من
طعون عمر في أصحاب الشورى:
1 ـ
عن ابن عباس، قال: طرقني عمر بعد هدأة من الليل، فقال: أخرج بنا نحرس
نواحي المدينة، فخرج، وعلى عنقه درته، حافياً. حتى أتى بقيع الغرقد.
فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده، وتأوه صَعَدا، فقلت له:
يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الأمر؟
قال:
غص غواص، إن كنت لتقول فتحسن.
قال:
أمر الله يا ابن عباس.
قال:
إن شئت أخبرتك بما في نفسك.
قال:
ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيِّره.
قال:
صدقت.
قال:
فقلت له: أين أنت عن عبد الرحمان بن عوف؟!
فقال:
ذلك رجل ممسك. وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعطٍ من غير سرف، ومانع من غير
إقتار.
قال:
فقلت: سعد بن أبي وقاص؟!
قال:
مؤمن ضعيف.
قال:
فقلت: طلحة بن عبد الله (عبيد الله)؟
قال:
ذاك رجل يناول للشرف والمديح. يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره. وفيه
بأو وكبر.
قال:
فقلت: فالزبير بن العوام؟! فهو فارس الإسلام.
قال:
ذاك يوم إنسان، ويوم شيطان، وعقة لقس([1])،
وإن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر، حتى تفوته الصلاة.
قال:
فقلت: عثمان بن عفان؟!
قال:
إن ولي حمل آل إبي معيط، وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله.
ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته.
ثم سكت.
قال:
فقال: امضها يا ابن عباس، أترى صاحبكم لها موضعاً؟
قال:
فقلت: وأين يبتعد من ذلك مع فضله، وسابقته، وقرابته، وعلمه؟!.
قال:
هو والله كما ذكرت، ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة،
إلا أن فيه خصالاً: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس
مع حداثة السن.
قال:
فقلت: يا أمير المؤمنين، هلَّا استحدثتم سنه يوم الخندق، إذ خرج عمر بن
عبد ودّ، وقد كعم عنه الأبطال، وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان
يقط الأقران قطاً؟!
هلاَّ سبقتموه بالإسلام، إذ كان جعلته السعب (الشعب)،
وقريش يستوفيكم([2]).
فقال:
إليك يا ابن عباس، أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم
دخلا عليه؟!
قال:
فكرهت أن أغضبه، فسكتّ.
فقال:
والله يا ابن عباس، إن علياً «عليه السلام» ابن عمك لأحق الناس به،
ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمرّ الحق، لا يجدون عنده
رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته، ثم ليتحاربن([3]).
ونقول:
نستفيد من هذه الرواية عدة أمور، نجملها على النحو
التالي:
1 ـ
إن إشكالات عمر على علي «عليه السلام» تشير إلى أن عمر كان يتساهل مع
قريش ولا يأخذها بمرّ الحق.. على عكس ما هو شائع عنه أنه كان شديداً في
أمور الدين.
2 ـ
ما معنى أن يستقل عمر بن الخطاب بحراسة نواحي المدينة؟!
وهل كان عمر قادراً على دفع عدو، أو مواجهة ولو فارس
واحد في حرب ونزال؟!..
وأين هو سيف عمر الذي يقاتل به؟!
وماذا يمكن لدرته أن تصنع لو قصده أحد قد استعدّ له؟!
وما الذي هيأه عمر لأي مفاجأة يحتمل حصولها؟!.
إلا إن كان مقصوده بالحراسة مراقبة السارقين أو
المتسترين بمعاصيهم.. وإن كان ذلك خلاف ظاهر العبارة..
3 ـ
إن ابن عباس قد أدرك أن خروج عمر إلى بقيع الغرقد لم يكن لأجل
الحراسة.. وقد أقر عمر له بذلك، حين طلب منه أن يتنبأ له بسبب ذلك..
4 ـ
ما معنى أن يعتبر سبب خروجه هذا الذي كان من صنعه واختياره هو أمرالله
تبارك وتعالى؟!
ومن الذي قال لعمر:
إن الله تعالى كان راضياً بخروجه هذا؟!
أليس هذا هو التهرب من المسؤولية، وإحالة الأمر على
الله سبحانه، انطلاقاً من اعتقاده بالجبر الإلهي، الذي عاد فأحياه بين
أهل الإسلام، بعد أن كان قد انحسر أو كاد، ولكنه تقوقع في زوايا بعض
النفوس، وحنايا بعض القلوب لأكثر من سبب؟!
ولعل على رأس أسباب العودة إلى عقيدة الجبر حمل الناس
على التسليم بالأمر الواقع، والإستسلام والخضوع لإرادات الآخرين،
وخصوصاً الحكام، والإنقياد لهم، والتراجع أمام خططهم، وعدم مقاومتها،
أو حتى الإعتراض عليها..
5 ـ
سياق هذه القضية يشير إلى أنها حصلت في وقت إحساس عمر بالحاجة إلى حسم
أمر الخلافة بعده، وإيجاد المخارج، والسبل العملية لإقصاء علي «عليه
السلام» عن هذا الأمر بصورة لا تثير أمامه الكثير من المصاعب.
6 ـ
المؤاخذات التي أطلقها عمر في حق علي «عليه السلام» لا تمثل طعناً يضر
في التصدي لهذا الأمر، بل هي من أسباب الترجيح والترشيح له، فلاحظ ما
يلي:
بالنسبة للدعابة نقول:
ألف:
سيأتي أنها تهمة باطلة، أو غير دقيقة.
ب:
إن هذه التهمة حتى لو صحت، فهي لا تضر في مقام الإمامة، بل هي من
موجبات إخراج الناس من أجواء الرهبة والخوف إلى أجواء الراحة والرضا،
والعلاقة الروحية بالحاكم، والأنس به والمحبة له، والعفوية والصراحة
معه، والجرأة على إبداء الرأي لديه، وإسداء النصيحة له.
ج:
بالنسبة إلى الإستبداد بالرأي، نقول:
إنه السمة التي أمر الله تعالى نبيه بها، وهي سمة الحزم
التي لا بد منها لكي لا يكون الإنسان إمَّعَة تتلاعب به أهواء
المشيرين، وتأسره جهالاتهم.. قال تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ..}([4]).
ولم يكن عمر يرضى في سياسته للرعية بأقل من هذا. بل كان
يسعى لفرض آرائه وقراراته ولو استلزم ذلك الظلم والتعدي..
بل هو قد مارس فرض آرائه على أبي بكر من قبل، وكان يسعى
لذلك باستمرار مع الرسول الأعظم نفسه.
وقد نزلت الآيات في موارد كثيرة لكي تضع حداًَ لهذه
التصرفات منه.. ولكنها استمرت.. وكان آخرها ما جرى في مرض النبي، ليس
في قضية الإمتناع عن السير في جيش أسامة وحسب، وإنما في موضوع كتابة
الكتاب الذي لن يضلوا بعده، حيث منع النبي من كتابته، واتهمه بالهجر
الذي يعلم كل أحد أنه لا تصح نسبته للأنبياء «عليهم السلام».
د:
وأما تبكيت الناس مع حداثة السن.. فلست أدري ما أقول فيه،
فأولاً:
إنه إذا كان علي «عليه السلام» يفعل ذلك، فإن عمر كان يضرب الناس بدرته
من دون سبب، بل لمحض إذلالهم، واسقاط عزتهم، بل هو يضرب الرجل لمجرد
أنه يراه يلبس ثوباً جديداً، ليطأطئ منه بزعمه.. فضلاً عن ضربه الناس
لسؤالهم عن حكم شرعي، أو عن تفسير آية، أو نحو ذلك..
ثانياً:
ما المانع من تبكيت المعتدين والمذنبين إذا صدر منهم ما يستحق اللوم
والتبكيت؟! وما شأن السن في ذلك؟!
ولماذا كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفعل ذلك مع
شيوخ قريش، الذين كانوا أسن منه، حين يراهم يعبدون الأصنام، ويظلمون
الناس، ويقطعون أرحامهم، ويرتكبون العظائم والجرائم؟!
وهكذا الحال بالنسبة لسائر الأنبياء، فقد كانوا يبكتون
من كان من قومهم أسن منهم، على كفرهم ومعاصيهم.
ثالثاً:
إن هذه الصفة، وكذلك صفة الإستبداد بالرأي حين ظهور وجه الصواب والحق،
وتأليف الناس، والأنس بهم، وعدم إشاعة الخوف والرهبة فيهم، إن كل هذه
الأمور اذا انضمت إلى سائر الصفات والميزات فيه «عليه السلام»، وهي
العلم، والشجاعة، وحسن التدبير والتقوى والعصمة، وغير ذلك تجعل من
يتحلى بها أوفر حظاً لنيل مقام الخلافة..
رابعاً:
ألم يكن الله سبحانه وتعالى، وكذلك رسوله «صلى الله عليه وآله» يعرفان
هذه الصفات في علي «عليه السلام»؟! حين نزلت الآيات القرآنية فيه،
ونصبه رسول الله «صلى الله عليه وآله» إماماً للأمة في يوم غدير خم
وسواه!!
وإذا كان في ذلك الوقت لم يكن يتحلى بها، فهل لم يكن
الله يعلم أنها سوف تصبح فيه.. ولماذا ينصبه إماماً للأمة، ويعرض الأمة
للخطر، ولا يختار لها، من تكون هذه الصفات فيه بالفعل؟!
هـ:
وفي مقابل ذلك اعترف عمر لعلي «عليه السلام» بجامعيته لكل الصفات
الضرورية لمقام الخلافة ـ والتي كان عمر نفسه فاقداً لها ـ وهي: العلم،
والفضل، والسابقة، بالإضافة إلى القرابة، وأنه لو وليهم لحملهم على
الطريق المستقيم، والمحجة الواضحة.
و:
إن الطعون التي سجلها عمر في حق ابن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير،
وعثمان، تجعلهم جميعاً غير جديرين بمقام الخلافة لرسول الله «صلى الله
عليه وآله». فكيف إذا كان بعضهم متصفاً بما هو أشر وأضرّ، حتى إنه
ليكون يوماً شيطاناً ويوماً إنساناً؟!
أو أنه يناول على المديح، حتى يصل إلى مال غيره.
أو يكادح على المكيلة من بكرة إلى أن تفوته صلاة الظهر.
أو أنه يحمل عشيرته على رقاب الناس.
أو يعطي مال الله لعشيرته وأقاربه، حتى ينتهي به الأمر
إلى أن يقتله الناس.
أو كان ضعيفاً، ممسكاً، بحيث يضر ذلك بالناس..
إن ذلك كله يجعل من أي كان من الناس غير صالح للخلافة
والإمامة إذا تحلى بواحدة منها، فكيف إذا فقد صفة العلم، أو صفة
العصمة، أو غيرها من الصفات الضرورية لمقام الأمامة؟!
ولماذا يجعل أمثال هؤلاء في جملة أهل الشورى الذين
يصبحون في دائرة الإحتمال حاضراً ومستقبلاً؟!
7 ـ
إن سياسة الأمة لا ترتبط بالسن.. ولم يجعل السن شرطاً للسيادة ولا
للإمامة، بل ولا للنبوة أيضاً، وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة، بل
المهم هو القدرة على تحمل المسؤولية، وإنجاز المهمات الموكلة إليه..
وقد أشار ابن عباس إلى إنجازات علي «عليه السلام» في
الخندق وفي بدر، حيث تأخرت الأشياخ، وأشار أيضاً إلى قبوله دين الله
وسبقه إليه، حيث تلكأ الأشياخ، بل كانوا في موقع المناوئ والمحارب.
وهذا يدل على أنه «عليه السلام» كان مع الحق في عقله،
وفكره، وقلبه. ومعه في جهاده وحركته في الحياة..
أما الأشياخ فلم يكونوا كذلك، لا في فكرهم وعقلهم
وقلبهم، ولا في جهادهم وحركتهم، ولذلك كان «عليه السلام» أحق منهم بهذا
الأمر..
وهذا هو ما ضايق عمر بن الخطاب، وأغضبه، حتى اضطر ابن
عباس للسكوت..
8 ـ
يبدو أن عمر كان يعيش أزمة من نتائج ما جرى بين العباس، وعلي «عليه
السلام» من جهة، وبين أبي بكر من جهة أخرى، ولم يكن قادراً على تجاوزها
أو نسيانها، مما يدل على أن النتيجة كانت ضد توجهاته، وأن أبا بكر فشل
في مواجهة حجة العباس وعلي «عليه السلام».
ويبدو أن هذه الحادثة تركت آثاراً بالغة في وعي الناس
للحقيقة، لم يكن يحب عمر وحزبه أن تكون.. ولم يكن يرغب في تكرار مثل
هذه الأمور.. ولذلك ذكر ابن عباس بها في هذه المناسبة..
9 ـ
إن عمر لم يكن يريد التفريط بعلاقته بابن عباس خصوصاً في هذا الظرف
الذي يتهيأ فيه لاتخاذ قرارات حاسمة، ومصيرية بالنسبة لكل ما يخطط له،
فكان بحاجة دائماً إلى استنكاه الأجواء التي تحيط بعلي «عليه السلام»
من خلال استدراج ابن عباس، ولذلك نرى: أنه عاد لملاينتة وأبقى على
العلاقة معه..
10 ـ
ثم إن عمر قد عاد إلى إلقاء تبعة إقصاء علي «عليه السلام» على غيره،
وعلى قريش بالذات، مدعياً أنها لا تحتمله لأنه يعمل فيهم بمرّ الحق..
مع أنه هو الذي عمل على إقصاء علي «عليه السلام» عن مقامه، وقريش إنما
تبعته وتابعته.
11 ـ
كان المفروض بعمر الذي لم يزل يظهر التشدد في تطبيق الأحكام أن يقف إلى
جانب علي «عليه السلام»، ويشد على يده، ويختاره دون كل من سواه، لكي
يحمل الناس على الطريق المستقيم، ويعمل فيهم بمرّ الحق.
وأن يكون معه ضد قريش التي تريد أن لا تعمل بالحق، لا
أن يكون هو حامل راية الخلاف عليه، بل هو رائد قريش في ذلك، ويكون
الناس كلهم له تبع، فلماذا يلقي بالتبعة عليهم؟!.
12 ـ
إنه يبدو لنا:
أنه كان يحاول تخويف الناس من حكم علي «عليه السلام»، ويدعوهم بهذا
الأسلوب إلى مناوأته ومنعه من الوصول إلى الخلافة.. ولذلك نجده يقول في
بعض النصوص: ليس إلى تولية علي سبيل..
ويقول في نص آخر:
لو وليهم لا انتقضوا عليه، وحاربوه، كما اتضح..
13 ـ اللافت هنا: أن ابن عباس لم يعرض على عمر إلا
أسماء الذين جعلهم عمر شورى.. مما يعني: أن ابن عباس كان على علم بما
دبره عمر لصرف الأمر عن علي «عليه السلام». فهل كان قد علم ذلك من علي
«عليه السلام»، الذي كان يخبر بالكثير مما يجري قبل وقوعه، وكان قد علم
ذلك من رسول الله «صلى الله عليه وآله». وبما هيأه الله تعالى له من
وسائل معرفة خاصة به «عليه السلام».
قال أبو العباس، أحمد بن يحيى،
ثعلب، في كتاب الأمالي:
كان عبد الله بن عباس عند عمر، فتنفس عمر نفساً عالياً،
قال ابن عباس: ظننت أن أضلاعه قد انفجرت، فقلت له: ما هذا النفس منك يا
أمير المؤمنين! إلا هم شديد؟!
قال:
أي والله يا ابن عباس، إني فكرت في من أجعل الأمر بعدي.
ثم قال:
لعلك ترى صاحبك لها أهلاً؟!
قلت:
وما يمنعه من ذلك مع جهاده، وسابقته، وقرابته، وعلمه؟!
قال:
صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة.
وقال:
ثم أقبل علي، ثم قال: إن أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم
لصاحبك. والله، لئن وليها ليحملنهم على المحجة البيضاء، والصراط
المستقيم([5]).
وفي رواية:
أنه حين طعن عمر دخل عليه ابن عباس فرآه مغتماً بمن يستخلف بعده، فذكر
عثمان، فقال: كلف بأقاربه.
قال:
فعلي؟!
قال:
فيه دعابة.
قال:
فطلحة؟!
قال:
لولا بأو فيه.
قال:
فالزبير؟!
قال:
وعقة لقس.
قال:
فعبد الرحمن؟!
قال:
أوه! ذكرت رجلاً صالحاً، ولكنه ضعيف. وهذا الأمر لا
يصلح له إلا اللين من غير ضعف، والقوى من غير عنف.
قال:
فسعد.
قال:
ذاك يكون في مقنب من مقانبكم([6]).
قال المعتزلي:
قوله: «كلف بأقاربه أي: شديد الحب لهم.
والدعابة:
المزاح.
والبأو:
الكبر والعظمة.
وقوله:
وعقة لقس، ويروى: ضبيس، ومعناه: كله الشراسة، وشدة
الخلق، وخبث النفس،
والمقنب:
جماعة من الفرسان»([7]).
ونقول:
أولاً:
قال ابن أبي الحديد، مفنداً دعوى عمر: أن في علي «عليه
السلام» دعابة ما يلي:
«وأنت إذا تأملت حال علي «عليه السلام» في أيام رسول
الله «صلى الله عليه وآله» وجدته بعيداً عن أن ينسب إلى الدعابة
والمزاح، لأنه لم ينقل عنه شيء من ذلك أصلاً، لا في كتب الشيعة، ولا في
كتب المحدثين.
وكذلك إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر وعمر،
لم تجد في كتب السيرة حديثاً واحداً يمكن أن يتعلق به، متعلق في دعابته
ومزاحه»؟!!([8]).
ثانياً:
قال المعتزلي
أيضاً: «فأما
ما كان يقوله عمرو بن العاص في علي «عليه السلام» لأهل الشام: إن فيه
دعابة، يريد أن يعيبه بذلك عندهم، فأصل ذلك كلمة قالها عمر، فتلقفها
منه من تلقفها، حتى جعلها أعداؤه عيباً له، وطعناً عليه»([9]).
وقال أيضاً:
«فأما أمير المؤمنين «عليه السلام»، فإذا نظرت إلى كتب
الحديث والسير لم تجد أحداً من خلق الله عدواً ولا صديقاً روى عنه
شيئاً من هذا الفن، لا قولاً، ولا فعلاً ولم يكن وقار أتم من وقاره.
وما هزل قط، ولا لعب، ولا فارق الحق والناموس الديني
سراً ولا جهراً.
ولكنه خلق على سجية لطيفة، وأخلاق سهلة، ووجه طلق، وقول
حسن، وبشر ظاهر، وذلك من فضائله «عليه السلام» التي اختصه الله
بمزيتها، وإنما كانت غلظته فعلاً لا قولاً»([10]).
وكانت غلظته شدة على الكافرين، كما قال تعالى:
{أَشِدَّاء
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}([11]).
ثالثاً:
لقد وصف علي «عليه السلام» المؤمن بقوله: «بشره في وجهه، وحزنه في
قلبه»([12]).
رابعاً:
لو صح أنه كان في علي «عليه السلام» دعابة، فهي لا تضر في صلاحيته
لمقام الإمامة. وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
خامساً:
إن الدعابة التي لا تصل إلى حد الميوعة محبوبة ومطلوبة، حين تكون من
موجبات الإنبساط، وإخراج الناس من أجواء الخوف والرهبة إلى أجواء الأنس
والرضا، والعفوية والصراحة مع الحاكم، والجرأة على ابداء الرأي
المخالف، وإسداء النصيحة له..
سادساً:
قال أمير المؤمنين «عليه السلام» مكذباً هذه الشائعة:
«عجباً لابن النابغة، يزعم لأهل الشام: أن فيَّ دعابه،
وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس، لقد قال باطلاً، ونطق آثماً.
أما ـ وشر القول الكذب ـ إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف،
ويسأل فيلحف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الإلّ. فإذا كان عند
الحرب، فأي زاجر وآمر هو: ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان
أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته.
أما والله، إنه ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وانه
ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن
يؤتيه أتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة([13]).
سابعاً:
نقل ابن أبي الحديد بمناسبة قول عمر عن علي «عليه السلام»: «إن فيه
دعابة» جملة من الروايات التي تضمنت مزاحات النبي «صلى الله عليه
وآله»، وصرح بأنها من الأحاديث الصحيحة، والآثار المستفيضة.
ثم ذكر ما رووه عنه «صلى الله عليه
وآله» أنه قال: إني
لأمزح ولا أقول إلا حقاً([14]).
وقال لامرأة من الأنصار:
الحقي زوجك فإن في عينه بياضاً([15]).
وقال لامرأة طلبت منه دابة تحملها:
إنا حاملوك على ولد الناقة([16]).
وذكر أيضاً أموراً أخرى([17])..
لكنه خلط الصحيح بالسقيم كما يعلم بالمراجعة..
وأخيراً نقول:
نحن لا ننكر أن يكون لعلي شيء من البِشر، والملاطفة
للمؤمنين، للحصول على ثواب ادخال السرور على قلوبهم، ولكن لا إلى الحد
الذي يخرجه عن حالة الإعتدال والتوازن إلى الإبتذال والميوعة، ولا
بالنحو الذي يحرج الإنسان المؤمن، ويشعره بالمذلة والصغار. كما أنه لا
يتضمن خروجاً عن جادة الحق والصدق. بل هو كملاطفات رسول الله «صلى الله
عليه وآله».
وقد روي:
أن علياً «عليه السلام» كان يأكل تمراً مع رسول الله «صلى الله عليه
وآله». فكان «صلى الله عليه وآله» يضع النوى أمام علي «عليه السلام»،
فلما كثر النوى، قال «صلى الله عليه وآله» لعلي: إنك لأكول!!
فقال علي «عليه السلام»:
الأكول من يأكل التمر ونواه([18]).
لقد وصف عمر بن الخطاب علياً «عليه السلام» بأنه حريص
على الخلافة، ولا يصلح هذا الأمر لمن حرص عليه..
ونقول:
إن حرص علي «عليه السلام» على هذا الأمر لم يكن طمعاً
بالدنيا، لكي يصح كلام عمر، فإن سيرة علي «عليه السلام» تدل على خلاف
ذلك، فقد كانت الدنيا عنده «عليه السلام» أهون من عفطة عنز([19])،
وكانت الخلافة عنده أقل شأناً من نعلٍ بالية إلا أن يقيم حقاً، ويبطل
باطلاً([20]).
كما أن حرصه «عليه السلام» على الخلافة إنما هو لأنه
يريد تنفيذ حكم الله، والعمل بوصية رسوله، من حيث أن القيام بهذا الأمر
هو من الواجبات الشرعية على علي «عليه السلام» دون سواه، لا لأجل ارادة
تحقيق رغبة شخصية، واستجابةً إلى ميلٍ وهوى، واندفاع غرائزي.
وقد ذكر «عليه السلام» هذا الأمر،
الذي أريد به الباطل، فقال:
«وقال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم
والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون
بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه»([21]).
وقد جاء في بعض النصوص أن عمر ذكر:
أن علياً «عليه السلام» لو وليهم يحمل الناس على الطريق المستقيم، أو
على طريقة من الحق يعرفونها.. ثم عابه بأنه حريص على هذا الأمر، «ولا
يصلح هذا الأمر لمن حرص عليه».
ويلاحظ على ذلك ما يلي:
1 ـ
إن الطريقة من الحق التي يعرفونها إنما هي طريقة رسول الله «صلى الله
عليه وآله» دون سواه، أو هي المتوافقة مع أحكام الله وشرائعه..
2 ـ
تقدم أن حرص علي «عليه السلام» على هذا الأمر هو لأجل حفظ مصلحة الدين
والأمة، لأن من يحمل الأمة على الطريق المستقيم حتى لو كرهوا، لا يمكن
أن يكون حرصه على الخلافة لأجل الحصول على منافع شخصية..
لا سيما إذا كان ذلك سوف يواجه بكراهة الناس له
ولسياساته، وكراهتهم لطاعته في إجراء أحكام الله، والتزام شرائعه.. ومن
يتحمل ذلك ويرضى بهذه النتائج الصعبة، فهو غاية في الإخلاص والتفاني.
وإن لم يكن من أهل الإخلاص، فهو غاية في الحمق والبلاهة.
3 ـ
إن من يحرص على هذا الأمر من المنطلق الذي أشرنا إليه هو الذي يصلح له
هذا الأمر ولا يصلح لغيره.. فكيف يدعي عمر عكس ذلك؟!
ثم إن تعللات عمر التي ساقها لتبرير استبعاد علي أمير
المؤمنين «عليه السلام» من الخلافة.. ليست هي المبررات الحقيقية.
والحقيقي منها هو اتفاقهم على استبعاده، منذ أن كان النبي «صلى الله
عليه وآله» حياً، بسبب حسدهم وبغضهم له، ولأنهم طامعون في هذا الأمر،
ويظنون أنها إن صارت إلى بني هاشم لم تخرج منهم إلى غيرهم..
ولأجل ذلك ذكرت بعض النصوص:
أن عمر حين سأله ولده عبد الله بن عمر عن سبب عدم تولية
علي «عليه السلام»، أجابه بقوله: ليس إلى ذلك سبيل..
بل لعل الأظهر أن مراد عمر من قوله:
ليس إلى ذلك سبيل: أنه سيمنع من ذلك بكل قوة، ويدل على ذلك: قوله بعد
ذلك: لا أجمع لبني هاشم النبوة والخلافة، ولا يريد أن ينسب إليه أنه
جمع بينهما لهم في حال حياته، ولا أن يكون له أي دور في هذا الجمع بعد
مماته..
([1])
وعقة: أي يتضجر ويتبرم. واللقس: السيء الخلق، وقيل: الشحيح..
([2])
وردت هذه العبارة في المصدر على هذا النحو. وهي غير مفهومة
لنا، فلتحرر.
ولعل
المقصود: القول: إذ كانت قريش جعلته أو حصرته في الشعب (أي شعب
أبي طالب) وقد كان علي «عليه السلام» ينام في فراش النبي «صلى
الله عليه وآله» يفديه بنفسه كما تقدم.. وبذلك يكون «عليه
السلام» أوفى من كل أحد في ذلك..
([3])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص158و 159 ومواقف الشيعة ج2 ص328 وموسوعة
الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ج3 ص102 وراجع: تاريخ
المدينة لابن شبة ج3 ص882 والفتوح لابن أعثم ج2 ص325
والإستيعاب ج3 ص215.
([4])
الآية 159 من سورة آل عمران.
([5])
راجع: مناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص451 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج6 ص326 ومواقف الشيعة ج1 ص149.
([6])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص142 والفايق في غريب الحديث ج3
ص168 وغريب الحديث لابن سلام ج3 ص331 وبحار الأنوار ج31 ص390.
([7])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص142.
([8])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص328.
([9])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص326.
([10])
الآية 29 من سورة الفتح.
([11])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص337.
([12])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص78، الحكمة رقم 333 والكافي ج2
ص226 وشرح أصول الكافي ج9 ص137 ومستدرك الوسائل ج8 ص452 وج11
ص180 وبحار الأنوار ج64 ص305 وج66 ص410 وج70 ص317 وجامع أحاديث
الشيعة ج15 ص525.
([13])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص147 والإحتجاج ج1 ص268 وشرح مئة
كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم البحراني ص162 وبحار الأنوار
ج33 ص221 والغدير ج2 ص128 وعن عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد
الفريد، والأمالي لأبي علي الطوسي ج1 ص131.
([14])
راجع: مكارم الأخلاق للطبرسي ص21 وبحار الأنوار ج16 ص116 و 298
ومستدرك سفينة البحار ج5 ص172 ومجمع الزوائد ج8 ص89 وج9 ص17
وعمدة القاري ج22 ص169 والمعجم الأوسط ج1 ص298 وج7 ص32 و 219
والمعجم الصغير للطبراني ج2 ص7 والمعجم الكبير ج12 ص299
والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص402 وكشف الخفاء ج1 ص234 وقاموس
الرجال للتستري ج9 ص658 وتاريخ بغداد ج4 ص149 ولسان الميزان ج2
ص251 وإمتاع الأسماع ج2 ص256 والشفا للقاضي عياض ج2 ص188 وكشف
الغمة ج1 ص9 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص10 والسيرة الحلبية ج3
ص440 ومجمع البحرين ج4 ص196 وجامع السعادات للنراقي ج2 ص224.
([15])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص330 والوافي بالوفيات ج1
ص74 وجامع السعادات للنراقي ج2 ص224 والتحفة السنية (مخطوط)
للجزائري ص323 وزاد المسير ج5 ص251.
([16])
راجع: المغني لابن قدامة ج11 ص244 وتاريخ مدينة دمشق ج4 ص41
وسبل الهدى والرشاد ج7 ص113والشرح الكبير لابن قدامة ج8 ص453
ومستدرك الوسائل ج8 ص410 والبدايـة والنهايـة ج6 ص52 ومناقب آل
أبي طالب ج1 = = ص128 وحلية الأبرار ج1 ص312 وبحار الأنوار ج16
ص294 وجامع أحاديث الشيعة ج15 ص546 ومستدرك سفينة البحار ج9
ص377 وسنن أبي داود ج2 ص477 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص248
ومسند أحمد ج3 ص267 ومسند أبي يعلى ج6 ص412 وإمتاع الأسماع ج2
ص253 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص113.
([17])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص330.
([18])
راجع: التحفة السنية (مخطوط) للجزائري ص323.
([19])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص37 والإقتصاد للطوسي ص210
وعلل الشرائع ج1 ص151 والإرشاد للمفيد ج1 ص289 والرسائل العشر
للطوسي ص124 ومسألتان في النص على علي «عليه السلام» للشيخ
المفيد ج2 ص27 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص288 وكتاب الأربعين
للشيرازي ص168 وكتاب الأربعين للماحوزي ص269 ومناقب أهل البيت
«عليهم السلام» للشيرواني ص460 والنهاية في غريب الحديث ج3
ص264 ولسان العرب ج7 ص352 ومجمع البحرين ج3 ص208 وتاج العروس
ج10 ص339 والأمالي للطوسي ص374 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص49
وعيون الحكم والمواعظ للواسطي ص507 والطرائف لابن طاووس ص419 و
421.
([20])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص80 ومصباح البلاغة (مستدرك
نهج البلاغة) ج1 ص93 والإرشاد للمفيد ج1 ص247 ومنـاقب آل أبي
طـالب = = ج1 ص370 وشرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم
البحراني ص228 والجمل لابن شدقم ص111 وبحار الأنوار ج32 ص76 و
113 ونهج السعادة ج1 ص249 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص185
وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص262 وج18 ص6.
([21])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص84 والغارات للثقفي ج2 ص767
ومناقب آل أبي طالب ج2 ص19 وكتاب الأربعين للشيرازي ص190 وبحار
الأنوار ج29 ص605 وج38 ص318 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام»
للشيرواني ص446 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص305 وسفينة
النجاة للتنكابني ص352.
|