صفحة :31-52   

الفصل الأول: بعد قتل عثمان.. وقبل البيعة..

إن الأمير بعده علي :

1 ـ وقالوا: إن عمر بن الخطاب كان يناجي رجلاً من الأنصار، من بني حارثة، فقال: من تَحَدَّثُون أنه يستخلف من بعدي؟!

فعد الأنصاري المهاجرين، ولم يذكر علياً.

فقال عمر: فأين أنتم عن علي؟! فوالله، إني لأرى أنه إن ولي شيئاً من أمركم سيحملكم على طريقة الحق([1]).

2 ـ وعن عبد الجليل القيسي قال: ذكر عمر من يستخلف بعده، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، علي.

فقال: أيم الله، لا يستخلفونه، ولئن استخلفتموه أقامكم على الحق وإن كرهتموه([2]).

3 ـ عن حارثة قال: حججت مع عمر، فسمعت حادي عمر يحدو: إن الأمير بعده ابن عفان..

قال: وسمعت الحادي يحدو في إمارة عثمان:

إن الأمــير بـعـــده عــــــلي              وفـي الـزبـير خــلـف  رضـي([3])

ونقول:

1 ـ دلت هذه الأخبار على أن عمر كان يمهد لعثمان..

2 ـ إن عمر بن الخطاب كان يسعى لصد الناس عن علي «عليه السلام»، بتدبير، من شأنه أن يحقق له هذا الغرض، ثم بتخويف الناس منه «عليه السلام» باعتباره رجلاً صعباً لا انعطاف لديه، ولا خيار معه سوى الإستسلام، أو الخصام إلى حد الصدام..

3 ـ إن عمر يطلق كلامه بصورة الواثق من صحة ما يقول، فيقول: لا يستخلفونه. ورأي عمر هذا سيجد الكثيرين لا يتجاوزونه، بل يحرصون على تنفيذه بحرفيته، لا سيما وأنه يتوافق مع ميولهم، ومع نفورهم ممن يسعى لحملهم على ما يكرهونه؟!

4 ـ إن ذلك الحادي لم يكن ليحدو بخلافة عثمان لو لم يكن عمر راضياً بذلك، بل هو الذي أمره بذلك، وقد أثبتت الأيام: أن عمر كان لا يسمح لأحد بتجاوز أمره، فضلاً عن أن يفتئت عليه، من دون رضاه ورأيه.

5 ـ إن عمر ـ كما ظهر من الرواية الأولى ـ كان يحاول أن يعرف ميول الناس، ويسألهم عما يدور في خلواتهم من أحاديث عن الذي يستخلف بعده..

6 ـ لقد أقسم عمر بأنهم لا يستخلفون علياً. فمن هم أولئك الذين لا يفعلون ذلك؟! وإلى من كان يشير عمر؟!

7 ـ لقد بايع الناس علياً «عليه السلام»، حين ترك الخيار لهم، بعد قتل عثمان.. بل لقد أصروا عليه بقبول هذا الأمر إلى حد لم نرَ له مثيلاً..

8 ـ إن عدم ذكر ذلك الأنصاري علياً «عليه السلام» في جملة من يتحدث الناس عن استخلافهم، إنما هو لمعرفته بهوى عمر، وبهوى فريقه من قريش، وأنهم مصممون على إبعاد علي «عليه السلام» في هذه المرة أيضاً، كما أبعدوه في المرتين السابقتين.

9 ـ أما حداء الحادي في إمارة عثمان، فنحن نشك في صحة ما نسب إليه حول علي «عليه السلام»، فان أحداً لا يجرؤ على الحداء أمام عثمان بما يخالف رأيه ورأي بني أمية.

ونحن نعلم: أن إمارة علي «عليه السلام» لا تروق لعثمان ولا لبني أمية.. كما هو ظاهر لا يخفى.

والأمر بالنسبة للزبير أيضاً لا يخرج عن هذا السياق.

طلحة يأمر ببيعة علي :

وحدث إسرائيل عن أصحابه: أن الأحنف بن قيس لقي طلحة والزبير، فقالا له: بايعت علياً وآزرته.

فقال: نعم، ألم تأمراني بذلك؟!

فقالا له: إنما أنت ذباب طمع، وتابع لمن غلب.

فقال: يغفر الله لكما([4]).

ونقول:

1 ـ ما معنى أن يأخذ الزبير على الأحنف بيعة علي «عليه السلام»، ومؤازرته له؟! ألم يكن الزبير قد آزر علياً «عليه السلام»، وامتشق سيفه ليدافع عنه يوم السقيفة، حتى تكاثروا عليه، وأخذوا سيفه منه، وضربوا به الحجر حتى كسروه؟!

2 ـ تقدم: أن الأحنف سأل طلحة ـ بعد أن حوصر عثمان، وأجمعوا على قتله ـ: فإن قتل فإلى من؟!

فقال طلحة: إلى علي بن أبي طالب..

فما معنى أن يعيب طلحة والزبير عمله بما أمراه به إذن؟! وقد صدق ذلك ما حدث به إسرائيل عن أصحابه.. فإن الأحنف واجههما  بأقوالهما. ولم ينكر ذلك.

3 ـ إنهما قد وصفا الأحنف بأنه ذباب طمع، وتابع لمن غلب. وهذا أيضاً من المآخذ عليهما، فإنهما لم يقتلا عثمان إلا بعد أن فرغت يداهما من الحصول على شيء من حطام الدنيا معه، ورجيا بأن يحصلا على شيء من حطام الدنيا بعده. فلما لم يجدا عند علي «عليه السلام» شيئاً من ذلك نكثا بيعته، وخرجا إلى حربه، فكان ما كان.

الأئمة قوام الله وعرفاؤه:

ومن خطبة له «عليه السلام»: قد طلع طالع، ولمع لامع، ولاح لايح، واعتدل مائل، واستبدل الله بقوم قوماً، وبيوم يوماً، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر.

وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.

وإن الله تعالى خصكم بالإسلام واستخلصكم له، وذلك لأنه اسم سلامة، وجماع كرامة. اصطفى الله تعالى منهجه، وبين حججه من ظاهر علم، وباطن حكم. لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه، فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمى حماه، وأرعى مرعاه. فيه شفاء المشتفى، وكفاية المكتفى([5]).

ونقول:

1 ـ قال العلامة المجلسي أعلى الله مقامه: «قيل: هذه خطبة خطب بها «عليه السلام» بعد قتل عثمان، وانتقال الخلافة إليه»([6]).

غير أن الظاهر: أنه «عليه السلام» قد قال هذا الكلام قبل البيعة، وربما حين كان الناس يصرون عليه بقبولها. وقد يشير إلى ذلك قوله «عليه السلام»: «طلع طالع، ولمع لامع، ولاح لايح» الدال على ترقب تغيير في المسار قريب الحدوث. أو لعله قاله حين شروع البيعة.

2 ـ إنه «عليه السلام» قد ركز على أمرين:

الأول: موقع الأئمة «عليهم السلام» ومقامهم.

والثاني: عظمة الإسلام وحقائق الدين، فإنه بالإضافة إلى إشارته إلى ظهور بوادر وصول الخلافة إلى صاحبها الشرعي، واستبدال الله بقوم قوما بعد طول انتظار تضمن ما يلي:

أولاً: تقديم المرجعية الحقيقية والإلهية للناس المتمثلة بالإمام الضامن، والمدير والمدبر والمهيمن على المسيرة وعلى التطبيق والإلتزام العملي، فإنه هو المعتضد بالرعاية والضمانة الإلهية، من خلال موقعه في البناء الإيماني وارتباطه بموقع الإمام والإمامة في البناء الإعتقادي للإنسان المسلم. فبين لنا:

ألف: أن الأئمة هم قوام الله على خلقه، يقومون بمصالحهم، ويدبرون شؤونهم، ويوجهونهم إلى ما يسعدهم.

ب: وعرفاؤه على عباده. وقد جعلهم الله تعالى في هذا المقام، لأن مهمة العريف هي التعرف على حاجات الناس وأحوالهم، وما يجري لمن هم تحت نظره، ويرفع أمرهم إلى من نصبه في موقعه هذا.

فهذا النصب الإلهي للأئمة في هذا الموقع يشير إلى أنه تعالى يريد أن يكون لهؤلاء العرفاء أثر في تلبية حاجات الناس، وفي حل مشاكلهم، ولو على مستوى توسيط الناس لهم عند الله تعالى. وهذا يعمق ارتباط الناس بهم، والسعي للالتزام مما يدعونهم للالتزام به من أحكام وآداب وطاعات.

ج: إن الأئمة ليسوا مجرد حكام ومربين، وهداة ومعلمين للناس في الدنيا.. كما أنهم ليسوا مجرد شفعاء ووسطاء في الآخرة.

بل هم نقطة الإرتكاز في مصير هذا الإنسان في الدنيا، لأن أمور الناس بيدهم، ولا يصل إليهم شيء إلا من خلالهم.. وفي الآخرة أيضاً من حيث إنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.

ثانياً: لقد قدم «عليه السلام» المنهج الشامل، والدقيق والعميق، والمستوعب لكل قضايا الحياة بجميع حالاتها، وبسائر مجالاتها، المتمثل بدين الإسلام الحنيف الذي يضمن السلامة، كما أنه يحفظ ويرفد الكرامة.

3 ـ ثم ذكر «عليه السلام»:

ألف: أن هذا الدين لا يرضاه الله إلا لمن امتحن قلبه للإيمان، وذلك هو ما أشار إليه «عليه السلام» بقوله: «خصكم بالإسلام، واستخلصكم له». أي أن تخصيصكم به إنما نتج عن هذا الاستخلاص لكم، لأن هذا الاستخلاص أي طلب الخلوص إعداداً لتقبله والتمازج والتفاعل معه بوسائله المحققة له، هو الذي هيأ لذلك التخصيص به..

ب: إنه «عليه السلام» ذكر أن هذا التخصيص الناشئ عن ذلك الاستخلاص لم يكن اقتراحاً، بل كانت له موجباته، وهي:

أولاً: إن الإسلام اسم سلامة، فهو يحتاج إلى هذا الاستخلاص الذي يترتب عليه ذلك التخصيص.

ثانياً: إنه جماع كرامة، فلا يستحقه إلا أهل الكرامة، والطهارة، والنبل، ودليل هذين الأمرين:

ألف: قوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً([7]). فإن الله لا يرضى لعباده إلا السلامة والكرامة.

وقال تعالى أيضاً: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ([8]).

ب: إنه تعالى قد بين حججه، وهي صريحة في جامعية دينه لهذه الخصوصية..

4 ـ وقد دلنا كلامه «عليه السلام» هنا على أن المناهج التي تعالج قضايا الإنسان، لا بد أن يكون الله تعالى هو الواضع لها، لأنه تعالى هو الخالق المطلع على الحقائق. والعالم بما يصلح هذا الإنسان ويبلغه إلى مقاصده والغايات من خلقه.

5 ـ وعلى أن النهج لا يفرض ولا يتعامل معه بغباء ولا ببَّغائية، بل لا بد من تأصيله في عقل ووجدان المطالبين بالالتزام به بالدليل والحجة، ولذلك قال «عليه السلام»: «اصطفى الله تعالى منهجه، وبين حججه».

6 ـ ثم بين أن هذا الدليل والحجة لا بد أن يكون ظاهراً وميسوراً للناس، لا بالإحالة على المصطلحات الغائمة، والإيغال في الإبهامات والتعقيدات.

وذكر أن هذه الحجة تندرج تحت عنوانين:

أحدهما: ظاهر علم.

والآخر: باطن حكمة..

فالتعبير بكلمة «ظاهر» بالنسبة للعلم يشير إلى أن هذا العلم ميسور للناس، من حيث أنهم يملكون الطرق إليه.. ويمكن لكل أحد أن يناله.. عادلاً أم فاسقاً، بل مسلماً أو غير مسلم..

والتعبير بكلمة «باطن» بالنسبة للحكمة ربما للإشارة إلى أن الحكمة هي أسرار وخفايا، تؤخذ من خالق الكون والحياة، بتعليم من أنبيائه وأوصيائه، لأن الحكمة هي واقع نظامي اقتضته حقائق التكوين وأهدافه. وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.

7 ـ وبديهي أن ما اقتضت الحكمة بيانه من بواطن الحكمة، وما تيسر الوصول إليه من العلوم، من خلال الوسائل المتوفرة، هو أقل القليل. ولا بد أن تكتشف البشرية المزيد، تبعاً لما أحرزته من تقدم في العلوم.. كما أن الإمام المعصوم لا بد أن يبين من أسرار الحكمة كلما تفرض المصلحة والحكمة بيانه للناس، بملاحظة ما يستجد من حاجات.

وهذا ما أشار إليه «عليه السلام» بقوله: «لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه».

والظاهر: أنه «عليه السلام» يقصد غرائب ما سيكشفه العلم من أمور جديدة وغريبة، وغير مألوفة، ولا معروفة..

ويقصد بالعجائب: ما يبينه المعصوم من أسرار الحكمة، حيث تبدو للناس، كعجائب لا يدركون ـ في الغالب ـ لها تفسيراً ولا تبريراً..

8 ـ ثم ذكر «عليه السلام»: أن هذا الإسلام يتكفل بأمرين أساسيين، لا يمكن للحياة أن تستقر أو أن تستمر بدونهما، وهما:

الأول: إن فيه مرابيع النعم. والمرابيع هي الأمطار التي تجيء في أول الربيع، فتكون سبباً في ظهور الربيع، وفي حياة الأشجار، وفي تكوُّن الثمار، وبدون هذه المرابيع لا نبات، ولا حياة، ولا ثمار.

وإنما عبر بالمرابيع هنا لأن الإسلام يحمل معه الوسائل التي تجعل الإنسان قادراً على الإستفادة من آثارها، بمقدار ما يختار أن يقوم به من جهد في توظيف تلك المرابيع. أي أن الإسلام لا يحدد لك قدراً محدوداً من النعم بنحو يجعل لك الخيار في زيادته وفي نقيصته، بل يحمل لك وسائل الحصول على ما تشاء، ويقول لك: أنت تختار أن تحصل على النعم، وتختار أن لا تحصل، وأن تحدد المقدار الذي تريده منها. فإن المرابيع تعطيك ما يصلح لك الأرض كلها، ويهيؤها للعطاء..

الثاني: إن الإنسان يدخل على هذا العالم، ويبدأ هو باكتشافه، ويجد أن فيه الحلو والمر، والخير والشر، والحسن والقبيح، والضار والنافع، ويجد الواضحات والمبهمات، ويواجه الأنوار والظلمات، فيصير بحاجة إلى الدلالة والهداية، لأنه يحتاج في الظلمة إلى نور، وفي الشبهة إلى التبصر، والإسلام هو الذي يعطيه هذا النور.

وهذا ما قصده «عليه السلام» بقوله: «فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه إلخ..».

ونحن نكتفي بهذا المقدار، ونعتذر عن متابعة شرح سائر الفقرات..

تفضيل علي على المسلمين:

قال الإسكافي: «لما اجتمعت الصحابة بعد قتل عثمان في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أمر الإمامة أشار أبو الهيثم بن التيهان، ورفاعة بن رفاعة، ومالك بن العجلان، وأبو أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر بعلي «عليه السلام»، وذكروا فضله وسابقته، وجهاده، وقرابته.

فأجابهم الناس.

فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي «عليه السلام»، فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة، ومنهم من فضله على المسلمين كافة ([9]).

بايعوا أفضلهم:

عن عوف، قال: كنت عند الحسن، فقال له أبو جوشن الغطفاني: ما أزرى بأبي موسى إلا اتباعه علياً.

قال: فغضب الحسن، ثم قال: ومن يتبع؟! قتل عثمان مظلوماً؛ فعمدوا إلى أفضلهم فبايعوه، فجاء معاوية باغياً ظالماً، فإذا لم يتبع أبو موسى علياً فمن يتبع؟!([10]).

ونقول:

أولاً: بالنسبة لقول الحسن: قتل عثمان مظلوما. نلاحظ: أنه لا ينسجم مع الخطبة الشقشقية لأمير المؤمنين «عليه السلام» حيث قال عن عثمان: «كبت به بطنته، وأجهز عليه عمله».

وقوله «عليه السلام»: «استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع».

ثانياً: لقد بلغ حقد أبي جوشن الغطفاني على علي «عليه السلام» مبلغاً حتى صار يرى اتباع علي «عليه السلام» منقصةً يفترض التنزه عنها..

ولا نريد أن نذكّر القارئ الكريم بفضل ومقام علي «عليه السلام»، فإن الحسن البصري قد أجاب أبا جوشن بما أسكته وأفحمه، حين قرر له أن علياً «عليه السلام» كان أفضل الناس، وقد بايعه الناس لأنه أفضلهم، وأن معاوية كان باغياً وطاغياً.. ولو وجد أبو جوشن مناصاً وخلاصاً من هذا لبادر إليه.

ولعله كان يرى أن الحسن منحرف عن علي «عليه السلام»، فأطلق تلك الكلمة الخبيثة، ففاجأه الحسن بما يخالف توقعاته..

ذلك لأهل بدر:

عن سعيد بن المسيب، قال: لما قتل عثمان جاء الناس إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، حتى دخلوا داره، فقالوا: نبايعك، فمد يدك، فلا بد للناس من أمير.

فقال: ليس ذلك إليكم وإنما ذلك لأهل بدر، فمن رضوا به فهو خليفة.

فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً «عليه السلام»، وقالوا: ما نرى أحداً أحق بها منك، فمد يدك نبايعك.

فقال: أين طلحة والزبير، فكان أول من بايعه طلحة([11]).

وعند ابن الدمشقي الباعوني، بعدما ذكر ما تقدم: أنه «عليه السلام» قال: أين طلحة والزبير وسعد؟!

فأقبلوا إليه وبايعوه، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ولم يتخلف عنه أحد([12]).

ونقول:

لا بأس بالتوقف عند الأمور التالية:

1 ـ قوله «عليه السلام»: ذلك لأهل بدر: قد استبعد به المبادرة من يد العامة، إذ لولا ذلك لتخيلوا: أن الرفع والوضع بيدهم، وأن ذلك يخولهم الحصول على امتيازات وحقوق ليست لهم.

وربما ظن بعضهم: أن على علي «عليه السلام»: أن يكون السامع المطيع لما يطلبه الناس، وأن يخضع لأهوائهم وإراداتهم وقراراتهم، مهما كانت خاطئة، وعشوائية، أو متأثرة بالمصالح الشخصية، وبالعصبيات غير المشروعة..

2 ـ إن حصر الأمر في أهل بدر يحجب عن الطلقاء وأبنائهم فرصة التوثب على هذا الأمر، ويمنع من تأثيرهم السلبي فيه، ويحد من نفوذهم.. وهو بذلك يكون قد حفظ لأهل السابقة حقهم في منع من دونهم من التقدم عليهم وأدب الناس بحفظ هذه الحقوق وعدم تجاوزها..

وهو بذلك يكون قد حفظ لأهل السابقة حقهم في منع من دونهم من التقدم عليهم، وأدب الناس بحفظ هذه الحقوق وعدم تجاوزها.

3 ـ إن المتوقع أن يكون أهل بدر الذين حضر أكثرهم سائر المشاهد، أقرب إلى الغيرة على هذا الدين، وأكثر حرصاً على صيانته من الحوادث والأخطار، لأن المفروض: أن الكثيرين منهم قد بذلوا من أجل هذا الدين جهداً، وربما قدموا تضحيات، وصار لهم تاريخ مجيد في حركته ومسيرته، وأصبح عزيزاً عليهم، ويصعب على الكثيرين منهم التفريط به، لأنهم يرون أنهم يفرطون بكراماتهم، وبمجدهم، وتاريخهم..

ولعل هذا وما سبقه هو السبب في حصر الأمر في أهل بدر.

وحين يجتمع أهل بدر على أمر، فمعنى ذلك: أن أهل الدين وأهل السابقة والفضل قد اجتمعوا عليه.

وهذا يبعد أجواء التكاثر والتباهي، والإحتجاج بالأرقام والأعداد، فإن أهل الأطماع، وطلاب اللبانات هم الأكثر في كثيرٍ من الأحيان.

4 ـ واللافت هنا: أن أهل بدر لم يكتفوا بالمبادرة إلى بيعته، بل هم قد سجلوا اعترافاً قبل البيعة بأنهم لا يجدون أحق بالخلافة منه، ثم بايعوه على أساس هذا الإعتراف..

5 ـ صرحت الرواية بأن طلحة كان أول من بايعه.

6 ـ وصرحت أيضاً ببيعة سعد بن أبي وقاص له أيضاً..

7 ـ وكان التصريح الأقوى والأوفى والأتم هو أن المهاجرين والأنصار قد بايعوه «ولم يتخلف عنه أحد».

8 ـ إنه «عليه السلام» قد حدد بموقفه هذا ضابطة يمكن الرجوع إليها في الحالات المشابهة، تبين أن أهل الحل والعقد لا بد أن يكون لهم سوابق في التضحية والجهاد، وتاريخ مشهود في الإستقامة على طريق الحق. ولا تكفي الوجاهة والزعامة، التي قد يكون لكثرة العشيرة، أو لوفرة المال، أو لغير ذلك أثر في صنعها، مع عدم وجود مقومات حقيقية لها..

الزبير أعلن خلافة علي :

قال ابن قتيبة: وذكروا: أنه لما كان في الصباح (بعد قتل عثمان) اجتمع الناس في المسجد، وكثر الندم والتأسف على عثمان، وسقط في أيديهم، وأكثر الناس على طلحة والزبير، واتهموهما بقتل عثمان، فقال الناس لهما:

أيها الرجلان، قد وقعتما في أمر عثمان، فخليا عن أنفسكما.

فقام طلحة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أيها الناس، إنَّا والله ما نقول اليوم إلا ما قلناه أمس، إن عثمان خلط الذنب بالتوبة، حتى كرهنا ولايته، وكرهنا أن نقتله، وسرَّنا أن نُكفاه، وقد كثر فيه اللجاج، وأمره إلى الله».

ثم قام الزبير، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أيها الناس، إن الله قد رضى لكم الشورى، فأذهب بها الهوى، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه.

وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه: إن أمره إلى الله، وقد أحدث أحداثاً، والله وليه فيما كان».

فقام الناس، فأتوا علياً في داره، فقالوا: نبايعك([13]).

ونقول:

ربما أراد هذا النص أن يخلط الوقائع بالأباطيل، لحاجات في النفس يعرفها من اطلع على حقائق الأمور، فلاحظ الأمور التالية:

1 ـ إن التأسف على عثمان بالنحو الذي تصوره الرواية لا معنى له، بعد كل هذا الإصرار الذي أظهره المهاجرون والأنصار على قتله، وبعد حصاره الذي استمر شهرين أو أكثر.

كما أن التأسف والندم على قتل عثمان مباشرة، وفي اليوم الثاني بالذات، لا يتلاءم مع إلقائهم جثته على المزابل طيلة ثلاثة أيام، ومع منعهم من دفنه في مقابر المسلمين، ومنعهم من الصلاة عليه.

ولو صح أنهم تأسفوا عليه، لكانوا أو بعض منهم شيعوا جنازته.. فكيف لم يشارك أحد في ذلك سوى أربعة؟! وكيف يمنعون من دفنه، حتى أمرهم علي «عليه السلام» بالتخلي عن هذه الممانعة، فلم يمكنهم مخالفته؟!

وكيف يتلاءم ذلك مع إعلان عشرين ألفاً مسربلين بالحديد أنهم هم قتلة عثمان؟! كما أنهم في مورد آخر سألهم أمير المؤمنين عن قتلته، فقام الناس كلهم، إلا نفر يسير ـ وقالوا: كلنا قتله.

ولعل المقصود: أنهم حين لم يرض علي «عليه السلام» أن يبايعوه بالخلافة أشفقوا من انتشار الأمر، وانفلات الزمام، ومن أن تحدث أمور بينهم وبين عمال عثمان في مصر والشام والعراق. ولا يكون لهم قائد يجمعهم، ويقود مسيرتهم، ويحفظ حوزتهم. ولذلك يقول النص: وسقط في أيديهم.

2 ـ هذا النص يشير إلى أن طلحة والزبير قدما أنفسهما لتولي الأمر، ولعل ذلك بعد رفض علي «عليه السلام» قبول ذلك. فرد عليهما الناس بالقول: فخليا عن أنفسكما، لأنكما باشرتما قتل عثمان، الأمر الذي سيتخذه معاوية، وابن أبي سرح، وابن عامر، وسواهم ذريعة للخلاف، ورفض البيعة، وظهور الشقاق.

فحاول طلحة ان يخفف من وطأة ذلك، وأن يتكلم بكلام يجعله مقبولاً حتى لدى الحزب الأموي.. فلم ينفع ذلك..

3 ـ وأدرك الزبير أن الناس لن يرضوا بغير أمير المؤمنين «عليه السلام»، فعاد ليؤكد على التزام جانب علي «عليه السلام».. فادعى أنه من أهل الشورى، وادعى أنه تشاور مع نظرائه في هذا الأمر، وأنهم اختاروا علياً «عليه السلام».

4 ـ غير أن الغريب في الأمر هنا قول الزبير: إن الله قد اختار للناس الشورى، وهذا غير صحيح، فإن عمر هو الذي اختارها، والله سبحانه قد أسقطها. لأنه تعالى قرر أن الخلافة والإمامة بعد النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي.. ولم يكل الأمر إلى الشورى ولا رضيها لهم.

5 ـ قول الزبير: إن الله تعالى قد اذهب الهوى بالشورى، غير صحيح أيضاً، فقد قال علي «عليه السلام» في خطبته المعروفة بالشقشقية: «فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن»([14]).

علي أمير المؤمنين حقاً:

عن أبي راشد: انتهت بيعة علي إلى حذيفة، وهو في مدائن، فبايعه بيمينه وبشماله، ثم قال:

لا أبايع بعده لأحد من قريش ما بعده إلا أشعر أو أبتر.

وحسب نص الحاكم: «قال: لا أبايع بعده إلا أصعر أو أبتر»([15]).

قال أحمد بن إبراهيم: إن حذيفة قال: من أراد أن يلقى أمير المؤمنين حقاً فليأت علياً([16]).

ونقول:

نلاحظ هنا ما يلي:

1 ـ إننا لم نعهد في تاريخ الخلافة بعد الرسول: أن يبايع الأشخاص بمفردهم لخليفة غائب، تفصله عنهم مئات الأميال؛ بمصافحة إحدى اليدين للأخرى. وإن كنا لا نرفض ذلك لو نقل عن غير علي، بنحو يمكن السكون والركون إليه.

2 ـ ربما تكون العبارة التي نقلها الحاكم عن حذيفة أقرب وأصوب، فقد دلت على أن من يتصدى من قريش لهذا الأمر غير علي «عليه السلام»، إما مستكبر مصعِّر خدَّه للناس، أو أبتر، وهو المنقطع من الخير أثره([17]).

وأما النص الآخر فمفاده: أنه يرفض البيعة لأحد من قريش بعد أمير المؤمنين «عليه السلام». وسبب رفضه هذا هو أن من سيتصدى هو إما أشعر (ولعل الصحيح أصعر) أو أبتر.

ولعله يريد الإخبار عما تلقاه من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أو عن علي «عليه السلام» من أخبارٍ عما سيكون. أو أنه يخبر عن المنافقين الذين عرَّفه النبي «صلى الله عليه وآله» بهم، وذكر له أسماءهم فهو يقول: إن الطامحين لهذا الأمر بعد علي «عليه السلام» هم من هؤلاء، أو هو على الأقل يريد الإخبار عن معرفته بهم.

3 ـ أما قوله: من أراد أن يلقى أمير المؤمنين حقاً إلخ.. فلعله تعريض بمن سبق علياً «عليه السلام»، فإنه ليس أمير المؤمنين حقاً، لأن هذا اللقب قد اختص الله ورسوله به علياً «عليه السلام»، دون كل أحد. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.


([1]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص214.

([2]) المصدر السابق.

([3]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص214 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص187 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص932 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص474.

([4]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص208.

([5]) نهج البلاغة الخطبة (بشرح عبده) ج2 ص39 ـ 41 وبحار الأنوار ج32 ص39 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج1 ص312 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص152 وأعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي ص64.

([6]) بحار الأنوار ج32 ص39.

([7]) الآية 3 من سورة المائدة.

([8]) الآية 7 من سورة الحجرات.

([9]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص36 والمعيار والموازنة ص51 وبحار الأنوار ج32 ص16 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص6 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص665.

([10]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص215.

([11]) كشف الغمة للأربلي (ط سنة 1426هـ) ج1 ص150 و (ط دار الأضواء سنة 1405هـ) ج1 ص77 والمناقب للخوارزمي ص49.

([12]) جواهر المطالب لابن الدمشقي الباعوني الشافعي ج1 ص294 وج2 ص5 وعن العقد الفريد ج3 ص311  وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج39 ص419.

([13]) الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص46 و 47 و (تحقيق الشيري) ج1 ص65.

([14]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص35 (الخطبة رقم 3) ومناقب آل أبي طالب ج2 ص49 والصراط المستقيم ج3 ص43 والأربعين للشيرازي ص168.

([15]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص216 والمستدرك للحاكم ج3 ص115.

([16]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص216.

([17]) المختار من صحاح اللغة ص30.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان