تقدم قول بعض الرويات:
أن المؤذن جاء إلى علي «عليه السلام» في اليوم الذي منع فيه عثمان
الصلاة، فقال من يصلي بالناس؟
فقال:
ادع خالد بن زيد.
فدعاه، فصلى بالناس. فهو أول يوم عرف أن اسم أبي أيوب
الأنصاري
خالد بن زيد
. فصلى أياماً، ثم صلى علي بعد ذلك بالناس([1]).
والذي صلى بالناس الجمعة والعيد حتى قتل عثمان
هو علي «عليه السلام» كما
صرحت به بعض النصوص([2]).
وثمة نص آخر يقول:
إنه «عليه السلام» أمر سهل بن حنيف ، فصلى اليوم الذي حصر فيه عثمان
الحصر الآخر بالناس، وهو ليلة أول ذي الحجة إلى يوم
العيد. ثم صلى علي بالناس العيد، ثم صلى بهم حتى قتل عثمان
([3])..
ونقول:
نحب أن نشير هنا إلى أمور..
أولها:
إن
المؤذن ـ وهو سعد القرظ ـ قد جاء إلى علي «عليه السلام»
يسأله
من يصلي بالناس، ولم يأت الزبير، ولا طلحة
، ولا
سعد،
ولا غير هؤلاء من الصحابة
، فدل
ذلك على أن محط أنظار الناس من حيث الوثاقة والقرار هو علي «عليه
السلام»،
فلا يصح قياس أحدٍ به..
الثاني:
إنه «عليه السلام» لم يقدم نفسه للصلاة بالناس، ربما لأنه لم يرد أن
يدخل في وهم أحد أنه «عليه السلام» يريد أن يتخذ ذلك ذريعة للخلافة، أو
مبرراً للحضور الأدبي في محافل تداول الحديث عن هذا الموضوع..
فربما يهيئ ذلك فرصة لبعض الفئات لإدعاء أن أبا بكر
كان
محقاً فيما أقدم عليه، لأنه صلى بالناس في أيام رسول الله
كما
يزعمه له بعض محبيه..
وهذا الأمر وإن كان لم يكن صحيحاً في حد نفسه، لكن من
الذي سيتمكن من إقناع الناس بكذب ما يزعم حول هذا الموضوع؟!..
وكيف يمكن إقناع البسطاء بعدم صحة الإستدلال بهذا الأمر
على الخلافة حتى لو فرض حصول ذلك بالفعل ـ بالنسبه لأ بي بكر
أو
غيره؟!..
الثالث:
ادعت الرواية المتقدمة أن اسم أبي أيوب
عرف في
ذلك اليوم الذي صلى فيه يوم الحصار بسبب تصريح علي «عليه السلام»
XE "علي
\«عليه
السلام\»"
به..
ونحن نشك في ذلك؛
فإن الرواية لم تذكر إن كان سعد القرظ
قد سأل علياً «عليه السلام» عن المقصود بهذا
الإسم، فلو كان مجهولاً لديه لسأله عن ذلك..
ومعرفة سعد القرظ
باسمه
ليس بأولى من معرفة سائر الناس من أهل بلده وغيرهم به..
كما أن من غير الطبيعي أن يبقى اسم هذا الرجل مجهولاً
للناس كلهم طيلة خمسة وثلاثين عاماً، وهم يعيشون معه، وليسوا معزولين
عنه.. فلماذا لم يخطر على بال أي منهم أن يسأل عن إسم هذا الرجل
المجهول؟!
الرابع:
إن الإمام «عليه السلام» إذا كان حاضراً بنفسه، فإنه هو الذي يتولى
صلاة الجمعة والعيدين، ولا يتقدم عليه أحد إلا على سبيل التعدي. فلذلك
نلاحظ أنه «عليه السلام» أوكل أمر الصلاة اليومية لشخص، وتولى هو بنفسه
ما يعود الأمر فيه للإمام حال حضوره، ولم يكله إلى أحد..
وهذه إشارة منه «عليه السلام» لمن يريد التوثب على أمر
الخلافة بغير حق، بأن عليه أن يعرف حده، فيقف عنده..
الخامس:
إن الروايتين المتقدمتين تتعارضان حول صلاة أبي دجانة
أو سهل
بن حنيف
بالناس،
ابتداء من أول ذي الحجة.
ولا يندفع التعارض بالقول: بأن أحدهما صلى بعض الأيام،
وصلى الآخر بعضها الآخر، لأن التعارض يبقى قائماً فيما يرتبط بأول أيام
ذي الحجة على الأقل..
إلا إن كان احدهما قد صلى الظهرين، والآخر قد صلى الصبح
والعشاءين ولكنه جمع لا شاهد له..
إلا إذا قلنا:
إن أحدهما صلى المغرب والعشاء.
4-
علي
في لحظة قتل عثمان:
وقد قال مروان لسعد بن أبي وقاص:
«إن كنت تريد أن تذب عنه (أي عن عثمان) فعليك بابن أبي طالب، فإنه
متستر، وهو لا يجبه».
فخرج سعد، حتى أتى علياً وهو بين
القبر والمنبر، فقال:
يا أبا الحسن، قم فداك أبي وأمي، جئتك
ـ والله ـ بخير ما جاء به أحد قط إلى أحد: تصل رحم ابن
عمك، وتأخذ بالفضل عليه، وتحقن دمه، ويرجع الأمر على ما نحب، قد أعطى
خليفتك من نفسه الرضا.
فقال علي «عليه السلام»:
تقبل الله منه يا أبا إسحاق. والله ما زلت أذب عنه حتى أني لاستحيي.
ولكن مروان، ومعاوية، وعبدالله بن عامر، وسعيد بن العاص هم صنعوا به ما
ترى؛ فإذا نصحته، وأمرته أن ينحيهم استغشني حتى جاء
ما ترى.
قال:
فبينما هم كذلك، جاء محمد بن أبي بكر فسارَّ علياً، فأخذ علي بيدي.
ونهض علي وهو يقول: «وأي خير توبته هذه»؟!
فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة:
«إن عثمان قد قتل إلخ..»([4]).
ونقول:
1 ـ
قد يقال: إن هذا لا ينسجم مع ما ذكره بعضهم من أنه
«عليه السلام» لم يكن في المدينة حين حصر عثمان، ولا شهد قتله([5]).
2 ـ
إن اعتراف مروان بمكانة أمير المؤمنين «عليه السلام»،
يؤكد بغيه علىه حين خرج عليه في حرب الجمل.
3 ـ
إن علياً «عليه السلام» بيّن لسعد: أنه قام بواجبه على
أتم وجه، واستنفد ما عنده. فلا معنى لترغيبه بمعونته بهذه الصورة،
وكأنه يريد أن يتحف علياً بأمر لا عهد له به..
4 ـ
إن إحالة الأمر على معاوية وابن عامر، ومروان، وسعيد
يعني: أن الأمر لا يحسمه قول عثمان، لأن قراره ليس بيده، بل بيد غيره.
5 ـ
إنه «عليه السلام» قد أفهم سعداً أن الوساطة لا تجدي،
بل ستكون عواقبها سيئة، فإنه «عليه السلام» إذا نصحه، وأمره أن ينحي
هؤلاء ـ يعني معاوية، ومروان، وسعيد، وابن عامر ـ عنه، فإنه يستغشه.
6 ـ
وقوله: حتى جاء ما ترى، يشير إلى أن الأمر تفاقم إلى حد
لم يعد لهم فيه حيلة، فقد فات الأوان، وظهر أن علياً «عليه السلام» كان
محقاً في موقفه، فقد جاء الخبر بقتل عثمان في تلك اللحظة.
وهنا جاء السؤال:
وأي خير توبته هذه!
عن قيس بن عباد البصري، قال:
شهدت علياً «عليه السلام» يوم الجمل يقول كذا: اللهم إني أبرأ إليك من
دم عثمان. ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي. وأرادوني على
البيعة، فقلت: والله، إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: ألا أستحي ممن تستحي منه
الملائكة؟! وإني لأستحيي من الله أن أبايع ـ وعثمان قتيل على الأرض، لم
يدفن ـ من بعده.
فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس إلي
فسألوني البيعة، فقلت:
اللهم إني مشفق لما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، فلقد قالوا: يا
أمير المؤمنين، فكأنما صدع قلبي. فقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى([6]).
وفي
لفظ ابن كثير:
فلما قالوا: أمير المؤمنين. كأن صدع قلبي. وأمسكت([7]).
ونقول:
أولاً:
إن من المعلوم: أن لقب أمير المؤمنين خاص بعلي «عليه السلام» حباه الله
ورسوله به.. وقد جمع العلامة ابن طاووس مئات الأحاديث الدالة على هذه
المنحة في كتاب سماه: اليقين، وكتاب آخر، اسمه: التحصين، وقد طبعا
كلاهما..
وكان الناس يخاطبونه «عليه السلام» بهذا الاسم منذئذ.
ثم عدا الآخرون على هذه الفضيلة، وسلبوها منه، وأطلقوها على أنفسهم..
فما معنى تصوير هذه الرواية علياً «عليه السلام»، وكأنه
قد فوجئ حين خوطب بأمير المؤمنين وتحرج، حتى ليصدع قلبه منه؟!..
ثانياً:
هذا الحديث في غاية الضعف بمحمد بن يونس الكديمي، الذي كان يضع الحديث
على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد وضع أكثر من ألف حديث..
ووصفوه بأنه كذاب. فراجع ما قاله فيه أبو داود، والقطان، والشاذكوني،
والقاسم المطرز، والدارقطني، وابن حبان، وابن عدي، وابن صاعد، وعبد
الله بن محمد، والحاكم أبو أحمد، وابن عقدة وغيرهم([8]).
ثالثاً:
لو كان عقل علي «عليه السلام» قد طاش يوم قتل عثمان، وكان متألماً
لقتله، حتى لقد صدع قلبه حين خوطب بكلمة يا امير المؤمنين، فلماذا لا
يسعى في تكفينه وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه؟! بل بقي ثلاثة أيام ملقى
على بعض مزابل المدينة؟!
ولماذا لا يأمرهم بدفنه في مقابر المسلمين؟!
ولماذا لم يذكره بكلمة ثناء؟! ولم يذكر مظلوميته؟! ولم
يحضر إلى قبره؟! ولم يلم قاتليه؟!
رابعاً:
إن كان عثمان عزيزاً إلى هذا الحد، فلماذا لم يسل سيفه ذا الفقار،
ويبادر إلى نصرته، وكان يستغيث به بشعر الممزق:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكــل وإلا
فأدركــنــي ولمــا أمـــــزق
ولا
يصح قولهم:
إن عثمان لم يرض بنصرة علي «عليه السلام»، إذ ـ فضلاً عما ذكرناه آنفاً
ـ لماذا رضي بنصرة معاوية، وعبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، وابن
أبي سرح، وطلب الجنود منهم. ولا يرضى بنصرة علي «عليه السلام»؟!
فإن قيل:
لعله خاف من أن يستفيد علي «عليه السلام» من ذلك لجهة انتقال الخلافة
إليه بعده.
فإنه يقال:
إذا احتفظ عثمان بحياته كخليفة، فباستطاعته أن يتدبر هذا الأمر. كما
فعل عمر في قصة الشورى.. فإنه رتبها بطريقة لا يمكن لغير عثمان أن ينال
هذا الأمر.
خامساً:
قال العلامة الأميني:
«وليته
كان يسكت عنه يوم قام به وقعد، وقال على رؤس الاشهاد:
قام ثالث القوم، نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه،
يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه
عمله، وكبت به بطنته.
وقال في اليوم الثاني من بيعته في
خطبة له:
ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في
بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به
النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله. الخ.
وليته كان لم يجابهه بقوله:
ما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعقلك، وإن مثلك مثل
جمل الظعينة سار حيث يسار به.
وليته كان لم يكتب إلى المصريين
بقوله:
إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه، وذهب بحقه، فضرب الجور
سرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف يستراح إليه، ولا
منكر يتناهى عنه.
وليته كان لم يقل:
ما أحببت قتله ولا كرهته، ولا أمرت به ولا نهيت عنه.
أو كان لم يقل:
ما أمرت ولا نهيت، ولا سرني ولا ساءني.
وليته كان لم يخطب بقوله:
من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع
أن يقول: نصره من هو خير مني.
وليته كان لم ينفر أصحابه إلى قتال طالبي دم عثمان بقوله على صهوة
المنبر:
يا أبناء المهاجرين، انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا. الخ.
وليته لما قال له حبيب وشرحبيل:
أتشهد أن عثمان قتل مظلوماً. كان لم يجب بقوله: لا أقول بذلك.
وليته.. وليته([9])..
سادساً:
بالنسبة لحياء عثمان واستحياء الملائكة منه، فلا ندري ما نقول فيه، فهل
تستحي الملائكة ممن يقول لعمار بن ياسر: يا عاض أير أبيه؟! أو يا ماص
بظر أمه؟!.
وهل تستحي الملائكة ممن يعلن توبته على المنبر، ويعترف
بمخالفاته، ثم بعد ذلك يتراجع عن التوبة، وينقض ما اعترف به، ويدعي: أن
المصريين قد عرفوا أن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً، فرجعوا إلى
بلادهم؟!
وهل تستحي الملائكة ممن يكفِّر صحابة رسول الله «صلى
الله عليه وآله» ويكتب إلى الآفاق يستقدم الجند للبطش بهم وقتلهم،
لمجرد أنهم يطالبونه بالكف عن المخالفات التي يمارسها هو وعماله؟!
سابعاً:
ذكرنا في الجزء الثاني من كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى
الله عليه وآله»: أنهم يزعمون: أن الحديث عن استحياء الملائكة من
عثمان. قد قاله «صلى الله عليه وآله» بمناسبة كشفه «صلى الله عليه
وآله» فخذه أمام أبي بكر وعمر، ثم سترها أمام عثمان..
وقد بينا:
أنها قصة مفتراة جملة وتفصيلاً، فلا يمكن أن يكون علي «عليه السلام» قد
اعتمد عليها في كلامه.
ثامناً:
ما
معنى قوله «عليه السلام»: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى؟ هل أذنب في حق
عثمان؟! أو هل قصّر في مد يد العون له؟! ألم ينصره مرة بعد أخرى، ثم
كان عثمان هو الذي ينكث عهوده. ولا يفي بوعوده؟!
وعدا ذلك، ألم يكن عثمان من المهاجمين لبيت الزهراء
«عليها السلام»؟ ومن غاصبي موقعه ومقامه؟!
تاسعاً:
كيف ينسبون إلى علي «عليه السلام» أنه قد صدع قلبه، واستحيا من أن
يبايعه قتلة عثمان، ثم يقولون:
«تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضلت (أو
ضاعت) النعل، وسقط الرداء، ووطئ الشيخ. ولم يذكر عثمان، ولم يذكر له»([10])..
وذكر الطبري:
أن المصريين قالوا لعثمان ـ حين أنكر أن يكون كتب الكتاب ـ: فالكتاب
كتاب كاتبك؟!
قال:
أجل. ولكنه كتبه بغير إذني.
قالوا:
فالجمل جملك؟!
قال:
أجل، ولكنه أخذ بغير علمي.
قالوا:
ما أنت إلا صادق أو كاذب.
فإن كنت كاذباً، فقد استحققت الخلع. لما أمرت من سفك
دمائنا بغير حقها.
وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك، وخبث
بطانتك؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر
دونه، لضعفه وغفلته إلخ..([11]).
فكيف يصح نسبة هذا الإستدلال إلى علي
«عليه السلام»، والحال أنهم يقولون إنه قد بلغ به «عليه
السلام» الأسف على عثمان إلى الحد الذي يجعله يطلب من الله أن يأخذ
لعثمان منه حتى يرضى..
قالوا:
ثم أمر علي «عليه السلام» بدفن عثمان، فحمل وقد كان مطروحاً على مزبلة
ثلاثة أيام حتى ذهبت الكلاب بفرد رجليه، فقال رجل من المصريين وأمة
(كذا): لا ندفنه إلا في مقابر اليهود!
قال حكيم بن حزام:
كذبت أيها المتكلم! لا يكون ذلك أبداً ما بقي رجل من ولد قصي.
قال:
فحُمل عثمان على باب صغير، قد جازت رجلاه من الباب، وإن رأسه ليتقعقع،
وأتي به إلى حفرته، فتقدم حكيم بن حزام فصلى عليه([12]).
ونقول:
نلاحظ في هذا النص أمرين:
أولهما:
ألم يكن عثمان وبنو أمية في غنى عن هذه المهانة؟! فبعد أن كانت الدنيا
كلها في أيديهم أصبح الرمز والرجل الأول فيهم مطروحاً على مزبلة ثلاثة
أيام.. تنهشه الكلاب، وتذهب بفرد رجله، ثم يدفن في مقبرة اليهود!! مع
أنه يكفي عثمان أن يفي ببعض الوعود التي قطعها على نفسه لعلي «عليه
السلام»، وأعلن التزامه بها على المنبر، لتطفأ النائرة، وتعود الأمور
إلى مجراها الطبيعي، أو شبه الطبيعي.
ثانيهما:
إننا لا ندري كيف نعالج موقف حكيم بن حزام، ونحن نرى:
ألف:
أنه لم يكن لحكيم ذلك الأثر في الدفاع عن عثمان، أو في مساعدته أيام
الحصار.. كما أننا لم نجده بادر إلى رفع عثمان عن المزبلة التي كان
مطروحاً عليها، ولا طرد الكلاب عنه، ولا منعها من نهش جثته حتى ذهبت
بفرد رجله..
ب:
وقد دفن عثمان في حش كوكب ـ مقبرة اليهود بالفعل.. ولم يحرك حكيم بن
حزام ولا غيره من بني أمية ساكناً، ولم يقتل أحد من ولد قصي في سبيل
المنع من ذلك!!
بل هم لم يحضروا لتشييع جنازته، ولا شهدوا دفنه!!
7-
علي
يتدخل لدفن عثمان:
قال الشريف المرتضى «رحمه الله» عن
منع الصحابة من دفن عثمان:
«ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين
«عليه السلام» المنع من دفنه، وأمر أهله بتولي ذلك منه»([13]).
وعن أبي بشير العابدي، قال:
«نبذ عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي، وجبير بن
مطعم بن عدي كلّما علياً في دفنه، وطلبا إليه أن يأذن لأهله في فعل
ذلك، وأذن لهم علي.
فلما سمع الناس بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج
به ناس يسيرٌ من أهله، ومعهم الحسن بن علي «عليه السلام»، وابن الزبير،
وأبو جهم بن حذيفة، بين المغرب والعشاء، وهم يريدون به حائطاً بالمدينة
يقال له: حش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.
فلما خرج به على الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه، فبلغ
ذلك علياً، فأرسل إليهم يعزم عليهم: ليكفُّن عنه، فانطلقوا به حتى دفن
في حش كوكب([14])..
زاد في نص آخر قوله:
وجاء أناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، فأرسل علي «عليه
السلام»، فمنع من رجم سريره. وكف الذين راموا منع الصلاة عليه.
ودفن في حش كوكب، فلما ظهر معاوية على الأمرة، أمر بذلك
الحائط، فهدم وأدخل في البقيع، وأمر الناس فدفنوا موتاهم حول قبره حتى
اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع([15])..
ونقول:
لا بأس بملاحظة ما يلي:
لا شك في أن قريشاً قد تمالأت على إقصاء علي «عليه
السلام»، وعملت على تصغير عظيم منزلته، وقطع رحمه.. ولكن ذلك لم يمنع
علياً «عليه السلام» من الإصرار على معاملتها بالحق، وبما يقتضيه النبل
والكرم، والعفو والصفح عمن يكفر ولا يشكر.
وها هي قريش تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إلى علي «عليه
السلام» لمداواة بعض الجراح التي كانت هي التي أعطت المبررات لإلحاقها
بها.. ولم يكن لعلي «عليه السلام» يد في شيء من ذلك كله..
رغم أنه جرح نشأ من إصرارهم على اغتصاب حقه «عليه
السلام»، ثم من سوء الاستفادة من ذلك الحق الذي اغتصب بالذات..
فوجدت في علي «عليه السلام» الرجل الذي ينأى بنفسه عن
كل ما هو صغير.. وكل ما هو شخصي ليفكر ـ فقط ـ في مصلحة الإسلام
العليا، ويعمل بما يمليه عليه واجبه الشرعي، بكل حرص وصدق واندفاع،
فحاول أن يدفع أي تعد حتى على أعدى أعدائه، وأبغض الخلق إلى الله
وإليه..
1 ـ
وقد دفن عثمان في حش كوكب، وإنما دفنه هناك محبوه بعد ثلاثة أيام من
قتله.. مع أنه لا يجوز دفن المسلم في مقابر غير المسلمين..
ولم نجد أحداً حتى علياً «عليه السلام» اعترض على ذلك،
أو أدانه ولو بكلمة.
ونحسب أن الظروف الصعبة التي واجهوها هي التي دعت
المهتمين بدفن جنازته لهذا التصرف.. كما أن هذا الواقع الأليم وربما
أمور أخرى هو الذي فرض على علي «عليه السلام» وعلى غيره من الصحابة
السكوت، وعدم التدخل في هذا الأمر، ما دامت النفوس ثائرة، والجراح
فائرة..
وقد يستسيغ بعضهم أن يقول:
إنه بعد مضي عدة أيام على دفنه في ذلك الموضع، أصبح «عليه السلام» أمام
محذورين:
أحدهما:
أنه لم يعد بالإمكان الكشف عن الجثة، لأن ذلك يعتبر هتكاً للميت، لا
يرضاه الإسلام..
والثاني:
إبقاؤه في مقابر غير المسلمين، فكان لا بد من الرضا بأقل المحذورين
خطراً وضرراً..
وهذا أمر يحتاج على المزيد من التروي والتقصي لمعرفة
مبرراته، وحيثياته.
2 ـ
إن معاوية حاول أن يتخلص من غائلة دفن عثمان في مقابر اليهود، وفي مكان
كان حُشّاً، فارتكب خطأ فاحشاً بإلحاقه مقبرة اليهود والموضع الذي كان
حشّاً بمقابر المسلمين..
وبذلك يكون قد كرس ما هو خطأ بنظره بخطأ أكبر وأخطر..
لا سيما وأنه صار يفرض على الناس أن يدفنوا موتاهم في موضع يمنع الشارع
من دفن المسلمين فيه من جهتين:
إحداهما:
أنه حشّ.
والأخرى:
أنه مقبرة لليهود..
ولو أنه أبقى الأمر على ما كان عليه لكان أولى، لأن
الأمر يقتصر على إبقاء جثة عثمان في موضع دعت الضرورة إلى دفنها فيه،
ولم يعد بالإمكان تلافي ذلك..
الحشّ:
هو المخرج، أو فقل: الموضع الذي يتخلى فيه الناس، فإن الناس كانوا
يقضون حوائجهم في البساتين.
وحش
كوكب:
بستان بظاهر المدينة خارج البقيع، لرجل اسمه كوكب([16]).
وذكر ابن روزبهان:
أن الصحابة كانوا يخافون من قتلة عثمان، فلذلك لم يحضروا جنازته: «حتى
إن أمير المؤمنين فر منهم، والتجأ إلى حائط من حوائط المدينة، كما هو
مذكور في التواريخ»([17]).
ونقول:
ألف:
لقد خلط ابن روزبهان بين الأمور، فوقع في المحذور، فإن التجاء أمير
المؤمنين
«عليه السلام»
إلى بعض حوائط المدينة إنما هو لأجل أن الناس كانوا يلاحقونه ليبايعوه
بالخلافة، وهو يأبى ذلك عليهم.. وقد بقي الأمر على هذا الحال إلى أن
مضت خمسة أيام من مقتل عثمان..
ولم يكن
«عليه السلام»
يهرب من قتلة عثمان خوفاً منهم..
ب:
إن عثمان قد دفن بعد قتله بثلاثة أيام.. والمفروض: أن لجوء علي
«عليه السلام»
إلى بعض بساتين المدينة قد تجاوز دفن عثمان حتى مضت خمسة أيام من
مقتله.. فهل فر من دفنه خمسة أيام، مع أنه دفن بعد الأيام الثلاثة
الأولى؟!
ج:
إن عثمان لم يدفن إلا بعد أن تدخل علي
«عليه السلام»
لدى الثائرين، فسمحوا حينئذٍ بدفنه.. كما أنهم حين منعوا من الصلاة
عليه تدخل
«عليه السلام»،
فكفوا عن الممانعة.. وحين رجموا جنازاته بالحجارة، تدخل لديهم حتى
امتنعوا من ذلك.
د:
إن غالب الصحابة كانوا من الممالئين على قتل عثمان، وقد كتبوا إلى
العباد في البلاد يدعونهم للجهاد في المدينة، وترك جهاد الكفار.. ولم
يكونوا خائفين من قتلة عثمان..
والحقيقة هي:
أن عدم حضور جنازة عثمان، لم يكن خوفاً من قتلة عثمان، بل كان لقناعة
تكونت لدى عامة الصحابة تقضي بعدم تشييع جنازته، كما قضت بعدم حضور علي
«عليه
السلام»
الذي لولاه لم يسمح الثائرون بدفن عثمان ولا بالصلاة عليه.
([1])
راجع: الكامل في التاريخ ج3 ص187 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص447
و (ط أخرى) ص423 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص146.
([2])
تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 447 و (ط أخرى) ص423 والكامل في
التاريخ لابن الأثير ج3 ص 187 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2
ق1 ص146.
([3])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص447 و (ط أخرى) ص423 والكامل في
التاريخ ج3 ص 187 والعبر وديوان المبتدأ والخبر (ط مؤسسة
الأعلمي) ج2 ق1 ص146 و (ط دار الفكر ـ تحقيق خليل شحادة، سنة
1408هـ 1988م) ج2 ص597.
([4])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص377 و 378 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص410 والغدير ج9 ص141.
([5])
راجع: مجمع الزوائد ج7 ص230 والغدير ج9 ص244.
([6])
راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص95 و 103 والبداية والنهاية ج7 ص193
و (ط دار إحياء التراث) ج7 ص216 ومختصر تاريخ دمشق ج16 ص252
وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص450 رقم 4619 وتاريخ الخلفاء ص152
والغدير ج9 ص313.
([7])
راجع: البداية والنهاية ج7 ص193 و (ط دار إحياء التراث) ج7
ص216 والغدير ج9 ص313.
([8])
راجع: الكامل لابن عدي ج6 ص292 و 294 وتهذيب التهذيب ج9 ص539
والموضوعات لابن الجوزي ج3 ص262 وكتاب المجروحين لابن حبان ج2
ص312 والضعفاء والمتروكين ص351 وتاريخ الإسلام للذهبي ج21 ص302
وفيض القدير ج1 ص696 والجرح والتعديل للرازي ج8 ص122 والبداية
والنهاية (ط دار إحياء الـتراث العربي) ج2 ص126 والغـديـر ج5 =
= ص266 وج9 ص313 وج10 ص101 والوضاعون وأحاديثهم ص285 عن
المصادر التالية: تاريخ بغداد ج3 ص441 وتذكرة الموضوعات ص14
و18 وشذرات الذهب ج2 ص194 وميزان الإعتدال ج3 ص152 واللآلئ
المصنوعة ج2 ص142 و 215 وطبقات الحفاظ ج2 ص175.
([9])
الغدير ج9 ص315 و 316.
([10])
وصفين للمنقري ص65 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص111 والإمامة
والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص78 و (تحقيق الشيري) ج1 ص105
والغدير ج9 ص105.
([11])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص375 و 376 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص408 والغدير ج9 ص183.
([12])
كتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص247 و (ط دار الأضواء) ج2 ص436.
([13])
الشافي في الإمامة ج4 ص306 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص64
وإحقاق الحق (الأصل) ص257 ونهج الحق ج3 ق1 ص187 و (ط دار
الهجرة) ص302.
([14])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص438 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص6
و 7 وج2 ص158 والغدير ج9 ص208 و 93 وراجع: الفتوح لابن أعثم (ط
الهند) ج2 ص242 وعن (الترجمة الفارسية) ص195 و (ط دار الأضواء)
ج2 ص436 وعن الكامل في التاريخ ج3 ص91 وبحار الأنوار ج31 ص307
و 308 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص294 وكتاب الأربعين
للشيرازي ص614 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص371.
([15])
بحار الأنوار ج31 ص167 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص158
والكامل في التاريخ ج3 ص180.
([16])
راجع: صحاح اللغة ج3 ص1001 والنهاية في اللغة لابن الأثير ج1
ص390 وج4 ص290 ولسان العرب ج6 ص286 وتاج العروس ج9 ص91 ومجمع
البحرين ج1 ص518 وراجع: بحار الأنوار ج48 ص298.
([17])
إبطال نهج الباطل (مطبوع مع دلائل الصدق) ج3 ق1 ص189.
|