الفصل الثالث:
أحداث جرت في الحصار..
عثمان يستقيل من الخلافة:
قال حويطب بن عبد العزى: أرسل إليَّ عثمان حين اشتد حصاره، فقال:
قد بدا لي أن أتهم نفسي لهؤلاء، فأت عليا وطلحة والزبير، فقل لهم:
هذا أمركم تولوه، واصنعوا فيه ما شئتم.
فخرجت حتى جئت عليا، فوجدت على بابه مثل الجبال من الناس، والباب
مغلق، لا يدخل عليه أحد.
ثم انصرفت، فأتيت الزبير، فوجدته في منزله ليس ببابه أحد، فأخبرته
بما أرسلني به عثمان.
فقال: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، هل جئت علياً؟!
قلت: نعم، فلم أخلص إليه.
فقمنا جميعا، فأتينا طلحة بن عبيد الله فوجدناه في داره وعنده ابنه
محمد، فقصصنا عليه ما قال عثمان، فقال: قد والله قضى ما عليه أمير
المؤمنين، هل جئتم علياً؟!
قلنا: نعم، فلم نخلص إليه.
فأرسل طلحة إلى الأشتر، فأتاه فقال لي: أخبره، فأخبرته بما قال
عثمان.
فقال طلحة وقد دمعت عيناه: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين.
فقام الأشتر فقال: تبعثون إلينا، وجاءنا رسولكم بكتابكم، وها هو ذا.
فأخرج كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من المهاجرين الأولين وبقية الشورى، إلى من بمصر من الصحابة
والتابعين..
أما بعد.. أن تعالوا إلينا، وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن
يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت، وأحكام
الخليفتين قد بدلت، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول
الله والتابعين بإحسان، إلا أقبل إلينا، وأخذ الحق لنا، وأعطاناه.
فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وأقيموا الحق
على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم، وفارقكم عليه الخلفاء.
غلبنا على حقنا واستولى على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكانت
الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة، وهي اليوم ملك عضوض.
من غلب على شيء أكله.
أليس هذا كتابكم إلينا؟
فبكى طلحة، فقال الأشتر: لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم، والله لا
نفارقه حتى نقتله، وانصرف.
قال: ثم كتب عثمان كتاباً بعثه مع نافع بن طريف إلى أهل مكة ومن
حضر الموسم يستغيثهم، فوافى به نافع يوم عرفة بمكة، وابن عباس يخطب،
وهو يومئذ على الناس، كان قد استعمله عثمان على الموسم، فقام نافع
ففتح الكتاب، فقرأ، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عثمان أمير المؤمنين، إلى من حضر الحج من المسلمين.
أما بعد..
فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور، أشرب من بئر القصر، ولا آكل
من الطعام ما يكفيني، خيفة أن تنفد ذخيرتي. فأموت جوعاً أنا ومن
معي، لا أدعى إلى توبة أقبلها، ولا تسمع مني حجة أقولها.
فأنشد الله رجلاً من المسلمين بلغه كتابي إلا قدم علي، فأخذ الحق
في، ومنعني من الظلم والباطل.
قال: ثم قام ابن عباس، فأتم خطبته، ولم يعرض لشيء من شأنه.
وكتب إلى أهل الشام عامة، وإلى معاوية وأهل دمشق خاصة:
أما بعد.. فإني في قوم طال فيهم مقامي، واستعجلوا القدر في، وقد
خيروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل إلى دخل. وبين أن أنزع
لهم رداء الله الذي كساني. وبين أن أقيدهم ممن قتلت.
ومن كان على سلطان يخطئ ويصيب، فيا غوثاه يا غوثاه، ولا أمير عليكم
دوني، فالعجل العجل يا معاوية، وأدرك ثم أدرك، وما أراك تدرك(1).
ونقول:
تضمن هذا النص بعض ما يحتاج إلى بيان، فلاحظ ما يلي:
بدا له أن يتهم نفسه:
تقدم: أن عثمان بدا له أن يتهم نفسه، ونقول:
إن هذا التعبير الذي بدا به عثمان حركته باتجاه المعترضين عليه،
وناصحيه، لا يبشر بخير كثير. بل هو بالمناورة أشبه منه بالقرار
الجدي الحازم.. إذ قد يترائ للناظر فيه: أن عثمان لم يكن مقتنعاً
حتى وهو يقوم بهذه المبادرة أنه قد أخطأ أو خالف في شيء مما يأخذه
عليه الآخرون.
على أن عثمان لو كان جاداً في الأمر لكان قد بادر إلى إصلاح بعض ما
فسد، ولو بعزل واحد من عماله، وإرجاع بعض الحقوق إلى أصحابها أو
بعض الأموال المستلبة إلى بيت المال، أو نحو ذلك.
القرار عند علي
:
وقد أظهر النص المتقدم: ان الناس كلهم كانوا ينظرون إلى علي «عليه
السلام»، لأنهم يعلمون أنه مع الحق والحق معه، فإن صادَقَ «عليه
السلام» على هذا الفعل من عثمان أو ذاك علموا: أن عثمان قد أناب
إلى الحق، وخضع له، أو علموا: أن مصلحة الإسلام والمسلمين هي
القبول منه، ولو على سبيل الإمتحان والإختبار..
وإن جاهر «عليه السلام» بالرفض علموا: أنه لا سبيل لهم إلى
الإستمرار فيما هم عليه.. لأن الرفض العلوي دليل على أن الله لا
يرضى بذلك الفعل.. وعلي «عليه السلام» لا يمكن أن يرضى بما يسخط
الله تعالى..
وإن سكت وأعرض علموا: أن الأمر لا يبلغ درجة الخطورة القصوى.. وأن
لهم فسحة في مواصلة الاعتراض. وأن كل إنسان سيكون مرهوناً بعمله.
ويؤخذ بما يكون منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ولأجل ذلك سأل الزبير وطلحة حويطباً إن كان أتى علياً «عليه السلام»
أم لا.. لا لأجل أن علياً «عليه السلام» كان هو الذي يدير الأمور،
ويتزعم الحركة، بل ليعرفوا إن كان له موقف مناهض لهم، لكي يتجنبوه،
ولا يصطدموا به..
وشاهدنا على ذلك: أن الناس كانوا على باب علي «عليه السلام» كأمثال
الجبال، وهو مغلق بابه دونهم، لأنه لا يريد أن يدخل في هذا الأمر،
لأنه يعرف أن هناك طامحون وطامعون.. وأنهم سوف يواصلون حركتهم إلى
حين تحقيقهم غاياتهم مهما تكن النتائج.
ولا يريد «عليه السلام» أن يكون مطية لهؤلاء، كما أنه لا يريد أن
يبرئ عثمان وعماله من المخالفات، ولا أن يحامي عنها وعنهم، خصوصاً
وأنهم مصرون عليها..
فجلس في بيته، وأغلق بابه دون الناس.. الذين كان يعرف أن فيهم
المؤمن الخالص.. وفيهم الساعي وراء أهوائه.. وفيهم من لا يدرك
الكثير مما يجري حوله.. بل يتأثر بالشعارات، أو ينفذ أوامر هذا أو
ذاك.
غير أن ثمة حقيقة ناصعة، وهي أنه «عليه السلام» كان هو الوحيد الذي
يمنحه الناس كل ثقتهم.. ولا يختلفون في ذلك.. ولا يراود أياً منهم
شك أو ريب فيه.. ولم يكن لغيره هذه المكانة في نفوسهم..
طلحة والأشتر:
وقد حاولت الراوية المتقدمة إظهار رقة طلحة على عثمان، حتى لقد
دمعت عيناه وإظهار مدى إنصافه هو وصديقه الزبير حين قالا: إن عثمان
برسالته هذه قد قضى ما عليه..
ولا شك في كذب هذه الفقرات فطلحة والزبير.. كانا من أشد الناس على
عثمان، فلماذا تدمع عيناهما من أجله؟!
مع أنهما يعلمان أن عثمان قد وعد أكثر من مرة، وأخلف، وأقسم
الايمان وحنث بها، وأعطى المواثيق ونقضها.
كما أن طلحة نفسه هو الذي منع عثمان الماء، حتى استغاث بعلي «عليه
السلام»، فأغاثه أكثر من مرة، وقد نجح في بعضها، وتمكن طلحة من رد
طلبه في بعضها الآخر، كما ذكرناه في هذا الكتاب.
فهل هذا القاسي هنا هو ذلك الباكي الذي يعتصر عينيه هناك؟!
أم أن المقصود هو إظهار غلظة الأشتر، وقسوته، وتكريس اتهامه بقتل
عثمان، لأنه كان من أنصار علي ومحبيه، والتخفيف من مظاهر قسوة طلحة،
الذي منع الماء عن عثمان، لمجرد أنه حارب علياً، فغفر الأمويون له
ذنبه، وأرادوا أن تنصب النقمات والأحقاد على رأس الأشتر، دون طلحة؟!
عثمان يستقيل ويستنجد:
وقد أظهر النص المتقدم تناقضاً صريحاً في موقف عثمان، فهو يرسل إلى
علي «عليه السلام»: «هذا أمركم تولوه واصنعوا فيه ما شئتم»، ثم هو
يصرح بأنه لم يكن لينزع قميصاً ألبسه الله إياه، يعني الخلافة..
ففي أيهما كان جاداً وصادقاً يا ترى؟!
يتنحى علي × فيطمع طلحة والزبير:
وذكروا أنه لما اشتد الطعن على عثمان: استأذنه علي في بعض بواديه
ينتحي إليها!
فأذن له؟
واشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي. ورجا الزبير وطلحة أن يُميلا
إليهما قلوب الناس، ويغلبا عليهم، واغتنما غيبة علي، فكتب عثمان
إلى علي إذ اشتد الطعن عليه.
أما بعد.. فقد بلغ السيل الزبى!
وجاوز الحزام الطبيين.
وارتفع أمر الناس في شأني فوق قدره!
وزعموا أنهم لا يرضون دون دمي.
وطمع في من لا يدفع عن نفسه.
وإنـك لم يـفـخر عليـك كفـاخر ضـعـيـف ولم يغلبـك مثل مغلَّب
وقد كان يقال: أكل السبع خير من افتراس الثعلب: فأقبل، علي أو لي.
فـإن كنت مأكـولا فكن خير آكل وإلا فـأدركـنـي ولمـا أمـــزق(2).
ونقول:
لا بأس بلاحظة الأمور التالية:
1 ـ انظر إلى هذين الرجلين: طلحة والزبير، بماذا يفكران، وإلى أي
شيء يسعيان، ولا تنس أن تتأمل كيف أنهما لا يرجعان إلى قاعدة
إيمانية، أو شرعية، أو وجدانية.. فلم ينظرا إلى أن علياً «عليه
السلام» يملك صفات الإمامة العظمى، وليس لهما شئ من ذلك، وقد
أثبتنا عملياً أنهما ليست لديهما.. ولا يهمهما ما يصلح حال الناس،
ولم يكونا بصدد اختيار الأصلح للأمة، بل رجيا أن يميلا إليهما قلوب
الناس. واغتنما غيبة علي!!
2 ـ إن هذه الرسالة تبين الحال المزرية والذليلة التي انتهى إليها
حال عثمان.
3 ـ إن عثمان أراد أن يستعطف علياً «عليه السلام» من خلال إثارة
العصبية القبلية، من حيث هو ابن عم عثمان.
4 ـ إنه أراد أن يحرك فيه عاطفة الرحم، فذكره بأنه ابن عمته، فكيف
يرضى بأن يقتل؟!
ولم يدر أن علياً وهو أوصل الناس، وأبرهم بأرحامه، كان ينظر إلى
الأمر أولاً وقبل كل شيء من ناحية التكليف الشرعي، فهو لا يهتم
للرحم ولا لغيره، إذا كان الأمر يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أو يرتبط بحد أو قصاص، أو عقوبة على جريمة اقتضت ذلك..
فالمعيار عنده هو حكم الله، وما يحقق رضاه تبارك وتعالى..
بل إن الرحم تدعوه لأن يكون أحرص الناس على ذوي رحمه عن المنكرات
ودفعهم لالتزام المعروف، وليس العكس.
5 ـ إن عثمان اعتبر أن الخلافة التي تقمصها هي من النعم التي تعود
على علي «عليه السلام». وهي من شؤون علي «عليه السلام»، ومن أمره
الذي يعنيه حفظه والدفاع عنه..
مع أن هذه الخلافة بالذات هي ذلك الحق الذي اغتصبه هو نفسه من علي
«عليه السلام» بالذات.
ولا بد لنا من أن نذكر عثمان هنا بأنه لم ينصر علياً «عليه السلام»
حين أخذ منه أبو بكر، نفس هذا الأمر، وسلبت منه هذه النعمة فور
وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل كان عثمان من الممالئين
على ذلك، والمساعدين عليه.. ثم ساعد على صرفه عنه إلى عمر، ثم
يقبضه منه الآن، ويسعى لتكريسه في بني أبيه.
6 ـ إن ما ذكرناه آنفاً يدلنا على عدم صحة دعواهم أن علياً «عليه
السلام» قال: صدق ـ والله ـ عثمان. لا نترك ابن الحضرمية يأكلها (والمراد
هنا طلحة) خصوصاً وأن الذي أكلها وأخذها من علي يوم السقيفة هو ابن
عم طلحة هذا.. أعني أبا بكر التيمي
7 ـ يضاف إلى ذلك أن كلمة: يأكلها.. لا تنسجم مع نظرة علي «عليه
السلام» للخلافة، فليست هي عنده أكلة له، ولا لغيره. بل هي مسؤولية
وواجب كما هو معلوم.
8 ـ إن تفرق الناس عن طلحة في هذه المناسبة إن كان قد حصل، فإنما
حصل لمجرد خروج علي «عليه السلام» للصلاة، وهذا يدل على موقعه «عليه
السلام» في القلوب.. وعلى أن متابعة الناس لطلحة لا تعني إعجابهم
به، ولا تفضيله على غيره، بل هي مجرد مشاركة في الوصول إلى هدف
واحد، ثم يكون أمر الخلافة تابعاً لضوابطه وشرائطه.
على أننا نحتمل أن يكون تفرق الناس عن طلحة واعتذاره لعثمان قد حصل
مرتين: مرة عند منعه الماء عن عثمان، ومرة عند صلاة علي «عليه
السلام» بالناس.
9 ـ ما زعمته الرواية من أن عثمان قد ادعى لنفسه الإجتهاد والخطأ
فيه ربما يكون مصنوعاً من قبل محبي عثمان.
علي
يفرق
الناس عن طلحة يوم الحصار:
قال أبو مخنف: صلى علي بالناس يوم النحر، وعثمان محصور، فبعث إليه
عثمان ببيت الممزق، (أي الممزق العبدي: شاس، بن لها، بن الأسود)
وهو قوله:
وإن كنـت مأكـولا فكن خير آكـل وإلا فـأدركـنــي ولمـــا أمــــزق
وكان رسوله به عبد الله بن الحارث، بن نوفل بن الحارث بن عبد
المطلب، ففرق علي الناس عن طلحة، فلما رأى طلحة ذلك دخل على عثمان
فاعتذر.
فقال له عثمان: يا ابن الحضرمية، ألّبت علي الناس، ودعوتهم إلى
قتلي، حتى إذا فاتك ما تريد جئت معتذراً؟! لا قبل الله ممن قبل
عذرك(3).
وفي نص آخر:
أخرج الطبري بالإسناد قال: حصر عثمان وعلي بخيبر، فلما قدم أرسل
إليه عثمان يدعوه، فانطلق.
فقلت: لأنطلقن معه ولأسمعن مقالتهما، فلما دخل عليه كلمه عثمان
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد..
فإن لي عليك حقوقاً: حق الإسلام، وحق الإخاء، وقد علمت أن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» حين آخى بين الصحابة آخى بيني وبينك،
وبيَّن حق القرابة والصهر، وما جعلت لي في عنقك من العهد والميثاق.
فوالله لو لم يكن من هذا شيء، ثم كنا إنما نحن في جاهلية لكان مبطأً
على بني عبد مناف أن يبتزهم أخو بني تيم ملكهم.
فتكلم علي «عليه السلام»، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد..
فكل ما ذكرت من حقك عليَّ على ما ذكرت.
أما قولك: لو كنا في جاهلية لكان مبطأً على بني عبد مناف أن يبتزهم
أخو بني تيم ملكهم، فصدقت وسيأتيك الخبر.
ثم خرج فدخل المسجد، فرأى أسامة جالساً، فدعاه، فاعتمد على يده
فخرج يمشي إلى طلحة، وتبعته، فدخلنا دار طلحة بن عبيد الله وهي
رجاس(4) من الناس. فقام إليه فقال: يا طلحة! ما هذا الأمر الذي
وقعت فيه؟!
فقال: يا أبا حسن! بعد ما مس الحزام الطبيين؟!
فانصرف علي ولم يحر إليه شيئاً حتى أتى بيت المال.
فقال: افتحوا هذا الباب.
فلم يقدر على المفاتيح.
فقال: اكسروه.
فكسر باب بيت المال.
فقال: أخرجوا المال.
فجعل يعطي الناس، فبلغ الذين في دار طلحة الذي صنع علي، فجعلوا
يتسللون إليه حتى ترك طلحة وحده. وبلغ الخبر عثمان فسر بذلك.
ثم أقبل طلحة يمشي عائدا إلى دار عثمان.
فقلت: والله لأنظرن ما يقول هذا، فتتبعته، فاستأذن على عثمان فلما
دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين! أستغفر الله وأتوب إليه، أردت
أمرا فحال الله بيني وبينه.
فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائباً، ولكنك جئت مغلوباً، الله
حسيبك يا طلحة(5).
ونقول:
هنا أمور يحسن التنبيه إليها، وهي التالية:
حق الإخـاء:
ما زعموه من أن لعثمان حق الإخاء على علي «عليه السلام»، غير مقبول
لما يلي:
أولاً: قال الأميني لا صحة لقوله: «وحق الإخاء»، لسببين:
أولهما: أن المعتزلي قد نقل هذا النص عن الطبري وليس فيه ذكر لحق
الإخاء، فقد قال: «روى الطبري في التاريخ»: أن عثمان لما حصر كان
علي «عليه السلام» بخيبر في أمواله، فلما قدم أرسل إليه يدعوه،
فلما دخل عليه قال له: إن لي عليك حقوقاً: حق الإسلام، وحق النسب،
وحق مالي عليك من العهد والميثاق، ووالله، أن لو لم يكن من هذا كله
شيء، وكنا في جاهلية، لكان عاراً على بني عبد مناف أن يبتزهم أخو
تيم ملكهم ـ يعني طلحة ـ.
فقال: سآتيك.. الخبر.. إلى آخر الحديث باللفظ المذكور(6).
الثاني: أنه «رحمه الله» قد ذكر حديث المؤاخاة عن مصادر كثيرة جداً
وكلها تؤكد: أنه «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين علي «عليه السلام»
وبين نفسه «صلى الله عليه وآله»، لا بينه وبين عثمان.
ثانياً: إن علياً «عليه السلام» إن كان قد بايع عثمان، فإن بيعته
لم تكن عن اختيار منه، بل كانت تحت طائلة التهديد بالقتل، كما صرحت
به النصوص.. فلا معنى لأن يقول له عثمان: «وما جعلت لي في عنقك من
العهد والميثاق».
ثالثاً: إن عثمان اعتبر أن ابتزاز طلحة ـ وهو من بني تيم ـ الملك
منه، عيب لا يجوز أن يرضى به بنو عبد مناف، بل لا بد من أن يتصدوا
لمنع بني تيم من ذلك.
والسؤال هو: إذا صح هذا فلماذا أعان عثمان أخا تيم الآخر ـ أعني
أبا بكر التيمي على ابتزاز بني عبد مناف حقهم، الذي هو لعلي «عليه
السلام»؟!
وسؤال آخر: وهو أنه إذا لم يجز لتيمي أن يبتز حق بني عبد مناف، فهل
يجوز لبني أمية أن يبتزوا حق بني هاشم في الخلافة؟! وأليس عثمان
يبتز علياً حقه هذا بالذات؟! فكيف يطالبه بدفع طلحة عن ابتزازه منه؟!
وكيف جرَّت باء عثمان، ولم تجر باء طلحة؟!.
قاتل عثمان يطلب ثأر عثمان:
لا شك في أن طلحة كان من أعظم المجلبين على عثمان، ويكفي أن نذكر:
أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة حين وقعت عليهم الهزيمة في حرب
الجمل، وذلك ثأراً منه بدم عثمان(7).
ويذكر المؤرخون هنا: أن علياً «عليه السلام» نادى طلحة يوم الجمل.
فقال له: «يا أبا محمد، ما الذي أخرجك»؟!
قال: الطلب بدم عثمان..
قال علي «عليه السلام»: قتل الله أولانا بدم عثمان(8)..
وقد ذكر العلامة الأميني طائفة كبيرة من النصوص الدالة على مشاركة
طلحة، وعظيم أثره في قتل عثمان فراجع(9).
بماذا فرق علي × الناس عن طلحة؟!:
وذكر النص المتقدم: أن علياً «عليه السلام» فرق الناس عن طلحة، وفك
الحصار عن عثمان، لمجرد أنه فرق أموال بيت المال في الناس، فإن هذه
الأموال هي حقهم الذي يطالبون به عثمان.. أي أنهم حين شعروا: أن
حقهم قد وصل إليهم لم يعد لديهم اعتراض..
مما يعني: أن قتالهم لعثمان لم يكن لأنهم يبغضون شخصه، بل كان
لأنهم يريدون تحصيل حقهم، وإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح.. فكانت
مبادرة علي «عليه السلام» إلى إيصال حقهم لهم بمثابة إعلان عام بأن
ما يريدونه قد تحقق.
يضاف إلى ذلك: أن هذا قد أفهم طلحة: أن الذين حوله لا يرونه إماماً
لهم، فعليه أن لا يعول على كثرتهم وعلى اجتماعهم عنده.
عذر طلحة أقبح من ذنب:
واعتذار طلحة لعثمان كان بمثابة اعتراف بأنه كان بصدد ارتكاب جريمة،
وأن الذي منعه من ذلك هو عجزه عنها، وليس هو خوف الله تعالى، لأنه
قال لعثمان: «أردت أمراً فحال الله بيني وبينه..».
ولأجل ذلك قال عثمان: ما جئت تائباً، ولكنك جئت مغلوباً.. وقد صدق
عثمان في قوله هذا..
تصديق علي
لعثمان:
أما بالنسبة لقول علي «عليه السلام» لعثمان: «أما قولك: لو كنا في
جاهلية لكان مبطأً على بني عبد مناف أن يبتزهم أخو تيم ملكهم،
فصدقت».
فهو يدين عثمان نفسه حسبما أوضحناه آنفاً، فإن عثمان قد مالأ بني
تيم على ابتزاز بني عبد مناف أمرهم، في قضية السقيفة، حين ساعد أبا
بكر على ابتزاز علي حقه..
وهو يؤكد على أن ابتزاز الناس حقوقهم مرفوض حتى في منطق أهل
الجاهلية.. وإن كان أهل الجاهلية يُدْخِلون الإعتبارات القبلية
أيضاً في حسابات الصواب والخطأ..
سرور عثمان لم يدم:
لقد قدم علي «عليه السلام» درساً لعثمان يعلمه فيه كيفية الخروج من
المأزق الذي وضع نفسه فيه، وقد سر عثمان بالنتائج التي حققها تصرف
علي «عليه السلام» هذا..
ولكنه سرور لم يدم لأن عثمان عاد فنقض هذا التدبير، وأعطى مناوئيه
الذريعة لمعاودة حصاره، واقناع الناس بأنه لا يفي بعهوده ووعوده،
كيف وقد نقضها أكثر من مرة!!
([1])
الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص37 و 38 و (تحقيق الشيري)
ج1 ص53 ـ 55 والغدير ج9 ص189 ـ 190
([2])
الإمامة والسياسة ج1 ص37 و (تحقيق الزيني) ج1 ص37 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص52 وراجع: تاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1200 و
1201.
([3])
أنساب الأشراف ج5 ص77 والغدير ج9 ص96.
([4])
الرجاس: صوت الشيء المختلط العظيم.
([5])
الغدير: ج9 ص93 و 94 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص430 و (ط مؤسسة
الأعلمي) ج3 ص453 والكامل في التاريخ ج2 ص286 وتاريخ المدينة
لابن شبة ج4 ص1198 و (ط أخرى) ج4 ص1202 والتمهيد والبيان ص122
و 123 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ص397 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج2 ص148 و 153 و 154.
([6])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص8 والغدير ج9 ص95.
([7])
راجع نصوص ذلك في كتاب الغدير ج9 ص95 ـ 100 وراجع: الإستيعاب
(ط دار الجيل) ج2 ص766 ورسائل المرتضى ج4 ص75 والإحتجاج
للطبرسي ج1 ص239 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص343 والملاحم والفتن
لابن طاووس ص223 والصراط المستقيم ج3 ص170 وبحار الأنوار ج32
ص177 و 201 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص373 و 374 والمستدرك
للحاكم ج3 ص369 والطبقات الكبرى ج3 ص223 وتاريخ مدينة دمشق ج68
ص155 وج69 ص261 وتهذيب التهذيب ج5 ص20 والوافي بالوفيات ج16
ص272.
([8])
مروج الذهب ج2 ص382 والغدير ج1 ص186 وج9 ص99 و 102 وجواهر
المطالب لابن الدمشقي ج2 ص33 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص353
والنصائح الكافية ص48 و 49 والكنى والألقاب ج1 ص239.
([9])
الغدير ج9 ص91 ـ 101.