الفصل الثاني: مما جرى في الحصار..

   

صفحة :301-346   

 

الفصل الثاني: مما جرى في الحصار..

تحرك الأشتر في أهل الكوفة:
وكان الأشتر وجماعة معه يعيشون في منفاهم بالشام، فكتب جماعة من أهل الكوفة إلى الأشتر، وهو في منفاه يطلبون منه القدوم عليهم، فقدم هو وأصحابه، فاستولوا على الكوفة.
قال ابن أعثم:
ثم خرج الأشتر فعسكر بالجرعة بين الكوفة والحيرة، وبعث بعائذ بن حملة الظهري، فعسكر في طريق البصرة في خمسمائة فارس، وبعث حمزة بن سنان الأسدي إلى عين التمر فعسكر هنالك، ليكون مصلحة (مسلحة) فيما بينه وبين أهل الشام في خمسمائة فارس، وبعث بعمرو بن أبي حنة الوداعي إلى حلوان وما والاها في ألف فارس، وبعث يزيد بن حجية التيمي إلى المدائن وكوخى وما والاها في سبعمائة فارس.
كما أرسل كعب بن مالك الأرحبي إلى مكان يدعى العذيب مع خمسمائة فارس وأمره قائلا، إن جاء سعيد بن العاص من المدينة أميرا على الكوفة فأعده، ولا تسمح له بدخول الكوفة، وخذ كل ما معه من مال ومتاع، وضعه أمانة في منزل الوليد بن عقبة في الكوفة.
فتقدم الأشتر (عند ما سمع الخبر) ومعه ثلاثمائة فارس، وجاء إلى باب المنزل، (لعل المقصود منزل والي الكوفة)وأمرهم بأن ينهبوا ما في البيت.
فدخل الناس وأخذوا كل ما وجدوه وأخرجوه، ثم قلعوا الأبواب وأحرقوها حتى احترق كل ما بقي في البيت.
وحين علم عثمان بذلك (وقد بلغه ما صنعه الأشتر) ضاق صدره بذلك، واعتبر أن هذا العمل كان بتحريض أو تأييد من علي «عليه السلام» وقال: لا أعلم ماذا أفعل مع علي الذي يظهر محاسني للناس على شكل نقائص، ويحرض الناس علي وعلى عمالي(1).
ثم ذكر ابن أعثم: أن عثمان عاد فأرسل سعيد بن العاص إلى الكوفة، فلم يستطع أن يدخلها، وعاد إليه خائفاً.
ونقول:
1 ـ إن هذا الذي جرى يبيّن لنا الموقع المتميز للأشتر لدى أهل العراق، حتى إن أهل الكوفة لم يقدموا على أي تحرك ذي بال باتجاه والي الكوفة إلا بعد أن كتبوا إلى الأشتر رضوان الله تعالى عليه ليقدم من منفاه بالشام..
فلما قدم عليهم وأصحابه كان هو القائد والمدبّر، والمهيمن على الأمور..
فلما بلغ عثمان ما صنعه الأشتر ضاق صدره، واتهم علياً «عليه السلام» بأنه هو المحرّض على ذلك.. دون أن يكون لديه حجة أو شاهد على ما يتوهمه فيه.
ومعنى ذلك أن عثمان لم يراعي في اتهاماته هذه حدود الشرع الشريف!!
2 ـ إن عثمان كان يعلم بما يرضي علياً «عليه السلام» وغيره من صحابة الرسول، وهو أن يكف أيدي الظلمة والفساق من عماله عن الناس، ويصلح الأمور، ويقيم حكم الله، ويعطي كل ذي حق حقه.. ولكنه يصر على عدم الإستجابة لهذه المطالب، ولم يزل يشكو ويتظلم، ويتوب، ويتراجع ويتعهد، وينقض تعهداته، ويضرب المعترضين عليه ويؤذيهم و.. و.. الخ..
ولو فرضنا: أنه كان لا يعلم بما يريدون في أول الأمر، فإن علياً «عليه السلام» قد أعلمه به مرات عديدة، فلماذا لم يحاول تصديقه والإستجابة له، والوفاء بوعوده ولو مرة واحدة منها؟!
3 ـ وأما إظهار علي «عليه السلام» المحاسن بصورة المساوئ، فهو يخالف ما ورد عن الرسول «صلى الله عليه وآله» في حق علي «عليه السلام» من أن علياً «عليه السلام» مع الحق، والحق مع علي. إلا إن كان عثمان يرى كونه مع الحق، والحق معه من المعايب التي يأخذها عليه، أو أن أفعال عثمان نفسها عند الله ورسوله من المعايب والنقائص. ولكن عثمان يراها محاسن.. فيرى الظلم عدلاً، والرذيلة فضيلة، والباطل حقاً، وفق ما ورد عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» مخاطباً أصحابه: كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً(1).
الثورة على عثمان: نصوص.. وآثار:
قالوا:

1 ـ وفي عهد عثمان ظهرت أمور كثيرة، أنكرها صحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسائر الناس عليه، ولم يطيقوها منه.. ومنها تولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر عدة سنين، فتولاهم بالعسف والظلم.
وقدم أهل مصر إلى عثمان يشكونه، ويتظلمون منه، فأرسل إليه ينهاه عن الإستمرار في سياسته تلك، فأبى ابن أبي سرح الإنتهاء عما نهي عنه، وضرب رجلاً ممن أتوا عثمان فقتله.
فخرج من أهل مصر سبع مئة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى الصحابة ما صنع ابن أبي سرح..
فقام طلحة وتكلم بكلام شديد..
وأرسلت عائشة إلى عثمان تقول: قد تقدم إليك أصحاب رسول «صلى الله عليه وآله»، وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت أن تعزله. فهذا قد قتل رجلاً، فأنصفهم من عاملك.
ودخل عليه علي «عليه السلام»، وكان متكلم القوم، وقال: إنما سألوك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم.
وانتهى الأمر بصرف ابن أبي سرح، وتولية محمد بن أبي بكر، فأرسله إلى مصر، ومعه جمع من الصحابة، فلما كانوا على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير، ففتشوه، وأخرجوا منه كتاباً من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيه بقتل محمد بن أبي بكر ومن معه، وقطعهم، وصلبهم.
فرجعوا به إلى المدينة، فاغتم أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» من ذلك.
ودخل علي «عليه السلام» وجماعة على عثمان، ومعهم الكتاب والغلام، والبعير..
إلى أن تقول الرواية:
فقال له علي «عليه السلام»: هذا الغلام غلامك؟!
قال: نعم.
والبعير بعيرك؟!
قال: نعم..
والخاتم خاتمك؟!
قال: نعم.
قال: فأنت كتبت الكتاب؟
قال: لا.
إلى أن قالت الرواية: فعرفوا أنه خط مروان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى(3).
2 ـ وفي نص آخر عند الطبري وغيره: أنهم قالوا له: فالكتاب كتاب كاتبك؟
قال: أجل، ولكنه كتبه بغير أمري؟
قالوا: فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؟
قال: أجل، ولكنه خرج بغير إذني.
قالوا: فالجمل جملك.
قال: أجل، ولكنه أخذ بغير علمي.
قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع، لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها.
وإن كنت صادقاً، فقد استحققت أن تخلع، لضعفك، وغفلتك، وخبث بطانتك، لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته.
إلى آخر ما ذكرته الرواية من احتجاجات لهم عليه(4).
3 ـ وفي نص ثالث يفصل ما جرى فيقول:
فأرسل عثمان إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فدعاه فقال: يا أبا الحسن، أنت لهؤلاء القوم، فادعوهم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، واكفني مما يكرهون.
فقال له علي «عليه السلام»: إن أعطيتني عهد الله وميثاقه أنك توفي لهم بكل ما أعطيهم فعلت ذلك.
فقال عثمان: نعم يا أبا الحسن، اضمن لهم عني جميع ما يريدون.
قال: فأخذ علي «عليه السلام» عليه عهداً غليظاً، وميثاقاً مؤكداً، ثم خرج من عنده فأقبل نحو القوم، فلما دنا منهم قالوا: ما وراءك يا أبا الحسن فإننا نجلك.
فقال: إنكم تعطون ما تريدون، وتعافون من كل ما أسخطكم، ويولى عليكم من تحبون، ويعزل عنكم من تكرهون.
فقالوا: ومن يضمن لنا ذلك؟!
قال علي «عليه السلام»: أنا أضمن لكم ذلك.
فقالوا: رضينا.
قال: فأقبل علي «عليه السلام» إلى عثمان، ومعه وجوه القوم وأشرافهم، فلما دخلوا عاتبوه، فأعتبهم من كل ما كرهوا، فقالوا: اكتب لنا بذلك كتاباً، وأدخل لنا في هذا الضمان علياً بالوفاء لنا بما في كتابنا.
فقال عثمان: اكتبوا ما أحببتم، وأدخلوا في هذا الضمان من أردتم.
قال: فكتبوا:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من عبد الله، عثمان بن عفان أمير المؤمنين لجميع من نقم عليه من أهل البصرة، والكوفة، وأهل مصر، أن لكم عليَّ أن أعمل فيكم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد «صلى الله عليه وآله»، وأن المحروم يعطى، والخائف يؤمن، والمنفي يرد، وأن المال يرد على أهل الحقوق، وأن يعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أهل مصر، ويولى عليهم من يرضون.
قال: فقال أهل مصر: نريد أن تولي علينا محمد بن أبي بكر.
فقال عثمان: لكم ذلك.
ثم أثبتوا في الكتاب: وأن علي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين بالوفاء لهم بما في هذا الكتاب.
شهد على ذلك الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب خالد بن زيد.
وكتب في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
قال: فأخذ أهل مصر كتابهم وانصرفوا، ومعهم محمد بن أبي بكر أميراً عليهم، حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، وإذا هم بغلام أسود على بعير له، يخبط خبطاً عنيفاً، فقالوا: يا هذا! اربع قليلاً ما شأنك؟! كأنك هارب، أو طالب، من أنت؟!
فقال: أنا غلام أمير المؤمنين عثمان، وجهني إلى عامل مصر.
فقال له رجل منهم: يا هذا! فإن عامل مصر معنا.
فقال: ليس هذا الذي أريد.
فقال محمد بن أبي بكر: أنزلوه عن البعير، فحطوه، فقال له محمد بن أبي بكر: أصدقني غلام من أنت؟!
قال: أنا غلام أمير المؤمنين.
قال: فإلى من أرسلت؟!
قال: إلى عبد الله بن سعد عامل مصر.
قال: وبماذا أرسلت؟!
قال: برسالة.
قال محمد بن أبي بكر: أفمعك كتاب؟!
قال: لا.
قال: فقال أهل مصر: لو فتشناه أيها الأمير، فإننا نخاف أن يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء، ففتشوا رحله، ومتاعه، ونزعوا ثيابه حتى عروه، فلم يجدوا معه شيئاً، وكانت على راحلته إداوة فيها ماء، فحركوها فإذا فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج.
فقال كنانة بن بشر التجيبي: والله! إن نفسي لتحدثني: أن في هذه الإداوة كتاباً.
فقال أصحابه: ويحك! ويكون كتاب في ماء؟
قال: إن الناس لهم حيل، فشقوا الإداوة، فإذا فيها قارورة مختومة بشمع، وفي جوف القارورة كتاب، فكسروا القارورة، وأخرجوا الكتاب، فقرأه محمد بن أبي بكر، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عثمان أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن سعد.
أما بعد.. فإذا قدم عليك عمرو بن يزيد بن ورقاء، فاضرب عنقه صبراً.
وأما علقمة بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن سهم الليثي، فاقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ودعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا، فإذا ماتوا فاصلبهم على جذوع النخل.
وأما محمد بن أبي بكر فلا يقبل منه كتابه، وشد يدك به، واحتل في قتله، وقر على عملك حتى يأتيك أمري إن شاء الله تعالى..
قال: فلما قرأ محمد بن أبي بكر الكتاب رجع إلى المدينة هو ومن معه، ثم جمع أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» وقرأ عليهم الكتاب، وأخبرهم بقصة الكتاب.
قال: فلم يبق بالمدينة أحد إلا حنق على عثمان، واشتد حنق بني هذيل خاصة عليه لأجل صاحبهم عبد الله بن مسعود، وهاجت بنو مخزوم لأجل صاحبهم عمار بن ياسر، وكذلك غفار لأجل صاحبهم أبي ذر.
ثم إن علياً «عليه السلام» أخذ الكتاب وأقبل حتى دخل على عثمان، فقال له: ويحك لا أدري على ماذا أنزل! استعتبك القوم فأعتبتهم بزعمك، وضمنتني، ثم أخفرتني وكتبت فيهم هذا الكتاب!
قال: فنظر عثمان في الكتاب، ثم قال: ما أعرف شيئاً من هذا.
فقال علي «عليه السلام»: الغلام غلامك أم لا؟!
قال عثمان: بل هو والله غلامي، والبعير بعيري، وهذا الخاتم خاتمي، والخط خط كاتبي.
قال علي «عليه السلام»: فيخرج غلامك على بعيرك بكتاب وأنت لا تعلم به؟!
فقال عثمان: حيرتك يا أبا الحسن! وقد يشبه الخط الخط، وقد تختم على الخاتم، ولا والله ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر.
فقال علي «عليه السلام»: لا عليك فمن نتهم؟!
قال: أتهمك، وأتهم كاتبي.
قال علي «عليه السلام»: بل هو فعلك وأمرك، ثم خرج من عنده مغضباً.
قال: وعرف الناس الخط أنه خط مروان، وإنما كتبه عن غير علم عثمان، ومروان كان كاتب عثمان، وخاتم عثمان في إصبع مروان. وشك الناس في مروان.
قال: ثم خرج عثمان بن عفان إلى المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس! لا تتهموني في هذا الكتاب، ولا تظنوا أني كتبته، فإنكم إن قلتم ذلك أثمتم، فوالله ما كتبته، ولا أمرت به، والآن فإنكم تعطون الحق، ويعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه محمد «صلى الله عليه وآله»، حتى ترضوا وتعتبوا.
قال: فوثب إليه كنانة بن بشر التجيبي، فقال: يا عثمان! إننا لا نرضى بالصفة دون العمل، قد عاتبناك فأعتبتنا بزعمك، فكتبت لنا بالوفاء إلى ذلك كتاباً، وأشهدت شهوداً، وأعطيتنا عهد الله وميثاقه، ثم إنك كتبت فينا ما كتبت!
فقال عثمان: إني لم أكتب، وقد حلفت لكم، وليس يجب علي شيء هو أكبر من اليمين.
فقال كنانة بن بشر: إننا لا نصدقك على يمينك.
قال: ثم وثب كثير بن عبد الله الحارثي، فقال: يا عثمان! أتظن أنك تنجو منا وقد فعلت ما فعلت؟
فقال عثمان: يا سبحان الله! أما لهذا أحد يكفينيه؟
قال: فقام إليه موالي عثمان فأثخنوهم ضرباً، ثم إنهم حصبوا عثمان من كل جانب حتى نزل عن المنبر، وقد كاد أن يغشى عليه، فحملوه حملاً حتى أدخلوه إلى منزله.
قال: ودخل عليه نفر من الصحابة يتوجعون له لما نزل به، وفي جملة من [دخل] عليه علي بن أبي طالب، فقالت له بنو أمية: يا بن أبي طالب! إنك كدرت علينا العيش، وأفسدت علينا أمرنا، وقبحت محاسن صاحبنا، أما والله لئن بلغت الذي ترجو لنجاهدنك أشد الجهاد.
قال: فزبرهم علي «عليه السلام» وقال: أعزبوا فما بلغ الله لكم من القدر ما تحابون! فإنكم سفهاء وأبناء سفهاء، وطلقاء وأبناء طلقاء، إنكم لتعلمون أنه ما لي في هذا الأمر ناقة ولا جمل.
ثم خرج علي من عند عثمان مغضباً.
قال: فلما كان من غد جلس عثمان وكتب إليهم كتاباً، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين المسلمين، سلام عليكم..
أما بعد.. فإني أذكركم الله الذي أنعم عليكم بالإسلام، وهداكم من الضلال، وأنقذكم من الكفر، وأراكم اليسار، وأوسع عليكم في الرزق، وبصركم من العمى، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}(5)، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(6)، فاتقوا الله! {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(7)، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(8)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(9)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(10)، {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(11).
ألا! وقد علمتم أن الله تعالى رضي لكم السمع والطاعة، وحذركم المعصية والفرقة، وتقدم إليكم في ذلك لتكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله واحذروا عذابه، فإنكم لم تجدوا أمة هلكت من قبلكم إلا من بعد ما اختلفت، ولم يكن لها رأس يجمعها، ومتى تفعلون بي ما قد أزمعتم عليه فإنكم لا تقيمون صلاة جميعاً، ولا تخرجون زكاة جميعاً، ويسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرمات بعض، ثم تكونوا شيعاً، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(12).
ألا وإني أوصيكم بما أوصاكم الله به، وأحذركم بما حذركم الله به من عذابه،فقد علمتم أن شعيباً «عليه السلام» لما نسبه قومه إلى الشقاق قال الله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}(13).
واعلموا أيها الناس! أني قد أنصفتكم وأعطيتكم من نفسي الرضا، على أن أعمل فيكم بالكتاب والسنة، وأسير فيكم بالسيرة، وأعزل عن أمصاركم من كرهتم، وأولي عليكم من أحببتم، وأنا أضمن لكم من نفسي أن أعمل فيكم بما كانا يعملان الخليفتان من قبلي جهدي وطاقتي، فقد علمتم أن من تولى أمر الرعية يصيب ويخطئ، وكتابي هذا معذرة إلى الله وإليكم، ويتصل إليكم مما كرهتم {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(14).
فاكتفوا مني بهذا العهد {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}(15)، وإني أتوب إلى الله من كل شيء كرهتموه، وأستغفره من ذلك، فإنه لا يغفر الذنوب إلا الله، وقد تبت إلى الله من كل ما كرهتموه، فإن رحمته وسعت كل شيء.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما جاءهم كتاب عثمان، وقرأوا لم يقبلوا شيئاً مما وعظهم به، ثم نادوا من كل ناحية، وأحاطوا بداره وخاصموه، وعزموا على قتله وخلعه.
قال: وخشي أن يعالجه القوم فيقتل، فكتب إلى عبد الله بن عامر بن كريز، وهو الأمير بالبصرة، وإلى معاوية بن أبي سفيان، وهو أمير الشام بأجمعها، فكتب إليهم عثمان نسخة واحدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد.. فإن أهل البغي، والسفه، والجهل، والعدوان من أهل الكوفة، وأهل مصر، وأهل المدينة قد أحاطوا بداري، ولم يرضهم شيء دون قتلي أو خلعي سربالاً سربلنيه ربي.
ألا! وإني ملاق ربي فأعني برجال ذوي نجدة ورأي، فلعل ربي يدفع بهم عني بغي هؤلاء الظالمين الباغين علي، والسلام.
قال: وأما معاوية، فإنه أتاه بالكتاب المسور بن مخرمة، فقرأ لما أتاه ثم قال: يا معاوية! إن عثمان مقتول، فانظر فيما كتبت به إليه.
فقال معاوية: يا مسور! إني مصرح أن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه، ثم غير فغير الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل.
قال: وأما عبد الله بن عامر فإنه لما ورد عليه كتاب عثمان نادى في أهل البصرة، فجمعهم ثم قال:
أيها الناس! إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن شرذمة من أهل الكوفة، وأهل المدينة، وأهل مصر نزلوا بساحته، فأعطاهم من نفسه النصفة، ودعاهم إلى الحق، فلم يقبلوا ذلك منه. وإنه كتب إلي يسألني أن أبعث إليه منكم نفراً من أهل الدين والصلاح، فلعل الله أن يدفع بكم عنه ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين.
قال: فأمسك الناس عنه ولم يجبه أحد منهم بشيء.
قال: وعلم أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل مصر: أن عثمان قد كتب إلى أهل الشام وأهل البصرة يستنجدهم، فكبس عليهم، فلجوا في حصاره، ومنعوه من الماء، فأشرف عليهم من جدار داره.
ثم قال: أيها الناس! هل فيكم علي بن أبي طالب؟!
قالوا: لا، فسكت ونزل.
قال: وبلغ ذلك علياً «عليه السلام» وهو في منزله، فأرسل إليه بغلامه قنبر، فقال: انطلق إلى عثمان فسله ماذا يريد.
فجاء قنبر إلى عثمان، فدخل وسلم ثم قال: إن مولاي أرسلني إليك يقول لك: ما الذي تريد؟
فقال عثمان: أردته أن يوجه إلي بشيء من الماء فإني قد منعته، وقد أضر بي العطش، وبمن معي في هذه الدار!
فرجع قنبر إلى علي فأخبره بذلك، فأرسل إليه علي ثلاث قرب من الماء مع نفر من بني هاشم، فلم يتعرض لهم أحد حتى دخلوا على عثمان، فأوصلوا إليه الماء، فشرب وشرب من كان معه في الدار.
قال: ودخل عمرو بن العاص على عثمان مسلماً، فقال له عثمان: يا بن العاص! وأنت أيضاً ممن توليت على الناس فيما بلغني، وتسعى في الساعين علي حتى قد أضرمتها وأسعرتها ثم تدخل مسلماً علي!
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! إنه لا خير لي في جوارك بعد هذا، ثم خرج عمرو من ساعته، ومضى حتى قد صار إلى الشام، ونزل بأرض فلسطين، وكان بها مقيماً.
قال: ثم أقبل عثمان حتى أشرف على الناس ثانية فسلم عليهم، فردوا عليه سلاماً ضعيفاً، فقال عثمان: أفيكم طلحة؟
قال: نعم ها أنا ذا.
فقال عثمان: سبحان الله! ما كنت أظن أن أسلم على جماعة أنت فيهم، ولا ترد علي السلام.
فقال طلحة: إني قد رددت عليك.
فقال عثمان: لا والله ما ذلك لك يا أبا محمد! إني أسمعتك السلام، ولم تسمعني الرد.
قال: وسمع عثمان بعضهم يقول: لا نقتله ولكنا نعزله.
فقال عثمان: أما عزلي فلا يكون، وأما قتلي فعسى، وأنا أرجو أن ألقى الله وبأسكم بينكم.
قال: وتكلم رجل من الأنصار يقال له: مجمع بن جارية، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أخاف والله أن يقتل هذا الرجل.
فقال له رجل من الصحابة: وإن قتل، فماذا والله نبي مرسل، ولا ملك مقرب!
قال: وعثمان مشرف من جدار داره يسمع ذلك.
فقال عثمان: أههنا سعد بن أبي وقاص؟ أههنا الزبير بن العوام؟
فقالا: نعم، نحن ههنا فقل ما تشاء!
فقال: ناشدتكم الله تعالى جميعاً بالذي لا إله إلا هو، هل تعلمون أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال يوماً: «من يبتاع لي مربد بني فلان غفر الله له».
فابتعته ثم أتيت النبي «صلى الله عليه وآله»، فقلت: يا رسول الله! إني قد ابتعت لك مربد فلان.
فقال: «اجعله في المسجد وأجره لك»، ففعلت ذلك؟!
فقالوا: قد كان ذلك.
قال عثمان: اللهم اشهد!
ثم قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، هل تعلمون أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال يوماً: «من يبتاع بئر رومة غفر الله له»، فابتعتها، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك»، ففعلت ذلك؟!
فقالوا: قد كان ذلك.
قال عثمان: اللهم اشهد! ثم قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو. هل تعلمون أن النبي «صلى الله عليه وآله» نظر ذات يوم في وجوه أصحابه وذلك في يوم جيش العسرة، فقال: «من جهز هؤلاء غفر الله له»، فجهزتهم حتى ما فقدوا خطاماً ولا عقالاً؟!
فقالوا: قد كان كل الذي ذكرت، ولكنك غيرت وبدلت.
فقال عثمان: يا سبحان الله! ألستم تعلمون أنكم دعوتم الله ربكم يوم توفي عمر بن الخطاب أن يختارني لكم؟
قالوا: بلى.
قال عثمان: فما ظنكم بالله تبارك وتعالى، أتقولون: إنه لم يستجب لكم وهنتم عليه؟
أم تقولون: إنه هان عليه هذا الدين فلم يبال من ولاه أمره؟!
أم تقولون: إن الله لم يعلم ما في عاقبة أمري، حين كنت في بعض أمري محسناً، ثم إني أحدثت من ذلك ما أسخط الله عز وجل؟ فهل لا عافاكم الله؟ فقد تعلمون ما لي من الفضائل الشريفة، والسوابق الجميلة مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فارتدعوا عما قد أزمعتم عليه من قتلي، فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفعه الله عز وجل عنكم أبداً إلى يوم القيامة.
فاتقوا الله، فإني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد «صلى الله عليه وآله»، وهذه مفاتيح بيوت أموالكم ادفعوها إلى من شئتم، وأمروا على أمصاركم من أحببتم، وأنتم معتبون من كل ما ساءكم.
وأما ما ادعيتم علي أني كتبت فيكم فهاتوا بينتكم، وإلا فأنا أحلف لكم بالله العظيم أني ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به.
قال: فنادته قوم من المصريين: يا هذا، إننا قد اتهمناك، فاعتزلنا وإلا قتلناك.
قال: فسكت عثمان، وتكلم زيد بن ثابت، وكان إلى جانب عثمان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(16).
قال: فصاح به الناس: يا زيد! إن عثمان قد أشبعك من أموال الأرامل، ولابد لك من نصره.
قال: فنزل عثمان من موضعه ذلك إلى داره، واقبل إليه عبد الله بن سلام، فقال: يا أمير المؤمنين! إن حقك اليوم على كل مسلم كحق الوالد على الولد، فأمرني بأمرك!
فقال له عثمان: تخرج إلى هؤلاء القوم تكلمهم، فعسى الله تبارك وتعالى أن يجري على يديك خيراً، أو يدفع بك شراً.
قال: فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس، فلما نظروا إليه ظنوا أنه إنما جاء ليكون معهم، فرحبوا به وأوسعوا له في المجلس، فلما جلس حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد «صلى الله عليه وآله»، ثم وعظهم وذكرهم وقال:
أيها الناس! إن الله تبارك وتعالى اختار من الأديان كلها دين الاسلام، ثم اختار لدينه رسولاً جعله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ثم اختار له من البقاع المدينة، فجعلها دار الهجرة ودار الإسلام، فلم تزل الملائكة تحف بها مذ سكنها رسوله محمد «صلى الله عليه وآله» إلى يومكم هذا، وما زال سيف الله مغموداً عنكم.
فأنشدكم الله أن لا تطردوا جيرانكم من الملائكة، وأن لا تسلوا سيف الله المغمود، فإن لله عز وجل سيفاً لم يسله قط على قوم حتى يسلوه على أنفسهم، فإذا سلوه لم يغمده عنهم إلى يوم القيامة.
فإياكم وقتل هذا الشيخ! فإنه خليفة، ووالله! ما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً من أمته عقوبة لهم، ولا قتل خليفة من بعده إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً، فاتقوا الله ربكم في هذا الشيخ.
قال: فنادوه من كل جانب: كذبت يا يهودي!
فقال عبد الله بن سلام: بل كذبتم أنتم، لست بيهودي، ولكني تركت اليهودية وتبرأت منها، واخترت الله ورسوله، ودار الهجرة والسلام، وقد سماني الله تبارك وتعالى بذلك مؤمناً، فقال عز وجل فيما أنزل على نبيه محمد «صلى الله عليه وآله»: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}(17).
ولقد أنزل الله تعالى آية أخرى إذ يقول الله عز وجل: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(18).
قال: ثم وثب عبد الله بن سلام من عند القوم، فصار إلى عثمان، فأخبره بذلك، فبقي عثمان لا يدري ما يصنع.
قال: وعزمت عائشة على الحج، وكان بينها وبين عثمان قبل ذلك كلام، وذلك أنه أخر عنها بعض أرزاقها إلى وقت من الأوقات فغضبت، ثم قالت: يا عثمان! أكلت أمانتك وضيقت رعيتك، وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك، لا سقاك الله الماء من فوقك، وحرمك البركة من تحتك! أما والله لولا الصلوات الخمس لمشى إليك قوم ذو ثياب وبصائر يذبحوك كما يذبح الجمل.
فقال لها عثمان: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(19).
قال: وكانت عائشة تحرض على قتل عثمان جهدها وطاقتها وتقول:
أيها الناس! هذا قميص رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يبل وبليت سنته، اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً.
قال: فلما نظرت عائشة إلى ما قد نزل بعثمان من إحصار القوم له قربت راحلتها، وعزمت على الحج. فقال لها مروان بن الحكم: يا أم المؤمنين! لو أنك أقمت لكان أعظم لأجرك، فإن هذا الرجل قد حوصر فعسى الله تبارك وتعالى أن يدفع بك عن دمه!
فقالت: الآن تقول هذا وقد أوجبت الحج على نفسي، لا والله لا أقمت، وجعل مروان يتمثل بهذا البيت:
ضـرم قـيس عليَّ الـبـلاد دمـــاً إذا اضطرمت يـوم بـه أحـجـما(20)
فقالت عائشة: قد فهمت ما قلت يا مروان!
فقال مروان: قد تبينت ما في نفسك.
فقالت: هو ذاك.
ثم إنها خرجت تريد مكة، فلقيها ابن عباس، فقالت له: يا بن عباس! إنك قد أوتيت عقلاً وبياناً، فإياك أن ترد الناس عن قتل هذا الطاغي عثمان، فإني أعلم أنه سيشأم قومه، كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر.
ثم إنها مضت إلى مكة، وتركت عثمان على ما هو فيه من ذلك الحصار والشدة.
قال: وأقبل سعيد بن العاص على عثمان فقال: يا أمير المؤمنين! أرى لك من الرأي أن تخرج على القوم، وأنت ملب كأنك تريد الحج، فإني أرجو أن لا يتعرضوا لك إذا نظروا إليك ملبياً، ثم تأتي مكة، فإذا أتيتها لم يقدم عليك أحد بما تكرهه.
فقال عثمان: لا والله، لا أختار على هذه المدينة التي أختارها الله تعالى لرسوله محمد «صلى الله عليه وآله».
قال: فقال له سعيد بن العاص الثقفي: يا أمير المؤمنين! فإني أخيرك بثلاث خصال فاختر واحدة.
قال عثمان: وما ذلك؟
قال: إما أن تقاتل القوم وتجاهدهم، فنقاتل معك حتى نفني أرواحنا.
قال عثمان: ما أريد ذلك.
قال: فتركب نجائبك حتى تأتي الشام، فإن بها معاوية، وهو ابن عمك، وبها شيعتك وأنصارك.
قال عثمان: والله لا أريد ذلك!
قال: فأقلك على نجائبي حتى أقدم بك البصرة، فإن بها قوماً من الأزد، وفيهم معروف لي، وهم لي شاكرون، فتنزل بين أظهرهم فيمنعوك.
فقال عثمان: لا والله لا خرجت من المدينة كائناً في ذلك ما كان.
قال: وأقبل أسامة بن زيد إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فقال: يا أبا الحسن! والله لإنك أعز علي من سمعي وبصري، وإني أعلمك أن هذا الرجل ليقتل، فأخرج من المدينة، وسر إلى ضيعتك ينبع، فإنه إن قتل وأنت بالمدينة شاهد رماك الناس بقتله، وإن قتل وأنت غائب لم يعدل بك أحد من الناس بعده.
فقال له علي: ويحك! والله إنك لتعلم أني ما كنت في هذا الأمر إلا كالآخذ بذنب الأسد، وما كان لي فيه من أمر ولا نهي.
قال: ثم دعا علي بابنه الحسن، (وقال:) انطلق يا ابني إلى عثمان، فقل له: يقول لك أبي: أفتحب أن أنصرك!
فأقبل الحسن إلى عثمان برسالة أبيه، فقال عثمان: لا ما أريد ذلك، لأني قد رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» في منامي، فقال: يا عثمان! إن قاتلتهم نصرت عليهم، وإن لم تقاتلهم فإنك مفطر عندي.
وإني قد أحببت الإفطار عند رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فسكت الحسن، وانصرف إلى أبيه، فأخبره بذلك.
قالوا: قد كان طلحة بن عبيد الله قد استولى على حصار عثمان مع نفر من بني تيم، وبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى علي بهذا البيت:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي وإلا فـأدركـنـي ولمــــا أمــــزق
أترضى أن يقتل ابن عمك وابن عمتك، ويسلب نعمتك وأمرك؟
فقال علي «عليه السلام»: صدق والله عثمان! لا والله لا نترك ابن الحضرمية يأكلها.
ثم خرج علي إلى الناس، فصلى بهم الظهر والعصر، وتفرق الناس عن طلحة، ومالوا إلى علي، فلما رأى طلحة ذلك أقبل حتى دخل على عثمان فاعتذر إليه مما كان منه.
فقال له عثمان: يا بن الحضرمية! وليت على الناس ودعوتهم إلى قتلي، حتى إذا فاتك ما كنت ترجو وعلاك علي «عليه السلام» على الأمر جئتني معتذراً، لا قبل الله ممن قبل منك.
قال: فخرج طلحة من عنده، وأشرف عثمان على الناس، فقال: أيها الناس! إن لي من رسول الله «صلى الله عليه وآله» نصيباً جليلاً وسابقة في الإسلام، وأنا وال مجتهد، وإن أخطأت في الإجتهاد أو تعمدت فأقبلوا مني، فإني أتوب إلى الله تعالى وأستغفره مما كان مني.
قال: فشتمه المصريون خاصة شتماً قبيحاً.
فتكلم زيد بن ثابت، وقال: يا معشر الأنصار! إنكم قد نصرتم النبي «صلى الله عليه وآله»، فكنتم أنصار الله، فانصروا خليفته اليوم لتكونوا أنصار الله مرتين، فتستحقوا الأجرين.
قال: فناداه جبلة بن عمرو الساعدي وقال: كلا والله يا زيد! لا يقبل ذلك منك، ولا نحب أن نكون عند الله غداً من أولئك الذين قالوا: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}(21)، والله يا زيد! إذا لم يبق من عمره إلا من بين العصر إلى الليل، لتقربنا إلى الله بدمه.
قال: وصاح الحجاج بن غزية الأنصاري بالقاعة من أهل مصر، فقال: لا تسمعوا من هذا القائل ما قال، واعزموا على ما أنتم عليه عازمون، فوالله ما تدري هذه البقرة ما تقول.
قال: فسب القوم زيد بن ثابت. وبادر رجل من القوم إلى شيء من الحطب، فأضرم فيه النار، وجاء به حتى وضعه في إحدى البابين، فاحترق الباب وسقط.
ودفع الناس الباب الثاني فسقط أيضاً.
فأنشأ المغيرة بن الأخنس بن شريق يقول:

لما تهدمت الأبـواب واحـترقت تمـمـت منهـن بـابـا غـير محــترق
شــدا أقـــول لعـبـد الله آمـره إن لم تـقـاتـل لـذي عثمان فانطلق
هو الإمـام فلست اليوم تـاركـه إن الـفـرار عـلي اليـوم كـالـسرق
فلسـت أتركـه مـا دام بـي رمق حـتـى يفـرق بـين الرأس والعـنق

قال: فلما نظر عثمان إلى الباب وقد احترق، قال لمن عنده في الدار: ما أحرق الباب إلا لأمر هو أعظم من إحراقه.
ثم اقتحم الناس الدار على عثمان وهو صائم، وذلك في يوم الخميس أو يوم الجمعة لثماني عشرة أو سبع عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً خلت من مقتل عمر بن الخطاب.
قال: والتفت عثمان إلى الحسن بن علي وهو جالس عنده، فقال: سألتك بالله يا بن الأخ إلا ما خرجت! فإني أعلم ما في قلب أبيك من الشفقة عليك.
فخرج الحسن بن علي «عليه السلام»، وخرج معه عبد الله بن عمر(22).
ونقول:
لا بد من بيان بعض ما تعرضت له النصوص المتقدمة، وسنقتصر منها على ما يرتبط بعلي أمير المؤمنين «عليه السلام»، أو ما له مساس قريب به، فلاحظ ما نذكره من العناوين التالية:
مقارنة بين الوليد وابن أبي سرح:
قلنا في بعض فصول هذا الكتاب: إنه حين شرب الوليد بن عقبة الخمر في الكوفة، طلب علي «عليه السلام» من عثمان أن يعزله، وأن يقضي بينه وبين الذين يدعون عليه شرب الخمر، فإن شهدوا عليه في وجهه، ولم يأت بما يدحض حجتهم جلده الحد..
وها هو «عليه السلام» يطلب من عثمان هنا أيضاً نفس هذه المطالب، بالنسبة لسعد بن أبي سرح، فقد طلب من عثمان أن يعزله عن مصر، وأن يقضي بينه وبين الذين يدعون عليه أنه قتل رجلاً كان قد اشتكى عليه عنده..
والسبب في هذا وذاك هو أن تشابه بين الحادثتين قد اقتضى وحدة الإجراءات فيهما معاً..
فأولاً: إن ابن أبي سرح حين يتهم بسفك الدماء البريئة، وبارتكاب المخالفات في سياسته للرعية، وبأنه لم يكن أميناً على ما تحت يده.. لا يعود صالحاً لتولي أمر ذلك البلد، لانعدام الثقة به.. ولحصول النفرة بينه وبين أهل تلك البلاد.
وبالتالي.. فإن ذلك سيفتح باب الطعن بصحة تصرفات، وسلامة سياسات، ورعاية جانب العدل والإنصاف وتنامي حالة الشك والتهمة لمن نصب ذلك الحاكم، ويرفض التخلي عنه..
ثانياً: إنه «عليه السلام» قد حفظ لابن أبي سرح حقه، حيث لم ينسب إليه القتل بصورة قاطعة.. بل أحال ذلك إلى القضاء، والحكم وفق ما يتوفر للقاضي من أدلة وشواهد، وإثباتات بعد ملاحظة دفاعات المتهم، وتقدير مدى قيمتها وصحتها..
ولكننا نجد في مقابل ذلك: أن طلحة وعائشة قد سجلا إدانة صريحة لابن أبي سرح، حيث صرحت عائشة بارتكابه جريمة القتل بالفعل، لمجرد إخبارها بذلك من قبل المدعين عليه به، ومن دون سماع أي شيء من ابن أبي سرح نفسه حول هذا الموضوع..
دلالات استجواب عثمان:
إن علياً «عليه السلام» وجه أسئلة عديدة لعثمان، فلما أجاب عنها وضعه أمام النتيجة المحرجة..
فقد اعترف بأن الغلام غلامه، والجمل جمله، والخاتم خاتمه.. ثم أنكر أن يكون هو الذي أرسل ذلك الكتاب، فلم يبق إلا أن يكون الذي كتب الكتاب هو ذلك الذي يحمل ختم عثمان، ويستطيع أن يأمر غلام عثمان فيطيعه، ويقرر الإستفادة من جمل عثمان فينفذ قراره.. وهذا كله منحصر بمروان..
فإن صح أن عثمان لم يكتب ولم يعلم.. فإن هذا الإستجواب يكون قد أظهر الكاتب، والآمر للغلام، والمتصرف بالجمل، والمستعمل للختم الذي ختم به ذلك الكتاب الذي لم يكتبه عثمان. وهو مروان بالتحديد..
وبما أن تصرف مروان هذا كان بالغ الخطورة، فقد كان ينبغي لعثمان أن يتخذ موقفاً منه، ولو بأن يسترد منه خاتمه، ويحد من تصرفاته، ويبعده عن موقعه، ولا يشركه في الأمور، ولا يجعله من أهل مشورته وبطانته.. وهذا أضعف الإيمان بالنسبة لمن يرتكب هذا الجرم الخطير..
ملاحظة حول تصرف مروان:
ويلاحظ هنا:

1 ـ أن الغلام الذي أرسله مروان، والجمل الذي أركبه إياه كانا لعثمان، فمن يرى هذا الغلام، وذلك الجمل لا بد أن يعرف أن لعثمان غرضاً من السماح للغلام بركوب ذلك الجمل، والكون في تلك المنطقة، وفي المقصد الذي سينتهي إليه..
2 ـ إنه أرسل الجمل والغلام في نفس الوقت الذي يخرج فيه وفد مصر.
3 ـ أن محمد بن أبي بكر، وجماعة من الصحابة الذين كانوا يعرفون الغلام والجمل.. كانوا مع ذلك الوفد..
4 ـ أن الغلام لا يستطيع أن يسافر من المدينة إلى مصر وحده، أو فقل إن ذلك سيكون صعباً عليه، وفيه أخطار ومشقات يصعب عليه مواجهتها.. فكان من المتوقع أن يبحث عن ركب يضم نفسه إليه في ذلك السفر الطويل..
5 ـ كان بإمكان مروان أن يدس إلى ابن أبي سرح وصية بقتل ابن أبي بكر أو غيره.. وسيرى أنه سيكون على استعداد لتنفيذ تلك الوصية، من أي جهة جاءته.. فلماذا أراد أن يكون عثمان طرفاً فيها؟ وأن تكون على يد غلامه وعلى جمله وبخاتمه، وعلى لسانه وباسمه.
وهل كان يريد من ابن أبي سرح أن ينفذ الوصية معلناً: أن ذلك كان بأمر عثمان؟! وأن يظهر للناس ذلك الكتاب المختوم بخاتمه.. وماذا سيكون موقف عثمان حين يطلع على هذا الأمر؟!
ولماذا أقر لهم ذلك الغلام بمهمته بمجرد سؤالهم إياه؟! وهل سألوه عن مضمون الرسالة التي يحملها لوالي مصر.. وبماذا أجابهم.
أم يعقل أن يكون ذلك كله خافياً على مروان؟!
ألم يكن يتوقع أن يتعرف على هذا الغلام وعلى هذا الجمل أحد ممن كان في ذلك الركب؟! ثم أن يشك في سبب وجوده معهم، وأن يتساءل عن سبب مسيره معهم إلى مصر؟!..
وإذا كان يعلم ذلك، فهل أراد أن تنكشف الرسالة، وأن تتأزم الأمور، وأن يعود المصريون إلى عثمان، وبيدهم حجة كبيرة ضده، وأن ينتهي الأمر بقتل عثمان، لأن ذلك يعطي مروان وحزبه فرصة لتكريس الأمر لصالحهم، بعد اتهام علي «عليه السلام» بالممالأة على قتله، أو بالمشاركة فيه؟!
6 ـ إن الفقرة الأخيرة التي تحدثت عن استحقاق عثمان للخلع كانت هي الأشد وقعاً عليه، والأكثر إيلاماً لقلبه، فإن عثمان كان شديد التعلق بمنصبه، يدللنا على ذلك: أنه تشبث به إلى أن صافح الموت الزؤام.. من دون أي داع إلى ذلك سوى هذا التعلق، الذي يجعل أية إشارة لانتزاع الخلافة منه بمثابة الضرب بالسيوف، والطعن بالرماح..
أسباب حدة موقف عائشة:
وقد رأينا:
أن موقف عائشة من عثمان قد جاء قوياً وحاداً للغاية، وكذلك كان موقف طلحة، وقد بدت عائشة قاطعة باتهام عامله بقتل الرجل.. كذلك كان حال طلحة أيضاً..
فهل كان الدافع لها وله هو الغيرة على مصالح العباد، والحرص على العمل بأحكام الشرع؟! أم أنه كان وراء الأكمة ما وراءها؟!
قد يقال: إن الثاني هو الصحيح، فإنها إنما غضبت من عثمان، لأنه منعها العطاء الذي كان عمر يعطيها إياه(23).
وعلى حد تعبير الرواية المتقدمة: إنه أخر عنها بعض أرزاقها.
وروي أن عائشة جاءت إلى عثمان، فقالت: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر.
قال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة. ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما، وأنا لا أفعل.
قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!.
قال: أو لم تجئ فاطمة «عليها السلام» تطلب ميراثها من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فشهدت أنت ومالك بن أوس البصري: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يورث، وأبطلت حق فاطمة وجئت تطلبينه؟! لا أفعل.
وفي نص الطبري: وكان عثمان متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: ستعلم فاطمة أي ابن عم لها مني اليوم؟! ألست وأعرابي يتوضأ ببوله شهدت عند أبيك؟! الخ..
فكان إذا خرج عثمان إلى الصلاة أخرجت قميص رسول الله «صلى الله عليه وآله» وتنادي أنه قد خالف صاحب هذا القميص(24).
ويدل على أن دوافع عائشة لم تكن متوافقة مع سائر المعترضين رغم حدتها في مواجهة عثمان، وأمرها الناس بقتله في قولها المشهور: اقتلوا نعثلاً فقد كفر(25)، وإظهار فرحها بقتله حين بلغها ذلك، انقلب موقفها رأساً على عقب في نفس اللحظة، حين علمت أن علياً «عليه السلام» هو الذي تولى بعده، فإنها كانت تظن أن طلحة سيفوز بهذا الأمر، ثم جمعت الجيوش هي وطلحة والزبير، وخرجت لحرب علي «عليه السلام» بحجة الطلب بدم عثمان..
ابن العاص يحرض على عثمان:
ولم يقتصر الأمر على عائشة، وابن عوف، وابن مسعود، والزبير، وطلحة، وسعد، وأبي ذر، وعمار، وسواهم بل كان لعمرو بن العاص موقف مماثل أيضاً، فقد روى الواقدي في تاريخه:
أن عثمان عزل عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقدم عمرو المدينة فجعل يأتي علياً «عليه السلام» فيؤلبه على عثمان، ويأتي الزبير، ويأتي طلحة، ويلقى الركبان يخبرهم بإحداث عثمان.
فلما حصر عثمان الحصار الأول خرج إلى أرض فلسطين، فلم يزل بها حتى جاءه خبر قتله، فقال: أنا أبو عبد الله، إني إذا أحل قرحة نكأتها، إني كنت لأحرص عليه، حتى أني لأحرص عليه [من] الراعي في غنمه.
فلما بلغه بيعة الناس علياً «عليه السلام» كره ذلك، وتربص حتى قتل طلحة والزبير، ثم لحقبمعاوية (26).
ونقول:
1 ـ إن محاولة عمرو بن العاص تأليب علي «عليه السلام» وتحريض طلحة والزبير، على عثمان، وكان يلقى الركبان يخبرهم بأحداثه.. لمجرد أنه عزله عن مصر، واستبدله بقرشي آخر هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح.. يشير إلى أن الملتفين حول عثمان، والمساعدين له الذين كان الناس يعترضون على توليتهم، وعلى عطايا عثمان لهم، إنما كانوا يدافعون عن مصالحهم، وعن امتيازاتهم ومواقعهم..
2 ـ إن النصوص لم تذكر لنا جواب علي «عليه السلام» لعمرو بن العاص حين كان يؤلبه على عثمان.. ولكن الأحداث أجابت وبينت بوضوح أن مسعى عمرو بن العاص قد باء بالفشل، لأنه «عليه السلام» بقي يمارس قناعاته، ويلتزم بحدود التكليف الشرعي، الذي كان يفرض عليه أن يدفع عن عثمان تلك الممارسات التي تخرج عن حدود الشرع.. وأن يطلب من عثمان أن ينصف الناس، ويعيد الأمور إلى نصابها..
3 ـ إن طلحة والزبير، قد أغرقا في عداءهما لعثمان، حتى أتيا على نفسه، ومعهما جماعات كثيرة من الصحابة وغيرهم من الناس الذين حضروا إلى المدينة من سائر البلاد..
وقد نسب عمرو بن العاص ما جرى لنفسه، زاعماً أنه هو السبب في قتل عثمان.. ولعله أراد بذلك أن يجد لنفسه موقعاً، ويحصل على حصته في الواقع المستجد، وربما كان يظن أن الأمر سيصل إلى طلحة وأضرابه..
ولكنه حين بلغه أن الأمر قد انتهى إلى علي «عليه السلام» علم أنه لن يحصل على ما كان يصبو إليه، فكره ذلك وتربص.
لماذا لم يرفض علي × طلب عثمان؟!:
تقدم عن ابن أعثم: أن عثمان طلب من علي «عليه السلام» أن يتدخل مع الثائرين عليه، ويدفعهم عنه، ويحل المشكلة. فبادر «عليه السلام» إلى ذلك، ولم يمتنع، لأن امتناعه سوف يذكي أوهام عثمان، ومن يريدون استغلال قميص عثمان، ويستثير بلابل صدره وصدورهم..
نعم.. لقد بادر إلى ذلك، مع أنه يصرح بأنه عالم بأخلاق عثمان، وأحواله وطريقته، كما ذكرناها في موضع آخر من هذا الكتاب .
حديث أسامة موضع ريب:
وذكر ابن أعثم حديث أسامه بن زيد مع علي «عليه السلام» ونصيحته له بأن يخرج إلى ينبع، وجواب علي «عليه السلام».
ولكننا نشك في ذلك:
أولاً: لأن أسامة كان في ذلك الحين منحرفاً عن علي «عليه السلام».. وقد حبس عنه علي «عليه السلام» عطاءه(27). وإن كانت الروايات تذكر: أنه صلح بعد ذلك..
ثانياً: إن خروج علي «عليه السلام» من المدينة وبقاءه فيها لا يقدم ولا يؤخر في اتهامه «عليه السلام» بذلك وعدمه.. فإن براءته من دم عثمان كانت كالنار على المنار، والذين اتهموا علياً «عليه السلام» إنما اتهموه لمرض في أنفسهم، ولأنهم اتخذوا ذلك ذريعة لابتزاز الأمة أمرها، ولأجل إثارة الفتنة، وإلقاء الشبهة، وهؤلاء سوف يفعلون ذلك سواء حضر علي «عليه السلام» أو غاب..
بل إن غيبته ستسهل عليهم اتهامه على قاعدة: (رمتني بدائها وأنست).
ثالثاً: إن جواب علي «عليه السلام» أوضح أن أسامة يعلم أن علياً «عليه السلام» كان كالآخذ بذنب الأسد، مع أن أسامة لم يكن يتحدث عن نفسه، ولا ظهر من كلامه أنه يتهم علياً في أمر عثمان.. وإنما هو يحاذر من أن يتمكن الناس من توجيه اتهام لعلي «عليه السلام».
وما أحسن تعبيره «عليه السلام»: أنه كالآخذ بذنب الأسد، فإنه يريد أن يحد من جماحه ومن انطلاقته نحو فريسته، وإذ به لا يسلم من أنيابه التي تنوشه تارة من هذا الجانب، وأخرى من ذلك الجانب.
الخط خط كاتبي:
وقد تضمن النص الذي ذكره ابن اعثم قول عثمان أولاً: «الخط خط كاتبي»، لكنه عاد فقال لعلي بعد ذلك مباشرة: «أتهمك وأتهم كاتبي»، فكيف يجزم بنسبة الخط إلى كاتبه ثم يتهم علياً بالكتاب؟!
إلا إن كان يقصد: أنه يتهم علياً بالتواطؤ مع مروان على هذا الأمر، ولو بأن أشار علي «عليه السلام» وكتب مروان..
ولكن كيف يصح هذا الإحتمال وعداوة مروان لعلي «عليه السلام» ونفور علي «عليه السلام» من ممارسات مروان كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار؟!
أتهمك وأتهم كاتبي:
وذكر ابن أعثم: أنه بعد أن قرر عثمان أن الغلام والجمل، والختم، وخط الكاتب كلها تعود إليه، ثم أنكر أن يكون هو الذي كتب الكتاب، قال له علي «عليه السلام»: لا عليك، فمن نتهم؟!
قال: أتهمك، وأتهم كاتبي.
قال علي: بل هو فعلك، وأمرك. ثم خرج من عنده مغضباً.
ثم زعم ابن أعثم: أن الناس عرفوا أن الخط خط مروان، وأنه كتبه بدون علم عثمان.. ومروان كان كاتب عثمان، وخاتم عثمان في أصبع مروان. وشك الناس في مروان(28).
ونقول:
1 ـ إننا في نفس الوقت الذي نتعجب ونستغرب، ويفاجؤنا أن نرى عثمان يواجه علياً «عليه السلام» باتهامه إياه بأنه هو كاتب الكتاب المختوم بخاتمه الذي وجد مع غلامه، الراكب على جمله؟!
وما هي المبررات التي يمكن أن يسوقها في اتهامه هذا..
فإننا نجد علياً «عليه السلام» جازماً بأن الكتاب من فعل عثمان، وقد كتب بأمره.. فدلنا ذلك على أنه لم يصدق ما ادعاه عثمان من عدم اطلاعه على هذا الأمر.
يضاف إلى ذلك:
أن من لا يطلع على هذا الأمر لا يحق له أن يرمي التهم على الآخرين جزافاً، ومن دون تثبت، ثم من دون أن يأتي بشاهد.
2 ـ كيف يمكن لعثمان أن يتهم علياً: والجمل جمل عثمان، والغلام غلامه، والختم ختمه، والخط خط كاتبه؟!
وما هي المبررات لجعله علياً «عليه السلام» شريكاً لمروان في التهمة؟!
هل كان خاتم عثمان عند علي «عليه السلام»، كما كان عند مروان؟! وهل كان علي «عليه السلام» كاتباً عند عثمان، وله سلطة على غلامه؟!
وإذا كانت الخطوط قد تتشابه، فماذا يصنع بالختم، والغلام والجمل؟!.. هل تتشابه هي الأخرى؟!
3 ـ لماذا لم يقرر عثمان الغلام، ولم يسأله عن الذي سلمه الكتاب، وأرسله. ألا يشير ذلك إلى أنه كان يخشى من أن يقر الغلام عليه بما يسوؤه؟! وأن يظهر ما كان يسعى عثمان لكتمانه؟!
4 ـ لماذا لم يقرر عثمان مروان أيضاً.. ويسأله عن الخاتم الذي كان في أصبعه، كيف خرج منها ليختم به الكتاب؟! ومن الذي أخرجه؟!
5 ـ ألا يكفي عثمان دليلاً على براءة علي «عليه السلام» كل هذه المعونة منه له، ومساعي التهدئة، التي قام بها «عليه السلام» لدفع الأخطار عنه، وكان عثمان هو الذي يتخلف عن الوفاء بعهوده، والبر بإيمانه؟
6 ـ إذا كان الناس قد عرفوا أن الخط خط مروان، فلماذا ادعى عثمان أن الخطوط تتشابه؟! أليس اعتذاره هذا يدل على صحة قول علي «عليه السلام»: «بل هو فعلك وأمرك»؟!
وما معنى قول ابن أعثم أولاً: عرف الناس أن الخط خط مروان.. ثم قوله بعد سطر واحد: وشك الناس في مروان؟!
فضلاً عن قوله: إن علياً قال له ـ بجزم وحزم: بل هو فعلك وأمرك.
عثمان يخبر عن الغيب:
وقد أظهرت النصوص المتقدمة عثمان وهو يخبر الناس عما يحصل لهم لو أنهم قتلوه. وكان يريد محاكاة علي «عليه السلام» في ذلك.. ولعل هدفه هو تخويف الناس من الإقدام على قتله.. إلا إذا كان يخبرنا بما سمع من النبي «صلى الله عليه وآله»: أنه سيحصل بعد قتل أحد الخلفاء.
ولكن من الذي أخبر عثمان بأنه هو المقصود وليس علياً «عليه السلام» الذي استشهد بيد ابن ملجم «لعنه الله»، وجرى ما جرى بعده لولده الإمام الحسن، ثم تحكم بنو أمية بالناس، وارتكبوا الجرائم والعظائم في حق الدين وأهل البيت والأمة. وكل ذلك معروف ومشهور وفي كتب المسلمين مسطور.
مناشدة عثمان:
وزعموا: أن عثمان ناشدهم فأقروا له بابتياع بئر رومة، وتجهيز جيش العسرة، وبأنهم دعوا الله يوم قتل عمر أن يختار عثمان لهم.
وقد تكلمنا عن بئر رومة، وعن تجهيز جيش العسرة في موضع آخر من هذا الكتاب، وأثبتنا أن ذلك غير صحيح.
وأما بالنسبة لدعائهم الله أن يختاره لهم، فهو غير مقبول، فإن الله لم يختر لهم عثمان للخلافة، بل اختار لهم علياً «عليه السلام»، وقد بايعوه ونكثوا بيعته.
كما أن خلافة عثمان ليست خاضعة للجبر الإلهي، ولا هي من فعل الله بصورة مباشرة. بل هي تدبير بشري، كان عبد الرحمان بن عوف قد تولاه وأنجزه وفق خطة وضعها عمر بن الخطاب.. وقد ذكرنا ذلك فيما سبق.
مشاركة ابن سلام:
وقد شارك ابن سلام في الإخبارات الغيبية، وأوعد الناس بأن يقتل منهم خمسة وثلاثون ألفاً..
ولكن ابن سلام قد نسي أن جبله قد تمخض فأولد فأرة ميتة، فإن عمر بن الخطاب قتل قبل أكثر من عشر سنوات ـ وهو خليفة عنده ـ ولم يقتل بسببه خمسة وثلاثون ألفاً. وقتل عثمان وخلفاء كثيرون بعد ذلك، ولم يقتل هذا العدد.
على أن هذا الحديث لو صح فإنما يقصد به الخليفة المنصوب من قبل الله ورسوله لا الذي ينصبه عبد الرحمان بن عوف، أو يوصي إليه أبو بكر، وما إلى ذلك..
لا نترك ابن الحنظلية يأكلها:
وقد صرحت الرواية المتقدمة: بأن عثمان أرسل إلى علي «عليه السلام»: يسأله إن كان يرضى أن يقتل ابن عمه وابن عمته، ويسلب نعمتك.
فقال «عليه السلام»: صدق والله عثمان، لا نترك ابن الحنظلية يأكلها.
ثم تذكر الرواية: أنه «عليه السلام» خرج فصلى بالناس، فتفرق الناس عن طلحة.. فبادر طلحة واعتذر من عثمان.. فلم يقبل عذره.
ويقصد بهذا الكلام: إظهار أن علياً «عليه السلام» كان طامعاً بهذا الأمر، ويتصرف بهذه الخلفية، وسعى لمنع طلحة من أن يأكلها، وليفوز هو «عليه السلام» بأكلها..
ومن الواضح: أن علياً «عليه السلام» لا يفكر بهذه الطريقة، وإنما هذا مدسوس عليه «صلوات الله وسلامه عليه».. واعتذار عثمان من طلحة إنما هو حين امتنع طلحة من السماح بوصول الماء إلى عثمان، فعمل «عليه السلام» على تفريق الناس عنه، فلما حصل ذلك بادر طلحة للإعتذار؛ فلم يقبل عثمان منه ذلك.

 


([1]) الفتوح لابن أعثم (ط دار الأضواء) ج2 ص398.

([2]) راجع: قرب الاسناد للحميري القمي ص 55 والكافي ج 5 ص 59 وتحف العقول لابن شعبة الحراني ص 49 وتهـذيب الأحكـام للشيخ الطوسـي ج 6 = = ص 177 وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 365 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)  ج 16 ص 122مستدرك الوسائل ج 12 ص 331 وغير ذلك من المصادر.

([3]) راجع: الغدير ج9 ص179 ـ 181 والثقات لابن حبان ج2 ص256 ـ 259 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص416 ـ 417 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1157 ـ 1160 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص270 و 271 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص148.

([4]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص375 و 376 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص408 حوادث سنة 35 والغدير ج9 ص183 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص149.

([5]) الآية 20 من سورة لقمان.

([6]) الآية 34 من سورة إبراهيم.

([7]) الآية 102 من سورة آل عمران.

([8]) الآية 105 من سورة آل عمران.

([9]) الآية 7 من سورة المائدة.

([10]) الآية 6 من سورة الحجرات.

([11]) الآية 77 من سورة آل عمران.

([12]) الآية 159 من سورة الأعراف.

([13]) الآية 89 من سورة هود.

([14]) الآية 53 من سورة يوسف.

([15]) الآية 34 من سورة الإسراء.

([16]) الآية 159 من سورة الأعراف.

([17]) الآية 10 من سورة الأحقاف.

([18]) الآية 43 من سورة إبراهيم.

([19]) الآية 10 من سورة التحريم.

([20]) هذا بيت من الشعر، والظاهر أن أصله:

وضـرم قـيس عليَّ الـبـلا              د حتى إذا اضطرمت أحـجـما

([21]) الآية 67 من سورة سبأ.

([22]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص410 ـ 425 وراجع: الأمالي للطوسي ص712 ـ  715 وبحار الأنوار ج31 ص485 ـ 488 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1158 ـ 1160 و (ط دار الفكر) ج3 ص1137 ـ 1139.

([23]) راجع: الأمالي للمفيد ص125 وبحار الأنوار ج31 ص295 و 483 وكشف الغمة ج2 ص107 وتقريب المعارف لأبي الصلاح ص286 واللمعة البيضاء ص800 وبيت الأحزان ص156 والخصائص الفاطمية للكجوري ج1 ص509.

([24]) راجع: الأمالي للمفيد ص125 وبحار الأنوار ج31 ص295 و 483 وكشف الغمة ج2 ص107 وتقريب المعارف لأبي الصلاح ص286 واللمعة البيضاء ص800 وبيت الأحزان ص156 والخصائص الفاطمية للكجوري ج1 ص510.

([25]) بحار الأنوار ج32 ص143 و 167 والغدير ج9 ص80 والفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي ص115 وقـاموس الرجـال للتسـتري ج10 ص40 = = وج11 ص590 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص459 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص477 والكامل في التاريخ ج3 ص206 والفتوح لابن أعثم ج2 ص437 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص356 و (ط المطبعة البهية بمصر سنة 1320 هـ) ج3 ص286 وتذكرة الخواص ص61 و 64 والخصائص الفاطمية للكجوري ج2 ص157 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج2 ص25 وصلح الحسن «عليه السلام» للسيد شرف الدين ص313 وعن العقد الفريد ج3 ص300 والفصول المهمة للسيد شرف الدين ص126 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص442 والغدير ج9 ص80 و 85 و 145 و 279 و 323 و 351 وج10 ص305 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص51 و (تحقيق الشيري) ج1 ص72.

([26]) راجع: بحار الأنوار ج31 ص291 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي  ص283 ونهج السعادة ج2 ص62 وتاريخ مدينة دمشق ج55 ص26 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص392 والكامل في التاريخ ج3 ص163 والغدير ج2 ص154 وج9 ص136.

([27]) راجع: قاموس الرجال للتستري ج11 ص68.

([28]) الفتوح لابن أعثم ( ط الهند) ج2 ص212 و 213 و (ط دار الأضواء) ج2 ص413.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان