بـدايـة:
إن لنا مع نصوص الفصل السابق وقفات كثيرة، إذ لا يكفي
لها فصل واحد. لأنه سيكون فصلاً طويلاً ومملاً ومرهقاً للقارئ الكريم،
فلا مفر من عقد فصلين، نذكر في أحدهما ما يرتبط بما كان في عهد رسول
الله «صلى الله عليه وآله».. ثم نعقبه بفصل آخر نذكر فيه ما يرتبط بما
أشار إليه «عليه السلام» من أمور كانت بعد وفاته «صلى الله عليه وآله»
إلى الوقت الذي جرى فيه هذا الحوار مع ذلك اليهودي..
فأما بالنسبة لما جرى في عهد الرسول «صلى الله عليه
وآله»، فنذكره ضمن ما يلي من عناوين ومطالب، فنقول:
ذكرت الرواية المتقدمة في الفصل
السابق:
أن رأس اليهود هو الذي سأل الإمام «عليه السلام» وسمع
الجواب، وأن رأس اليهود هذا قد أسلم من ساعته، وأنه لم يزل مقيماً حتى
قتل أمير المؤمنين «عليه السلام»..
ولكن هذه الرواية لم تذكر لنا اسم رأس اليهود هذا، ولا
نسبته إلى بلد بعينه.
كما أن هذا الخبر لم يرو لنا بطرق متعددة، وأسانيد
مختلفة، ولم نر اهتماماً بتناقله من قبل الرواة، والمؤرخين، والمؤلفين!
فهل جاء ذلك في سياق السعي لطمس آثاره «عليه السلام»، والتعمية على
أخباره؟! أم ماذا؟!
نقول هذا، لأننا وجدنا هذا النص في غاية المتانة والدقة
في حكايته لما جرى على أمير المؤمنين «عليه السلام»، وما تعرض له من
أذى، وإقصاء متعمد..
كما أنه يظهر:
أن الخلفاء الذين سبقوه قد كان لهم السبب الأوفر في
إلحاق كثير من الأذى به، وما ناله من حيف.. وأنه إنما صبر على ذلك رغم
شدة مرارته، لأنه يريد حفظ الدين، والسلامة للمسلمين..
ولعل هذه الصورة الدقيقة هي التي كره الرواة والمؤرخون
إظهارها.. ولا نريد أن نقول أكثر من هذا.
والحر تكفيه الإشارة..
ولا بأس بملاحظة ما يلي:
1 ـ
عرفنا في بعض الفصول السابقة: أن هناك أموراً وحقائق كانت معروفة لدى
أهل الأديان على اختلافهم، ومنها: أن لكل نبي وصياً، وأن لدى الأوصياء
علوماً خاصة، وحقائق ودقائق، ولطائف ومعارف، ليست لدى سائر الناس، ولا
لسائر الناس سبيل إليها، لأنها لا تعرف إلا بالتوقيف والتعريف والبيان
الإلهي لهم، إما من خلال الأنبياء، أو بطرق أخرى هيأها لهم، وحباهم
الله تعالى بها..
وهذه المعارف الخاصة هي من وسائل وصولنا إليهم، والتعرف
على إمامتهم.
وقد كان أهل الكتاب يفدون إلى النبي «صلى الله عليه
وآله» والأئمة «عليهم السلام» لطرح أسئلتهم الامتحانية، التي كانوا
يعرفون الأنبياء والأوصياء من خلالها، فإذا ظهر لهم من أجوبتهم: أن
عندهم علم الكتاب، لم يجدوا بداً من التسليم لهم، والقبول بهم، وقد قال
تعالى:
﴿قُلْ
كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ﴾([1]).
ودلالة علومهم عليهم كانت هي العلامة الفارقة للأئمة الشيعة عبر
التاريخ، وحين سئل الخليل بن أحمد عن علي «عليه السلام» قال: «حاجة
الكل إليه واستغناؤه عن الكل، دليل على أنه إمام الكل».
ولأجل ذلك نرى:
أن رأس اليهود يريد هنا أن يعرف خصوصية الإمامة والوصية في علي «عليه
السلام» من خلال أسئلته، وأجوبتها التي يتلقاها منه..
ولتكن هذه السنَّة هي الوسيلة الهادية لهم إلى الحق،
والصدق، تضاف إلى وسائل كثيرة أخرى هيأها الله تعالى لعباده رأفة بهم،
ورحمة لهم، وامتناناً وتفضلاً عليهم.
2 ـ
إن رأس اليهود يذكر لنا: أن كتبهم هي التي حددت لهم قواعد وضوابط
وآليات تمكنهم من معرفة الإمام. وأن معرفة الإمام تكون لمن لم يدرك
النبي ولم يره طريقاً يوصلهم إلى معرفة النبوة، ووسيلة من وسائل
إثباتها لهم أيضاً..
3 ـ
تضمن كلام ذلك اليهودي مواصفات وخصوصيات يتميز بها ذلك الوصي، وهي أنه
من أهل بيت النبي المبعوث إلى تلك الأمة التي هو فيها.
والكلام في الرواية قد جاء على سبيل ضرب القاعدة،
وعاماً لجميع الأنبياء، حيث قال رأس اليهود: «إنّا نجد في الكتاب: أن
الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر
أمته..»
([2]).
وهذه الخصوصية لا يرضاها من يصرون على نفي الوصاية
لعلي، بل قد جرهم ذلك إلى نفي أصل الوصية من النبي «صلى الله عليه
وآله» مع أنه هو القائل: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية»([3]).
وقد رضوا بما جرى له «عليه السلام» من غصب الخلافة منه
بعد الرسول «صلى الله عليه وآله»، ولم يرضوا حتى بالسؤال عن مبررات غصب
فدك، والاستيلاء على ما تركه الرسول «صلى الله عليه وآله» وورثوها لمن
شاؤوا من نسائه.. إلى غير ذلك من أحداث جرت في سياق العدوان على أهل
البيت «عليهم السلام»، وحرمانهم من حقوقهم. والتحامل عليهم، ونصرة
مناوئيهم، وتقويتهم عليهم.
4 ـ
وذكر أيضاً خصوصية أخرى، وهي: أنه قد يكون للنبي أوصياء متعددون.
5 ـ
وذكر أيضاً: أن الأمر لا يقتصر على مجرد جعل وصي، بل أضاف إلى ذلك أن
النبي يعهد إلى أوصيائه عهداً، يحتذى عليه، ويعمل به في أمته من بعده.
وهذه الخصوصية لا يدّعيها غاصبوا الخلافة من علي «عليه
السلام» لأنفسهم.
6 ـ
وخصوصية أخرى تكون للأوصياء، وهي: أن الله تعالى يمتحنهم في حياة
الأنبياء ويمتحنهم أيضاً بعد وفاة أولئك الأنبياء.
7 ـ
وبيَّن أن هذا الإمتحان محصور بعدد معين من المرات في حياة الأنبياء
وعدد معين أيضاً بعد وفاتهم أيضاً..
8 ـ
كما أن للأوصياء نهاية ذات خصوصية محددة ومعروفة، وهي أنهم يموتون
قتلاً..
9 ـ
إنه «عليه السلام» قد ذكر أن امتحان الأوصياء في هذه المواطن السبعة في
حياة الأنبياء إنما هو ليبلو صبرهم. فهو امتحان بلاء، لإظهار ملكاتهم
وقدراتهم التي تؤهلهم للمقام الذي يريد أن يمنحهم إياه. وليؤكد قناعة
الناس بهذه الحقيقة من خلال الوقائع رفقاً منه بهم.
10 ـ
ثم إن قوله «عليه السلام»: «فإذا رضي طاعتهم ومحبتهم أمر الأنبياء أن
يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم» قد دل على أن المطلوب هو
النجاح في الامتحان الذي يتجلى بنيل رضا الله تعالى بطاعتهم ومحبتهم.
11 ـ
وقد دلت الفقرة الأخيرة على ما هو المطلوب تحقيقه بذلك الامتحان، وأنه
هو كمال الطاعة، وأقصى غايات المحبة لديهم.
وهذه هي حقيقة العلاقة بين الله تعالى وبين خلقه، فإنها
علاقة ألوهية، وعبودية خالصة لا شرك ولا شريك فيها، ومحبة خالصة ليس
فيها وهن ولا ضعف ولا حب لغير الله تعالى.
12 ـ
أما امتحانهم «عليهم السلام» بعد وفاة الأنبياء، «صلوات الله عليهم»،
فهو لطف منه تعالى بالأوصياء أنفسهم، وتفضل عليهم، وإظهار أهليتهم من
خلال عملهم وجهادهم وجهدهم لتلقي ألطافه تعالى، ونعمه في الآخرة.
وهذا ما دل عليه قوله «عليه
السلام»:
«ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء «عليهم السلام»،
ليبلو صبرهم، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة.
ولقد لفت نظرنا طلب أمير المؤمنين أمام كبار وخيار
أصحابه الخلوة بذلك اليهودي، ليخبره بما امتحن به في حياة النبي «صلى
الله عليه وآله» وبعد وفاته، مصرحاً: بأن قلوب أصحابه لا تحتمل ما يريد
أن يخبر به اليهودي..
فيرد هنا سؤال:
كيف صار قلب اليهودي قادراً على احتمال ذلك، ولم تكن
قلوب أصحابه «عليه السلام» قادرة على الإحتمال؟! وفيهم الخيار والكبار،
وموضع الأسرار؟!
ونجيب:
بأن المطلوب بهذه الحركة هو تعريف الناس، بأن من كانوا
معه «عليه السلام» لم يكونوا كلهم في مستوى واحد، في وعيهم وصبرهم
وتحملهم، بل قد يكون بعضهم معه ممن يبحث عن حطام الدنيا، وزخرفها. أو
من ضعفاء النفوس، الذين لا يضعون الأمور في مواضعها، فيحدث إخبارهم
بهذه الأمور صدمة قوية لهم في مسلمات عندهم كانوا قد بنوا عليها كل
مواقفهم، وأعطوها كل جهدهم، وسيظهر لهم أنها سراب في سراب، وباطل بلا
شبهة ولا ارتياب..
كما أن تعرية أناس كانوا وما زالوا يحسنون الظن بهم،
ويوالونهم ويحبونهم، بل ويعظمونهم إلى حد التقديس، قد يسوق بعضهم إلى
تكذيب علي «عليه السلام» في بياناته لتلك الحقائق، والانقلاب عليها
وعليه، ويجلبون البوار والدمار لأنفسهم ولغيرهم..
والتعريف بهذه الحقيقة، وكشف حال أصحابه هذا كان لازماً
وضرورياً: صيانةً للحق، وحفظاً له من الشبهات والأباطيل التي يلقيها
أهلها، للتضليل، ولتعمية الحقائق على الناس، ولا بد أن تترك سلبيات
كبيرة وخطيرة على الأجيال الآتية بعده..
وقد ظهر بما قلناه:
أنه «عليه السلام» لا يريد بكلامه هذا أمثال عمار، والأشتر..
ويدل على ذلك:
تعليله «عليه السلام» بقوله: «لأمور بدت لي في كثير فيكم»، ثم رضاه
«عليه السلام» بأن يخبرهم جميعاً بتلك الأمور. وصرفه النظر عن الخلوة
باليهودي. فإنه لم ير من أمثال عمار والأشتر إلا التفاني في الطاعة
والإنقياد له، والرضا بكل ما جاءهم وأمرهم به.
ولعله «عليه السلام» قد اعتبر نفس بلاغه هذا كافياً
لتحصين الضعفاء من الوقوع فيما خاف «عليه السلام» أن يقعوا فيه.
وقد ذكرت الرواية قوله «عليه
السلام»:
إنه لم يسلم أحد غيره وغير خديجة مدة ثلاث سنوات..
فقد يقال:
إن هذا يخالف
ما ورد في إسلام جعفر بن أبي طالب، وغيره من الذين أسلموا في بداية
البعثة. بل قالوا: إنه
«صلى الله
عليه وآله»
قد خرج من دار الأرقم بعد ثلاث سنوات من بعثته، وقد تم عدد المسلمين
أربعين رجلاً([4]).
فكيف يمكن تفسير ذلك؟!.
ونجيب:
بأن النصوص تصرح بإعلان إسلام علي «عليه السلام» وخديجة
في أول البعثة، ولم نجد في النصوص التي راجعناها ما يدل على أن أحداً،
جعفراً أو غيره قد أسلم في بداية البعثة، وفي الأيام الأولى منها، سوى
ما ذكروه عن إسلام أبي بكر، وقد قلنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي
الأعظم «صلى الله عليه وآله»: إنه لا يصح أنه قد أسلم بعد عدة سنوات،
وقد ذكر الطبري: أنه أسلم بعد أكثر من خمسين([5])،
بل لعله أسلم بعد عدة سنوات من البعثة.
إذن.. فلا شيء يمنع من أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد
بقي ثلاث سنوات يصلي هو وعلي وخديجة فقط.
واحتمل بعض الأخوة أن يكون جعفر على دين عبد المطلب،
ولكنه لم يظهر إقراره بنبوة النبي محمد «صلى الله عليه وآله» حتى قال
له أبوه، أبو طالب: «صل جناح ابن عمك»، أي لم يعلن، ولم يظهر ذلك حتى
للنبي «صلى الله عليه وآله»، ولا لعلي «عليه السلام». ويكون قول ابي
طالب له: «صل جناح ابن عمك» قرينة على علمه بما يبطن جعفر «عليه
السلام»، والكلام في من علم أو أظهر إسلامه للنبي «صلى الله عليه
وآله»، وصلى معه ولم يكن كذلك إلا علي وخديجة «عليهما السلام».
ولعلك تقول:
ألم يكن أبو طالب مسلماً أيضاً، فلماذا لم يشر إليه
بشيء أيضاً.. بل جاء كلامه نافياً لإسلامه حيث قال: «ما على وجه الأرض
خلق يصلي أو يشهد لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بما آتاه الله غيري
وغير ابنة خويلد»؟!
ويمكن أن يجاب:
بأن أبا طالب كان يكتم إسلامه، مثل مؤمن آل فرعون، وهي
حالة انفرد بها «عليه السلام».
وعلي «عليه السلام» إنما يتحدث عن الذين أعلنوا
بإسلامهم، وبصلاتهم أمام الناس..
وتقول الرواية المتقدمة:
إن إبليس قد تمثل في دار الندوة بصورة أعور ثقيف، وهو المغيرة بن
شعبة..
وقد جاء هذا على خلاف ما ورد في بعض الروايات، من أن
إبليس قد تمثل للمتآمرين بصورة شيخ نجدي([6]).
وأنه إنما تمثل لهم بصورة المغيرة في يوم وفاة رسول الله «صلى الله
عليه وآله»([7]).
ولنا أن نحتمل هنا:
أن يكون الرواة الذين كانوا من أنصار السلطة قد تحاشوا ذكر اسم
المغيرة، لأنه كان من أركانها، وأعوانها. فذكروا وصفاً من شأنه أن يبعد
الشبهة عنه، ولكن علياً «عليه السلام» لم يكن بصدد محاباة أحد. ولا
سيما إذا كان من أمثال المغيرة.
وقد علق بعض الأخوة هنا بقوله:
لهذا التشبيه دلالات، فهو يعبر عن حب المتشبه للمتشبه به، والشيطان لا
يحب أحداً لأجل فضائل ومكرمات، كالتقى، والورع، والسخاء، وسائر الصفات
التي يحبها الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»، ولو كان كذلك لم يخرج من
الجنة، ولم يستحق اللعن، وليس صدفة أن يلتقي حب الشيطان للمغيرة مع حب
بعض الصحابة له. وليس صدفة اتفاقهم على بغض آل بيت النبي «صلى الله
عليه وآله». ومن دلالاته المشاكلة والمشابهة كما يقال: كل شكل إلى شكله
يألف حتى الطيور على أشكالها تقع.
وقد كانت الطريقة المتبعة في الحروب هي إما مبارزة
الأقران، أو الهجوم الشامل. والقيادة هي التي تحدد أسلوب القتال، وقد
تتدخل في تحديد المبارزين، وفق ما تفرضه الحاجة.
وقد أظهر النص المتقدم في الفصل
السابق:
أن علياً
«عليه السلام» لم يكن يقدم ولا يحجم في الحرب إلا بإذن رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وأمره، فهو لم يبارز ابني ربيعة، وابن عتبة إلا بعد
أن أنهضه الرسول «صلى الله عليه وآله»، ولم ينهضه إلا بعد أن لم يبرز
إليهم خلق من قريش، وهم أصحاب الدعاوى العريضة، والطموحات الواسعة
والكبيرة، التي لا مبرر لها. الذين كانوا يقترحون على الرسول «صلى الله
عليه وآله» ما لا مصلحة فيه، أو ما لا مبرر له، فقد طلبوا منه أن يقتل
بعض الناس حين أمنوا من قدرة ذلك الشخص على الانتقام منهم، رغم نهي
الله لهم في صريح كتابه بقوله تعالى:
﴿لَا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ﴾([8]).
وكانوا يتجرؤون على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ويؤذونه في نفسه،
وفي أهل بيته، وفي أصحابه.
وفي حرب الخندق كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو
الذي أنهض علياً «عليه السلام» إلى عمرو بعد أن صمت الجميع جبناً كأن
على رؤوسهم الطير، وأحجموا. وبعد أن ضمن الجنة لكل من يبرز لعمرو
أظهروا الزهد في الجنة غير علي «عليه السلام».. وذلك لا يمنع أن يكون
«عليه السلام» هو الذي أعلن استعداده لملاقاته..
وفي خيبر أيضاً كان «صلى الله عليه وآله» هو الذي أنهض
علياً «عليه السلام» إليهم. بعد أن رجعوا خائبين متخاذلين يجبِّن بعضهم
بعضاً..
وحين أرسل علياً «عليه السلام» لتبليغ سورة براءة إلى
أهل مكة إنما أنهضه بعد تثاقل جميع أصحابه «صلى الله عليه وآله» عن
المضي بها..
وقد أنجز جميع المهمات التي أوكلها إليه على أحسن وجه
وأتمه، وظهر بذلك فضل علي «عليه السلام» على سائر الصحابة..
وعلم القاصي والداني:
أنه «صلى الله عليه وآله» كان قد أعده للملمات والمهمات الكبرى، وهذا
مطابق لما قالته الزهراء «عليها السلام»: «وبعد أن مني ببهم الرجال،
وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب
﴿كُلَّمَا
أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ﴾([9])
أو نجم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه
في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه،
مكدوداً في ذات الله، ومجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيد
أولياء الله، مشمراً ناصحاً، مجداً كادحاً.
وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون، فاكهون، آمنون.
تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، تنكصون عند النزال، وتفرون عند
القتال»([10]).
علي
لا ينسب
قتل الأقران إلى نفسه:
وملاحظة النص المتقدم في الفصل
السابق تعطي:
أنه «عليه السلام» لم ينسب قتل أولئك الأقران إلى نفسه. بل يقول: «فقتل
الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة».
وفي حرب أحد لا ينسب هزيمة المشركين إلى نفسه، بل إلى
الله أيضاً، فيقول: «ثم ضرب الله عز وجل وجوه المشركين».
وفي حرب الخندق يقول «عليه السلام»:
عن عمرو بن عبدود: «فقتله الله عز وجل بيدي».
إلى أن قال أيضاً:
«فهزم الله قريشاً والعرب بذلك».
ولكنه في حرب خيبر ينسب ما جرى إلى نفسه، ويؤكد على أنه
فعل ذلك كله وحده، ثم يذكر: أن الله تعالى أعانه على ذلك، فيقول: «فلم
يبرز إلي أحد منهم إلا قتلته، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته. ثم شددت
عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم وحدي، أقتل من
يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها، حتى أفتتحها وحدي. ولم
يكن لي فيها معاون إلا الله وحده..».
ولعل سبب ذلك:
أنه لا يريد أن يفسح المجال لإثارة الشبهات حول أمر ظهرت فيه دلائل
إمامته، وتجلى فيه فشل الذين ناوؤه، واغتصبوا منه الخلافة بعد رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فإنه لا يحق له أن يفرط في هذه الدلائل،
ولو بإفساح المجال لإثارة الشبهات حولها، لأنها ملك للأمة كلها، وباب
هداية وتوفيق لها..
وقد ظهر من كلامه «عليه السلام»
أيضاً:
أن الخيبريين قد قتلوا جماعة من المسلمين، قبل أن يبرز
إليهم علي «عليه السلام».
وأن الناس قد توسلوا به «عليهم السلام» ليبرز إليهم
ويكفيهم أمرهم قبل إنهاض النبي «صلى الله عليه وآله» له. وذلك يدل على
أنه «عليه السلام» قد أصبح هو الأمل والملاذ للناس في كل شدة وكرب.
وقد صرحت الرواية:
بأن هدف قريش في وقعة الخندق كان قتل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
وبني عبد المطلب، وقد تعاونت وتعاقدت على ذلك.
وذلك يدل:
على أن قريشاً كانت تدرك أن موقع المدينة على طريق قوافلها إلى الشام
لا يسمح لها بالنكاية في أهلها، ولا تستطيع أن تمعن في الانتقام منهم.
ولكنها إذا استطاعت أن تقضي على بني عبد المطلب، وتهدم عزهم بقتل رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فإنها تكون قد حققت غاية ما تتمناه. وبلغت
في انتقامها إلى منتهاه.
ولأجل ذلك، فإن المتوقع هو:
أن تستنفر كل قواها، وتبذل غاية جهدها للتخلص ممن وترها
بأعز رجالها، وأذل عزيزها، ومرغ أنوفها بتراب الذل والخزي والعار،
وسيكون فرسانها أحرص الناس على تحقيق أغلى أمانيهم، وهو قتله «عليه
السلام».
كما أن هذا التعاقد والتعاهد يسهل علينا فهم مواقف قريش
الغادرة والمتآمرة عليه بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وحرصها على إبعاد أمر الخلافة عنه، وإيصال أكبر الأذى إليه..
وهو أيضاً لا يبقي أية شبهة في دقة وصحة ما قرره «عليه
السلام» من أن مناشداته «صلى الله عليه وآله» بالقرابة والرحم كانت
تزيدها عتواً.
ولنا بعد ذلك كله:
أن نفهم أن هذه المناشدات كانت لتعريف الناس بمدى بغيها وطغيانها.. وأن
هذا البغي قد منعها من الإستجابة حتى لنداءات العاطفة، وما تقتضيه
الفطرة، وأقرت به كل الأعراف التي كانت تهيمن على المواقف والقرارات،
وتؤثر في الاندفاع تارة، والإنكفاء أخرى، وفق الحالات، وانسجاماً مع
المقتضيات.
وقد لفت نظرنا قوله «عليه السلام» عن عمرو بن عبدود
«خرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً علي».
فإنه يرد هنا سؤال:
أين كان نساء أهل المدينة من هذه الحرب، وهل حضروا حقاً
ذلك المشهد المثير، ورأوا ما كان يجري في ساحة الحرب؟!
ويمكن أن يجاب بالإيجاب،
فإن الخندق كان حول المدينة، وكان جيش المسلمين عند
الخندق، وكان كثير من النساء يترددن إلى منطقة القتال. ويلتقين
بأبنائهن وأزواجهن. وإن كانت طائفة منهن قد بقين في بعض آطام المدينة،
ولعل شطراً منهن قد بقين في بيوتهن، لأن النبي «صلى الله عليه وآله»
كان قد أوكل مهمة حراسة المدينة إلى سرية خاصة كانت تتجول في أنحائها..
وذكر «عليه السلام»:
أن من سمات الأوصياء الطاعة والمحبة للنبي «صلى الله
عليه وآله» في حياته، والصبر على المكاره بعد وفاته..
والجمع بين الطاعة والحب للنبي «صلى الله عليه وآله» في
حياته ظاهر الوجه، فإن الحب هو الحافز للطاعة وليس الرهبة والخوف، لأن
الخوف يدل على أن الطاعة ليست للآمر، وإنما هي لعصاه، فإذا فقدها، أو
ضعف عن تحريكها واستعمالها، فلا تبقى هناك طاعة، بل قد تتحول إلى تمرد،
وقسوة وارتداد على ذلك الآمر لتصفية الحسابات معه، ورد الصاع صاعين..
أما إذا كان الحافز هو الحب، فإن الطاعة تدوم، ولعلها
تصبح بعد الوفاة أقوى مما كانت عليه في حال الحياة، حيث يضيف الأسى
وألم الفراق، والتوهج العاطفي والحنين حافزاً آخر، يزيد من الإندفاع
نحو حفظ الغايات، وصيانة الأهداف..
وربما احتاج ذلك كله إلى المزيد من الجهد، وتحمل
المصاعب، والصبر على النوائب.
الرسول
عال
النفس والأهل والولد:
وقد قرر «عليه السلام»:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي عال علياً
«عليه السلام» في نفسه، وأهله وولده..
فقد يحلو لمتحذلق أن يقول:
إذا كان علي «عليه السلام» رجلاً كاملاً، وقادراً على
السعي لتحصيل لقمة العيش، فما باله يعلن عن نفسه أنه كان إتكالياً في
معيشته، ومعيشة أهله، وولده؟!
ونجيب:
بأن نظرته «عليه السلام» في موضوع الرزق هي نفس نظرة
القرآن. فهو يرى: أن غناه وغنى أهله، وولده، إنما هو من الله ورسوله،
فقد حكى الله تعالى لنا عن نظرة المنافقين للمؤمنين، فقال:
﴿وَمَا
نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾([11]).
وقال تعالى:
﴿وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا
وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى
اللهِ رَاغِبُونَ﴾([12]).
وقد وصف «عليه السلام» حزنه وبكاءه على رسول الله «صلى
الله عليه وآله» بعد وفاته.. مضمناً كلامه بما دل على أن هذا الحزن
إنما هو لاندماجه التام فيه، وأنسه به، ومحبته له، واعتماده عليه، وما
خصه «صلى الله عليه وآله» به من فواضل، وحباه به من كرم ونائل، فقد
رباه صغيراً، وبوأه كبيراً، وكفاه العيلة وجبره من اليتم، وأغناه عن
الطلب. وأسهم في صنع مزاياه الإنسانية، وأكرمه بمقامات، وكرامات،
ودرجات قادته إلى معالي الحق..
فحقيق أن ينزل به من الأسى والحزن ما لا تنهض به
الجبال.
ثم ذكر ما حل بأهل بيته من الحزن على رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وأنه أذهل عقولهم، وأذهب بصرهم، وأفقدهم القدرة على
التصرف، والتعقل للأمور، فضلاً عن أن يتصدى لمعالجتها..
أما سائر الناس، من غير بني عبد المطلب، فلم يكن لديهم
من الحزن ما يحسن السكوت عليه. وهم على قسمين:
1 ـ
قسم منهم يكتفون بتعزية بني عبد المطلب، ويأمرونهم بالصبر والتحمل..
2 ـ
وقسم آخر يحزن لحزن بني عبد المطلب، ويبكي لبكائهم، وليس أكثر من ذلك.
أما أمير المؤمنين الذي كان أعظم الناس حزناً وألماً،
وأسىً وجزعاً، فكان الرجل الكامل والمسؤول، الذي لا يمنعه حزنه مهما
عظم من أن يقوم بواجبه الذي يريده الله منه، فإنه يحمل أعظم المسؤوليات
وأخطرها.. ويتوجب عليه أن يعالج القضايا بحكمة وروية وتعقل، ولا يشغله
عن ذلك بادر دمعة، ولا هائج زفرة، ولا لاذع حرقة، ولا جزيل مصيبة، على
حد تعبيره «صلوات الله وسلامه عليه».
وهذه هي ميزة علي «عليه السلام» عن أهل بيته، في حزنه
وفي صبره، وفي قيامه بالواجب لله عز وجل ولرسوله..
وحزن وجزع أهل بيته وبنو عبد المطلب الذي أذهب عقولهم
كان هو الذي ميزهم عن سائر الناس.. لأان الناس كانوا بين آمر بالصبر،
وباكٍ لبكاء بني عبد المطلب ولا يزيدون على ذلك..
وفي هذا دلالة أخرى على أنه «عليه السلام» هو الوصي
والإمام بعد الرسول «صلى الله عليه وآله». وذلك لأجل هذه الميزة التي
حباه الله تعالى بها..
علي
كان يعلم:
ورد في النص المذكور في الفصل
السابق:
أنه لم يكن يختلج في نفس علي «عليه السلام» منازعة أحد من الخلق له
«عليه السلام» في شيء من الأمر، لا في حياة النبي «صلى الله عليه
وآله»، ولا بعد وفاته..
وذكر أيضاً:
أن أبا بكر كان يلقاه طيلة أيامه يعتذر له عما جرى، فكان «عليه السلام»
يقول: إن حقه سيرجع إليه بعد انقضاء أيامه.
وفي عهد عمر أيضاً لم يكن يشك في أنه إذا انقضت أيامه
استرجع حقه.
فهنا تطرح الأسئلة الثلاثة التالية:
الأول:
إن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
كان قد أخبر علياً «عليه السلام» بما يتعرض له من الأذى، وظهور الأحقاد
عليه بعد وفاته «صلى الله عليه وآله». وأوصاه بالصبر وعدم المواجهة.
فكيف يقول هنا: إنه لم يكن يشك بصرف الأمر عنه؟!
الثاني:
إن دلائل نكثهم للعهد وتمردهم على أوامر النبي «صلى الله عليه وآله» قد
ظهرت في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولا سيما في حال مرضه،
فيما عرف برزية يوم الخميس، حيث امتنعوا من تقديم الكتف والدواة له
ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، حتى قال قائلهم: إن الرجل
ليهجر، أو نحو ذلك..
ثم ظهر ذلك في تصدي أبي بكر للصلاة بالناس، وعزل النبي
«صلى الله عليه وآله» له عنها..
ثم في التخلف عن جيش أسامة، مع لعن النبي «صلى الله
عليه وآله» للمتخلفين.
الثالث:
لنفترض أنه «عليه السلام» لم يشك في هذا الأمر في حياة الرسول، وبعد
وفاته.. فلماذا لم يشك فيه بعد ذلك، فإن تطمينات أبي بكر له لا توجب
الطمأنينة له؟! لأن الأمور لم تكن مرهونة بإرادة أبي بكر وحده، لأن
للآخرين رأيهم وموقفهم أيضاً.
كما أنه «عليه السلام» كان يعرف خططهم وأطماعهم بهذا
الأمر، وقد قال هو نفسه حين واجه عمر: بأنه إنما عقدها لأبي بكر ليردها
له عند وفاته..
ولنفترض أيضاً:
أن تطمينات أبي بكر قد أقنعته، ولم تكن لأجل حمله على تخفيف ذكر حقه
المغتصب، ويكف عن إحراجهم بالدلائل والحجج والشواهد على مظلوميته، وعلى
قبح ما أوتي إليه، وشناعة ما جنوه عليه، ولكن لماذا اطمأن إلى أن الأمر
سيكون له بعد عمر، ولم لم يَدُرْ في خلده أن يرد عمر جميل عثمان
لعثمان، فإنه هو الذي كتب اسمه في وصية أبي بكر عندما أغمي على أبي
بكر..
ويمكن أن يجاب: بأن علينا ملاحظة ما يلي:
1 ـ
أن الإمام «عليه السلام» يريد أن يقول: إن من ينظر إلى
الأمور لا محالة سيفهمها على هذا النحو، فإنه حين يرى أن أبا بكر يعتذر
ويتملص، ويؤكد ويشدد اعتذاره، لن يشك بأنه سيرجع الأمر إلى أهله، إذ
الاعتذار يفهم منه الندامة، والندامة تعني الصدق وصحة النوايا، حيث لا
يدل دليل على خلاف ذلك.
كما أن من يرى شدته في إظهار الموافقة، ومراجعته للإمام
علي «عليه السلام» في الصغير والكبير إلى حد أنه لا يصدر الأمر إلا عن
رأيه «عليه السلام»، سوف يظن: أنه لا محالة سيرجع الأمر إلى الإمام
«عليه السلام» بعد وفاته، ولو في آخر لحظة من حياته، ولكنه يفاجأ
بمخالفة أخرى أكثر إيلاماً، وأشد مضاضة وفظاظة.. حيث ظهر أنهم كانوا
يحاولون تكريس هذا الأمر مرة أخرى في غير أهله الحقيقيين.
والخلاصة:
إنه «عليه السلام» كان عالماً بما يجري بلا شك، وكان أيضاً يتوقع ما
يكون منهم.. ولكنه أراد أن يجري الكلام وفق السياق الطبيعي له، بغض
النظر عن العلوم الخاصة التي تصل إليه بطرق غير عادية، بحكم كونه الوصي
والإمام بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وكان يخبره «صلى الله
عليه وآله» بهذه الغيوب في سياق تكوين علم الإمامة.
أما الناس العاديون، الذين ليس لهم هذا المقام، فلا
سبيل لهم إلى العلوم الغيبية، ولا بد أن تكون حالهم كما وصف «عليه
السلام».
2 ـ
ذكرنا أكثر من مرة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام «عليه
السلام» إنما يتعاملان مع الناس وفق السياقات الطبيعية للأمور، لا من
خلال اطلاعه على لوح المحو والإثبات، ولا من خلال شاهديته على الخلق..
فلو أن الإمام الرضا «عليه السلام» رأى المأمون يضع السم في ماء
الرمان، أو أخبره بذلك من رآه يفعل ذلك، أو أقر نفس المأمون بفعله هذا
له أو لغيره، ثم شهد عليه به، لما جاز للإمام «عليه السلام» أن يشرب من
ذلك الكأس شيئاً.. ولكنه إنما علم بأنه ما في الكأس مسموم بطريقة غير
عادية، لا سبيل للبشر العاديين إليها. وهذا هو السبب في أنه لم يعول
على علمه غير العادي، وتعامل مع المأمون وغيره وفق الظواهر المقدورة
لهم.
3 ـ
وقد تقدم: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يدع أسلوباً، ولا طريقة
بيان وتأكيد، إلا استفاد منها في توطئة الأمر لعلي «عليه السلام»، حتى
لقد أخذ البيعة له من عشرات الألوف في يوم الغدير، قبل استشهاده «صلى
الله عليه وآله» بسبعين يوماً. بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى ذكرنا
شطراً منها في كتابنا هذا، وفي كتاب: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى
الله عليه وآله»..
يضاف إلى ذلك:
أن علينا أن نتوقع طاعة الناس لأمر نبيهم، وعدم اللجوء إلى المكر
والغدر، وأن يكون لهم موقف صارم لا يسمح بالتمرد على أوامره، ومخالفة
زواجره. ثم أن نحسن الظن بأهل الإيمان، ونلتمس أوجه الصحة لما يتراءى
لنا من مخالفات في أفعالهم.. فكيف ونحن نرى أن من بينهم من ضحى بكل
غالٍ ونفيس في طاعته «صلى الله عليه وآله». ونسمع من بعض آخر منهم
دعاوى عريضة في هذا المجال؟!
فلا بد بملاحظة هذه الأمور وسواها:
من أن نطمئن إلى سلامة المسيرة، وحسن الخاتمة، فإذا
رأينا بعض التصرفات تأتي في غير هذا السياق، فسيكون لنا أن نعتبرها
مجرد نزوات فردية عابرة، لا يمكن أن ترضاها منه، ولا تقره عليها الكثرة
الكاثرة من الناس بعد وفاة الرسول..
4 ـ
وكذلك يقال بالنسبة لطمأنينته «عليه السلام» إلى ظاهر
أبي بكر وسلوكه النادم المشفوع بالاعتذارات، والتملصات في كل أيامه من
تبعات نتائج السقيفة، وإلقائه التبعة على غيره. بل كان يطلب منه
تحليله، ومسامحته أبضاً..
ونفس الكلام يجري فيما كان يظهره عمر بن الخطاب له
«عليه السلام» من موافقة، وطاعة، وقبول بأحكامه، واستجابة لمطالبه،
والتزام بقضائه وبحكمه..
5 ـ
وأخيراً.. فإن أبا بكر وعمر، وإن كانا قد استوليا على حق أمير المؤمنين
وفاطمة «عليهما السلام»، وغصبا فدكاً والخلافة من أصحابها الشرعيين،
ولكن ذلك لا يمنع من لزوم ترتيب الأثر على ما يظهرانه من تراجع وتوبة،
فإن التوبة مما أمر به الشرع، ويفرضها العقل والوجدان. ولا يستطيع أحد
أن يسلب منهما حق التوبة، والاستفادة من آثارها، ومن هذه الآثار قبولها
من فاعلها.
ولذلك نقول:
ليس من المقبول توجيه اللوم إلى من رضي توبة التائب،
وعامله وفق ظاهر أمره، فإن هذا هو ما أوجبه شرع الله على عباد الله
تبارك وتعالى.
وقد أوضح النص المتقدم في الفصل السابق كيف دبر «صلى
الله عليه وآله» بعث أسامة، وأنه:
1 ـ
لم يدع أحداً من أفناء العرب، ولا من الأوس والخزرج، ولا غيرهم ممن
يخاف منه النقض والمنازعة، ولا أحداً ممن يبغض علياً «عليه السلام» ممن
وترهم بأبٍ أو بأخ أو حميم..
كما لم يدع أحداً يخاف نقضه أو منازعته من المهاجرين
والأنصار، والمسلمين، وغيرهم، والمؤلفة قلوبهم، والمنافقين إلا وجعلهم
في ذلك الجيش..
2 ـ
وكان هدفه «صلى الله عليه وآله» من هذا الإجراء هو:
ألف:
أن تصفو المدينة ممن يخاف نقضه أو منازعته. وأن لا
يدفعه دافع عن الولاية، والقيام بأمر الرعية بعد رسول الله «صلى الله
عليه وآله».
ب:
أن تصفو قلوب
من يبقى مع علي
«عليه السلام»
بحضرة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
ج:
أن لا يقول قائل شيئاً يكرهه علي «عليه السلام».
3 ـ
إن آخر ما تكلم «صلى الله عليه وآله» من أمر أمته هو:
أن يمضي جيش أسامة، ولا يتخلف أحد ممن أنهضهم معه..
وقد شدد في أوامره تلك، وأكثر من التأكيد فيها. وأمرهم
بملازمة أميرهم.
4 ـ
إن أبا بكر وعمر ومن معهما قد فاجآ الناس حتى علياً «عليه السلام»
برجوعهم من جيش أسامة، ومخالفتهم لأمر الرسول «صلى الله عليه وآله»
فيما أنهضهم له.
5 ـ
لقد كانت سرعتهم المعبرة عن حرصهم الشديد لافتة للنظر، لأنهم خلَّفوا
أميرهم ـ الذي أمرهم الرسول بملازمته ـ وأقبلوا يتبادرون على الخيل
ركضاً.
6 ـ
إن هذا كان منهم بهدف حل عقدة عقدها الرسول «صلى الله عليه وآله» في
أعناقهم، ونكث عهد أعطوه لله وللرسول..
وهذا ما حصل بالفعل، فقد نكثوا العهد، وحلوا العقد،
واستبدلوه بعقد آخر عقدوه لأنفسهم، من دون إعلام أو استشارة أحد من بني
عبد المطلب.
كما أنهم لم يطلبوا من أحد أن يقيلهم من البيعة التي
كانت لأمير المؤمنين «عليه السلام» في أعناقهم!!
وكان «عليه السلام» مشغولاً عن ذلك كله بما كان واجباً
عليه دون سواه، ولا يجوز لأحد غيره التصدي له، وهو تجهيز رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
7 ـ
إن هذا كان أشد ما ورد على قلب علي «عليه السلام» من آلام ومصائب،
ورزايا ونوائب.
وقد ذكر «عليه السلام»:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتألف الناس على
الإسلام، «حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر والفر،
والشبع والري، واللباس، والوطاء والدثار. ونحن أهل بيت محمد «صلى الله
عليه وآله» لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد، وما
أشبهها. ولا وطاء لنا ولا دثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة
أكثرنا. ونطوي الليالي والأيام عامتنا.
وربما أتانا الشيء مما أفاءه الله علينا، وصيره لنا
خاصة دون غيرنا، ونحن على ما وصفت من حالنا، فيؤثر به رسول الله «صلى
الله عليه وآله» أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم».
وهذا مطابق لما تقدم عن الزهراء
«عليها السلام»:
أنها قالت في خطبتها، بعد أن ذكرت معاناة علي «عليه
السلام»:
«وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون، فاكهون، آمنون،
تتربصون بنا الدوائر، و تتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون
عند القتال»([13]).
وقد دلنا هذا النص على ما يلي:
أن هذه الحالة كانت عامة في غير أهل البيت. أي أن
الرفاهية، والشبع والري، والدثار والوطاء، واللباس كان في جماعات من
المسلمين..
أما أهل البيت «عليهم السلام» فكان حالهم شديداً، إلى
حد أنهم لم يكن لبيوتهم سقوف، ولا أبواب، ولا ستور، إلا جرائد النخل،
وما أشبهها، كما أنه لم يكن لهم وطاء، ولا دثار، ولا لباس، بل كان
أكثرهم يتداول الثوب الواحد في الصلاة..
وكان عامتهم يطوون الليالي والأيام بدون طعام..
وحين يأتيهم بعض ما فرضه الله تعالى لهم، وخصهم به دون
غيرهم، كان «صلى الله عليه وآله» يؤثر به غيرهم من أرباب النعم
والأموال، تألفاً لهم.
ثم كان جزاء أهل البيت «عليهم السلام» من هؤلاء
الرافهين بالذات كل هذا التجني، والأذى، الذي لاقوه منهم بعد وفاة
الرسول العظيم والكريم «صلى الله عليه وآله أجمعين»..
([1])
الآية 43 من سورة الرعد.
([2])
ولأجل ذلك، ذكر بعض الأخوة: أن هذا هو السبب في إصرار بعضهم
على تزويج ابنته من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وذلك من
أجل أن يصبح معدوداً، ولو بهذا المقدار من أهل بين رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
([3])
راجع: المقنعة للشيخ المفيد ص666 والرسائل العشر للطوسي ص317
والنهاية للطوسي ص604 وغنية النزوع ص305 والسرائر ج3 ص182وروضة
الواعظين ص482 ووسائل الشيعة (مؤسسة آل البيت) ج19 ص259 و (دار
الإسلامية) ج13 ص352 ومكارم الأخلاق ص362 ومناقب آل أبي طالب
ج2 ص246 ومشكاة الأنوار للطبرسي ص585 وتفسير مجمع البيان
للطبرسي ج1 ص494 ونهج الإيمان ص208 والمجموع للنووي ج15 ص399.
([4])
راجع: سبل الهدى والرشاد ج2 ص319 والسيرة الحلبية ج1 ص285 و (ط
دار المعرفة) ج2 ص21 والمستدرك للحاكم ج3 ص504 ومجمع الزوائد
ج4 ص5 والمعجم الكبير للطبراني ج1 ص306 والإصابة ج1 ص28 و (ط
دار الكتب العلمية) ج1 ص197 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص99
والاستيعاب (بهامش الإصابة) ج1 ص108 و (ط دار الجيل) ج1 ص132
وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج13 ص269 و 270 وإمتاع
الأسماع ج9 ص91.
([5])
راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج2
ص327 فما بعدها، وراجع: تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي)
ج2 ص60 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج3 ص39
و السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص436 وراجع: الغدير ج3 ص240 و
234 وج7 ص93 والإمام= = علي بن أبي طالب للهمداني ص544
والإكمال في أسماء الرجال للتبريزي ص20 والإفصاح للشيخ المفيد
ص232 وكنز الفوائد ص124 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص289 وبحار
الأنوار ج38 ص228.
([6])
راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص227 وتاريخ الأمم والملوك
ج2 ص68 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص98 والكامل في التاريخ ج2 ص102
والبداية والنهاية ج3 ص175 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج3
ص215 وتاريخ الخميس ج1 ص321 و 322 ومطالب السؤول ص192 والثقات
لابن حبان ج1 ص113 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص215 وسبل
الهدى والرشاد ج3 ص234 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج1
ص237 وج2 ص190 وبحار الأنوار ج19 ص31 و 48 و 56 و 238 وج29
ص295 وج60 ص159 و 233 والمصنف للصنعاني ج5 ص389 و 390 وتخريج
الأحاديث والآثار ج2 ص25 و 26 وتفسير نور الثقلين ج2 ص145 و
148 وتفـسـير الميـزان ج9 ص78 و 108 و تفسـير القـرآن العظيم
ج2 = = ص315 وتفسير جوامع الجامع ج2 ص20 وتفسير القمي ج1 ص273
والتسهيل لعلوم التنزيل ج2 ص64 وتفسير البحر المحيط ج4 ص481
والمحرر الوجيز في ج2 ص519 وتأويل مختلف الحديث ص117 والجوهرة
في نسب الإمام علي وآله ص11 والإرشاد للمفيد ج1 ص350 ومناقب
آل أبي طالب ج1 ص158 والأمالي للطوسي ص177.
([7])
راجع: مجالس ابن الشيخ ص111 و 112 وبحار الأنوار ج60 ص233 وج28
ص205 والأمالي للطوسي ص177 وتفسير الميزان ج9 ص108 وقاموس
الرجال للتستري ج10 ص196 وبيت الأحزان ص63.
([8])
الآية 1 من سورة الحجرات.
([9])
الآية 64 من سورة المائدة.
([10])
بحار الأنوار (ط دار التراث العربي سنة 1429 هـ ق) ج29 ص74 و
75 و 79 و (ط دار الرضا) و 225 والاحتجاج ج1 ص262 و 263 و (ط
دار النعمان) ج1 ص136 وبلاغات النساء ص14ـ20 واللمعة البيضاء
للتبريزي ص622.
([11])
الآية 74 من سورة التوبة.
([12])
الآيتان 58 و 59 من سورة التوبة.
([13])
بحار الأنوار (ط دار التراث العربي سنة 1429 هـ ق) ج29 ص74 و
75 و 79 و (ط دار الرضا) و 225 والاحتجاج ج1 ص262 و 263 و (ط
دار النعمان) ج1 ص136 وبلاغات النساء ص14ـ20 واللمعة البيضاء
للتبريزي ص622.
|