فيرى في منامه الشيء، فإذا انتبه كان كآخذ بيده درهماً،
وربما يرى الشيء [بعينه] فلا يكون شيئاً.
والرجل يلقى الرجل، فيحبه عن غير معرفة، ويبغضه عن غير
معرفة.
والرجل يرى الشيء بعينه أو يسمعه، فيحدث به دهراً ثم
ينساه في وقت الحاجة، ثم يذكره في غير وقت الحاجة.
فقال له أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
أما قولك في الشيء يراه الرجل في منامه، فإن الله تبارك وتعالى قال في
كتابه:
﴿اللهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾([9]).
فليس من عبد يرقد إلا وفيه شبه من الميت، فما رآه في
مرقده في تحليل روحه من بدنه فهو حق، وهو من الملكوت، وما رآه في رجوع
روحه فهو باطل وتهاويل الشيطان.
وأما قولك في الرجل يرى الرجل فيحبه على غير معرفة،
ويبغضه على غير معرفة، فإن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان
بألفي عام، فأسكنها الهواء [فكانت تلتقي، فتشام كما تشام الخيل] فما
تعارف منها يومئذ ائتلف اليوم، وما تناكر منها يومئذ اختلف وتباغض.
وأما قولك في الرجل يرى الشيء بعينه، أو يسمع به،
فينساه ثم يذكره، ثم ينساه، فإنه ليس من قلب إلا وله طخاة كطخاة القمر،
فإذا تخلل القلب الطخاة نسي العبد ما رآه وسمعه، وإذا انحسرت الطخاة
ذكر ما رأى وما سمع.
قال عمر:
صدقت يا أبا الحسن، لا أبقاني الله بعدك، ولا كنت في بلد لست فيه([10]).
ونقول:
لا نريد أن نرهق القارئ بالبيانات التي قد تقصر عن
إيفاء المقام حقه في استكناه مرامي كلماته «عليه السلام»، ونكتفي
بالإشارة إلى نقطة واحدة، هي: أن عمر حين غفل أو نسي أن يسأل رسول الله
«صلى الله عليه وآله» عن هذه المسائل، فإنه رأى في أمير المؤمنين
ملاذاً له، فيها يمكن أن يجد عنده ما توقع أن يجده عند رسول الله «صلى
الله عليه وآله».. وقد وجد ما أمل.
ولتكن هذه حجة أخرى عليه، نطق بها لسانه.. وأثبتها عليه
الملك الموكل بكتابة صحيفة أعماله..
روى الكليني عن السياري، رفعه، قال:
ذكرت اللحمان عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمر حاضر، فقال عمر:
إن أطيب اللحمان لحم الدجاج.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
كلا. إن ذلك خنازير الطير، وإن أطيب اللحم لحم فرخ حمام قد نهض، أو كاد
ينهض([11]).
روى الشيخ عن عيسى بن عبد الله
الهاشمي، عن جده قال:
دخل علي «عليه السلام» وعمر الحمام، فقال عمر: بئس البيت الحمام يكثر
فيه العناء، ويقل فيه الحياء.
فقال علي «عليه السلام»:
نعم البيت الحمام، يذهب الأذى، ويذكر بالنار([12]).
ورواه الكليني عن محمد بن أسلم
الجبلي، رفعه، قال:
قال أبو عبد الله «عليه السلام»: قال أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»:
نعم البيت الحمام، يذكر النار، ويذهب بالدرن.
وقال عمر:
بئس البيت الحمام، يبدي العورة، ويهتك الستر.
قال:
ونسب الناس قول أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى عمر، وقول عمر إلى
أمير المؤمنين «عليه السلام»([13]).
ونسب الصدوق الكلامين إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»،
فيكون من باب الأشياء التي فيها مدح وقدح([14]).
ونقول:
1 ـ
إن الذوق السليم رهن باعتدال المزاج، والسلامة التامة جسدياً، ونفسياً،
وروحياً، وكلما ترقى الإنسان في مزاياه الإنسانية كلما رهف حسه وترقى
ذوقه، وصفت مشاعره.. ولذلك كان الكمَّل الأصفياء، والأنبياء والأوصياء
في أرقى الدرجات من حيث إدراك الحقائق بعمق، ونيل اللطائف. ولا ينحصر
ذلك بالأمور الفكرية أو المشاعرية، بل يتعداها إلى بدائع الصنع، ومظاهر
الجمال. وإدراكه وتذوقه ..
وحتى حين تتلوث الأرواح بالمعاصي، والأجساد بالمحرمات،
فإن درجات الإدراك، والتذوق الصحيح للمطعومات، والمرئيات، والمحسوسات،
والمشمومات، والملموسات تتضاءل، ويضعف الإحساس ببعض درجات الخباثة
والرداءة في جميع ذلك، لأن الرداءة والخباثة في هذه الحال تجد ما
يسانخها في واقع الجسد ومكوناته وحالاته، فتندمج معه، ويصعب تمييزها،
وإدراك وجودها باستقلالها..
وقد ألمح أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى رداءة لحم
الدجاج، لأنه أشبه الخنزير في تقممه للأوساخ، ونيل بعض مطاعمه منها،
حتى سمي الدجاج خنازير الطير، وذلك لا بد أن يؤثر على طعمه رداءة، وأن
يخل بدرجة طيبه، ويوجب تدني مستوى الإلتذاذ به..
وهذه هي الحقيقة التي بينها أمير المؤمنين «عليه
السلام».. ولا شك أنه أعرف البشر بالحقائق والدقائق لما ذكرناه أولاً،
ولأنه عارف بواقع الأمور وبطبيعة حياة الطيور.
2 ـ
والفرخ حين ينهض أو يكاد أن ينهض يكون في أكثر أحواله اعتدالاً، فهو لم
يتعرض بعد لأي جهد، ولا واجه أي نقص في مطعم أو مشرب، بل كان طعامه
أخلص طعام، وأنسبه، وأصفاه. ولم ير شيئاً من القاذورات، فضلاً عن أن
يكون قد اقترب منها، أو ارتطم بها.
3 ـ
وعن قول عمر وعلي «عليه السلام» في الحمام نقول:
إن نظرة عمر إليه كانت ظاهرية، بل غير واقعية أيضاً..
لأن عناء الحمام له نتيحة طيبة، ومطلوبة ومرضية، فهو كعناء الصائم في
صومه، فلا يصح أن يقال: بئس شهر رمضان، فإنه كثير العناء.. بل هو كثير
العوائد، جم الفوائد، وعوائده وفوائده بنفس تحمل مشقاته، ونتيجة للصبر
عليها..
4 ـ
أما قلة الحياء في الحمام فغير صحيحة، لأن الحياء حالة نفسانية، وهي
نتيجة تفاعل مشاعر ذات طابع معين، تفرزها معان ومرتكزات ذهنية وإيمانية
وغيرها مما يعيشه الإنسان في عمق ذاته. والحمام لا يكثر ولا يقلل من
ذلك.
5 ـ
وليس في الحمام أيضاً هتك للستر، ولا إبداء العورة.. إلا للمستهترين
بأحكام الله تعالى، ولا يهتمون لكراماتهم. ولا يحفظون أنفسهم، من
النقائص..
6 ـ
وأما نظرة أمير المؤمنين «عليه السلام» للحمام، فكانت هي الصحيحة
والواقعية، فإنه يذهب بالأذى.. ويطهر الإنسان من الأدران، ويزيل عنه ما
يكره من الروائح والمنفرات، وغيرها..
كما أنه «عليه السلام» حتى وهو في الحمام لا يغفل عن
موقعه في مجمل الواقع الذي جعله الله فيه، وأراده أن يعيشه، وأن يخطط
له، ولا يغفل عنه، فاتخذ من الجو الحار الذي يعيشه الإنسان في الحمام
سبباً لتذكر النار في الآخرة، وكما يستعين بالحمام على إصلاح أوضاعه،
وإزالة الأدران الجسدية عنه.. فإنه يستفيد من جو الحمام لتذكر نار
الآخرة، وليجعل من ذلك سبيلاً لتطهير نفسه وروحه من كل ما يمكن أن يعلق
بها من خلال الإرتطام بمحركات الشهوات، وملائمات هوى النفس في الدنيا..
في خبر السياري عن أبي الحسن «عليه
السلام» يرفعه قال:
جاء رجل إلى عمر، فقال: إن امرأته نازعته، فقالت له: يا سفلة.
فقال لها:
إن كان سفلة، فهي طالق.
فقال له عمر:
إن كنت ممن تتبع القصاص، وتمشي في غير حاجة، وتأتي أبواب السلطان، فقد
بانت منك.
فقال له أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
ليس كما قلت. إليَّ([15]).
فقال له عمر:
ائتيه، فاسمع ما يفتيك.
فأتاه، فقال له أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
إن كنت لا تبالي ما قلت وما قيل لك فأنت سفلة، وإلا فلا شيء عليك([16]).
ونقول:
1 ـ
لا شك في أن عمر بن الخطاب قد أخطا الصواب فيما قال: فإن المشي إلى باب
السلطان العادل لا إشكال فيه.. كما أن المشي إلى باب السلطان لقضاء
حاجات الناس، وحل مشكلاتهم، ومنعه من ظلمهم عبادة وكرامة، ونبل
وشهامة..
2 ـ
إن اتباع القصاصين الذين يعرفون ناسخ، القرآن ومنسوخه، ومحكمه
ومتشابهه، ويعظون الناس بالحق، ويحملونهم على التوبة، ويسوقونهم إلى
إصلاح دينهم ودنياهم، ويحملونهم على الهيمنة على أهوائهم، وعدم
الإنسياق مع شهواتهم.. هو من شيم العباد الصالحين، والمؤمنين المسددين..
3 ـ
من جهة أخرى، فإن السفالة هي انحطاط في مزايا النفس، وفقدان الشعور
بالكرامة. وأجلى مظاهر ذلك هو عدم مبالات الإنسان بما يصدر منه من
أقوال. لأنه يفقد الشعور بالمسؤولية عنها، ولا يرى نفسه مطالباً
بالإلتزام بها، ولا يعنيه ما تتركه من آثار سلبية على مقامه، وشخصيته،
كما أنه لا يبالي بما يقال له: فلا تؤثر الكلمة في إصلاحه، ولا في ردعه
عن الباطل، ولا يرى أنه له مقاماً يستحق أن يحفظ، وأن يصان..
ومعنى ذلك:
أنه لا يرى لنفسه ميزة ترفعها من الحضيض.. مع أن الله تعالى يقول:
﴿وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾([17]).
ويقول:
﴿وَلِلهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾([18]).
والمؤمن أعظم حرمة من الكعبة([19]).
وقد فوض الله للمؤمن من كل شيء إلا أن يذل نفسه([20]).
1 ـ
في تاريخ ابن أعثم: أن أبا موسى لما فتح السوس وجد حجرة مقفلة، فأمر
بكسر القفل، فوجد صخرة طويلة على شكل قبر، فيها ميت مكفن بالذهب.
فتعجب أبو موسى من طول قامته،
وسألهم عنه، فقالوا:
هذا رجل صالح كان بالعراق يستسقون به، فأصابتنا سنة شديدة، فبعثنا إلى
العراق نطلبه منهم، ليستسقي لنا، فأبوا أن يبعثوه مخافة أن لا نرده
عليهم، فبعثنا إليهم بخمسين رجلاً رهناً، فبعثوه، فاستسقى لنا، ففرج
الله عنا، وأغمضنا عن رجالنا، ولم نبعثه حتى توفي عندنا.
فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر. فسأل الصحابة، فلم يكن عند
أحد منهم علم منه سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»،
فقال: إن هذا دانيال، وكان نبياً، وكان مع بختنصر، وملوك آخرين، وشرح
له قصته إلى وفاته. وقال له: اكتب إلى أبي موسى أن يخرج جسده ويدفنه في
موضع لا يقدر أهل السوس عليه، فكتب إليه عمر بذلك، فأمر بسد النهر،
وحفر قبر فيه، فدفنه ثم أجرى الماء عليه بعد استحكامه بالصخور العظيمة([21]).
2 ـ
روى نصر بن مزاحم، عن ابن سعد، عن ابن طريف، عن ابن نباتة قال: مرت
جنازة على علي «عليه السلام» وهو بالنخيلة، فقال «عليه السلام»: ما
يقول الناس في هذا القبر؟! وفي النخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم
حوله.
فقال الحسن بن علي «عليه السلام»:
يقولون هذا قبر هود النبي «عليه السلام» لما أن عصاه قومه جاء فمات
ههنا.
فقال:
كذبوا، لأنا أعلم به منهم. هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم، بكر يعقوب.
ثم قال:
ههنا أحد من مهرة؟!
قال:
فأتي بشيخ كبير، فقال: أين منزلك؟!
قال:
على شاطئ البحر.
قال:
أين من الجبل الأحمر؟!
قال:
قريباً منه.
قال:
فما يقول قومك فيه؟!
قال:
يقولون: قبر ساحر.
قال:
كذبوا، ذلك قبر هود، وهذا قبر يهودا بن يعقوب، بكره، يحشر من ظهر
الكوفة سبعون ألفاً على غرة الشمس والقمر يدخلون الجنة بغير حساب([22]).
ونقول:
1 ـ
إن نبي الله هود «عليه السلام» مدفون قرب قبر أمير المؤمنين «عليه
السلام» في النجف الأشرف، وهو يشير بالجبل الأحمر إلى جبل النجف ويشير
بقوله: شاطئ البحر الذي بقرب الجبل الأحمر إلى بحر النجف الذي جف بطول
الزمن.
2 ـ
قال التستري: «قصة وجدان أبي موسى جسد دانيال عند فتح السوس ذكرها جميع
أهل السير، كالبلاذري، والطبري، والحموي وغيرهم».
وذكر الأول:
أن أهل السوس طلبوا من أهل بابل نقل جسده إليهم ليستسقوا به([23]).
([1])
الفضائل لابن شاذان ص147 ـ 150 و (ط المكتبة الحيدرية) ص62 ـ
63 ومجمع النوريـن
للمرنـدي
ص181 وبحار الأنـوار
ج31 ص614 وج42
= =
ص42
والعقد النضيد ص38 وعيون المعجزات ص33 وفيه: روي عن المفضل بن
عمر أنه قال: سمعت الصادق «عليه السلام» يقول.. بتفاوت يسير.
وراجع:
مدينة
المعاجز ج1 ص464 ـ 467 وج3 ص33 وإثبات الهداة ج2 ص492 باختصار،
والطبري في نوادر المعجزات ص50.
([2])
مدينة المعاجز ج3 ص209 ـ 211 وراجع: ج1 ص478 والخرائج والجرائح
ج1 ص232 وإثبات الهداة ج2 ص258 وبحار الأنوار ج29 ص31 ـ 33
وج31 ص614 ج41 ص256 و (ط حجرية) ج8 ص82 وتفسير الآلوسي ج3 ص123
ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص460.
([3])
راجع: بحار الأنوار ج97 ص295 و 376 ورسائل المرتضى ج1 ص407
والمزار لابن المشهدي ص211 و 656 والروضة لابن شاذان ص36
والفضائل لابن شاذان ص99 وإقبال الأعمال لابن طاووس ج3 ص134
والمزار للشهيد الأول ص97 ومدينة المعاجز ج2 ص221 والدر النظيم
ص409.
([4])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص88 وكتاب الأربعين للشيرازي
ص173 ـ 174 وبحار الأنوار ج21 ص121 ـ 124 وج39 ص351 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج2 ص284 و 286 والتفسير المنسوب إلى الإمام
العسكري «عليه السلام» ص554 ـ 558.
([5])
شرح نهج البلاغة ج12 ص153 وبحار الأنوار ج34 ص167 و ج34 ص173
والفايق في غريب الحديث للزمخشري ج1 ص367 ومصباح البلاغة
(مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص58 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق
الأنصاري) ص261 ـ 262 وغريب الحديث لابن قتيبة ج1 ص261.
([6])
الخطبة الشقشقية رقم 23 في نهج البلاغة. وقد تقدت مصادر الخطبة
فراجع.
([7])
الآيتان 88 و 89 من سورة الشعراء.
([8])
راجع: شرح نهج البلاغة ج12 ص18والحكمة رقم 191 والخطبة هي التي
ذكرها المعتزلي برقم 145.
وراجع: الأمالي للطوسي ج1 ص220 والأمالي لأبي علي القالي ج2
ص53 وبحار الأنوار ج73 ص106 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج2 ص110 وعن مجموعة ورام ج2 ص28.
([9])
الآية 42 من سورة الزمر.
([10])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص99 و 100
وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص181. وراجع:
كشف الخفاء ج2 ص316 والدر المنثور ج4 ص309.
([11])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص204
والكافي ج6 ص312 والمحاسن للبرقي ج2 ص475 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج25 ص46 و (ط دار الإسلامية) ج17 ص30 وعوالي
اللآلي ج4 ص10 وبحار الأنوار ج59 ص280 وج62 ص6 و 44 وجامع
أحاديث الشيعة ج23 ص305 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص234.
([12])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص204 وتهذيب
الأحكام ج1 ص377 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج2 ص30 و (ط
دار الإسلامية) ج1 ص362 وعوالي اللآلي ج4 ص10 وبحار الأنوار
ج31 ص135 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص520 وراجع: الكافي ج6 ص312.
([13])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص204
والكافي ج6 ص496 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج2 ص29 و (ط
دار الإسلامية) ج1 ص361 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص519.
([14])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص204 وراجع:
من لا يحضره الفقيه ج1 ص115 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)
ج2 ص30 و (ط دار الإسلامية) ج1 ص361 ومكارم الأخلاق للطبرسي
ص53 وبحار الأنوار ج73 ص77.
([15])
أي: تعالوا إليَّ لأبين لكم.
([16])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص167 و168
وتهذيب الأحكام ج6 ص295 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج22
ص45 و(ط دار الإسلامية) ج15 ص298 ومستطرفات السرائر ص569 وبحار
الأنوار ج72 ص300 وجامع أحاديث الشيعة ج22 ص24.
([17])
الآية 70 من سورة الإسراء.
([18])
الآية 8 من سورة المنافقون.
([19])
الخصال للصدوق ص27 وروضة الواعظين ص386 ومستدرك الوسائل ج9 = =
ص343 ومسند الرضا لداود بن سليمان الغازي ص109 ومشكاة الأنوار
ص155 و 337 وبحار الأنوار ج7 ص323 وج64 ص71 وج65 ص16 ومستدرك
سفينة البحار ج1 ص204 ونهج السعادة ج8 ص131 و 132 وكنز العمال
(ط مؤسسة الرسالة) ج1 ص164 وكشف الخفاء ج2 ص292 ونور الثقلين
ج3 ص188 والجامع الصحيح للترمذي ج4 ص378 وسنن ابن ماجة ج2 ص297
وراجع: المصنف لللصنعاني ج5 ص139 وكشف الإرتياب ص446 و 477.
([20])
الكافي ج5 ص63 و 64 وتهذيب الأحكام ج6 ص179 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج16 ص157 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص424
ومستدرك الوسائل ج12 ص211 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص69 ومستدرك
سفينة البحار ج3 ص449 وج8 ص336 ومشكاة الأنوار ص103 والفصول
المهمة للحر العاملي ج2 ص229 وبحار الأنوار ج64 ص72 وج97 ص92
ونور الثقلين ج5 ص335 و 336.
([21])
راجع: قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص205
و 206 وفتوح البلدان لابن أعثم ج2 ص8 و 9.
([22])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص205 و 206
وبحار الأنوار ج97 ص251 وج32 ص416 ومستدرك الوسائل ج10 ص224
وجامع أحاديث الشيعة ج12 ص331 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3
ص195 وصفين للمنقري ص126.
([23])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص206.
|