الفصل الأول: لا تجدي النصائح.. بدء التحرك..

   

صفحة : 271-300   

 الفصل الأول: لا تجدي النصائح.. بدء التحرك..

عثمان لا يقيم كتاب الله:
وروى الثقفي: أن العباس كلم علياً في عثمان، فقال: لو أمرني أن أخرج من داري لخرجت، ولكن أبى أن يقيم كتاب الله(
1).
وتقدم: أن هذه الكلمة قد نسبت إلى أبي ذر ولا مانع من ذلك، فإن نهج أبي ذر هو نهج علي «عليه السلام»..
وهو يترسم خطاه، ويأخذ منه، ويرجع إليه، لأنه إمامه..
ونقول:
1 ـ لقد أفهمنا «عليه السلام» أن مشكلته مع عثمان ليست شخصية، إذ لو كانت كذلك، فإنه «عليه السلام» سوف يتنازل فيها حتى عن بيته، فضلاً عما هو دون ذلك..
ولكنها قضية الدين والحق، والعمل بكتاب الله تبارك وتعالى.. وهو لا يملك أن يتنازل عن شيء من ذلك.. لأن الأمر لا يعود إليه..
2 ـ إنه «عليه السلام» اقتصر على ذكر كتاب الله تبارك وتعالى.. لأن كتاب الله نص حاضر مكتوب، ومحفوظ، وله قداسة لا يمكن المراء فيها..
أما النص النبوي أو السيرة النبوية، فقد يدعى البعض: أن النبي «صلى الله عليه وآله» بشر مثلهم يرضى ويغضب، وأنه قد لا يطلع على بعض الحيثيات التي لو اطلع عليها لتغير قراره..
كما أنهم قد يزعمون: أن ما يأتي به قد لا يكون له خبرة فيه، بزعم أنه من أمور الدنيا، وهم أعلم منه بأمور دنياهم، على حد التعبير المزعوم المنسوب إليه «صلى الله عليه وآله»..
وقد ذكرنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»: أن هذا الحديث لا يمكن تصحيحه، فليراجع.
3 ـ إنه «عليه السلام» حين اقتصر على ذكر كتاب الله يكون قد سد عليهم باب التعلّل والتسويف والتساهل.. وفرض عليهم أن يبادروا إما إلى التصحيح في مواقفهم وممارساتهم، أو إلى توضيحها، وبيان ما أبهم منها للناس، وأصبحوا مطالبين برد التهمة عنهم، ولو بأن يبحثوا في صحة أو عدم صحة ما ينسب إليهم من مخالفات لكتاب الله، وتحديد موارد تقصيرهم في إقامة شرائعه. وليس من المقبول أن يقفوا مواقف اللامبالاة من هذا الأمر..
عثمان لا يريد سماع الشكوى:
قالوا: كان علي «عليه السلام» كلما اشتكى الناس عثمان أرسل ابنه الإمام الحسن «عليه السلام» إليه، فلما كثر عليه، قال له: إن أباك يرى: أن أحداً لا يعلم ما يعلم؟! ونحن أعلم بما نفعل.
فكف «عليه السلام» عنه(
2).
ونقول:
في هذا النص ـ على قصره ـ عدة دلالات، مثل:
1 ـ أن علياً «عليه السلام» كان هو الملجأ والملاذ للناس، الذين يرون أنه هو الذي يتفهم آمالهم المشروعة، ويعيش ويشعر بآلامهم.. ولذلك كان هو موضع شكواهم، والمرجع في الملمات والمهمات لهم.
2 ـ إن شكوى الناس إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» من عثمان قد تكررت بتكرر موجباتها..
3 ـ إن علياً «عليه السلام» لم يكن يهمل شكاوى الناس هذه، بل كان يوصلها إلى عثمان باستمرار ويطالبه بالعمل على معالجة مناشئها، إلى أن سد عثمان الباب أمامه.
4 ـ إنه «عليه السلام» كان يرسل ولده الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه ليبلغه شكاوى الناس، باعتباره الرجل المأمون، الذي لا يتجاوز حدود ما يرسم له، لأنه «عليه السلام» يريد أن يطمئن عثمان إلى أنه ليس بصدد التشهير به، ولا يرمي إلى إشاعة تلك المخالفات عنه..
كما أنه بذلك يكون قد أظهر قدراً من الإحترام لعثمان، لكونه أرسل إليه ولده، وأعز وأكرم الناس عليه، له وقع في نفس عثمان، وأقرب إلى حصول الإنعطاف في موقفه.
5 ـ لكن الغريب هنا: هو جواب عثمان الذي لم يتضمن أية إشارة إلى صحة أو سقم ما يقال فيه، ولا أي تبرير للمؤاخذات التي تؤخذ عليه وعلى عماله، ولا تضمن ولو وعداً بمراجعة هذا الأمر أو النظر في تلك الشكاوى..
كما أنه لم يشكر جهود علي «عليه السلام» لتسديده ونصحه، ولم يقل له: لا تتدخل في هذا الأمر.. ولم يهاجم منتقديه، والشاكين له.. بل بادر إلى الهجوم على أمير المؤمنين «عليه السلام» بالذات، واتهمه بما يشير إلى أنه مغرور بنفسه، وأنه يرى أن أحداً لا يعلم ما يعلم.. فلماذا هذا التسرع للمساءة، وسد أبواب الصلاح والإصلاح.
6 ـ إن عثمان ادعى لنفسه أنه أعلم من علي «عليه السلام» بما يفعل.. فدل بذلك على أنه لم يكن غافلاً، ولا جاهلاً بعواقب ما يقدم عليه..
ودل أيضاً على إصراره على مواصلة طريقه، وعلى أنه لن يصغي لنصح أحد، فكان لا بد من الكف عن مراودته فيه..
ينصح عثمان بالعمل بسنة الشيخين:
عن عطاء: إن عثمان دعا علياً، فقال: يا أبا الحسن، إنك لو شئت لاستقامت عليَّ هذه الأمة، فلم يخالفني واحد.
فقال علي «عليه السلام»: لو كانت لي أموال الدنيا وزخرفها ما استطعت أن أدفع عنك أكف الناس، ولكني سأدلك على أمر هو أفضل مما سألتني: تعمل بعمل أخويك: أبي بكر وعمر، وأنا لك بالناس، لا يخالفك أحد(
3).
ونقول:
لا بد من ملاحظة الأمور التالية:
أولاً: إن أطماع الناس لا حدود لها، كيف وقد قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً}(
4).
وروي عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا(
5)، بالإضافة إلى روايات كثيرة أخرى..
وهذا يدلنا: أن علاج الأزمات التي كان عثمان يواجهها يكون ببذل المال لاستجلاب رضا الناس، فإنك لو بذلت أموال الدنيا كلها لرجل واحد، لما انفك يقول: هل من مزيد؟!
فالحكمة تقضي بعدم إثارة أطماع الناس، والسعي إلى ضبط الأمور، والتزام ضابطة واضحة، من شأنها طمأنة الناس إلى أن الأموال ستصل إلى مستحقيها.. ولن تتعرض هذه الأموال لأي عدوان عليها، ولن يتم تجاوز تلك الضابطة فيها..
ثانياً: إنه «عليه السلام» لم يشر على عثمان بأن يعمل بسنة رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وهي التي وجد أبو بكر نفسه ـ ولو ظاهراً ـ ملزماً بعدم تخطيها في كثير من الأمور، ولا سيما في موضوع قسمة الأموال بحسب الظاهر.. ثم سار عليها عمر برهة من خلافته، ثم تجاوزها ـ إنه «عليه السلام» لم يشر عليه بذلك ـ لأنه لا يجد لدى عثمان حافزاً قوياً للعمل بهذه السنّة، ولا ندري سبب ذلك بالتحديد، غير أننا نعلم أن العمل بسنة أبي بكر وعمر هو الشرط الذي أنيطت به خلافته حين أفضت إليه.. فهو يخشى أن يتطرق التشكيك إلى شرعية حكمه، إذا ظهر أنه أخل بهذا الشرط، ولم يعمل بسيرة الشيخين.. ولذلك ألزمه «عليه السلام» بما الزم به نفسه..
ثالثاً: إن عمر وإن كان قد عدل عن سنة أبي بكر حين دون الدواوين على أساس التميز العرقي، والقبلي، وغيره من الأمور المرفوضة شرعاً.. ولكن هذه الجهة لا يمكن أن تكون مقصودة بكلام علي «عليه السلام»، بل المقصود هو خصوص ما توافق عليه مع أبي بكر.. لا ما أنفرد به عنه..
رابعاً: إن السنة المشار إليه بها هي سنة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولا يمكن إلا أن تكون مرضية لدى الناس، لأنها تمثل حقيقة العدل، وتعطي كل ذي حق حقه.
خامساً: إن قول عثمان لعلي: لو شئت لاستقامت علي هذه الأمة إلخ.. يدل على أن علياً «عليه السلام» رغم كل الحرب التي شنها عليه أعداؤه، لتشويه سمعته، والتستر على فضائله قد ذهب ذكره في الخافقين، وأصبحت الأمة كلها شاهدة على فضله، مقرة بعظيم منزلته.. وله عظيم الأثر فيهم بإقرار عثمان نفسه..
عثمان في المأزق:
لما كانت سنة 34 كتب أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعضهم إلى بعض: أن اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد.
وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرون ويسمعون؛ ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير، (منهم) زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت.
فاجتمع الناس، وكلموا علي بن أبي طالب.
فدخل على عثمان، فقال: الناس ورائي، وقد كلموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت، وصحبت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ونلت صهره.
وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» رحماً، ولقد نلت من صهر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء.
فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تُبَصَّر من عمى، ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة.
تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هُدي وهَدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة متروكة، فوالله إنَّ كُلّاً لبَيِّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وان شر الناس عند الله امام جائر، ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعةً متروكة، وإني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول:
«يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور في جهنم كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم».
وإني أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقماته، فان عذابه شديد أليم.
وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة امام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركهم شيَعاً، فلا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً.
(زاد في بعض المصادر قوله: فلا تكونن لمروان سيقة، يسوقك حيث شاء، بعد جلال السن، وتقضِّي العمر)(
6).
فقال عثمان: قد والله علمت، ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكراً أن وصلت رحماً، وسددت خلة، وآويت ضائعاً، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي.
أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك!
قال: نعم.
قال: فتعلم أن عمر ولاه.
قال: نعم.
قال: فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟
قال علي «عليه السلام»: سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصى الغاية، وأنت لا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك.
قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً.
فقال علي «عليه السلام»: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته.
فقال علي «عليه السلام»: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟!
قال: نعم.
قال علي «عليه السلام»: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك، ولا تغير على معاوية.
ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على أثره (وفي نص المفيد: فلما كان بعد أيام عاد إليه أمير المؤمنين «عليه السلام» فوعظه فقال)(
7).
فجلس على المنبر، فقال:
أما بعد.. فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصاً ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب.
ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي.
أما والله لأنا أعز نفراً، وأقرب ناصراً، وأكثر عدداً، وأَقْمَنٌ، إن قلت هلم أتى إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا.
ألا فما تفقدون من حقكم؟! والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه.
فضلَ فضلٌ من مال، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد! فلم كنت إماماً؟!
فقام مروان بن الحكم، فقال: إن شئتم حكمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم، كما قال الشاعر:
فرشنـا لكـم أعراضنا فنبت بكم معارسكـم تـبنـون في دمن الثـرى
فقال عثمان: اسكت لاسكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدم إليك ألا تنطق!
فسكت مروان، ونزل عثمان (
8).
ونقول:
تضمن هذا النص أموراً، نذكر منها ما يلي:
عندنا الجهاد:

قد بين هذا النص: أن الصحابة هم الذين أرسلوا يدعون الناس إلى قدوم المدينة لأجل الجهاد مستفيدين من تعابير تشير إلى وضوح الأمور لديهم إلى حد أنهم صاروا يرون إرسال الجنود للجهاد ضد خليفتهم أولى من إرسالهم لجهاد الكفار.. مما يعني أنهم يرون عثمان أعظم خطراً من الكفار على الإسلام والمسلمين، لا سيما وأنهم حصروا الجهاد بالمدينة، ولم يعد يوازيه جهاد الأعداء على الثغور، بل وأصبح هو الجهاد، وما عداه ليس جهاداً أصلاً..
قد يقال: لعل الباعث على ذلك أنه بلغهم أن عثمان أرسل إلى معاوية في الشام يستنصره، وأرسل إلى غير معاوية من ولاته على الأمصار يستنجد بهم، فأرادوا أن يقابلوا الجيش بجيش مثله. وربما أرادوا أن يشاركهم غيرهم من المسلمين من أهل الأمصار توسيعاً لقاعدة المعارضة وتحاشياً لمعاذير، مثل:
أن لا يقال إن الخارجين على عثمان هم مجرد عصابة وشرذمة من المشاغبين المتمردين العاصين، الذين لا يخضعون لمنطق، ولا ينقادون لشرع.
وقد يقال: لا يكفي لتبرير هذه الحدة والشدة في التعاطي هو أنهم ـ والعياذ بالله ـ قد حكموا بكفر عثمان فإن ذلك لا يجعل الجهاد منحصراً بالمدينة، ولا يزيل صفة الجهاد عن قتال الأعداء على الثغور..
على أنه لا بد من السؤال عن السبب الذي أوجب حكمهم عليه بالكفر، هل هو اعتقادههم أنه يهدم أساس الدين بإسم الدين؟! ولكنهم لم يفصحوا في رسائلهم: كيف ذلك؟!.. ومتى؟! ولماذا؟!..
ولماذا لم يزل عمار بن ياسر يلهج بتكفيره، وعمار جلدة ما بين عيني النبي «صلى الله عليه وآله»، وقد ملئ إيماناً إلى مشاشه؟!.. ولماذا لا يزجره علي «عليه السلام»، وعلي مع الحق والحق معه، يدور معه كيفما دار. فلماذا لا يمنعه من ذلك، أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر؟! إن كان ما يقوله عمار منكراً؟!
الذابون عن عثمان:
وقد صرح النص المتقدم: بأن الناهين للناس عن الثورة، والذابين عن عثمان هم مجرد نفير (أي قلة قليلة جداً لا تصلح لإطلاق كلمة نفر عليها) منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت..
فأين باقي الصحابة عنه؟!
ولماذا عادوه ونابذوه، كبارهم وصغارهم؟!
هل لأنهم يئسوا من إنابته وصلاحه وإصلاحه؟!
أم لأنه ارتكب في حقهم أموراً لم تترك لهم مجالاً لغير ذلك الموقف؟!
أم هما معاً؟!
أي أن بعضهم يئس من الصلاح والإصلاح.. وبعضهم الآخر رأى منه ما يسوءه، وما دعاه لمنابذته..
أما علي «عليه السلام» فرغم أنه قد عانى معه الأمرّين، وواجه أشد الأذايا مما لم يواجهه أحد من عثمان.. وكان عالماً بأنه لا ينزع ولا يرجع، فإنه واصل محاولاته معه.. إقامة منه للحجة، واستنفاداً للوسع، ودفعاً لما هو أعظم، وتقليلاً للخسائر، التي لا بد أن تنجم عن سياسات عثمان ومن معه، ثم عن أعمال المناوئين له والثائرين عليه..
ما أعرف شيئاً تجهله:
قد يتخيل، بعض قاصري النظر:
أن قوله «عليه السلام» لعثمان: «ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه». وقوله: «إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت، وصحبت رسول الله «صلى الله عليه وآله» الخ..». يدل على أن علياً «عليه السلام» لم يكن أعلم من عثمان..
وهو خيال زائف، فإن مقصوده «عليه السلام»: هو بيان أن الأمور التي ينقمها الناس على عثمان، ويريد «عليه السلام» أن يكلمه فيها هي من الواضحات التي يعرفها عثمان وغيره.. ومعنى ذلك: أن عثمان لا يرتكب ما يرتكبه بسبب جهله بأحكام تلك الأمور.
قال المعتزلي: «وهذا حق، لأن علياً «عليه السلام» لم يكن يعلم منها ما يجهله عثمان، بل كان أحداث الصبيان، فضلاً عن العقلاء المميزين، يعلمون وجهي الصواب والخطأ فيها»(
9).
ومن المعلوم: أن توضيح الواضحات من أشكل المشكلات، وموعظة العالم بالأمر، وصرف الإنسان عن فعل يرتكبه وهو عالم بكل حيثياته وأحكامه أمر محير وصعب.
ولذلك قال له «عليه السلام»: والله ما أدري ما أقول لك!! وقال: «ولا أدلك على أمر لا تعرفه». أي مما ينقمه الناس عليه، ويؤاخذونه به. وهكذا يقال بالنسبة لسائر الفقرات.
وأما قوله «عليه السلام»: «ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه»، فهو ناظر إلى الأحداث والسياسات التي كانت في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله».. ويفترض بعثمان أن يتأسى برسول الله «صلى الله عليه وآله» فيها.. فإنه كان ـ كغيره من الصحابة ـ يرى ويسمع قول وفعل وسياسات رسول الله «صلى الله عليه وآله».. فلماذا يعمل بخلاف ما رآه وسمعه؟!
ويدل على ما قلناه: قوله أخيراً: «إن الطريق لواضح بيّن، وإن أعلام الدين لقائمة» بل كل كلامه «عليه السلام» الذي خاطب به عثمان يدل على أنه يريد به أن الحق الذي يخالفه عثمان وعصابته، لا يمكن أن يخفى على أحد: فكيف لا يعمل به عثمان.
فاتضح: أن هذا لا ربط له بموضوع اعلمية عثمان من علي «عليه السلام» في الأحكام، أو في غير ذلك من علوم ومعارف..
صهر عثمان:
أما قوله «عليه السلام» لعثمان:
«ونلت صهره»، فقد يقال: إن ذلك يدل على أن زوجتي عثمان: «رقية وأم كلثوم» كانتا بنتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة، وهذا لا يتوافق مع القول بأنهما كانتا ربيبتيه..
غير أننا نقول:
إن الأدلة الكثيرة دلت على أن رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان لم تكونا بنتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة.. وأن من الممكن أن يكون للنبي «صلى الله عليه وآله» بنتان بهذا الاسم، ولكنهما ماتتا صغيرتين..
ونحن نعلم: أن كلمة «بنت فلان» قد تطلق على التي يربيها الشخص الذي تنسب إليه.. وقد تطلق على بنت الزوجة، وقد تطلق على البنت الحقيقية.
فإذا أثبتت الأدلة أن زوجتي عثمان لم تكونا بنتي النبي «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة، ولا كانت ابنتي زوجته. فلا بد من القول: بأن إطلاق كلمة بنتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» علىهما قد جاء على سبيل التوسع، والمراد: أنهما بنتاه بالتربية. وتكون معروفية ذلك بين الناس قرينة على إرادة هذا المعنى..
فقول أمير المؤمنين «عليه السلام» لعثمان: «ونلت من صهره» يريد به ذلك المعنى أيضاً، لتكون حصيلة المعنى أنك يا عثمان أقرب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، من أبي بكر وعمر، فأنت أولى منهما بإلتزام جانب الحق والعمل به..
عناصر إقناع اعتمد عليها علي :
والمراجع لكلام علي «عليه السلام» مع عثمان يجد: أنه اعتمد فيه على عدة عناصر، كان لا بد من الإعتماد عليها في إيجاد دواعي المبادرة لتصحيح المسار، فلاحظ ما يلي:
1 ـ إنه «عليه السلام» قد اعتمد على الرأي العام، الذي لا بد أن يدفع عثمان لإعادة حساباته، والنظر في أمره، فإنه قد وضع نفسه في موضع الوكيل عن الناس، والحافظ لمصالحهم، وقد يكون لموقفهم تأثير على موقعه، الذي يخوله التصرف في الأموال العامة، واختيار السياسات التي تعنيهم، وتلامس مصالحهم، وحياتهم اليومية، وربما مصيرهم..
ولذلك قال لعثمان: الناس ورائي، وقد كلموني فيك..
2 ـ إنه «عليه السلام» لم يظهر نفسه بمظهر المعلم، ليكون عثمان بمثابة التلميذ، بل ساواه بنفسه، وأظهر أن مثله واقف على الأمور، عارف بما يصلح وما يفسد، ويميز بين الحق والباطل، فلم ينتقص من بصيرته ولا من معرفته بالأمور..
3 ـ إنه أفسح المجال لطموح عثمان، وجعله في مكانة كان يطمح لها ويتوثب إليها حين لم يقدم أبا بكر وعمر عليه، بل قدمه عليهما في بعض الميزات، ووضعه في حلبة السباق معهما.
ولعل هذا ما لم يكن عثمان يحلم بأن يسمعه من أحد، فكيف إذا كان علي «عليه السلام» هو الذي يقوله له، وهو الذي يرجع إليه الناس، ولا يعدلون به أحداً في العلم والصدق والإستقامة، وفي كل خصال الخير والفضل..
4 ـ إنه «عليه السلام» قد حرك فيه النازع الذاتي الذي لا يقاوم، وهو نزعة حفظ الذات من البلايا والرزايا، وقد استحضر صورة هذا الخطر بأقوى أساليب الإستحضار، وجسد الخطر ومداه أدق تجسيد حين قال له: الله، الله في نفسك..
5 ـ إنه «عليه السلام» كلم عثمان بعنوان الإنسان المشفق المستشعر للخطر، لا بعنوان المقرر لحقائق يريد أن يقررها لتكون حجة على عثمان، وسبيل تخطئة وإدانة له، لأن هذا الأسلوب وإن كان صحيحاً في نفسه، ولكن لا بد من الإبتعاد عنه، إن كان يوجب اللجاج والعناد لدى الطرف الآخر..
6 ـ إن تركيزه «عليه السلام» على شدة وضوح أمر الدين، والتصريح بأن أعلامه قائمة، ثم الحديث عن البدع والضلالات، من شأنه أن يخلق شعوراً بالحرج مما يحدث، وأن تتوهج الرغبة بلملمة الأمور، والتستر على ما كان منها فاضحاً وكريهاً، وإيجاد المخارج منه، والإعتذار عنه..
7 ـ ثم إنه «عليه السلام» قدم له عناوين يرغب الحكام بالتظاهر بها، وبإشاعتها عن أنفسهم، فتحدث عن عنوان الإمام (وهو الوصف المحبب المستعذب للحاكم.
وهو أيضاً يحب أن ينظر إليه على أنه يتحلى بسمة العدل، ويمارس واجب الهداية، ويعطي الإنطباع عن نفسه، بأنه يهتدي للحق ويهدي إليه، ويسمع النصيحة، ويعمل بها، وأنه يقيم السنن المعلومة، ويميت البدع المتروكة.
ولكنه قدم له هذه المفاهيم من خلال ربطها بالله تبارك وتعالى.. الذي هو مصدر القوة له، والمتفضل بالنعم عليه.. أي أنه لم يعطه هذه المفاهيم لتعينه على الدنيا، بل أعطاه إياها ليتخذ منها له ذخراً عند الله، وسبباً لحل مشاكله من قبل مصدر العطاء، وواهب النعم، والعالم القادر والمهيمن على كل شيء..
8 ـ ثم أعطاه الصورة المقابلة التي تنفر منها الفطرة، ويتأذى بها الوجدان وتضع الحواجز بينه وبين الله، مصدر القدرة والعطاء، والحفظ، من حيث أنها تغضبه تعالى، فتحدث عن الإمام الجائر، الذي ضلَّ، وضُلّ به، وأمات السنن وأحيا البدع، الذي هو شر الناس عند الله تعالى..
9 ـ ولم يغفل «عليه السلام» الحديث عن الآخرة، التي هي المستقبل الذي لا مفر منه، ولا محيد عنه، وحدثه عمَّا له مساس بخصوص ذاته، وهو العذاب الجسدي الأليم..
10 ـ وأشار «عليه السلام» أيضاً إلى أن الذين ينتصر بهم اليوم، لن يجدهم يوم القيامة في موقع الناصر..
والذين يوجدون له المخارج والمعاذير اليوم ـ ولو بالباطل، لن يجدهم في موقع العاذر له يوم الحساب.. بل سيقولون عنه: إنه يستحق ذلك العذاب، لأنه هو الذي مهد مقدماته، وأوجد موجباته..
11 ـ وإن كان عثمان يفكر في الدنيا وحسب، فإنه «عليه السلام» قد بين له: أن مصيره سيكون الموت قتلاً أيضاً، وهذا أيضاً قتل ذل وخزي ومهانة على يد عامة الناس، وبالإستناد إلى أمور ومبررات مهينة ومشينة له، لأنها قتلته لكونه ظالماً، وآثماً، ومعتدياً على كرامات الناس، مستأثراً بأموال الأمة، وما إلى ذلك من أمور كانوا يطالبونه بالإصلاح فيها.
ومن الواضح: أن القتل نفسه أمر تنفر منه النفوس، وتقشعر له الأبدان، وتتأذى ولو بسماعه الأرواح، فكيف إذا انضمت إليه هذه المنفرات. فإن كان ثمة من يطمئنه إلى أن أحداً لا يجرؤ على ذلك، فإن إخبار علي «عليه السلام» له بحصول ذلك على نحو الحتم لا بد أن يحدث ثغرة في هذه الطمأنينة، لأن علياً «عليه السلام» عارف بالأمور، ربما أكثر ممن يسمع منهم عثمان.
12 ـ ولعل عثمان ابتلي بمن كان يزين له الإصرار على موقفه بشعارات طنانة ورنانة، تتحدث عن شرف الشهادة، وعن الذكر الجميل، وعن الإعجاب بمن لا يتراجع على موقفه حتى لو قتل.
أو قد يكون هناك من يقول له: إن قتله سوف يتسبب بانتفاضة أموية أو غيرها.. تكون من القوة بحيث تنتقم له من جميع أعدائه..
أو كان هناك من يعلله بقدوم الجيوش الجرارة لنصرته.. ويطلب منه الصبر والإنتظار، حتى يأتيه هذا النصر، وتنتهي الأمور لصالحه وصالح بني أمية وبني أبي معيط الذين يحبهم عثمان.
فجاء قول علي «عليه السلام» ليضع علامة استفهام كبيرة حول صحة هذه التصويرات، وليقول له: إنها مجرد تخيلات وأوهام لا واقع لها..
بل هو مقتول لا محالة، إن لم يتراجع، وإن نتيجة قتله ستكون وبالاً على محبيه قبل مناوئيه.. وقد جسد له ما ستؤول إليه الحال كما يلي:
ألف: إن ذلك سيكون سبباً في فتح باب القتل والقتال في الأمة إلى يوم القيامة..
وهذا يعني: أن الأمور سوف لا تستتب لبني أمية ولا لغيرهم.
كما أن ذلك يعني: أن يكون الذين يحبهم سيكونون في معرض القتل بيد الآخرين، وأن العداوات سوف تستمر.
وهو يعني أيضاً: أن يعتبر قتله باب شؤم على الأمة..
ب: إن أمر قتل عثمان سيبقى ملتبساً على الناس، ولن يكون عثمان ذلك الرجل المعترف بشهادته، وبأنه قد قتل مظلوماً، والذي سيترحم عليه الناس من بعده، بل سيكونون من الشامتين، والأكثر جرأة على إشاعة أجواء النفور منه. وإظهار العيوب ونشر ما يعرف وما لا يعرف عنه، وعن كل حزبه..
ج: إنه لن ينال الإعجاب على صبره ورجولته، ولن يعتبر ذلك من البطولة والرجولة في شيء..
د: إن أحداً لن يستطيع أن ينتقم له من أعدائه..
هـ: إن قتله سوف يتسبب بتمزيق أوصال الأمة، ويترك الناس شيعاً.. ولن يصل أحد من بني أمية إلى شيء ذي بال.
و: إن قتله سيوجب إثارة الشبهات، والتباس الأمور في جهات أخرى أيضاً.
ز: إن قتله سيزيد من علو الباطل على الحق، إلى الحد الذي لا يرى فيه الحق بسبب علو الباطل..
13 ـ ثم إنه «عليه السلام»: أشار إلى أمر آخر، تأباه النفوس، وتنفر منه الطباع، وهو أن ينظر الناس إلى الشخص على أنه ألعوبة بيد شخص آخر يحركه كيف يشاء، فقال له: فلا تكون لمروان سيقة يسوقك حيث شاء..
14 ـ ثم أعطاه نفحةً من الإباء، والترفع، حين أشار إلى جلال السن.. فإن الرجل المسن يأنف عادة من أن يكون من هم بمثابة أبنائه أعرف منه، فكيف إذا أرادوا أن يحركوه حسب أهوائهم..
ويلاحظ هنا: اختياره «عليه السلام» التعبير بكلمة (جلال) المشعرة بالوقار والمهابة، وهذا لا يتلاءم مع الإنقياد الأعمى للآخرين..
جواب عثمان:
وقد اختلفت النصوص في حقيقة موقف عثمان، فطائفة من المصادر ومنها نهج البلاغة تقول: إن عثمان قال لعلي «عليه السلام» كلم الناس أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم..
فقال «عليه السلام»: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه..
زاد المفيد قوله: فقال له عثمان: والله، قد علمت ما تقول، أما والله لو كنت بمكاني ما عنفتك، ولا ثلبتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكراً، ولا عملت سوءاً، إن وصلت رحماً، أو سددت خلة..
وبعض المصادر تذكر النص وفق ما جاء في تاريخ الطبري، حسبما ذكرناه آنفاً..
ولعل الحقيقة هي صحة جميع ما ورد، فقد عرفنا أن عثمان كان يعد بالإصلاح، ثم سرعان ما يتراجع عثمان عن رأيه، ويتخذ موقفاً مضاداً.
والظاهر: أن هذا هو ما حدث هنا، فإنه خطب الناس وتهددهم وعنفهم حسبما تقدم، وسارت الأمور بعد ذلك في هذا الإتجاه..
جواب عثمان النهائي:
ولا نريد أن نفيض في شرح جواب عثمان على نصيحة علي «عليه السلام» المتقدمة له، بعد أن كان قد وعده بالإصلاح، ثم أخلف وعده، واتخذ موقفاً قوياً وشرساً، وسارت الأمور باتجاه التصعيد والتحدي كما تقدم.. ونستخلص من خطاب عثمان ما يلي:
1 ـ أراد أن يستفيد من عناوين براقة، وشعارات رنانة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهو يقول:
أولاً: إنه لم يأت منكراً حين وصل رحمه بعطاياه الجزيلة لأقربائه، ونقول:
ألف: إنه كان يعلم: أن أحداً لا يلومه على صلة رحمه لو أنه وصلهم من ماله.. ولكنهم يلومونه على إعطاء أقاربه مئات الألوف من بيت مال المسلمين..
ب: إن سد خلة المحتاج إنما تكون بما يساويه بسائر الناس من أقرانه، لا بإعطائه مئات آلاف الدراهم والدنانير من بيت المال، والمئات من إبل الصدقة، ثم بأن يحمي الحمى لأقاربه دون سائر المسلمين!!
ج: هل كان الذين أعطاهم تلك العطايا الجزيلة والجليلة من أهل الخلة؟! الذين لا يملكون قوت يومهم؟! أم أنهم كانوا يملكون الأموال الطائلة، ولديهم منها الأكداس الهائلة، وعندهم من الأراضي، والدور والقصور، ما لا يمكن إخفاؤه، أو التستر عليه؟!
ثانياً: بالنسبة لإيوائه الضائع.. والمقصود به إرجاع الحكم بن العاص، نقول:
ألف: إن سكنى الحكم في بلاد ثقيف لا يعني أنه كان ضائعاً..
ب: إن الذي يطرده رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسبب أفاعيله، وما ظهر من عداوته لا يحق لأحد أن يدفع أو أن يرفع العقوبة عنه، سواء أضاع أم لم يضع، وإن كان قد ضاع حقاً، فإنما على نفسها جنت براقش.
مع أن عقوبته بالنفي كانت تخفيفاً عليه من الرسول «صلى الله عليه وآله» ألجأته إليه الظروف.
ج: هل يصح لأحد أن يؤوي الضائع بعصيان أمر الله تعالى؟! ونقض فعل رسوله «صلى الله عليه وآله»؟!
ثالثاً: بالنسبة لاختيار الولاة، نقول:
لقد أجابه علي «عليه السلام» بما هو كاف وشاف.. ولعله «عليه السلام» ترك التعرض للأمرين الأولين، لأن الأمر فيهما من الواضحات، ولكنه تعرض لهذا الأمر الأخير، ليحصن الناس من الشبهة التي أثارها عثمان.
ولاه لقرابته:
واللافت هنا: أن عثمان يريد أن لا يلومه أحد على توليته ابن عامر لأجل رحمه وقرابته منه!!
ونقول:
1ـ هل كان عثمان يرى أن الولايات هي من الأمور التي يوصل بها الرحم؟! وهل يصح الإستفادة منها لجلب المنافع الشخصية للمتولي؟!
2ـ وهل رأى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصل رحمه بتولية أهل بيته البلاد والعباد؟!..
3ـ إن علياً «عليه السلام» قد ولى أبناء عباس في عهده، فلماذا لم يعترض أحد من الناس عليه في ذلك طيلة فترة حكمه..
بل لماذا لم يعترض عليه أحد في أي من عماله الذين نصبهم أيام خلافته.. أليس لأنه كان يحاسب أولئك العمال حساباً دقيقاً، ويراقب أعمالهم، ولا تصدر أية هنات منهم مهما صغرت إلا ويطالبهم بها، ويعاقبهم عليها؟!
ولكن الفضل في غيرهم:
وقد قال عثمان لعلي «عليه السلام» عن أولئك العمال الذين يعترض الناس عليهم: «هم أقرباءك أيضاً» وكأنه يريد أن يتهم علياً «عليه السلام» بأنه لا يرق على أقربائه، ولا يصل رحمه.. ولعله لأجل أن يبلغهم ذلك، ويحركهم ضد علي «عليه السلام»..
أو لعله أراد أن يبطل اعتراض علي «عليه السلام» على عثمان بمحاباة الأقرباء، ويظهره على أنه إنما يعترض لمصلحته الشخصية التي يقدمها على مصلحة الأقارب.
فأجابه «عليه السلام»: بأن المعيار عنده ليس هو القرابة، وإنما هو الفضل والصلاح، بما أن الفضل كان في غير أقاربه، فلا يجوز له تولية الأقارب، وترك الأفاضل، فإن هذا ليس من النصيحة للأمة في شيء..
عثمان يصر ويتهدد:
إن علياً «عليه السلام» واجه عثمان بأنه ضعف ورق على أقربائه، فلم يحاسبهم على مخالفاتهم، فلم ينكر عثمان ذلك..
واعترف عثمان أيضاً: بأن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر..
واعترف: بأنه يعلم بأن معاوية يقتطع الأمور دونه، ثم يقول للناس هذا أمر عثمان، فيبلغ ذلك عثمان، ولا يغيّر على معاوية..
ولكنه بالرغم من ذلك كله يخرج مباشرة إلى المسجد، ويبدأ بمهاجمة منتقديه حتى اعتبرهم آفة الأمة وعاهتها..
وهذا من قبيل تطبيق نظرية الإسقاط، لأن انتقادات أولئك الناس قد كانت لأجل تخليص الأمة من الفساد والعاهات والآفات، التي يتهمون بها عثمان وأعوانه.. وإذ بعثمان يصفهم بأنهم هم الفساد بعينه، وهم العاهة والآفة..
كما أنه أصر على تكرار نفس الأمور التي قالها لعلي «عليه السلام»، وفندها «عليه السلام» له..
والتأمل في كلمات عثمان يبين للناظر أموراً كثيرة لا حاجة لنا إلى الإفاضة فيها، وإنما ذكرنا هنا ما يتصل بأمير المؤمنين «عليه السلام».. ولا نريد محاكمة تصرفات عثمان وسياساته..


 

([1]) بحار الأنوار ج31 ص268 و 271 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص261.

([2]) العقد الفريد ج2 ص274 و (ط أخرى) ج3 ص92 والغدير ج9 ص71 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص180.

([3]) الغدير ج9 ص75 عن الرياض النضرة ج2 ص129 عن ابن السمان.

([4]) الآية 20 من سورة الحجر.

([5]) الكافي ج1 ص46 وبحار الأنوار ج1 ص182 وج2 ص34 و 35 وتهذيب الأحكام ج6 ص328 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص25 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص217 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج17 ص36 و (ط دار الإسلامية) ج12 ص21 وغوالي اللآلي ج4 ص77 ومنية المريد ص138 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج1 ص196 وج3 ص452 وج7 ص262 والمستدرك للحاكم ج1 ص92 ومجمع الزوائد ج1 ص135 ومسند الشهاب لابن سلامة ج1 ص212 وكتاب المجروحين لابن حبان ج2 ص22 والكامل لابن عدي ج4 ص139 وج6 ص296 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص565.

([6]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص68 والغدير ج9 ص75 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص262.

([7]) كتاب الجمل للمفيد ص190 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص102.

([8]) الغدير ج9 ص172 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص336 ـ 339 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص376 ـ 378 والكامل في التاريخ ج3 ص150 ـ 153 وأنساب الأشراف ج5 ص60 والعقد الفريد ج5 ص58 والبداية والنهاية ج7 = = ص175 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص188 و 189 وكتاب الجمل للمفيد ص187 ـ 190 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص100 ـ 102 والإمامة والسياسة ج1 ص31 و 32 وراجع: ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص68 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص318.

([9]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص262 ـ 263.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان