صفحة :331-350   

الفصل الثاني:  العتاب والإستعتاب لـ «حمال الخطايا»..

بـدايـة:

إنه بالرغم من أن علياً «عليه السلام» كان يجهر بمؤاخذاته لعثمان، ورغم أن الخصوم كانوا يحاولون التشبث حتى بالأكاذيب والإفتراءات والأباطيل لتشويه صورة علي «عليه السلام»، واتهامه بالباطل في موضوع قتل عثمان وغيره، فإن ذلك لم يمنعه من الجهر بحقيقة رأيه فيه حيث وصفه بأنه «حمال خطايا»، بالإضافة إلى كلمات أخرى اطلقها حوله، لا نرى حاجة للتعرض لها في هذا الفصل..

ثم صرح للناس بنمط التعامل الذي اختاره تجاهه ومعه.. غير آبه بكل ما يثار من عجيج، وما يفتعل من ضجيج، فإنه «عليه السلام» ـ بالرغم من ذلك ـ كان يرى أن الحق والحقيقة امانة في عنقه لا بد من أدائها إلى أهلها على أكمل وجه وأتمه، وهذا ما كان يمارسه باستمرار طيلة حياته «عليه السلام»..

ونعرض في هذا الفصل إلى كلمته المشار إليها: «حمال الخطايا» ثم إلى كلمته الأخرى التي تشير إلى النهج الذي اختاره للتعامل معه، فنقول:

حمَّال الخطايا:

عن إسماعيل بن أبي خالد قال: جاء رجل إلى علي «عليه السلام» يستشفع به إلى عثمان، فقال: حمال الخطايا؟! لا والله لا أعود إليه أبداً.

فآيسه منه([1]).

وقد وصفه «عليه السلام» بحمال الخطايا في خطبة له على منبر الكوفة أيضاً، فراجع([2]).

ومن الواضح: أنه «عليه السلام» كان يريد أن يبلغ كلامه هذا عثمان، ليكون حجة عليه، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ويريد أيضاً: أن يعرف الناس: أن من حقهم الإعتراض على الخطأ، وأن المقام والمنصب لا يعطي حصانة لصاحبه، ولا ينأى به عن الحساب والمؤاخذة..

ويريد كذلك: أن تتخذ مقاومته للمنكر منحى سلبياً، بعد أن لم يستجب عثمان لما هو إيجابي منها، وبذلك يكون قد استنفد جميع طرق ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

من هو حمَّال الخطايا؟:

زعم ابن أبي الحديد المعتزلي: أن حمال الخطايا هو معاوية، قال: لأنهم يحامون عن دم عثمان، ومن حامى عن دم إنسان، فقد قاتل عليه.

ونقول:

إن هذا باطل لما يلي:

أولاً: قال الأميني عن هذا الحمل: إنه من التافه البعيد عن سياق العربية، نظير تأويل معاوية الحديث الوارد في عمار عن النبي «صلى الله عليه وآله»: تقتلك الفئة الباغية([3])، فإن معاوية بعد أن قتل عماراً في صفين زعم أن علياً قتله، لأنه هو الذي رماه بين أسيافهم (رماحهم)، أو هو الذي جاء به([4]).

ثانياً: إذا كان عثمان قد قتل مظلوماً، فما المانع من المطالبة بقتل قاتله، تماماً كما طالب علي «عليه السلام» بقتل عبيد الله بن عمر، حين قتل جفينة، والهرمزان، وبنت أبي لؤلؤة.

وحين لم يستجب عثمان لهذا الطلب، توعد «عليه السلام» عبيد الله بأن يقتص منه حين يقدر عليه، ولذلك انحاز إلى معاوية، وقاتل علياً «عليه السلام» في صفين، وقتل فيها..

إلا أن يقال: إن معاوية لم يكتف بالمطالبة بقتل قتلة عثمان، بل تجاوز ذلك إلى تجييش الجيوش لقتال الخليفة والإمام، وسفك بسبب ذلك دم عشرات الألوف من المسلمين..

ضعف سند حديث حمَّال الخطايا:

وأورد المعتزلي على هذا الحديث: بأنه ضعيف بقيس بن أبي حازم، فإنه هو الذي روى حديث رؤية الناس ربهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته..

كما أن المتكلمين من مشايخ المعتزلي قد طعنوا بهذا الرجل، لأنه فاسق، لأنه قال: سمعت علياً يخطب على منبر الكوفة، ويقول: انفروا إلى بقية الأحزاب، فأبغضته، ودخل بغضه في قلبي، ومن يبغض علياً «عليه السلام» لا تقبل روايته([5]).

ونقول:

قال العلامة الأميني ما ملخصه: إن حديث الرؤية مخرج في صحيحي البخاري ومسلم، ومسند أحمد وغيرهما، فلماذا لا يطعنون في أحاديث الصحاح لأجله، وقد روى البخاري عن عمران بن حطان، مادح عبد الرحمان بن ملجم، لأجل قتله أمير المؤمنين «عليه السلام».. فإذا كان فاسقاً فكيف يروي له البخاري..

وإذا كان قيس بن حازم فاسقاً لبغضه علياً، فكيف يروي له أصحاب الصحاح في صحاحهم أيضاً.. وكيف يوثقه أئمة الجرح والتعديل عندهم، وقالوا عنه: متقن الرواية، والحديث عنه من أصح الإسناد، وقال ابن خراش: كوفي جليل، وقال ابن معين ثقة، وذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال: أجمعوا على الإحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه([6]).

والحقيقة: هي أن تضعيفاتهم لهذا أو ذاك هي لاتهامهم إياهم بالتشيع، أو لرواية له في فضل علي، أو لميل ـ ولو ضئيل ـ إليه، أو إذا اعتبروه متحاملاً على معاوية مثلاً، أو لروايته بعض ما جرى على أهل البيت «عليه السلام» من حيف وظلم، أو نحو ذلك.

أما التوثيقات، فهي لأكثر الناس حباً وتعلقاً، بمناوئي علي «عليه السلام»، وإطراءً لمن حاربه، أو آذاه، أو لمن عرفوا بانحرافهم الشديد عنه «عليه السلام»، أو لما دحي قاتليهم، والموثقين لأمثال عمر بن سعد قاتل الإمام الحسين، الذي وثقه العجلي، وأمثال أبي الغادية، وعمران بن حطان، وأضرابهم..

وتلك هي مجاميعهم الرجالية شاهد صدق على ما نقول..

حمَّال الخطايا: كيف؟! ولماذا؟!:

وللمزيد من توضيح المراد من كون عثمان حمال الخطايا نقول:

إن معاوية قال لعثمان: «اجعل لي الطلب بدمك إن قتلت.

فقال عثمان: نعم، هذه لك. إن قتلت، فلا يطل دمي»([7]).

ومعنى هذا: أن كل قتال حصل، تحت هذا الشعار وكل حقد، وفرقة، وبلاء قام على هذا الأساس، ومن ذلك قتل عمار بن ياسر، والتأسيس لتمكين معاوية، وحكومة يزيد، وقتل سيد الشهداء الإمام الحسين «عليه السلام» وصحبه يوم عاشوراء، ثم سائر الجرائم والمآثم التي ارتكبها بنو أمية وسواهم ـ إن كل ذلك ـ بسبب هذا القرار الذي جاء بمثابة التأسيس والتوطئة لذلك، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة.

وقد صرح أمير المؤمنين «عليه السلام» بهذا المعنى أيضاً، فعن قيس بن أبي حازم: أنه سمع علياً «عليه السلام» يقول على منبر الكوفة:

«يا أبناء المهاجرين، انفروا إلى أئمة الكفر، وبقية الأحزاب، وأولياء الشيطان، انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا. فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيئاً».

قال قيس: ولما سمعته قال: انفروا إلى بقية الأحزاب دخل بغضه في قلبي([8]).

وهناك العديد من النصوص التي تدل على أن من يؤسس لنهج، أو لمسار بعينه، يتحمل المآثم والأوزار التي تنشأ عنه، مهما طال الزمن، ما دام له أثر قائم إلى يوم القيامة. وهو أمر صحيح وواقعي لا يأباه العقل، ويرضاه العقلاء.. كما يعلم بأدنى التفات.

عتاب عثمان لعلي :

عن ابن عباس «رحمه الله» قال: شهدت عتاب عثمان لعلي «عليه السلام» يوماً، قال في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولست بدون واحد منهما، وأنا أمس بك رحماً، وأقرب إليك صهراً.

فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله «صلى الله عليه وآله» لك، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت؛ فإن كانا لم يركبا من الأمر جدداً، فكيف أذعنت لهما بالبيعة، وبخعت بالطاعة، وإن كانا أحسنا فيما وليا، ولم أقصر عنهما في ديني، وحسبي، وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما.

فقال علي «عليه السلام»: أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً، وأسهل إليها سبيلاً. ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك إلى رشدك.

وأما عتيق وابن الخطاب، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأنت أعلم بذلك والمسلمون. ومالي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين!!!

فاما ألاّ يكون حقي، بل المسلمون فيه شرع، فقد أصاب السهم الثغرة (أي نقرة النحر).

وإما أن يكون حقي دونهم، فقد تركته لهم، طبت به نفساً. ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأما التسوية بينك وبينهما، فلست كأحدهما، إنهما وليا هذا الأمر، فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه، وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجة.

فارجع إلى الله ـ أبا عمرو ـ وانظر هل بقي من عمرك إلا كظمئ الحمار، فحتى متى؟! وإلى متى؟! ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين، وأبشارهم، وأموالهم. والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس: فقال عثمان: لك العتبى، وافعل، واعزل من عمالي كل من تكرهه، ويكرهه المسلمون.

ثم افترقا، فصده مروان بن الحكم عن ذلك، وقال: يجترئ عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم([9]).

ونقول:

قد يحتاج هذا النص إلى بعض التوضيح، فنقول:

1 ـ إن ما دعا عثمان للطلب من علي «عليه السلام» أن لا يفتح للفرقة باباً هو تلك المحاولات التي كان «عليه السلام» يبذلها معه لمنع حدوث المخالفات، ولدفع عثمان لمحاسبة عماله، ومنع المنكرات التي كانت تحصل منهم.. إذ لم يصدر من علي «عليه السلام» تجاه عثمان أي شيء سوى ذلك..

2 ـ إن عثمان يريد من علي «عليه السلام» أن يطيعه على حد طاعته لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلا يكون له معه أمر ولا رأي، وقد استدل عليه بأن طاعته لأبي بكر وعمر كانت على حد طاعته للرسول «صلى الله عليه وآله».. وهو أولى بذلك منهما، لأنه أمس به رحماً، وأقرب إليه صهراً.

3 ـ تحدث عثمان عن أنه إن كان المانع من طاعة علي «عليه السلام» له كطاعته لأبي بكر وعمر هو أن الحق لعلي دونه.. فقد كان هذا هو رأي علي «عليه السلام» معهما.. وقد عارض قليلاً، ثم رضي واطاع.. فلماذا لا يفعل مثل ذلك معه، وإن كان المانع من الطاعة له، والداعي للطاعة لهما هو أن سيرته وسيرتهما لم تكن حميدة. فلماذا أطاعهما. وعصاه.

وإن كانت سيرتهما حميدة، فسيرة عثمان كذلك، فإنه لم يقصر عنهما في دينه، ولا في قرابته وحسبه، فلماذا لا يطيعه كما كان يطيعهما؟!

4 ـ ما ادعاه عثمان من أنه أقرب إلى علي «عليه السلام» صهراً من أبي بكر، وعمر، ليس معناه: أن زوجتي عثمان كانتا بنتي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، إذ يكفي لصحة ادعاء الصهرية كونهما قد تربتا في بيت الرسول بحيث يحتاج من يريد الزواج إلى استئذانه «صلى الله عليه وآله» ـ ولو تأدباً ورعاية للأخلاق والآداب ـ كما قلناه أكثر من مرة..

على أن أم عثمان هي أروى بنت كريز، وأمها (أعني جدة عثمان لأمه) هي أم حكيم بنت عبد المطلب، فهي عمة علي «عليه السلام».. فلعل المراد بالصهر هو هذا، وبالرحم الإجتماع مع علي «عليه السلام» من قبل الأب بعبد مناف.ولياء الشيطان. ا

5 ـ إن جواب علي «عليه السلام» جاء ليؤكد على أنه إنما ينهى عثمان عما ينهاه الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» عنه. فإن عثمان بعد هذا هو الذي فتح باباً للفرقة، وسهَّل السبيل إليها، فعلىه أن يتوقع من الأمة كلها موقفاً صريحاً وحازماً، لن يكون سعيداً به..

6 ـ ثم أعلمه أيضاً: أنه قد ضل عن رشده. وأصبح يحتاج إلى من يهديه إليه. وهذا من مفردات الإحسان إليه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!.

7 ـ وحول ما فعله الشيخان، أبو بكر وعمر قال: إما أن عثمان يرى كما يرى علي «عليه السلام» أنهما قد غصبا حقه المنصوص عليه من الله ورسوله له، وهذا هو الصحيح، وعثمان وسائر المسلمين يعرفون حقيقة هذا الأمر، ويعرفون النص عليه. ويكون «عليه السلام» قد طالب أولا بحقه، ثم سكت، لمصلحة الإسلام والمسلمين طيلة تلك السنين.

وأما يكون عثمان لا يرى لعلي «عليه السلام» حقاً في هذا الأمر، فيكون قد أصاب من الحق والدين مقتلاً. (أو فقد أصاب السهم الثغرة).

أو يكون الحق لعلي «عليه السلام»، لأنه الأفضل والأعلم، والأشجع، والمطهر والمعصوم، والأحكم، والأعقل، والأتقى، والأورع.. و.. و.. فيكون «عليه السلام» قد ترك حقه، لأنه رأى الصلاح في ذلك. فإذا زالت تلك المصلحة، فلماذا لا يطالب بحقه.

وذلك يدل على أن طاعته «عليه السلام» لهما ليست لأجل أنهما يستحقان ذلك، بل لأنه يريد استصلاح الأمور، وحفظ الدين، ورعاية مصلحة المسلمين..

8 ـ إنه «عليه السلام» أبطل ما ادعاه عثمان من أنه أولى منهما بأن يطيعه «عليه السلام»، فإنه لا طاعة لهما عليه، فضلاً عن أن يكون لعثمان مثل هذه الطاعة، أو أن يكون أولى منهما في ذلك.

ولا يجوز لعثمان أن يسوي نفسه بهما، لأنهما كفَّا أنفسهما وأهلهما عن بيت مال المسلمين، وعن اختصاص أقاربهما بالولايات، ولم يفعل عثمان ذلك، بل عام فيه هو وقومه عوم السابح في اللجة..

9 ـ أما أن تكون القرابة والصهر، سبباً في تأكيد حق الطاعة، فهو مرفوض أيضاً، لأنها لا توجب ذلك في نفسها. كما أن أصل ثبوت الطاعة لهما ولعثمان باطل، بل هو حق مغتصب، وقد كف علي «عليه السلام» عن طلبه استصلاحاً..

10 ـ إنه «عليه السلام» بالرغم من أنه أبطل كل ما استدل به عثمان.. لم يحاول أن يواصل ما بدأه، بل لوَّح له بصورة عملية أنه مستمر في موقفه الرامي إلى إصلاح حال عثمان، من دون مساس بموقعه في السلطة.. وذلك حين وعظه، وطلب منه أن ينهى سفهاء بني أمية عن ممارساتهم.

وقد تضمن كلامه أموراً:

منها: أنه صرح بأن مصدر المخالفات هو أناس سفهاء.

ومنها: تصريحه بأن هؤلاء السفهاء المخالفين هم بعض بنو أمية، وليس كلهم.

ومنها: أن لم يصرح بمشاركة عثمان لهم، ولا برضاه بفعلهم، بل اكتفى بقوله: إنه لم ينههم.

ومنها: أنه بيّن أن أولئك السفهاء من بني أمية كانوا يعتدون على أعراض المسلمين، وأبشارهم، وأموالهم. والمفروض والمطلوب والمتوقع منهم ـ بحكم موقعهم في السلطة هو أن يكونوا مصدر شعور الناس بالأمن على الأعراض، والأموال والأنفس..

ومنها: إعلام عثمان بأنه يشارك عمَّاله بالإثم على الظلم حتى لو صدر ذلك الظلم من عامله حيث تغرب الشمس. لقدرته على استعمال الأخيار بدل الأشرار، وأهل العقل والحكمة والتدبير، بدل السفهاء، وأهل الرعونة والطيش، وأصحاب الأهواء..

العتاب والإستعتاب:

من كتاب له «عليه السلام» إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة:

«إن الناس طعنوا عليه (أي عثمان)، فكنت رجلاً من المهاجرين، أكثر استعتابه، وأقل عتابه. وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف الخ..»([10]).

ونقول:

مناقشة كلام المعتزلي:

قال المعتزلي: إنه «عليه السلام»: «جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر، وهم أهل الحل والعقد، وإنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه»([11]).

وهو كلام باطل من جهات:

فأولاً: من الذي قال: إن خلافة أبي بكر قد انعقدت بحيث أصبحت مرضية عند الله، وملزمة للناس لمجرد بيعة عمر، وأبي عبيدة، وأسيد بن حضير له؟!..

فإنها بيعة حصل بها رد قول الله تعالى، ورسوله «صلى الله عليه وآله» وإبطال تدبيره. وإنما أتت نتيجة تعد على صاحب الحق، ومهاجمته، وضرب زوجته سيدة نساء العالمين.

كما أنها بيعة نكثت بها بيعتهم يوم الغدير لعلي «عليه السلام».

ثانياً: إن الحل والعقد في هذا الأمر بيد الله تعالى ورسوله، وليس بيد البشر.. لأن هذا الأمر لله تعالى يضعه حيث يشاء. كما قاله النبي «صلى الله عليه وآله» لبني عامر بن صعصعة، حين اشترطوا لإسلامهم أن يجعل النبي «صلى الله عليه وآله» لهم الأمر من بعده.. وقال ذلك أيضاً لعامر بن الطفيل لنفس السبب.. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا:الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ([12])، إنما يختص بالأمور العائدة إليهم، وليست الخلافة منها..

ثالثاً: من الذي جعل خصوص المهاجرين أهل الحل والعقد؟!

وَلِمَ ولم يكن أهل الحل والعقد الأنصار؟! أو المهاجرين والأنصار معاً؟!

أو غيرهم من الناس؟! وكيف يحصل التمييز بين الناس، فيكون هذا من أهل الحل والعقد، ولا يكون ذاك منهم؟!..

رابعاً: ما الدليل على أن حجية الإجماع تستند إلى دخول المهاجرين في المجمعين؟!

ولم لا يكون دخول المعصوم في المجمعين هو سر حجية الاجماع؟! كما هو مذهب الشيعة!!

خامساً: المراد بالاجماع هو اجماع المسلمين بجميع فئاتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم ومشاربهم، ولم يحصل إجماع كهذا على أبي بكر مع مخالفة سعد بن عبادة ومن معه وعلي «عليه السلام» وبني هاشم، وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وكثيرين آخرين...

سادساً: إن طلحة والزبير كانا من المهاجرين، مع أنه «عليه السلام» يصرح: بأن أهون سيرهما في عثمان الوجيف.. أما عائشة فقد أمرت بقتل عثمان، حين قالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.. وكذلك الحال بالنسبة لعمر وبن العاص، وعمار، وأبي ذر، وابن مسعود، وابن عوف وحذيفة وسعد وسواهم من المهاجرين الذين حرضوا على عثمان، وكفروه، ودفعوا بالأمور حتى انتهت بقتله.

سابعاً: إنه «عليه السلام» حين جعل نفسه رجلاً من المهاجرين، لا يقصد بهم أمثال عمرو بن العاص، ولا طلحة ولا الزبير، ونظراءهم. بل هو يجعل نفسه مع عمار، وحذيفة، وأبي ذر، والمقداد، ونظرائهم.. ولا يقصد بهم أيضاً الغوغاء والهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق.

المراد بالعتاب والإستعتاب:

إنه «عليه السلام» أراد بقوله: أكثر استعتابه، وأقل عتابه: أنه يكثر حثه على التراجع عن المخالفات، ويطلب منه إصلاح الأمور، والأخذ على ايدي عماله، ومنعهم من الظلم والتعدي. فهو يطلب منه أفعالاً ترفع عتب الناس عنه.

وهو يقل عتابه، من حيث أنه لا يظهر موجدته عليه، وإن كان مستحقاً لكل موجدة. وذلك رفقاً منه به، وتوخياً لإبعاد توهماته في أن يكون «عليه السلام» يتعامل معه من منطلق الأغراض والأهواء الشخصية.

ثم قدم «عليه السلام» نموذجاً للتشدد الذي يدخل في معنى كثرة العتاب، وإظهار الغضب والموجدة الشخصية وذلك بوصفه لحال طلحة والزبير مع عثمان.. فقد قتلوه لأجل طموحات شخصية، ثم هؤلاء أنفسهم يأتون للطلب بدمه، ممن هو أبرأ الناس منه.. مع أن دم عثمان عند هذين الرجلين أكثر من أي شخص آخر!!


([1]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص17 وكتاب الأربعين للشيرازي ص585 ونهج السعادة ج1 ص173.

([2]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص194 والغارات للثقفي ج1 ص40 وبحار الأنوار ج31 ص267 و 268 و 307 وج34 ص50 والغدير ج9 ص72 ونهج السعادة ج2 ص522 وتقريب المعارف ص294 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص201.

([3]) السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص142 وتاريخ الخميس ج1 ص345 والأعلاق النفيسة، ووفاء الوفاء ج1 ص329 والسيرة الحلبية ج2 ص72 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص40 و 50 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص44 وشرح إحقاق الحق ج8 ص423 عن العقد الفريد (ط الشرقية بمصر) ج2 ص204.

([4]) راجع: معاني الأخبار ص35 والإحتجاج ج1 ص268 وبحار الأنوار ج33 ص7 و 10 و 16 و 32 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص31 و 33 و 36 و 37 و 40 و 41 و 43 و 46 و 48 و 51 ـ 58 و 62 وجامع أحاديث الشيعة ج8 ص416 والغدير ج1 ص329 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص658 = = وروضة الواعظين ص286 والكامل في التاريخ ج3 ص311 والعقد الفريد ج4 ص319 ومسند أحمد ج2 ص161 وج4 ص199 والمستدرك للحاكم ج2 ص155 و 156 وج3 ص387 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص189 ومجمع الزوائد ج7 ص242 والمصنف للصنعاني ج11 ص240 والمعيار والموازنة ص96 والمعجم الأوسط ج8 ص44 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج8 ص26 وج20 ص334 وفيض القدير ج6 ص474 وأحكام القرآن للجصاص ج3 ص532 والإحكام لابن حزم ج7 ص1022 والدرجات الرفيعة ص281 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص253 والثقات لابن حبان ج2 ص291 وتاريخ مدينة دمشق ج43 ص414 و 425 و 431 و 480 وتهذيب الكمال ج17 ص114 وسير أعلام النبلاء للذهبي ج1 ص420 وأنساب الأشراف ص317 والبداية والنهاية ج6 ص240 وج7 ص298 و 300 وإمتاع الأسماع ج12 ص200 و 201 وصفين للمنقري ص343 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص110 و(تحقيق الشيري) ج1 ص146 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج3 ص159 والمناقب للخوارزمي ص234 وقصص الأنبياء للراوندي ص306 وكشف الغمة ج1 ص263 وسبل الهدى والرشاد ج3 ص344 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص264 والنصائح الكافية ص39.

([5]) الغدير ج9 ص73 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص195.

([6]) الغدير: ج9 ص73 والتوثيقات مأخوذة من تهذيب التهذيب ج8 ص386 و (ط دار الفكر) ج3 ص347 وراجع: ميزان الإعتدال ج3 ص393 والكواكب النيرات لابن كيال الشافعي ص85.

([7]) الإمامة والسياسة ج1 ص31 و (تحقيق الزيني) ج1 ص34 و (تحقيق الشيري) ج1 ص49.

([8]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص 194 و 195 وراجع: نهج السعادة ج2 ص522 والغارات للثقفي ج1 ص40 وبحار الأنوار ج34 ص50 وج31 ص307 والغدير ج9 ص72 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص294 و وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص201.

([9]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص15 و 16 عن الواقدي في كتاب الشورى، وكتاب الأربعين للشيرازي ص227 و 228.

([10]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص2 الكتاب رقم1 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص109 والأمالي للطوسي ص718 وبحار الأنوار ج32 ص72 و 84 والغدير ج9 ص104 ونهج السعادة ج4 ص54 و 56 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص6 والجمل للمفيد ص131.

([11]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص7.

([12]) الآية 39 من سورة الشورى.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان