الفصل الرابع:
إعتماد عثمان على معاوية..
معاوية يشير بقتل علي
:
ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي حين صليت العصر،
إذ جاء رسول عثمان يدعو علياً.
فقال علي «عليه السلام»: نعم.
فلما أن ولى الرسول أقبل علي فقال: لم تراه دعاني؟!
قلت له: دعاك ليكلمك.
فقال: انطلق معي.
فأقبلت فإذا طلحة والزبير وسعد، وأناس من المهاجرين، فجلسنا، فإذا
عثمان عليه ثوبان أبيضان، فسكت القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، فحمد الله
عثمان، ثم قال:
أما بعد، فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائباً عنكم وعما نلتم مني،
وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني، وقد سألني أن يكلمكم، وأن يكلمه من أراد.
فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول إلا ما قلت أو
قيل لك؟!
فقال على ذلكم، تكلم يا معاوية، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد يا معشر المهاجرين وبقية الشورى، فإياكم أعني، وإياكم أريد،
فمن أجابني بشئ فمنكم واحد، فإني لم أرد غيركم، توفي رسول الله «صلى
الله عليه وآله» فبايع الناس أحد المهاجرين التسعة، ثم دفنوا نبيهم،
فأصبحوا سالما أمرهم، كأن نبيهم بين أظهرهم.
فلما أيس الرجل من نفسه بايع رجلاً من بعده أحد المهاجرين، فلما احتضر
ذلك الرجل شك في واحد أن يختاره، فجعلها في ستة نفر بقية المهاجرين،
فأخذوا رجلاً منهم لا يألون عن الخير فيه، فبايعوه وهم ينظرون إلى الذي
هو كائن من بعده، لا يشكون ولا يمترون.
مهلاً مهلاً معشر المهاجرين، فإن وراءكم من إن دفعتموه اليوم اندفع
عنكم، ومن إن فعلتم الذي أنتم فاعلوه دفعكم بأشد من ركنكم، وأعد من
جمعكم، ثم استن عليكم بسنتكم، ورأى أن دم الباقي ليس بممتنع بعد دم
الماضي، فسددوا وارفقوا، لا يغلبكم على أمركم من حذرتكم.
فقال علي بن أبي طالب «عليه السلام»: كأنك تريد نفسك يا بن اللخناء،
لست هنالك.
فقال معاوية: مهلاً عن شتم بنت عمك، فإنها ليست بشر نسائك.
يا معشر المهاجرين، وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله،
وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنتهاه، إنما ينظر التابعون إلى
السابقين، والبلدان إلى البلدين فإن استقاموا استقاموا.
وأيم الله الذي لا إله إلا هو لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى لا يقوم
السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين، وليسلبن أمركم، ولينقلن الملك
من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور
الأبيض، فإني رأيتكم نشبتم في الطعن على خليفتكم، وبطرتم معيشتكم،
وسفهتم أحلامكم. وما كل نصيحة مقبولة، والصبر على بعض المكروه خير من
تحمله كله(1).
قال: ثم خرج القوم، وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له عثمان: يا بن عمي
ويا بن خالتي، فإنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه علي ولا
لي، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر
ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك فأعتذر.
قال ابن عباس: فقلت يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية،
وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك أن يجل سنك، ويعرف
قدرك، وسابقتك، والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان
قبلك، فإن كان شيئا تركاه لما رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس لك كما
لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه، خيفة أن أن ينال منهما مثل الذي
نيل منك تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام
نفسك.
قال: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟!
قال: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل؟!
قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي.
قال: فخرج ابن عباس، فقال عثمان لمعاوية: ما ترى، فإن هؤلاء المهاجرين
قد استعجلوا القدر، ولا بد لهم مما في أنفسهم.
فقال معاوية: الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم.
قال: من؟!
قال: علي وطلحة والزبير.
قال عثمان: سبحان الله! أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه، ولا ذنب
ركبوه؟!
قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك.
قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء.
قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال؟!
قال عثمان: وما هي؟!
قال معاوية: أرتب لك ها هنا أربعة آلاف فارس من خيل أهل الشام، يكونون
لك ردءاً، وبين يديك يداً.
قال عثمان: أرزقهم من أين؟!
قال: من بيت المال.
قال عثمان: أرزق أربعة آلاف من الجند من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟!
لا فعلت هذا.
قال: فثانية.
قال: وما هي؟!
قال: فرقهم عنك، فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث
والندب، حتى يكون دبر بعير أحدهم أهم عليه من صلاته.
قال عثمان: سبحان الله!! شيوخ المهاجرين، وكبار أصحاب رسول الله، وبقية
الشورى، أخرجهم من ديارهم، وأفرق بينهم وبين أهلهم وأبنائهم؟! لا أفعل
هذا.
قال معاوية: فثالثة.
قال: وما هي؟!
قال: اجعل لي الطلب بدمك إن قتلت.
قال عثمان: نعم هذه لك، إن قتلت فلا يطل دمي(2).
ونقول:
قد تضمن هذا النص العديد من الأمور التي يحسن التوقف عندها، فلاحظ ما
يلي:
المهاجرون التسعة:
حين ذكر معاوية: أن الناس بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بايعوا أحد المهاجرين التسعة، كأنه يريد الإيحاء بأن الخلافة إنما هي
للمهاجرين دون غيرهم، فالمهاجرون متقدمون على من عداهم. وإن هؤلاء
التسعة هم المتقدمون على سائر المهاجرين، فتكون الخلافة منحصرة فيهم.
وبذلك يكون ما فعله أبو بكر مشروعاً وخلافته صحيحة.. وما فعله سعد بن
عبادة خارجاً عن دائرة الشرعية.
وهو كلام باطل، فإن الأمر بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لرسول
الله «صلى الله عليه وآله» يضعه حيث يشاء، وليس للبشر فيه أي خيار، ولا
يحق لهم الإختيار.
وقد اختار الله ورسوله علياً «عليه السلام».. وقد نصبه رسول الله «صلى
الله عليه وآله» للناس ولياً وهادياً في غدير خم، وفي سواه.. وكل من
تصدى لهذا الأمر سواه فهو غاصب له منه، معتد فيه عليه..
لماذا يدعو عثمان علياً وسواه؟!
ذكر النص المتقدم: أن عثمان أرسل إلى علي «عليه السلام»، وهو في المسجد
يدعوه.. فلما أتاه وجد عند جماعة من الصحابة. وجرى ما جرى..
وظاهر السياق: أن عثمان أراد أن يهدد علياً «عليه السلام» وطلحة،
وسعداً، والزبير، وغيرهم من خلال معاوية.. وقد دلّت كلمات عثمان بالذات
على ذلك، فقد قال لهم: إن معاوية كان غائباً عنكم وعما نلتم مني، وما
عاتبتكم عليه وعاتبتموني.. فظهر ما يلي:
1 ـ إنه يأتي بعلي من المسجد ليوجه له ولمن أمرهم أن يأتوا معه اتهاماً
صريحاً بأنهم قد نالوا منه،
2 ـ إنه يريد من معاوية أن يدلي بدلوه في هذا الأمر، ويصدر هذا التهديد
لهم.
3 ـ إنه يريد من علي «عليه السلام» أن يسمع ما يقوله لهم معاوية.
4 ـ إن معاوية يبادر إلى ذلك، ويتهدد هؤلاء الصحابة بالفعل..
ويا ليته يتهددهم بأهل الشام، وإنما هو يتهددهم بنفسه. ويعتبر أن ركنه
أشد من ركنهم، وجمعه أعد من جمعهم.. وأن دماءهم مهدورة إن قتل عثمان..
وكأن البلاد ملك له، والعباد خول عنده.
5 ـ إن علياً «عليه السلام» بادر إلى كسر طغيانه، ولجم اندفاعه بكلمة
واحدة، انقلبت بها الآية، وتهاوت الأحلام، وتبخرت الأوهام، وتحولت إلى
ملاينة وملاطفة، ونصيحة..
يا ابن
اللخناء!!:
وقد قال له علي «عليه السلام»: «كأنك تريد نفسك يا ابن اللخناء؟! لست
هناك».
فقد تضمنت هذه الكلمة أمرين:
الأول: وصف هند أم معاوية باللخن، وهو النتن. ولم تكن لهند حرمة، لأنها
كانت من أهل النار كما دل عليه قول النبي «صلى الله عليه وآله» فيها،
لأنها حين أكلت من كبد حمزة «رضوان الله تعالى عليه» حين استشهد في
أُحد، ولاكتها ولم تستطع أن تسيغها، قال «صلى الله عليه وآله»: إن الله
حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئاً أبداً(3).
أو قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار(4).
وزعم بعضهم: أن مراده «صلى الله عليه وآله» بكلمته هذه: أنها «لو أكلت
منه أي استقر في جوفها لم تمسها النار»(5).
وهو كلام زائف، إذ لو صحّ ذلك لكان اللازم أن تسيغ هند ما أكلته، لأنها
صحابية، لا بد أن تدخل الجنة ـ بزعمهم ـ فلتكن تلك القطعة في جوفها كي
تستقر معها في الجنة.
وهذه
الإجابة العلوية، وتراجع معاوية يدل على:
ألف: هيبة علي «عليه السلام»، في صدورهم، وشدة تأثير ومدى وقع كلامه
عليهم.
ب: إنه «عليه السلام» واجه معاوية بأصعب الأشياء، وهو وصف أمه بما
يشينها، ليبيّن مدى جبن معاوية وضعفه في نفس هذا الوقت الذي يبرق فيه
معاوية ويرعد!! ويتوقع منه أن لا يسكت على هذا التحدي.. وأن يتصرف بما
يتناسب مع تلك العنجهية التي أظهرها، وإذ به يتراجع ويتضاءل وكأنه زق
منفوخ، وقد ثقب، فتغيرت اللهجة، وكانت غاية جهده: أنه طلب من علي «عليه
السلام» الرفق، وعدم تناول بنت عمه.
والأغرب من ذلك: أنه لم ينكر ما قاله علي «عليه السلام»، وإنما اكتفى
بادعاء أنها ليست بشرّ النساء.. مما يعني: أنها شر، ولكنه يدعي أن ثمة
من هو شر منها!!
الأمر الثاني: إنه «عليه السلام» أسقط تهديدات معاوية عن الإعتبار
بكلمة واحدة هي قوله: لست هناك..
ولم يجب معاوية على ذلك. ولو بكلمة واحدة تشير إلى أن لديه من القدرة
ما يتمكن من استعراضه والتهويل به..
بل انقلب تهديده بقدراته إلى التهديد بأمر غامض، بالإحالة على أناس لا
يُعرَفون. وهم التابعون الذين يأتون بعدهم، وسينتقضون عليهم من سائر
البلاد، وهم أكثر عدداً منهم، ثم نصحهم بالصبر على بعض المكروه حتى لا
يتحملوا المكروه كله..
وقد زاد تجلي هذا الفشل الأموي فيما جرى بين عثمان وابن عباس، بعد أن
انفض المجلس الأول، وخرج من كان قد حضره.. فلاحظ حواره معه.
مشورة
معاوية على عثمان:
ولا شك في أن ما عرضه معاوية على عثمان كان مجرد جعجعة من دون طحين..
أراد بها التغطية على فشله الذريع.. لأنه لو أراد أن يفعل شيئاً مما
عرضه على عثمان، ويتعرض لقتل أحد من الصحابة.. لأهلك بذلك نفسه، وجميع
من حوله، لا سيما وأن علياً «عليه السلام»، سيكون له بالمرصاد.
وإذا كان معاوية يريد أن يوقع بعثمان، بهذه المشورة، فذلك يدل على خبث
طويته، وعلى أنه كان يريد الفتنة، ظناً منه أن عرشه في الشام سوف يسلم
بذلك.. وان إثارة فتنة كهذه هي الطريق الأقصر للوصول إلى الخلافة بأقل
قدر ممكن من الخسائر.
الأربعة آلاف مقاتل:
وقد عرض معاوية على عثمان أن يرتب له أربعة آلاف مقاتل، وزعمت الرواية
أن عثمان رفض ذلك أيضاً.. غير أن النصوص الأخرى لا تؤيد ذلك.
فأولاً: هناك ما يدل على أنه كان لدى عثمان من أهل بيته ومواليه
وأصحابه أكثر من أربعة آلاف رجل، ولكنه لم يجرؤ على تحريكهم للدفاع
عنه..
ثانياً: قول الرواية: إن عثمان رفض الأربعة آلاف، لأنه لا يريد أن
يرزقهم من بيت المال.. غير مقبول لما يلي:
ألف: إن رفضه هذا كان ـ فيما يبدو ـ خوفاً من أن لا يتمكنوا من الدفع
عنه.. ولذلك نرى: أنه حين ضاق عليه الخناق، واشتد الحصار أرسل إلى
معاوية، وغيره من عماله يستغيث بهم، ويستحثهم إرسال العساكر إليه..
ب: إن عثمان لم يكن يهتم لإنفاق بيت المال، وكانت عطاياه لأقاربه بمئات
الألوف والملايين.. فهل يتأثم من أعطاه الرواتب من بيت المال لمن يدافع
عنه وعنهم؟! والحال أن أعظم بلائه كان بسبب إنفاقه بيت المال على غير
المستحقين ممن لعنهم الله ورسوله، وطردهم، وأباح دمهم. ونزلت الآيات
فيهم، مثل: مروان، والحكم، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، والوليد،
وسعيد بن العاص وغيرهم..
ثالثاً:
بالنسبة لتفريق الصحابة في البلاد، وضرب البعوث عليهم. نقول:
ألف: إن معاوية كان غاشاً لعثمان في ذلك أيضاً، لأن عمر قد علمهم أن
السماح لكبار الصحابة بالتفرق، معناه: أن يفسح المجال لالتفاف الناس
حولهم، وظهور علم العلماء منهم، ونشر الكثير مما كانت السياسة العمرية
تقضي بعدم التفوه به، وتعاقِبُ من يفعل ذلك.. وما كان الذي جرى على أبي
ذر إلا بسبب ذلك.
ب: إن ذلك سوف يمكن الناس من رؤية الأمور على حقيقتها، وسيعترضون،
ويحرضون الناس على الاعتراض على مخالفات عثمان وممارسات عماله المخالفة
لأحكام الدين والشرع، ولسنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسيرته..
ج : إن أبا بكر وعمر لم يستطيعا حمل علي «عليه السلام» على المشاركة في
حروبهما، ولا حتى على السفر إلى أي من البلاد، ولو برفقة الخليفة نفسه،
وقد تقدم في الفصول التي تكفلت بعرض ما جرى في عهد أبي بكر وعمر بن
الخطاب بعض من ذلك..
رابعاً: جعل عثمان لمعاوية الطلب بدمه إذا قتل لا يصح.. إذ ليس لعثمان،
ولا لغيره جعل ذلك لأي كان من الناس. لأن الله سبحانه قد جعل هذا الحق
لخصوص ورثة مال المقتول، وليس معاوية منهم.. وليس للمقتول أيضاً أن
يهبه لأحد، ولا أن يسلبهم هذا الحق. كما أنه ليس حقاً للمقتول قبل أن
يقتل ولا بعده..
خامساً: يضاف إلى ذلك: أن عثمان قد منع من الإقتصاص من عبيد الله بن
عمر.. وأعطى لنفسه الحق في العفو عنه.. فلماذا لا يحق للخليفة الذي
يتولى الأمر بعده أن يعفو أيضاً عن قاتلي عثمان؟!
سادساً: لم يثبت أن حكم قاتلي عثمان هنا هو القصاص، فقد يقال: إن القتل
قد حصل لشبهة عرضت لهم، وهم صحابة مجتهدون، ولا يقتل المجتهد إذا أخطأ،
ولا يعاقب على خطأه في اجتهاده..
ولأجل ذلك لم ير أتباع الخلفاء أن أحداً من محاربي علي «عليه السلام»
يستحق القتل، بل رأينا بعضهم يحكم باجتهاد أبي الغادية قاتل عمار(6).
وباجتهاد ابن ملجم قاتل علي «عليه السلام»(7).
والذين قتلوا عثمان، أو أمروا بقتله كانوا من الصحابة، وفيهم عائشة
وطلحة وغيرهما، فلماذا لا يحكمون على طلحة وعائشة باستحقاقهما القتل؟!
كتاب عثمان لمعاوية:
قال ابن شهرآشوب:
نقلت المرجئة والناصبة، عن أبي الجهم العدوي ـ وكان معادياً لعلي «عليه
السلام» ـ قال: خرجت بكتاب عثمان ـ والمصريون قد نزلوا بذي خشب ـ إلى
معاوية، وقد طويته طياً لطيفاً، وجعلته في قراب سيفي، وقد تنكبت عن
الطريق، وتوخيت سواد الليل، حتى كنت بجانب الجرف، إذا رجل على حمار
مستقبلي ومعه رجلان يمشيان أمامه، فإذا هو علي بن أبي طالب «عليه
السلام» قد أتى من ناحية البدو، فأثبتني، ولم أثبته حتى سمعت كلامه،
فقال: أين تريد يا صخر؟!
قلت: البدو، فأدع الصحابة.
قال: فما هذا الذي في قراب سيفك؟!
قلت: لا تدع مزاحك أبداً، ثم جزته(8).
ونقول:
لا يحتاج هذا النص إلى توضيح، فقد تضمن:
1 ـ أن علياً «عليه السلام» قد أخبر حامل الرسالة عن أمر غيبي يفترض
بمن عاينه وشاهده أن يقلع عن مناوأته وبغضه فإن مقام معرفة الغيوب لا
يناله إلا الأوحدي من الناس. الذي يستحق كل محبة وولاء وطاعة.
2 ـ إن المرجئة والناصبة هم الذين يروون هذا الحدث عن رجل لا يتوهم فيه
أن يظهر أو أن يقرَّ بأية كرامة وفضيلة لعلي «عليه السلام»، بل يهمه
إشاعة عكس ذلك، ولو عن طريق الدس والتزوير.
3 ـ إن الظاهر من هذا الحديث: أن المطلوب كان هو التخفي بكتاب عثمان
إلى معاوية، خصوصاً من المصريين، ومن علي أيضاً. ربما لأن ذلك الكتاب
يتضمن طلب عثمان من معاوية أن ينجده بالعساكر، ولعله تضمن أيضاً هجوماً
شرساً على المصريين ومن معهم.
4 ـ كان عثمان يخشى إطلاعهم على ذلك الكتاب.. لكي لا يتخذوه دليلاً على
صحة نسبة الكتاب الذي ضبطوه مع غلامه حيث كان ذاهباً به إلى ابن أبي
سرح بمصر، وفيه أمره بالقتل وبالتنكيل بعدد منهم..
5 ـ إن حامل الرسالة ظن أنه كان ذكياً حين حول الكلام مع علي «عليه
السلام» إلى المزاح، ثم جاز عنه ومضى. وكأنه يتغافل عن حقيقة أن من
يخبره بكتابه في قراب سيفه عارف بكل ألاعيبه، وهو قادر على أن يأخذه
بنفسه، ولكنه «عليه السلام» يتغافل عنه، لأنه لم يكن يريد منه أكثر مما
كان.
6 ـ إن هذا ليس هو الكتاب الوحيد الذي أرسله إلى معاوية أيام الحصار،
فإن كتبه إليه تعددت، لأنه كان يريد منه ومن سائر عماله أن ينجدوه،
ولكنهم لم يفعلوا..
عثمان
يستقوي بمعاوية:
قالوا: وقدم معاوية بن أبي سفيان على أثر ذلك من الشام، فأتى مجلسا فيه
علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي
وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعمار بن ياسر، فقال لهم:
يا معشر الصحابة، أوصيكم بشيخي هذا خيراً، فوالله لئن قتل بين أظهركم
لأملأنها عليكم خيلاً ورجالاً.
ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال: يا عمار، إن بالشام مئة ألف فارس، كل
يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم، لا يعرفون علياً ولا
قرابته، ولا عماراً ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحابته، ولا طلحة ولا
هجرته.
ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعداً ولا دعوته.
فإياك يا عمار أن تقعد غداً في فتنة تنجلي، فيقال: هذا قاتل عثمان،
وهذا قاتل علي.
ثم أقبل على ابن عباس، فقال: يا ابن عباس، إنا كنا وإياكم في زمان لا
نرجو فيه ثواباً، ولا نخاف عقاباً، وكنا أكثر منكم، فوالله ما ظلمناكم،
ولا قهرناكم، ولا أخرناكم عن مقام تقدمناه، حتى بعث الله رسوله منكم،
فسبق إليه صاحبكم، فوالله ما زال يكره شركنا، ويتغافل به عنا حتى ولي
الأمر علينا وعليكم.
ثم صار الأمر إلينا وإليكم، فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسنه، ثم غبر فنطق،
ونطق على لسانه، فقد أوقدتم ناراً لا تطفأ بالماء.
فقال ابن عباس: كنا كما ذكرت حتى بعث الله رسوله منا ومنكم، ثم ولى
الأمر علينا وعليكم، ثم صار الأمر إلينا وإليكم، فأخذ صاحبكم على
صاحبنا لسنه، ولما هو أفضل من سنه، فوالله ما قلنا إلا ما قال غيرنا،
ولا نطقنا إلا بما نطق به سوانا، فتركتم الناس جانبا، وصيرتمونا بين أن
أقمنا متهمين، أو نزعنا معتبين.
وصاحبنا من قد علمتم، والله لا يهجهج مهجهج إلا ركبه، ولا يرد حوضا إلا
أفرطه.
وقد أصبحت أحب منك ما أحببت: وأكره ما كرهت، ولعلي لا ألقاك إلا في
خير(9).
ونقول:
إن هذا النص موضع ريب، بل نحن نجزم بكذبه، أو بتحريفه، فلاحظ ما
يلي:
أولاً: إن معاوية لم يكن له من الصولة، والدولة ما يخوله تهديد صحابة
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعلى رأسهم علي «عليه السلام» بهذه
الطريقة الوقحة والفجة..
ثانياً: إن النص الذي يليه في نفس ذلك الكتاب، وهو كتاب: الإمامة
والسياسة صرح: بأن عثمان أرسل إليهم فحضروا، فأعلمهم أن معاوية يريد أن
يكلمهم.. فتكلم معاوية بما فيه شائبة التهديد.
فقال له علي «عليه السلام»: «كأنك تريد نفسك يا ابن اللخناء، لست هناك.
فلم يجرؤ معاوية على مواجهته، بل قال له: «مهلاً عن شتم بنت عمك فإنها
ليست بشر نسائك»(10).
وقد تقدم ذلك.
مع أن معاوية كان مستنصراً في ذلك المجلس بعثمان، وهو الخليفة، الذي لا
يراعي الناس، ولا يتأمل كثيراً فيما يقدم عليه في أمثال هذه المواقف.
وأنا على يقين من أن معاوية لو كان قال لعلي: لأملأنها عليكم خيلاً
ورجالاً، أو هددهم بمئة ألف فارس في الشام لا يعرفون علياً ولا
قرابته.. وقال: إياك يا عمار أن تقعد غداً في فتنة تنجلي، فيقال: هذا
قاتل عثمان. وهذا قاتل علي ـ نعم لو أن معاوية قال ذلك أو بعضه بحضور
علي «عليه السلام»، لسمعنا لعلي «عليه السلام» زئيراً يجعل معاوية يحدث
في ثيابه، ولكان يقول لمعاوية ما هو أشد من قوله له:
«أنا أبو الحسن حقاً، قاتل جدك عتبة، وعمك شيبة، وخالك الوليد، وأخيك
حنظلة، الذين سفك الله دماءهم على يدي في يوم بدر. وذلك السيف معي،
وبذلك القلب ألقى عدوي»(11).
ثالثاً: لماذا يخص معاوية الخطاب بعمار بن ياسر، ولم يخاطب ابن عوف، أو
سعداً أو الزبير، أو طلحة، أو علياً «عليه السلام» نفسه لو كان لديه كل
هذه الشجاعة؟!
رابعاً: لو كانت الشام تحشد مئتي ألف مقاتل، فلماذا لم يحشد معاوية في
صفين أكثر من مئة وعشرين ألفاً مع كل ما أثاره من شبهات، وقام به من
دعايات؟! ومع أن الأمر كان بالنسبة إليه قضية حياة أو موت؟!
خامساً: ذكرت الرواية أموراً وصفاتٍ نسبها لأشخاص بأسمائهم. مع أن
التحقيق يثبت أنهم لا علاقة لهم بتلك الصفات، ولا يصح نسبتها إليهم.
مثل قوله: ولا طلحة ولا هجرته.. ولا يتقون سعداً ولا دعوته.. فإن الناس
كانو يعرفون أن طلحة وسعداً ليسوا بهذه المثابة..
سادساً: ما العلاقة بين الهيبة وبين كثرة المال.. لكي يقول معاوية ولا
يهابون ابن عوف ولا ماله.. بل هم يتزلفون لصاحب المال، ويراعون خاطره
طمعاً بالإنتفاع..
سابعاً: هل يمكن لمعاوية أن يطلق هذه الكذبة الفاجرة من دون أن يعترض
عليه أحد فيها، فيقول له: «كنا أكثر منكم، فوالله، ما ظلمناكم، ولا
قهرناكم، ولا أخرناكم عن مقام تقدمناه»..
فقد ظلموهم، وقهروهم، «صلوات الله وسلامه عليهم» وأخروهم عن مقامهم..
ثامناً: قد أثبتنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي «صلى الله عليه
وآله»: أن أبا بكر لم يكن أول من أسلم، بل كان علي «عليه السلام» أول
الأمة إسلاماً، أما أبو بكر فتأخر إسلامه عدة سنوات. فما معنى أن يدعي
معاوية أن أبا بكر أول من أسلم، ويسكت عنه علي «عليه السلام»، وعمار
وغيرهما ممن حضر؟!
تاسعاً: ما معنى هذه الموافقة الظاهرة لمعاوية من قبل ابن عباس، وكيف
سكت علي «عليه السلام» وعمار عليها؟! وكيف؟ وكيف؟.
([1])
الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص33 و (تحقيق الشيري) ج1
ص47 ـ 48 وعن بهج الصباغة ج6 ص59.
([2])
الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص33 و 34 و (تحقيق الشيري)
ج1 ص48 ـ 49.
([3])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص13 وتاريخ مدينة دمشق ج70 ص175 =
= وإمتاع الأسماع ج1 ص166 والسيرة الحلبية ج 2 ص 244 و (ط دار
المعرفة) ج2 ص529 والنصائح الكافية ص112 والإكمال في أسماء
الرجال ص41 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص241.
([4])
مسند أحمد ج1 ص463 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص413 و (ط دار
المعرفة) ج1 ص422 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص81 وينابيع
المودة ج2 ص217 والبداية والنهاية ج4 ص41 و (ط دار إحياء
التراث العربي) ج4 ص46 والدر المنثور ج2 ص84 والمصنف لابن أبي
شيبة ج8 ص492 وذخائر العقبى ص182 ومجمع الزوائد ج6 ص110 وتفسير
الميزان ج4 ص14 وتفسير القمي ج 1 ص 117 وبحار الأنوار ج 20 ص
55 عنه.
([5])
السيرة الحلبية ج 2 ص 244 و (ط دار المعرفة) ج2 ص529.
([6])
راجع: الفصل لابن حزم ج4 ص161 والإحكام في أصول الأحكام (مطبعة
العاصمة ـ القاهرة) ج2 ص205 والإصابة ج4 ص151 والغدير ج1 ص328
ونظرة في كتاب الفصل في الملل ص131.
([7])
راجع: المحلى لابن حزم ج10 ص484 والجوهر النقي (مطبوع بهامش
سنن البيهقي) ج8 ص58 عن الطبري في التهذيب. وخلاصة عبقات
الأنوار ج3 ص61 والغدير ج9 ص393.
([8])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص259 و 260 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2
ص96 وبحار الأنوار ج31 ص480 و 481 وج41 ص305 و 306 والمسترشد
ص672 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص265 و 366.
([9])
الإمامة والسياسة ج 1 ص 28 و 29 و (تحقيق الزيني) ج1 ص32 و
(تحقيق الشيري) ج1 ص46 و 47 ومواقف الشيعة ج3 ص27 و 28
([10])
الإمامة والسياسة ج1 ص30 و (تحقيق الزيني) ج1 ص33 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص48.
([11])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص351 وبحار الأنوار ج32 ص572 وراجع ج33
ص102 و 124 والفتوح لابن أعثم ج2 ص435 و (ط دار الأضواء) ج2
ص536 ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص11 ومصباح البلاغة (مستدرك
نهج البلاغة) ج4 ص62 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص79 و 82.
|