صفحة : 175-206  

 الفصل السادس: مشورة المغيرة في أمر العمال..

علي .. وعمال عثمان:

بالنسبة لنصب علي «عليه السلام» عماله على البلاد نقول:

1 ـ قال ابن واضح: عزل علي عمال عثمان عن البلدان خلا أبي موسى الأشعري، كلمه فيه الأشتر فأقره([1]).

2 ـ اجتمع الناس عليه جميعاً، فقالوا له: اكتب يا أمير المؤمنين إلى من خالفك بولايته ثم اعزله، فقال: المكر، والخديعة، والغدر في النار([2]).

مشورة المغيرة:

1 ـ عن سحيم: لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، بلغه أن معاوية قد توقف عن إظهار البيعة له، وقال: إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان بايعته.

فكتب إليه كتاباً يستقدمه فيه إلى المدينة، وبعد فراغه من كتابه([3])، فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن معاوية من قد عرفت، وقد ولَّاه الشام من قد كان قبلك، فوله أنت كيما تتسق عرى الأمور، ثم اعزله إن بدا لك.

[وفي نص آخر: إن أردت أن يستقيم لك الأمر، فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة، والزبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية بعهده على الشام] ([4]).

[وفي نص آخر: فابعث إليه بعهده، وألزمه طاعتك]([5]).

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟!

قال: لا.

قال: لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً([6])، لكن أبعث إليه، وأدعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى حاكمته إلى الله.

فولى المغيرة وهو يقول: فحاكمه إذن، وأنشأ يقول:

نصحت علياً في ابن حرب نصيحةً             فـرد فـما منـي لـه الـدهـر ثـانـيـه
وقـلـت لـه: أوجـز عـليـه  بعهده                وبـالأمـر حـتـى يسـتـقر معـاويه
وتعـلـم أهـل الشـام أن قد  ملكته                وأن أذنـه صـارت لأمـرك  واعـيه
فـتـحـكـم فـيـه مـا تـريـد  فـإنـه          لـداهـيـــة فـارفـق به أي داهـيـه
ولم يقبل النصح الـذي جئـتـه بــه              وكانت لـه تلـك النصيحة كافـيـه
وقالـوا لـه ما أخلص النصح  كله               فـقـلـت له إن النصيحـة  غاليه
(
[7])

ثم هرب المغيرة إلى مكة، وكان يقول: نصحت علياً فلما لم يقبل غششته([8]).

وقد أجاب العلامة الأوردبادي بقوله:

أتـيـت إمـام المسلـمـين بـغــــدرة               فلم تلف نفساً منه للغدر صاغـيـه
وأسمعته إدامن القــول لم يصـــخ              لـه إذ رأى مـنـه الخـيــانـة بـاديـه
رغـبـت إليــه في ابن هنـد ولايــة               أبى الـديـن إلا أن تـرى عنـه نائيه
أيـؤتمـن الغاوي على إمرة الهـدى؟            تـعـاد عـلى الـديـن المـعـرة ثـانـيه
ويرعى القطيع الذئب والذئب كاسر            ويـأمـن مـنـه في الأويـقـة عاديه؟
وهـل سمعت أذناك قـل لي هنيهة               بـزوبـعـة هـبـت فلم تعد سافيه؟
وهل يأمن الأفعـى السليم سويعة               ومـن شـدقهـا قتالة السم جاريه؟
فـيـوم ابن هنـد ليـس إلا كدهـره                 فصفقـتـه كانـت من الخـير خاليه
ولـلـشـر منـه والمـزنــم جـــروه                ووالـده شـيـخ الفـجـور زبـانيـه
مـتـى كان للتقوى علوج أمـيـة؟                ولـلـغي مـنـهـم كـل بـاغ وباغيه
وللزور والفحشـاء منهم زبـائـن                وللـجـور منهـم كـل دهياء داهيه
هـم أرهـجـوهـا فـتـنـة جاهليـة          إذ انـتـهـزوا للـشر أجـواء صافيه
فماذا على حلف التقى وهـو لا يرى            يـراوغ في أمـر الخـلافـة طـاغـيه؟
وشـتـان في الإسـلام هــذا وهـذه                فـديـن (عـلي) غـير دنـيـا معاويه
أتـنـقـم مـنـه إن شـرعــة (أحمـد)              تجـذ يـمـيـنـاً لابن سفيان عاديه؟
وتحـسـب أن قـد فاته الرأي عنـده              كأنـك قـد أبصرت ما عنـه خافيه
ولولا التقى ألفيت صـنو (محمـد)               لـتـدبـير أمـر المـلـك أكـبر  داهيه
عـرفنـاك يا أزنى ثقيف ووغدهـا                عـليـك بيوميـك الشنـار سواسيه
وإنـك في الإسـلام مـثـلـك قبلـه          وأم جـمـيـل للخـزايـة راويـه
([9])

2 ـ عن ابن عباس قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج، فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟

فقال: قال لي قبل مرته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر، وإلى معاوية، وإلى عمال عثمان بعهودهم، تقرهم على أعمالهم، ويبايعون لك الناس، فإنهم يهدئون البلاد، ويسكنون الناس.

فأبيت ذلك يومئذٍ عليه وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا وليت هؤلاء ولا مثلهم يولى([10]).

قال: ثم انصرف من عندي، وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ، ثم عاد إلي الآن فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك، وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك رأياً، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت، فتنزعهم، وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكةً مما كان.

قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشك.

قال له علي: ولم نصحني؟!

قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك.

فقال علي: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها.

وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان فوالله لا أولي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. [وتمثَّل:

ومـا مـيـتـة إن مـتـهـا غـير عاجز              بعـار إذا مـا غالت النفس غولها].

قال ابن عباس: فأطعني، وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك ـ والله ـ لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك دم عثمان غداً.

فأبى علي، فقال لابن عباس: سر إلى الشام فقد وليتكها.

فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي.

فقال له علي: ولم؟

قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنِّه وعِده.

فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبداً([11]).

3 ـ وفي نص آخر للطبري: أن المغيرة قال لعلي «عليه السلام»:

وإني أشير عليك برد عمال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك، واطمأن الأمر لك، عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت.

فقلت: والله لا أدهِن [أو لا أداهِن] في ديني، ولا أعطي الدني في أمري.

قال: فإن كنت قد أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإن لمعاوية جرأة، وهو في أهل الشأم يسمع منه، ولك حجة في إثباته، كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها.

فقلت: لا والله، لا أستعمل معاوية يومين أبداً.

فخرج من عندي على ما أشار به، ثم عاد فقال لي: إني أشرت عليك بما أشرت به، فأبيت علي، ثم نظرت في الأمر فإذا أنت مصيب، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون في أمرك دلسة.

قال: فقال ابن عباس: فقلت لعلي: أما أول ما أشار به عليك فقد نصحك، وأما الآخر فغشك. وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله.

قال علي: لا والله، لا أعطيه إلا السيف.

قال: ثم تمثل بهذا البيت:

[و] مـا مـيـتـة إن متهـا غـير عاجز            بعـار إذا مـا غالـت النفـس غولها

فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بأرب بالحرب، أما سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: الحرب خدعة؟!

فقال علي: بلى.

فقال ابن عباس: أما والله، لئن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور، لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك، ولا إثم لك.

فقال: يا ابن عباس، لست من هنيَّاتك وهنيَّات معاوية في شيء، تشير علي وأرى، فإذا عصيتك فأطعني.

قال: فقلت: أفعل. إن أيسر ما لك عندي الطاعة([12]).

4 ـ وقال أبو مخنف وغيره: قال المغيرة بن شعبة [لعلي]: أرى أن تقر معاوية على الشام وتثبت ولايته، وتولي طلحة والزبير المصرين [كي] يستقيم لك الناس.

فقال عبد الله بن العباس: إن الكوفة والبصرة عين المال وإن وليتهما إياهما لم آمن أن يضيقا عليك، وإن وليت معاوية الشام لم تنفعك ولايته.

فقال المغيرة: لا أرى لك أن تنزع ملك معاوية، فإنه الآن يتهمكم [كذا] بقتل ابن عمه، وإن عزلته قاتلك، فولِّه وأطعني.

فأبى، وقبل قول ابن عباس([13]).

5 ـ وذكر نص آخر: أن المغيرة سمع بأن طلحة والزبير طلبا من علي «عليه السلام» أن يوليهما البصرة والكوفة، فبادر إلى علي «عليه السلام»، ونصحه بما ذكر([14]).

6 ـ وعن المدائني ـ في ذكر مجلس حضر فيه ابن عباس ومعاوية ـ فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على عليٍّ بالنصيحة فآثر رأيه، ومضى على غلوائه، فكانت العاقبة عليه لا له، وإني لأحسب أن خَلَفَهُ يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس: كان والله أمير المؤمنين «عليه السلام» أعلم بوجوه الرأي، ومعاقد الحزم، وتصريف الأمور، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه، وعنف عليه، قال سبحانه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ..([15])، ولقد وقفك على ذكر مبين، وآية متلوة، قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً([16]).

وهل كان يسوغ له أن يحكِّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين، من ليس بمأمون عنده، ولا موثوق في نفسه؟!

هيهات، هيهات! هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية، ولات حين تقية!

مع وضوح الحق، وثبوت الجنان، وكثرة الأنصار، يمضي كالسيف المسلط في أمر الله، مؤثراً لطاعة ربه، والتقوي على آراء الدنيا([17]).

ونقول:

هنا أمور يحسن التوقف عندها، نذكر منها ما يلي:

عزل أبي موسى:

1 ـ كان من الضروري أن يعرف أبو موسى أن علياً «عليه السلام» لا يرضى سلوكه، وأنه يفكر بالاستغناء عنه.. فلا يظنن أن موقعه من الخليفة الثاني والثالث يجعل له حصانة لدى علي «عليه السلام». فحسابات علي «عليه السلام»، تنطلق من تكليفه الشرعي، ولا يصده عنها إلا بلورة تكليف آخر من خلال المستجدات المؤثرة في ذلك..

فأظهر «عليه السلام» عزمه على عزل أبي موسى، وعرف الناس أن هذا الرجل ليس بنظر علي أهلاً للموقع الذي هو فيه.

ليكون ذلك هو الركيزة التي تقوم عليها وساطة الأشتر.

 وساطة الأشتر:

إن تدخل الأشتر جاء ليضيف عنصراً جديداً يسمح بإبقاء أبي موسى، ويحقق الأمور التالية:

1 ـ إن علياً «عليه السلام» بمقتضى آية التطهير وغيرها، لا يمكن أن يحمل في نفسه غلاً على أحد، بل هو في مواقفه يتبع ما يمليه عليه واجبه الشرعي في حفظ مصالح الأمة. وهو لا يمكن أن يحمل في نفسه عقدة من أحد تمنعه من تغيير قراره فيه..

2 ـ إذا بقي أبو موسى في موقفه، فعليه أن يعلم، وقد أفهمه ذلك نفس هذا الموقف فعلاً، بأنه هو الذي يتحمل مسؤولية تصرفاته، وعليه أن ينتظر الحساب والعتاب، بل والعقاب إن استحق ذلك.

3 ـ إن وساطة الأشتر لأبي موسى وقبول علي «عليه السلام» لها لا تعني أن علياً «عليه السلام» يتعامل بالوساطات والمحسوبيات، ويضحي بالمصلحة العامة في سبيل نيل رضا هذا الشخص أو ذاك، إذ لا أحد يجهل أن علياً لا تأخذه في الله لومة لائم.. وأن الأشتر نفسه لم يكن له مصلحة خاصة مع أبي موسى، تدعوه لمثل هذه الوساطة، بل كانا في اتجاهين متخالفين، وأن وساطة الأشتر قد انطلقت من اهتمامه بالمصلحة العامة فقط لا غير.. لأن إبقاء أبي موسى كان يحتاج إلى هذه الوساطة، ليعرف هذا الرجل حده فيقف عنده، فلا تأخذه الأوهام، ولا يستطيل ظله عند اقتراب الشمس من مغيبها..

فظهر أن هناك مصلحة في إعلان العزم على العزل، ومصلحة في إبقائه بعد هذا الإعلان  من خلال الوساطة التي يقوم بها من لا ينسجم مع أبي موسى..

4 ـ لقد كان في إبقاء أبي موسى الذي كان يتظاهر بالقداسة والتدين مصلحة أخرى، وهي أن تظهر بعد ذلك حقيقة مواقفه السلبية من أمير المؤمنين، ويرى الناس الذين غرَّهم سمته وظاهره تخذيله عن بيعته، ثم عن نصرته، وجده واجتهاده في منع الناس من الخروج معه لحرب أعدائه. فتزول بذلك الغشاوة عن أعين الناس، وتظهر مظلوميته «عليه السلام» في قضية التحكيم، حين يفرض عليه الذين كانوا معه أن يجعل عدوه هذا حكماً من قبله، ليتفق مع عدوه الآخر ـ وهو عمرو بن العاص ـ على خلعه، ومخالفة حكم القرآن فيه..

المكر والخديعة والغدر في النار:

وتقدم قوله «عليه السلام» حين طالبوه بإبقاء عمال عثمان ثم عزلهم: المكر والخديعة، والغدر في النار.

ونقول:

روي أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال ذات يوم وهو يخطب على منبر الكوفة:

«والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس. ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة. ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.

والله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة»([18]).

وقال «عليه السلام»: «قد يرى الحُّوَّل القُلَّب وجه الحيلة، ودونها حاجز من تقوى الله، فيدعها رأي العين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»([19]).

قال الجزري: «الحُّوَّل: ذو التصرف والاحتيال في الأمور. والقُلَّب: الرجل العارف بالأمور، الذي قد ركب الصعب والذلول، وقلبها ظهراً لبطن. وكان محتالاً في أموره، حسن التقلب»([20]).

إن هذه الكلمات أوضحت أنه «عليه السلام» كان يعرف وجوه المكر والاحتيال، كما كان يعرف بخفايا مكر معاوية، وألاعيبه. ولكن دينه كان يمنعه من ممارسة شيء من ذلك، رغم أنه يرى رأي العين أن الأمر في متناول يده، ولكنه يتركه ترفعاً، وورعاً، وابتغاء مرضاة الله سبحانه..

وذلك لأنه يعلم: أن ممارسة أنواع المكر، وإن كانت قد تجلب بعض المنافع الدنيوية، ولكنها ليس فقط لا تصلح أساساً لبناء الحياة وفق ما يريده هو ولا ما يريده الله أيضاً، وإنما هي من موجبات وضع المعوقات والموانع في طريق بنائها. لأن الباطل إذا أصبح هو الأساس للتعامل بين الناس، فذلك يعني: أن يقتنص الناس الفرص للاستيلاء على حقوق الغير، ومصادرة أدوارهم لصالح أشخاص آخرين يستفيدون منها هم أيضاً لأنفسهم كأشخاص، فتتلاشى وتضمحل، ولا يفرجون عن شيء منها لسواهم..

وحتى لو تمكن أصحاب الحق من استنقاذ شيء منها، أو أرادوا أن يغيروا على حقوق الآخرين ويوظفوها في أحد المجالات في الشأن العام، سواء كانت دائرته أوسع أو أضيق، فإنهم لا يملكون ضمانات بقائها، ولا يمكنهم حفظها من إغارة أهل الباطل عليها، بعد أن رضوا بأن يكون الباطل والعدوان هو أساس التعامل في هذه الحياة..

ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى الخطة الإلهية والالتزام بها في كل مفردات التعامل ومجالاته، ليمكن للحق أن يتشبث بالوجود، وليمكن ـ من ثم ـ الحفاظ عليه، وصيانته من عبث وعدوان أهل الباطل..

وهذا يفسر لنا قوله «عليه السلام»: إن المكر والخديعة والغدر في النار، لأن الغدر والخديعة حين ينال قضايا الدين، فإنه يبطل الأطروحة الإلهية، ويسلبها فرص الوجود والبقاء.. وحتى لو وجدت، فإن أبواب العدوان عليها والانتقاص منها تبقى مشرعة في كل زمان ومكان.

 فما مني له الدهر ثانية:

وقد توهم البعض: أن قول المغيرة في شعره: «فرد فما مني له الدهر ثانية» توهم أن كلمة «مني»: معناها القدر. مناه الله يمينه: قدره([21]).

ونقول:

لقد اشتبه عليه الأمر في قراءة كلمة «مني»، فإن الكلمة هنا حرف جر، وضمير المتكلم ـ وهو الياء ـ في محل جرٍ بها..

والمعنى: أن علياً «عليه السلام» قد رد نصيحتي، وأنني سوف لا أنصحه مثلها مرة ثانية. أي أنني لن أعطيه نصيحة ثانية مدى الدهر..

أيهما أهم؟!:

وهنا سؤال هام يقول: إنه «عليه السلام» رفض عرض إبقاء معاوية على الشام لمدة وجيزة، ثم يعزله رغم تصريحه «عليه السلام» بأن هذا الإجراء يجعل عزل معاوية أمراً ميسوراً، ويسد الباب أمام إعلانه التمرد، وإثارة الشبهات في أمر عثمان، وتتضاءل الفرص أمام تجييش الجيوش لحربه «عليه السلام» في صفين، التي يقال: إنه قد قتل فيها سبعون ألفاً، منهم خمسة وعشرون ألفاً من جيش علي «عليه السلام»، وهي الحرب التي انتهت بالتحكيم، وظهور الخوارج، وحروب النهروان..

بل إن انضمام معاوية إليه سوف يصعب على طلحة والزبير المضي حتى النهاية في مشروع الحرب التي أثاروها أيضاً..

ومن الطبيعي القول: إن هذه الحروب الطاحنة قد نتج عنها مآسٍ كبيرة، وتمزقات هائلة، وأزمات ونكبات لم يكن عمرها قصيراً، ولا كان أثرها ضئيلاً وصغيراً، بل كان عميقاً وخطيراً، وممتداً ومنتشراً وكبيرا..

فلماذا يرفض إبقاء معاوية ولو ليلة واحدة سوداء مظلمة؟! ولماذا يتقبل ويرضى بكل هذا العناء والبلاء أن يحيق بالأمة الإسلامية؟!

وفي سياق آخر نقول:

لو أنه «عليه السلام» فضل الأشراف في العطاء، وأعطى الرؤساء بعض المال، وميزهم على من سواهم لم يصل الأمر إلى حرب الجمل التي قتل فيها الألوف من المسلمين.

فلو عرض هذا الأمر على أي إنسان وقيل له: إنك إذا أبقيت فلاناً على ولايته بضعة أشهر أو أعطيت هؤلاء العشرة أشخاص أو المئة شخص مثلاً شيئاً من المال، فإنك ستحقن دم سبعين ألف مسلم ـ فهل يتردد أحد بقبول إبقاء ذلك الشخص في موقعه ليس شهراً بل دهراً، وبإعطاء عشرات ومئات الألوف من الدراهم، عوضاً عن المئة والمائتين، والألف والألفين، والعشرة؟!

فلماذا لم يطبق «عليه السلام» هنا قاعدة تقديم الأهم، وهو حقن دماء المسلمين، وحفظ وحدتهم على المهم، وهو تولية فلان من الناس على بعض الأمصار لفترة من الوقت، أو إعطاء الرئيس الفلاني حفنة من المال..

والجواب:

تقدم: أن الإمام علياً «عليه السلام» كان بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» نقطة الإرتكاز في أمور الدين والشريعة، والمحور الأهم، ومحط نظر الجميع في علمه، ومواقفه، وسياساته، وكل ما يصدر منه وعنه..

وقلنا: إن الفترة التي تبدأ من استشهاد الرسول «صلى الله عليه وآله» وتنتهي بسنة استشهاد الإمام الحسين «عليه السلام» تعتبر فترة التأسيس للإسلام في حقائقه، ومفاهيمه، وسياساته، وشرائعه بمعنى أن الناس الذين لم يروا نبيهم، ويريدون أن يأخذوا دينهم وأحكامهم عنه، يتوجهون بادئ ذي بدء إلى أقرب الذين رأوه وعاشوا معه «صلى الله عليه وآله»، ويفضلون الأخذ من أقرب الناس إليه، وأعرفهم بما جاء به، وهم أهل بيته، وأصحابه الآخذون عنه، المستنون بسنته، ثم من كل من رآه وسمع منه.

ومن الواضح: أن أكثر الصحابة قد عاش ومات في هذه الخمسين سنة التي تلت استشهاده «صلى الله عليه وآله»..

ومن المعلوم: أنه قد كانت هناك سياسات تحدثنا عنها في الجزء الأول من كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» وفي كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن «عليه السلام» تهدف إلى التعتيم على كثير مما جرى في عهده، أو صدر منه «صلى الله عليه وآله» ومنها سياسة منع الرواية عنه، ومنع كتابة الحديث، وإحراق ما كتبه الصحابة، ومنع السؤال عن معاني القرآن، وحبس كبار الصحابة في المدينة، ومنعهم من الانتشار في البلدان ومنع الفتوى إلا للأمراء..

ثم إفساح المجال أمام القصاصين، وأمام علماء أهل الكتاب ليحتلوا المساجد وينشروا في الناس ترهاتهم، ويروجوا لأباطيلهم.

إلى سياسات أخرى، لا مجال للإحاطة بها الآن.

وعلي «عليه السلام» هو باب مدينة علم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد أقر له كبار الصحابة بالتميز عن سائر الناس بالعلم، والفقه، والشجاعة، وبسائر الصفات المثلى والفضلى.. والخلفاء أنفسهم قد اعترفوا له بذلك، ولم يزالوا يرجعون إليه ليحل لهم المعضلات، ويكشف الغوامض والمبهمات، وما أكثر ما قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر. وقال: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، ونحو ذلك..

وقد زان الله به الخلافة، وأصبح مشمولاً لقرارهم القاضي بجعل الفتوى خاصة بالأمراء.. وعلي «عليه السلام» أيضاً هو الوصي والإمام المنصوص عليه من الله ورسوله، وقد أخذت له البيعة يوم الغدير. و.. و.. إلخ..!!

وذلك كله وسواه يفرض عليه التصدي لبيان أحكام الله، والتعريف بحقائق الدين. لكي تأتي الأجيال بعد ذلك، فتجد بين يديها الحق فتميزه عن الباطل الذي أنتجته الأهواء، والعصبيات العمياء، أو الذي تسرّب إليهم من بقايا الجاهلية الجهلاء..

وقد تحتاج لعرض هذا وذاك على القرآن، وعلى العقل، وعلى السنّة النبوية الثابتة بالقطع واليقين.. فتأخذ ما ثبت أنه حق وصدق، وتدع ما عداه مما هو زخرف وباطل.

ولو أن علياً «عليه السلام» لم يفعل ذلك لم يجد الناس أمامهم إلا لوناً ونهجاً واحداً.. وليس للنهج الآخر عين ولا أثر.

فاتضح أن ما يفعله علي «عليه السلام» وما يقوله لا بد أن يفهم على أساس أنه هو شرع الله، ودينه، فإن قبوله «عليه السلام» بتولي أمثال معاوية، وعبد الله بن عامر والوليد بن عقبة، بعد أن ظهرت منهم القبائح؛ وانكشفت سوءاتهم، وعرف القريب والبعيد بعظائم جرائمهم وموبقاتهم، إن توليتهم تفهم ـ أو على الأقل، قد يفهم الكثيرون منها ـ أن ولاية من يرتكب الموبقات جائزة في الدين الحنيف، لاسيما وأن أكثر الناس قد لا يعرفون بأن توليتهم كانت لضرورة عارضة، وأنها من قبيل أكل الميتة للمضطر إليها لحفظ نفسه من التلف.

وبعبارة أخرى: لو كان الحكم في هذه المسالة واضحاً للناس كل الناس، ولا يشك أحد في أن تولية أمثال هؤلاء محرمة، وأن ذلك من البديهيات، ويعرف الجميع أيضاً: أن ما يحصل من ذلك لا يمكن إلا أن تكون الضرورة هي التي فرضته، وهي ضرورة لا تصل إلى حد تضييع الإسلام وقتل الكثير من المسلمين..

لو كان الأمر كذلك، لأمكن لعلي «عليه السلام» أن يبقي معاوية، وأضرابه إلى حين زوال الضرورة.. ولكن الأمر لم يكن كذلك. بل كانت توليتهم من موجبات الخطأ في فهم حكم الله تعالى، وتكريس هذا الخطأ في الناس.. بنحو يوجب اختلاط الموازين والمعايير وتضييع الدين.

وكمثال على ذلك نقول:

إن التشكيك بأصل تشريع الصلاة أعظم وأخطر من جريمة ترك الصلاة التي يعلم الناس بوجوبها، فقد تثير حرباً شعواء يقتل فيها المئات والألوف لإزالة الشبهة، ومنع ذلك التشكيك.

ولكنك لا تثير الحرب، ولا تسفك الدماء لأن فلاناً من الناس عصى الله، وترك الصلاة التي لم يشك بوجوبها أحد..

ومثال آخر: إننا نجد علياً «عليه السلام» بعد استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» والعدوان عليه باستلاب حقه، قد اتخذ مواقف سلبية من الغاصبين. فلو لم يتخذ تلك المواقف السلبية، وبقي يتعامل معهم بالمجاملات والبسمات لشك الناس في أن يكون له حق قد اغتصب، ولصدقوا ما أشاعه الغاصبون، من انه كان للنبي فيه ذرو من قول، لا يثبت حقاً.. أو صدقوا شائعاتهم التي تقول: إنه هو الذي تنازل عن حقه، وانصرف عنه، أو نحو ذلك..

ولكنه حين اتخذ منهم تلك المواقف السلبية، وظهر للناس أنهم معتدون عليه، حتى لقد هاجموه في بيته، وضربوا زوجته، وأسقطوا جنينها، حتى ماتت وهي واجدة عليهما..

نعم.. بعد أن ظهر ذلك، وتأكد وترسخ في الناس وبعد إصرار علي «عليه السلام» على مواصلة ذكر اغتصابهم حقه، أصبح بإمكانه أن يتعامل معهم، لأن الناس صاروا يدركون أنه يتعامل مع معتدٍ عليه، وغاصب لحقه.. ويعرفون أن دافعه لهذا التعامل هو حفظ ما يمكن حفظه من هذا الدين..

والأمر فيما يرتبط بولاية معاوية وسائر ولاة عثمان من هذا القبيل، فإنه لم يكن الحكم الشرعي في ذلك قد اتضح للناس.

فلو أبقاهم لتوهم الناس أنهم أهل للولاية، أو أن الشرع يسمح بتولية هذا النوع من الناس، وان العاهات والنقائص في الدين وفي السلوك التي يعاني منها هؤلاء لا تمنع ولا تسقط حقهم في الولاية..

وهذا ـ ولا شك ـ تدليس في الدين، يعرض أحكامه للضياع أو للشبهة، التي سوف تتداولها الأجيال إلى يوم القيامة، ولا يرضى علي «عليه السلام» بذلك مهما كانت الظروف. ولأجل ذلك رفض مشورة المغيرة وغيره بتولية معاوية، ولو ليلة سوداء.

 الاعتضاد بالمضلين:

وقد استدل «عليه السلام» على المغيرة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً([22]).

وهذا أصل قرآني أصيل، يقضي بالمنع من الاعتضاد بالمضلين.

ولعل السر في ذلك: هو أن ما يريد الأنبياء والأوصياء تحقيقه بحكومتهم، هو إيصال الناس وكل شيء هم مسؤلون عنه إلى كماله.

أما المضلون فيسعون إلى تضييع الناس وسائر المخلوقات وتضليلهم عن الطريق، و ـ من ثم ـ عن الهدف الذي يسعون إليه، فالاعتضاد بهم لإيصال الناس وغيرهم إلى الكمال سينتهي إلى عكس ما يتوخاه من هذا الاعتضاد، أي سينتهي إلى الضياع والتيه والضلال.

وهذا يفسر لنا قول علي «عليه السلام» لابن عباس: «ولا وليت هؤلاء، ولا مثلهم يولى».

ابن عباس ونصيحة المغيرة:

وقد تقدم: أن ابن عباس قال لعلي «عليه السلام»: إن المغيرة نصحه في المرة الأولى، وغشه في الثانية.

فقال علي «عليه السلام»: ولم نصحني؟!

فقال: إلخ..

ونلاحظ ما يلي:

1 ـ إنه «عليه السلام» حين سأل ابن عباس عن سبب غشه ونصحه، لم يكن جاهلاً بمضمون ما قاله ابن عباس.. وقد دل على ذلك بقوله: إنه لا يشك في أن ذلك خير في عاجل الدنيا.

2 ـ إنه أراد أن يسمع ذلك من ابن عباس، ليعرِّفه الخطأ الذي وقع فيه..

3 ـ إنه «عليه السلام» قال لابن عباس: إن الواجب عليه هو عزل أولئك العمال، لأجل لزوم الحق ولمعرفته بهم.

والمراد بلزوم الحق له، هو لزوم إحقاقه وتثبيته، وعدم التفريط به.

ولو أخذ بنصيحة المغيرة، وابن عباس لم يتحقق حفظ الحق، لأنه سيبقى ملتبساً، ولن يجد الناس سبيلاً إليه.

4 ـ إن ابن عباس قد بين صحة رأي علي «عليه السلام» في مجلس معاوية، وأصرَّ على أن رأي المغيرة يتضمن الإقدام على ما نهى الله تعالى عنه واستدل بآية الاعتضاد بالمضلين، وبآية موادّة من حادَّ الله ورسوله، وبأنه لا يجوز أن يحكم في دماء الناس وفيئهم من ليس بمأمون وموثوق.

 جرأة ابن عباس!!:

أما ما ذكرته الرواية من جرأة لابن عباس على أمير المؤمنين «عليه السلام»، وأنه قال له: «فاطعني، وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة، وتضطرب، ولا تجد غيرك».

فهو باطل بلا ريب، فإن ابن عباس لا يتجرأ على أمير المؤمنين بكلام كهذا، وذلك لما يلي:

أولاً: إن ذلك معناه: أن ذلك معناه حل عقد البيعة فيما بينه «عليه السلام» وبين الناس الذين بايعوه. مع مظنة أن يثب على الأمر في هذه الحال طلحة، والزبير، بل ومعاوية، ومروان، أو غير هؤلاء. وذلك يعني إثارة فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله..

ثانياً: من أين علم ابن عباس أن علياً «عليه السلام» لو فعل ما أشار به عليه، سوف لا يتهم بدم عثمان. ولا سيما من قِبَل بني أمية الذين كانوا يكرهونه، ويخشونه، ويحاولون أن يجدوا السبيل عليه؟!

ثالثاً: إن الناس سوف يفقدون ثقتهم بعلي «عليه السلام»، وسيمنعهم ذلك من التفكير بالعودة إليه، حيث لا بد أن تبقى إقالتهم بيعتهم، واعتزاله إياهم، هي الذكرى المرة التي يصعب نسيانها، أو تجاهلها في أي قرار يتخذونه تجاهه «عليه السلام».

رابعاً: ألم يكن ابن عباس يعرف: أن علياً مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي؟! وألم يكن يعرف أنه لا يحتاج إلى رأي ابن عباس وغيره. فإنه باب مدينة علم النبي «صلى الله عليه وآله» إلا إذا فرض: أنه مجرد عالم حافظ، لا يتدبر فيما يحفظه أو يعلمه. وليس علي «عليه السلام» كذلك.

خامساً: أورد الطبري كلام ابن عباس، وفيه: أن علياً «عليه السلام» سأل ابن عباس: ما الرأي؟!

فقال: كان الرأي أن تخرج حين قتل الرجل أو قبل ذلك، فتأتي مكة، فتدخل دارك وتغلق عليك بابك الخ..([23]).

وهذا النص وإن كان لا يرد عليه بعض ما تقدم، ولكنه أيضاً غير سديد، فإن ذلك لا يمنع بني أمية من اتهامه بتدبير قتل عثمان، أو تحريك الناس في الخفاء ضده.

كما أن ذلك مما يسعد طلحة والزبير وسعداً، وسيغتنمون فرصة غيبته وينتزون على أمر الأمة.

وقد عرفنا فيما تقدم: أنهما كانا يتمنيان أن يفعل ذلك ليخلو لهما الجو.

 سر إلى الشام فقد وليتكها:

أما ما ذكرته الرواية من أنه «عليه السلام» قال لابن عباس: سر إلى الشام فقد وليتكها، فهو إن صح، فلا بد أن يفهم على أنه مجرد اختبار لوعي ابن عباس، ولمدى إدراكه وتقييمه للأمور. إذ لم يكن ما ذكره ابن عباس بالذي يخفى على علي «عليه السلام»..

وربما يستفاد من الروايات المتقدمة أن المغيرة قد كرر مشورته لعلي «عليه السلام»، وبذلك يمكن الجمع بين النصوص المختلفة.

 صدق المغيرة في نصيحته مشكوك:

ولا نستطيع أن نعتبر المغيرة صادقاً في كلا نصيحتيه لعلي «عليه السلام»، حيث إنه لم يتحرك لإبداء النصح إلا بعد أن سمع بطلب طلحة والزبير من علي «عليه السلام» أن يوليهما البصرة والكوفة.

فلعله بادر إلى ذلك، لأنه كره نزع ولاة عثمان عن مناصبهم، أو لأنه كره تولية طلحة، أو الزبير، أو هما معاً، أو لغير ذلك من الأسباب..

مشورة المغيرة بتولية طلحة والزبير:

وأما ما ذكره أبو مخنف ـ حسب رواية البلاذري ـ من أن المغيرة أشار على علي «عليه السلام» بتولية طلحة والزبير المصرين ـ البصرة والكوفة ـ وإبقاء معاوية، فربما يكون ذلك لعلمه بأن معاوية سوف يستأثر بالأموال، ولا يرسل لعلي شيئاً، وسيكون ذلك سبباً في مبادرة علي «عليه السلام» لعزله، فلا يرضى معاوية بذلك، وتنجر الأمور إلى الحرب..

فإذا كان طلحة والزبير سوف يستأثران بأموال العراق أيضاً، فإن علياً «عليه السلام» سوف لا يجد ما يحاربهما به، فضلاً عن أن يستطيع محاربة معاوية أيضاً.

وبذلك تتمهد الطريق لأن يفقد خلافته وحكومته قوتها وفعاليتها، وقيمتها وأثرها.. وربما تمكَّن مناوؤوه من إسقاطها أيضاً..

وقد أشار ابن عباس إلى ذلك في رواية أبي مخنف، حيث لم يرض بنصيحة المغيرة هذه.

«لا أداهن في ديني» لا تقنع المغيرة:

وقد ذكر «عليه السلام» للمغيرة أنه لا يرضى بنصيحته، وأن سبب رده لها هو أن هذا يعد مداهنة، أو ادهاناً في الدين، وإعطاء للدنية من أمره..

ولكن المغيرة يتجاهل ذلك، ويعود ليقترح على علي «عليه السلام» أن يبقي معاوية فقط، فهل حسب أن علياً «عليه السلام» يداهن في دينه، ويرضى بالدنية في خصوص معاوية، ولا يفعل ذلك بالنسبة لغير معاوية؟!..

أم أنه استعظم أن يقدم علي «عليه السلام» على مخالفة عمر بن الخطاب ورغباته في شأن معاوية، فإن عمر هو الذي نصب معاوية على الشام، وفوض له التصرف فيها بما يحلو له؟!.

وهل تولية عمر لشخص تسوغ لعلي ارتكاب جريمة المداهنة في الدين، والرضا بالدنية؟! أو أنها تغير الحقائق، وتزيل المداهنة، ولا يعود الرضا بتولية معاوية وأمثاله من مفردات الرضا بالدنية؟!

وما الذي قصده المغيرة بالحجة، حين قال لعلي «عليه السلام»: «ولك الحجة في إتيانه. كان عمر قد ولاه الشام كلها..»؟! هل قصد أن فعل عمر حجة لعلي «عليه السلام» عند الله؟! أم قصد أنه حجة في إزالة صفة الدنية عن الرضا بتولية أمثال هؤلاء؟!

وأما استدلال المغيرة على علي «عليه السلام» على لزوم إبقاء معاوية: بأن «لمعاوية جرأة» فهو غريب. فإن نفس هذه الجرأة هي الدليل على لزوم عزله..

فإن من يتجرأ على الله، ويخرج على إمامه، ويواجهه بالسوء، لمجرد شهوة الحكم والسلطة، يمكن أن يتجرأ على كل القبائح الأخرى، خصوصاً إذا كانت ترتبط بالضعفاء من الناس، الذين لا يخشاهم معاوية، ولا يرقب فيهم إلّا ولا ذمة..

مشورة ابن عباس:

والأغرب من ذلك ما نسبته الرواية المتقدمة برقم2 إلى ابن عباس، من تناقض في الموقف، ومن قلة تدبر وغفلة، حيث ذكرت: أنه حين ذكر له «عليه السلام» مشورة المغيرة بإبقاء معاوية، أعلمه بظهور زيف هذا الرأي، من حيث هو مداهنة أو ادهان في الدين، وإعطاء للدنية، فما معنى أن يتبناه ابن عباس، ويشير به على علي «عليه السلام» مرة ثالثة؟!

وأما تعهد ابن عباس بأنه إن لم يبايع معاوية لعلي «عليه السلام» فسيقلع معاوية من منزله، فهو بلا معنى.. فإنه لو كان قادراً على قلعه لقلعه، بمجرد عدم بيعته لعلي..

فلماذا لم يفعل به ذلك حين رفض البيعة، ولماذا احتاج علي «عليه السلام» إلى حرب صفين؟! ولماذا لم يوفر علينا ابن عباس سبعين ألفاً من القتلى الذين قتلوا في تلك الحرب؟!

ولو صح ما زعموه من استدلال ابن عباس بحديث: الحرب خدعة. فهو أعجب وأغرب، فالمفروض أن علياً «عليه السلام» قد أفهمه أن إبقاء أمثال معاوية في مناصبهم من مفردات المداهنة في الدين وإعطاء الدنية، وليس من مصاديق الخدعة الجائزة في الحرب.. لأن إبقاء هؤلاء من شأنه أن يكرس مفهوماً خاطئاً، وأن ينسب ذلك إلى الدين.. ولا يجوز لعلي ولا لغيره أن يتسبب بذلك، وقد بينا ذلك في ما سبق.

وكأنّ ابن عباس يريد لعلي أن يكون كمعاوية في استعمال أساليب المكر والخديعة والغدر في السياسة، وغيرها.. أو أن المفاهيم اختلطت على ابن عباس، فظن أن مجرد ظن أو احتمال رفض البيعة يجعل الطرف الآخر محارباً، وأن ذلك يجيز معاملته بالمكر والخديعة بكل أنواعها.. والحال أن الأمر ليس كذلك.

الحسن أم ابن عباس:

وقد ذكر أبو عمر ابن عبد البر: أن الإمام الحسن «عليه السلام» ـ وليس ابن عباس ـ هو الذي كان يحاور علياً «عليه السلام»، وأنه قال لأبيه: نصحك المغيرة في الأولى([24]).

وهذا غلط منه:

أولاً: لإجماع النصوص والمصادر على خلافه..

وثانياً: لأن الإمام الحسن «عليه السلام» أجلّ ما أن يجترئ في كلامه على خير خلق الله بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وباب مدينة علمه، ومن هو مع الحق والقرآن، والقرآن والحق معه..

ثالثاً: لأن علياً «عليه السلام» قد أوضح للمغيرة سبب اتخاذه هذا القرار، وهو سبب لا مجال للريب في صحته وصوابيته.. فما معنى أن يدله الإمام الحسن «عليه السلام» على الصواب، ويميزه له عن الخطأ؟!..

مشورتان للمغيرة:

واللافت هنا: أن المغيرة يتبرع لعلي «عليه السلام» بهذه المشورة فلا يقبل علي «عليه السلام» مشورته ونصحه، التي تصلح له الأمور في دنياه، لأنها تفسد له دينه ومروءته، وكذا آخرته..

ولكن أبا بكر وعمر يرسلان إلى المغيرة، ويطلبان منه حيلةً تمكنهما من تكريس استيلائهما على مقام الخلافة، فيشير عليهما بإشراك العباس، فيأخذان بنصيحته، رغم أنها هي الأخرى نصيحة تفيدهما في دنياهما، ولا تصلح لهما آخرتهما، بل تضرهما فيها..


([1]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص179.

([2]) الإختصاص (ط دار المفيد سنة 1414هـ) ص150 وبحار الأنوار ج40 ص105 ومستدرك الوسائل ج9 ص83 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص558.

([3]) هذه الفقرة في الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص356.

([4]) الغدير ج10 ص165 وإحقاق الحق (الأصل) ص262 والإستيعاب ج1 ص251     و (ط دار الجيل) ج4 ص1447 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج18 ص59 عن المصباح المضي في كتاب النبي (ط دائرة المعارف العثمانية في حيدرآباد الدكن) ج1 ص237.

([5]) كتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص446.

([6]) الآية 51 من سورة الكهف.

([7]) الأمالي للطوسي (ط دار الثقافة ـ قم) ص87  وبحار الأنوار ج32 ص386  والغدير ج2 ص74 وتفسير نور الثقلين ج3 ص268 وبشارة المصطفى ص263 و (ط مركز النشر الإسلامي سنة 1420هـ) ص403 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص195 نحوه، وليس فيه الشعر. وراجع: مروج الذهب ج2 ص382 و (ط أخرى) ص414 و (ط ثالثة) ج2 ص16 و 127 والإستيعاب ج4 ص9 /2512 والفتوح لابن أعثم ج2 ص446 و 447 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص356 ـ 358 وصفين للمنقري ص72 والإمامة والسياسة ج1 ص67 والغدير ج10 ص165 و 166 عن الإستيعاب.

([8]) الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص358 والكامل في التاريخ ج3 ص198 و تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص460 والفتنة ووقعة الجمل ص99 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص255.

([9]) الغدير ج6 ص142 و 143.

([10]) وفي الكامل في التاريخ ج3 ص197: «فأبيت عليه ذلك، وقلت: لا أداهن في ديني, ولا أعطي الدنية في أمري».

([11]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص439 و 440 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص460 و 461 وراجع: مروج الذهب ج2 ص364 والكامل في التاريخ ج2 ص306 وج3 ص197 و 198 والبداية والنهاية ج7 ص229 وراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص358 ـ 361 وسير أعلام النبلاء ج3 ص139 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص538.

([12]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص440 و 441 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص461 و 462 وراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص358 والكامل في التاريخ ج3 ص197 و 198.

([13]) أنساب الأشراف للبلاذري (بتحقيق المحمودي) ج2 ص119.

([14]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص438 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص460 و 461.

([15]) الآية 22 من سورة المجادلة.

([16]) الآية 51 من سورة الكهف.

([17]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص301 و 302 وبحار الأنوار ج42 ص170 والدرجات الرفيعة ص121.

([18]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص180 وبحار الأنوار ج33 ص197 وج40 ص193 وج72 ص291 والكافي ج2 ص336 و 338 وشجرة طوبى ج2 ص294 والغدير ج10 ص172 ومستدرك سفينة البحار ج3 ص394 وج7 ص540 والمعيار والموازنة ص166 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص211 وينابيع المودة لذوي القربى ج1 ص454.

([19]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص92 وبحار الأنوار ج97 ص365 و 370 وج34 ص102 وج72 ص97 و 287 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص98 والمزار للشهيد الأول ص123 ومستدرك الوسائل ج11 ص47 والمزار لابن المشهدي ص276 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص162 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص539 والمعيار والموازنة ص96 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص312.

([20]) راجع: بحار الأنوار ج97 ص369 والمزار لابن المشهدي هامش ص276 وراجع: الفايق في غريب الحديث ج1 ص293 وتاريخ مدينة دمشق ج59 ص225.

([21]) راجع: لسان العرب ج15 ص292 والقاموس المحيط ج4 ص391 وتاج العروس ج20 ص198.

([22]) الآية 51 من سورة الكهف.

([23]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص438 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج 3 ص 459 والفتنة ووقعة الجمل ص99.

([24]) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج1 ص390 و 391 و (ط دار الجيل) ج4 ص1447 والغدير ج10 ص166 وإحقاق الحق (الأصل) ص262.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان