علي
والطبيب اليوناني:
عن أبي محمد العسكري، عن علي بن الحسين زين العابدين
«عليهم السلام» أنه قال:
كان أمير المؤمنين «عليه السلام» قاعداً ذات يوم، فأقبل
إليه رجل من اليونانيين المدعين للفلسفة والطب، فقال له:
يا أبا الحسن، بلغني خبر صاحبك وأن به جنوناً، وجئت
لأعالجه، فلحقته قد مضى لسبيله، وفاتني ما أردت من ذلك، وقد قيل لي:
إنك ابن عمه وصهره، وأرى بك صفاراً قد علاك، وساقين دقيقين، وما أراهما
تقلَّانك.
فأما الصفار فعندي دوائه.
وأما الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما.
والوجه:
أن ترفق بنفسك في المشي، تقلله ولا تكثره، وفيما تحمله
على ظهرك، وتحتضنه بصدرك. أن تقللهما ولا تكثرهما، فإن ساقيك دقيقان،
لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما.
وأما الصفار فدوائه عندي، وهو هذا ـ وأخرج دواء ـ وقال:
هذا لا يؤذيك، ولا يخيسك، ولكنه يلزمك حمية من اللحم
أربعين صباحاً، ثم يزيل صفارك.
فقال له علي بن أبي طالب «عليه
السلام»:
قد ذكرت نفع هذا الدواء لصفاري، فهل تعرف شيئاً يزيد فيه ويضره؟!
فقال الرجل:
بلى، حبة من هذا ـ وأشار إلى دواء معه ـ وقال: إن تناوله إنسان وبه
صفار أماته من ساعته، وإن كان لا صفار به صار به صفار حتى يموت في
يومه.
فقال علي «عليه السلام»:
فأرني هذا الضار، فأعطاه إياه.
فقال له:
كم قدر هذا؟!
قال:
قدره مثقالين سم ناقع، قدر كل حبة منه يقتل رجلاً.
فتناوله علي «عليه السلام» فقمحه([1])،
وعرق عرقاً خفيفاً.
وجعل الرجل يرتعد ويقول في نفسه:
الآن أؤخذ بابن أبي طالب، ويقال: قتلته، ولا يقبل مني
قولي: إنه هو الجاني على نفسه.
فتبسم علي بن أبي طالب «عليه
السلام» وقال:
يا عبد الله، أصح ما كنت بدناً الآن، لم يضرني ما زعمت
أنه سم.
ثم قال:
فغمض عينيك.
فغمض، ثم قال:
افتح عينيك. ففتح.
ونظر إلى وجه علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فإذا هو
أبيض، أحمر، مشرب حمرة. فارتعد الرجل لما رآه.
وتبسم علي «عليه السلام» وقال:
أين الصفار الذي زعمت أنه بي.
فقال:
والله لكأنك لست من رأيت، قبل كنت مصفراً، فإنت الآن
مورَّد.
فقال علي «عليه السلام»:
فزال عني الصفار الذي تزعم: أنه قاتلي.
وأما ساقاي هاتان ـ ومد رجليه، وكشف عن ساقيه ـ فإنك
زعمت أني أحتاج إلى أن أرفق ببدني في حمل ما أحمل عليه، لئلا ينقصف
الساقان، وأنا أريك أن طب الله عز وجل على خلاف طبك، وضرب بيده إلى
أسطوانة خشب عظيمة، على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه، وفوقه حجرتان،
إحداهما فوق الأخرى، وحركها فاحتملها، فارتفع السطح، والحيطان، وفوقهما
الغرفتان.
فغشي على اليوناني.
فقال علي «عليه السلام»:
صبوا عليه ماء.
فصبوا عليه ماء، فأفاق وهو يقول:
والله ما رأيت كاليوم عجباً.
فقال له علي «عليه السلام»:
هذه قوة الساقين الدقيقين واحتمالهما، أفي طبك هذا يا
يوناني؟!
فقال اليوناني:
أمثلك كان محمد؟!
فقال علي «عليه السلام»:
وهل علمي إلا من علمه، وعقلي إلا من عقله، وقوتي إلا من
قوته، ولقد أتاه ثقفي وكان أطب العرب، فقال له: إن كان بك جنون
داويتك؟!
فقال له محمد «صلى الله عليه وآله»:
أتحب أن أريك آية تعلم بها غناي عن طبك وحاجتك إلى
طبي؟!
قال:
نعم.
قال:
أي آية تريد؟!
قال:
تدعو ذلك العذق، وأشار إلى نخلة سحوق فدعاه، فانقلع
أصلها من الأرض، وهي تخد الأرض خداً حتى وقفت بين يديه.
فقال له:
أكفاك؟!
قال:
لا.
قال:
فتريد ماذا؟!
قال:
تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه، وتستقر في مقرها الذي
انقلعت منه.
فأمرها، فرجعت، واستقرت في مقرها.
فقال اليوناني لأمير المؤمنين «عليه
السلام»:
هذا الذي تذكره عن محمد «صلى الله عليه وآله» غائب عني،
وأنا أريد أن أقتصر منك على أقل من ذلك، أتباعد عنك، فادعني، وأنا لا
أختار الإجابة، فإن جئت بي إليك فهي آية.
قال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
إنما يكون آية لك وحدك، لأنك تعلم من نفسك أنك لم ترده،
وأني أزلت اختيارك من غير أن باشرت مني شيئاً، أو ممن أمرته بأن
يباشرك، أو ممن قصد إلى اختيارك وإن لم آمره، إلا ما يكون من قدرة الله
القاهرة.
وأنت يا يوناني يمكنك أن تدعي،
ويمكن غيرك أن يقول:
إني واطأتك على ذلك، فاقترح إن كنت مقترحاً ما هو آية
لجميع العالمين.
قال له اليوناني:
إن جعلت الاقتراح إلي، فأنا أقترح: أن تفصل أجزاء تلك
النخلة، وتفرقها وتباعد ما بينها، ثم تجمعها وتعيدها كما كانت.
فقال علي «عليه السلام»:
هذه آية وأنت رسولي إليها ـ يعني إلى النخلة ـ فقل لها: إن وصي محمد
رسول الله يأمر أجزائك: أن تتفرق وتتباعد.
فذهب، فقال لها ذلك، فتفاصلت، وتهافتت، وتنثرت، وتصاغرت
أجزاءها حتى لم ير لها عين ولا أثر، حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط.
فارتعدت فرائص اليوناني وقال:
يا وصي محمد رسول الله، قد أعطيتني اقتراحي الأول،
فاعطني الآخر، فأْمُرها أن تجتمع وتعود كما كانت.
فقال:
أنت رسولي إليها، فعد فقل لها: يا أجزاء النخلة، إن وصي
محمد رسول الله يأمرك أن تجتمعي كما كنت، وأن تعودي.
فنادى اليوناني، فقال ذلك، فارتفعت في الهواء كهيئة
الهباء المنثور، ثم جعلت تجتمع، جزؤ جزؤ منها، حتى تصور لها القضبان،
والأوراق، وأصول السعف، وشماريخ الأعذاق، ثم تألفت، وتجمعت، وتركبت،
واستطالت، وعرضت، واستقر أصلها في مقرها، وتمكن عليها ساقها، وتركب على
الساق قضبانها، وعلى القضبان أوراقها، وفي أمكنتها أعذاقها. وكانت في
الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من أوان الرطب، والبسر، والخلال.
فقال اليوناني:
وأخرى أحب أن تُخرِج شماريخَها أخلالَها، وتقلبها من
خضرة إلى صفرة وحمرة، وترطيب وبلوغ إناة، لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها.
فقال علي «عليه السلام»:
أنت رسولي إليها بذلك، فمرها به.
فقال لها اليوناني:
ما أمره أمير المؤمنين «عليه السلام» فأخلَّت، وأبسرت،
واصفرت واحمرت، وترطبت، وثقلت أعذاقها برطبها.
فقال اليوناني:
وأخرى أحبها، تقرب بين يديي أعذاقها، أو تطول يدي
لتنالها.
وأحب شيء إلي:
أن تنزل إليَّ إحداهما، وتطول يدي إلى الأخرى التي هي
أختها.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
مد اليد التي تريد أن تنالها وقل: يا مقرب البعيد قرب
يدي منها.
واقبض الأخرى التي تريد أن ينزل
العذق إليها، وقل:
يا مسهل العسير، سهل لي تناول ما يبعد عني منها.
ففعل ذلك وقاله، فطالت يمناه، فوصلت إلى العذق، وانحطت
الأعذاق الأخر، فسقطت على الأرض، وقد طالت عراجينها.
ثم قال أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
إنك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك من عجائبها، عجل
الله عز وجل إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه
وجهالهم.
فقال اليوناني:
إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد، وتناهيت في التعرض
للهلاك، أشهد أنك من خاصة الله، صادق في جميع أقاويلك عن الله، فأمرني
بما تشاء أطعك.
قال علي «عليه السلام»:
آمرك أن تقر لله بالوحدانية، وتشهد له بالجود والحكمة،
وتنزهه عن العبث والفساد، وعن ظلم الإماء والعباد.
وتشهد أن محمداً الذي أنا وصيه سيد الأنام، وأفضل رتبة
في دار السلام.
وتشهد أن علياً الذي أراك ما أراك، وأولاك من النعم ما
أولاك، خير خلق الله بعد محمد رسول الله، وأحق خلق الله بمقام محمد
«صلى الله عليه وآله» بعده، وبالقيام بشرايعه وأحكامه.
وتشهد أن أولياءه أولياء الله، وأعدائه أعداء الله.
وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك، المساعدين لك
على ما أمرتك به خيرة أمة محمد «صلى الله عليه وآله»، وصفوة شيعة علي.
وآمرك:
أن تواسي إخوانك المطابقين لك على تصديق محمد «صلى الله عليه وآله»
وتصديقي، والانقياد له ولي، مما رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم،
تسد فاقتهم، وتجبر كسرهم وخلتهم.
ومن كان منهم في درجتك في الإيمان ساويته من مالك
بنفسك.
ومن كان منهم فاضلاً عليك في دينك آثرته بما لك على
نفسك، حتى يعلم الله منك أن دينه آثر عنك من مالك، وأن أوليائه أكرم
عليك من أهلك وعيالك.
وآمرك:
أن تصون دينك، وعلمنا الذي أودعناك، وأسرارنا التي حملناك. ولا تبد
علومنا لمن يقابلها بالعناد، ويقابلك من أهلها بالشتم، واللعن،
والتناول من العرض والبدن، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا، وعند
الجاهلين بأحوالنا. ولا تعرض أوليائنا لبوادر الجهال.
وآمرك:
أن تستعمل
التقية في دينك، فإن الله عز وجل يقول: ﴿لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾([2]).
وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه، وفي
إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات إن
خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعداءنا علينا عند خوفك
لا ينفعهم ولا يضرنا، وإن إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا
ولا ينقصنا.
ولإن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي
على نفسك روحها التي بها قوامها، وما لها الذي به قيامها، وجاهها الذي
به تماسكها، وتصون من عرف بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد
ذلك بشهور وسنين إلى أن يفرج الله تلك الكربة، وتزول به تلك الغمة، فإن
ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل الدين، وصلاح إخوانك
المؤمنين.
وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك
شائط بدمك ودم إخوانك، معرض لنعمتك ونعمهم للزوال، مذل لك ولهم في أيدي
أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك
على نفسك وإخوانك أشد من ضرر الناصب لنا، الكافر بنا([3]).
ونقول:
إننا نقتصر على النقاط التالية:
ذكر
الطبرسي «رحمه الله»:
أن سنده إلى هذه الرواية، وسائر احتجاجات الإمام العسكري «عليه السلام»
المذكور في كتابه، عن مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي، وكان عالماً
عابداً، عن جعفر بن محمد بن أحمد الدوريستي، وهو ثقة عين، عن أبيه (وهو
فقيه عالم فاضل)، عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (وهو غني
عن التعريف)، عن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي (شيخ الصدوق)، عن
يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن سيار (وكانا من الشيعة الإمامية)، عن
الإمام العسكري «عليه السلام»([4]).
ذكرت الرواية:
أن ذلك اليوناني ادعى أنه قد قيل له: إن النبي «صلى
الله عليه وآله» مجنون.. وأنه جاء ليعالجه، فوجده قد مضى لسبيله، ثم
عرض على أمير المؤمنين «عليه السلام» أن يعالجه من صفرة في وجهه. أما
ما يراه من دقة ساقيه، فلا حيلة له لتغليظهما..
ومن الواضح:
أن ذلك اليوناني كان مأخوذاً بافتراءات أعداء رسول الله
«صلى الله عليه وآله» واتهامهم إياه بالجنون بهدف إبعاد الناس عنه،
ويبدو أنه كان صادقاً في عرضه على علي «عليه السلام» أن يداويه من صفرة
رآها في وجهه «عليه السلام».
غير أن الأمر الذي يثير العجب هنا:
أن لا يلتفت هذا اليوناني إلى أنه كيف استطاع ذلك
المتهم بالجنون أن يقنع الناس بدعوته، وأن يدفع كيد أعدائه وأعدائها،
ويكسر شوكتهم، ثم يؤسس دولة ونظاماً قوياً، ويلزم الناس كلهم بالعمل
وفق الشريعة التي جاءهم بها؟!
وهل يمكن للمجنون أن يأتي بشريعة صحيحة ومتناسقة في
جميع فصولها وأحكامها وتعاليمها؟! ويسوس الناس سياسة حكيمة، ويؤسس دولة
تسقط العروش، والامبراطوريات؟!
ولنفترض أنه كان مجنوناً بالفعل، فإن الأمة لم تكن
مجنونة، بل كان فيها العقلاء، والأذكياء والدهاة، وأهل التجربة
والسياسة والحكمة، فأين عزبت أحلامهم عنهم؟! وكيف أسلموه قيادهم،
ومكنوه من بسط نفوذه، وفرض أحكامه عليهم؟!
وإذا كانوا قد أجبروا على ذلك في حياته، فهل أجبرهم
عليه بعد وفاته، ومن الذي أجبرهم على اقتفاء نهجه، والتزام شرعه؟!
فإن كان ابن عمه علي بن أبي طالب،
فمن الواضح:
أنه قد استبعد قسراً عن الساحة السياسية. وبلغت الأمور
به حداً جعله يشكو ما يعانيه أمام قبر ابن عمه، ويقول: «إن القوم
استضعفوني، وكادوا يقتلوني»([5]).
ويقول:
«فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره،
وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب»([6]).
وقد لاحظنا:
أن علياً «عليه السلام» لم يحاول أن يقنع ذلك اليوناني
بالأدلة والبراهين العقلية، والبحث العلمي والموضوعي، بل بادر إلى
اعتماد أسلوب التحدي، والدفع بالأمور إلى أقصى مدى، حيث اختار تناول
دواء قاتل وسريع التأثير، يفتك بالجسم، ويقضي عليه في ساعته ولا يعطي
الفرصة لاستعمال معالجات تدفع سَوْرَتُه، وتزيل أثره.
وقد اختار «عليه السلام» إظهار المعجزة والكرامة لذلك
اليوناني في نفس الوقت والساعة.. وقد جاءت النتيجة فوراً، وكانت مناقضة
لتوقعات ذلك اليوناني، فبدلاً من حلول الكارثة تحققت المعجزة، وهي
الانتعاش الظاهر، والقوة، والصحة والسلامة، والعافية بأجلى صورها،
وأحسن حالاتها، وأظهر تجلياتها..
ولعله «عليه السلام» رأى أن ذلك الطبيب لم يكن من أهل
المعرفة بغير الفن الذي مارسه وعرف به، وهو الطب.
بل قد يكون أقل تنبهاً من غيره حتى بالنسبة للأمور
العادية، كما تدل عليه غفلته عن أن المجنون لا يمكن أن يقيم دولة، ولا
يبقى الدين الذي جاء به من بعده كما شرحناه آنفاً، ولا يمكن أن يكون
دين المجانين منسجماً، وصحيحاً ومرضياً ومقبولاً، لأنه سيكون على
تشريعاته وأحكامه وتعاليمه مسحة من الجنون أيضاً..
فآثر «عليه السلام» أن يواجهه بمعجزة حسية تحسم الأمر،
قوامها: نقض معادلة يؤمن بها، من خلال خبرته وما صنعته يده، وما عرف هو
عُجْرَهُ وبُجْرَهُ، لا بالتصرف بأمر آخر بعيد عنه، قد يزين الشيطان
احتمال التأثير الخفي أو السحري فيه..
وهذا ما حصل فعلاً، فقد شرب «عليه السلام» ذلك السم
الذي استحضره ذلك الطبيب بنفسه، وأجرى عليه الطبيب اختباراته، ليتأكد
من النتيجة التي جاءت عكس توقعاته العلمية..
وقد رأينا كيف أن أمير المؤمنين «عليه السلام» كان
مهتماً بحفظ المعجزة في آثارها ونتائجها، واستلاب فرصة إجهاضها من
قِبَلِ الآخرين، بتحريرها من أسر أهوائهم، وصيانتها من الارتهان
لتقلبات أهوائهم، وعوادي نزواتهم..
ولذلك لم يرض «عليه السلام» بأن يخضع إرادة ذلك الطبيب
للتصرف الإعجازي لسببين:
أحدهما:
أن تأثير المعجزة واستثمارها في الدعوة سيصبح رهناً بإرادة وبإنصاف ذلك
الطبيب، وبصحة نواياه، وعدم خضوعه لأهوائه، ولتسويلات الشيطان.. وهذا
ما لا يملك أحد ضمانة فيه، ولا يخضع لضابطة، ولا تقبل دعوى الاطلاع
عليه من أحد من الناس. ولا مجال لفرض الصدق في التعبير والإخبار عنه..
ولذلك رفض «عليه السلام» الارتهان إلى خصمه في هذا الأمر.
الثاني:
أنه يمكن لذلك الطبيب نفسه، ويمكن للآخرين الذين يرون هذه المعجزة
أيضاً أن يدعوا: أن ما يجري بين علي «عليه السلام» وبين ذلك الطبيب قد
جاء على سبيل التواطؤ بينهما، وأنه مجرد تمثيلية تهدف إلى خداع الناس
بما لا حقيقة له.. بمعنى: أن علياً «عليه السلام» قد اتفق مع ذلك
اليوناني على التظاهر بشلل إرادته، وعجزه عن الإختيار، وعن الحركة.
وليس ثمة ما يثبت عكس هذا الاحتمال بصورة ظاهرة وقاطعة..
فمن أجل هذا وذاك رفض «عليه السلام» جعل إرادة ذلك
اليوناني موضعاً للتصرف الإعجازي، وألزمه باقتراح آية بعيدة عن هذا
السياق، مما لا يمكن توهم التواطؤ فيه..
فاقترح اليوناني:
أن يأمر أجزاء النخلة القريبة منهم بالتفرق، فتفرقت، ثم أمرها
بالاجتماع فاجتمعت، ولم يباشرها في هذا وذاك أي كان من الحاضرين بغير
المراقبة، والنظر من بعيد.
وقد جعل «عليه السلام» ذلك اليوناني رسوله إلى تلك
النخلة، وولاه مخاطبتها وإبلاغها أوامره.
ولم يباشر هو «عليه السلام» خطابها، ربما ليبعد عنه وعن
الحاضرين أي توهم في أن يكون «عليه السلام» قد ضمن كلماته مع النخلة أي
شيءٍ من الأوراد، أو الكلمات ذات التأثير السحري فيها.
تضمن النص المقتدم:
إظهار عدة آيات لذلك الطبيب اليوناني ولمن حضر.. ولكنها كلها جاءت
بمبادرات من أمير المؤمنين «عليه السلام» نفسه.. ولم يكذبها ذلك الطبيب
ولا عاندها، ولكنه حين اقترح هو أن تخرج النخلة له ثمراً قد أينع، وأن
يأكل منه «عليه السلام»، ويطعم الحاضرين بما فيهم اليوناني نفسه.. فحصل
له ما أراد.. فلما بلغ الأمر إلى أكله منها جاءه التحذير القوي والحازم
بأنه إن أكل منها، ولم يؤمن حلت به العقوبة الموجبة لاعتبار الخلق به.
وهذا هو جزاء من يقترح الآيات، مدعياً أنه سوف يؤمن بها
إن جاءته، ثم يكفر بها، فإن تكذيبه بتلك الآيات، يعد سخرية منه بالقدرة
الإلهية، فلذلك استحق أمثال هذه العقوبة.
وما طلبه علي «عليه السلام» من الطبيب اليوناني يحتاج
إلى دراسة خاصة.. نسأل الله أن يوفق لها من هو أهل لها، وأن ينعم عليه
بتوفيقاته لاكتشاف كنوزها التي لا تقدر بثمن، غير أنني أشير هنا إلى
شيء يسير منها على النحو التالي:
إن أول ما طلبه «عليه السلام» من اليوناني بعد الإقرار
بتوحيد الله، والإقرار بجوده تعالى. وحيث يبدو أن المطلوب هو التعاطي
مع شؤون الإيمان من موقع تأثيرها العملي المباشر في واقع الحياة.
وتتجلى أهمية الإقرار بجوده تعالى إذا لاحظنا:
أن الكثير من المشكلات، والانحرافات، والكوارث والمآسي الناشئة عن
الفساد والإفساد سببها سوء الظن بالله تعالى، فتجد بعض الناس يمارس
الاحتيال، والاحتكار، والسرقة، والتزوير، والسلب، ويشن الحروب، ويفتعل
الأزمات، ويرشو ويرتشي، ويسعى للتسلط على الناس، ويرتكب جميع أنواع
الجرائم والعظائم، لأنه يريد أن يحصل على المال وعلى الموقع، وعلى
الجاه، والسلطة، والنفوذ بنفسه، وبوسائله السريعة التأثير، لأنه يخشى
أن تفوته، ويرى أن حنكته وحيلته وظلمه، و.. و.. وهو الذي يوصله إليها،
ولا يثق بكرم الله، ولا بتوفيقاته، ولا بقدرته على الإعطاء والمنع، بل
هو يرى أن الله تعالى بخيل، لا يرزق، ولا يعطي ولا يوفق لنيل لقمة
الحلال، وأنه لا يشفي المريض، ولا يعطيه المقام والجاه والعزة.. ولا..
ولا..
كما أن انقطاعه عن الجود الإلهي يدفعه للانغماس بمختلف
الرذائل الأخلاقية، مثل الكذب، والخيانة، والخديعة، وخلف الوعود، ونقض
العهود، وتزوير العقود. ويرميه في براثن الحقد، والحسد، والبخل، والحرص
وما إلى ذلك..
ثم هو يشعر بأنه ليس بحاجة إلى الله وإلى طاعته، ويدعوه
ذلك للتخلى عن دينه، وعن قيمه، ويرى أنه تعالى لا يحق له أن يحاسبه
ويعاقبه، وأن يطالبه بأي حق سلبه، أو حرمة انتهكها، أو جريمة ارتكبها..
فإن فعل ذلك كان الله ـ والعياذ بالله ـ معتدياً عليه،
ظالماً له..
وسيصبح الحق أعدى أعداء هؤلاء الناس. وسيزيدهم بيان
الحق والحقوق، والحديث عن الله وعدله، وعن دار الجزاء وعن الجنة والنار
ـ سيزيدهم ذلك ـ طغياناً وكفراً، وسيكون حب الدنيا الذي يجمعهم هو نفسه
الذي يفرقهم، ويوجب تباغضهم ثم تناحرهم فيما بينهم.
وهذا ما جرى لليهود بالفعل، حيث قالوا:
﴿إِنَّ
اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾([7]).
وقال:
﴿وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ﴾([8]).
والحديث حول هذا الموضوع طويل ومتشعب والمقصود هو مجرد
الإشارة.
ولوحظ أيضاً:
أنه
«عليه السلام» يطلب من هذا الطبيب أن يقر لمحمد «صلى
الله عليه وآله» بالأفضلية على جميع البشر.
ولعل السبب في الحديث عن أفضليته «صلى الله عليه وآله»
على جميع الخلق هو إخراج ذلك اليوناني من رواسب عقيدية، قد يغفل عنها،
في حين يبقى لها بعض التوهج في أعماق ذاته، بما لها من ارتكاز خفي الذي
قد يظهر بصورة عفوية في سياق الترجيح والتفضيل، أو في نظرة الإكبار
والإعظام الخفي لمن كان يرتبط بهم، ويدعي لهم المقامات السابحة في آفاق
الجمال والكمال والعظمة والجلال إلى حد ادعاء صفات الألوهية لها. مثل
عزير، وعيسى «عليه السلام».
فأراد «عليه السلام» أن يضعه أمام قرار صريح وحاسم، من
شأنه أن يصده عن أمثال هذه الانسياقات العفوية، ويصونه من تبعاتها
وآثارها، ويطهر ضميره منها بصورة تلقينية مؤثرة وحاسمة..
محمد
الذي أنا وصيه:
وعن تنصيصه «عليه السلام» في هذا الموضع بالذات على أن
المطلوب هو الشهادة لمحمد
«صلى الله
عليه وآله»
الذي وصيه علي «عليه السلام» نقول:
إنه يريد أن يقول له، ولنا:
إن الشهادة بالنبوة لمحمد وحده لا تكفي، فإن توحيداً من غير علي «عليه
السلام»، ونبوة محمد إذا لم ينضم إليها علي «عليه السلام»، واعتقاداً
بالآخرة، وبالشفاعة من دون علي، وصلاة وصوماً وزكاة وجهاداً وحج من دون
علي «عليه السلام» لا يجدي نفعاً..
ولأجل ذلك قال الإمام الرضا «عليه السلام» في حديث
سلسلة الذهب في نيشا بور: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني
أمن من عذابي».
ثم عقب ذلك بقوله:
«بشروطها وأنا من شروطها»، فدل على أن كلمة التوحيد لا تحقق أهدافها،
ولا تؤثر آثارها في بناء الإنسان والحياة إلا إذا انضم إليها الاعتقاد
بإمامة الرضا، وقبله وبعده سائر الأئمة «عليهم السلام»..
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..﴾..
لأن المطلوب هو تبليغ التوحيد والعدل، والنبوة، والآخرة، والصلاة
والزكاة و.. و.. تامة غير منقوصة، ولا تتم بدون ولاية علي «عليه
السلام».
فالصلاة التي بدون علي لا يريدها الله، وكذلك الزكاة،
وسائر حقائق الدين وأحكامه، لأن الإسلام بمثابة جسد تام الأجزاء
والأوصاف والمزايا. فله عينان، ولكنه لا يبصر بهما، وله لسان لا يتكلم
ولا يتذوق به، وله أذنان ولكنه لا يسمع بهما، وله يدان لكنهما من دون
قوة.. وهكذا..
فإذا حلت في هذا الجسد الروح صار يرى ويسمع، ويشم
ويتذوق، ويحرك يديه، وصارت لهما قوة يستفيد منها، ويحمل بهما الأشياء،
وصار يحب ويبغض، ويضحك ويبكي، ويفرح ويحزن، ويحسد ويحقد، ويشجع ويجبن،
ويخاف ويرجو. وصار يفكر ويعقل، وينام ويستيقظ، ويسهو ويلتفت، ويعلم
ويجهل، وما إلى ذلك..
فظهر أن الإسلام بدون ولاية كبدن بلا روح، فإذا ولجته
الروح، وهي ولاية علي، صار كل ما في هذا الإسلام نافعاً، ويؤدي مهماته
المنوطة به، ويوصل إلى الغايات التي رسمت له، ويحقق الغايات التي
توخاها الله منه لعباده..
وهذا هو السبب في قوله «عليه
السلام» هنا:
«وأن تشهد أن محمداً
«صلى الله
عليه وآله»
الذي أنا وصيه سيد الأنام إلخ..».
وصرح «عليه السلام» لذلك اليوناني:
بأن علياً «عليه السلام» قد أولى ذلك اليوناني نعماً تستحق التنويه بها
في هذا الحوار بالذات، رغم أنه يلتقي به للمرة الأولى كما هو ظاهر سياق
الرواية..
فالظاهر أنه «عليه السلام» يريد أن
يفهمه:
أن هدايته ووضعه على صراط النجاة نعمة يستحق الشكر عليها، ولا سيما
وأنه قد أراه من المعجزات ما رسخ يقينه، وأغناه بذلك عن كثير من الجهود
لتحصيل هذا اليقين.
وقد أشار إلى ذلك «عليه السلام»
بقوله:
«إن علياً الذي أراك ما أراك».
وربما كان يقصد بالنعم ما هو أبعد من نعمة الهداية،
ليشمل ما أشار إليه الله تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى
اللهِ رَاغِبُونَ﴾([9]).
وبقوله تعالى:
﴿وَمَا
نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾([10]).
علي
خير خلق الله:
وقد بين «عليه السلام» أن المطلوب ليس مجرد الشهادة
لعلي «عليه السلام» بالولاية والإمامة.. بل المطلوب أولاً الشهادة
بأفضلية علي «عليه السلام» على جميع الخلق. لتكون هذه الأفضلية هي
المرتكز والمنطلق لإثبات أحقيته بالإمامة والولاية من جميع الخلق.
فيصبح مضمون الإمامة من الأمور التي قياساتها معها، أو فقل: هو من باب
تقديم الدليل على المدعى في سياق إيراد الدعوى نفسها.
وبذلك يعرف أن أفضلية الإمام على الخلق شرط لإمامته
لهم، فلا مجال للإقرار بالإمامة لأحد من دون إحراز تحقق هذا الشرط فيه.
وهذا يبطل قول معتزلة بغداد من أن الله تعالى قد قدم
المفضول على الفاضل. وكأنه «عليه السلام» كان ينظر إلى الغيب من ستر
رقيق
1 ـ
ونلاحظ: أنه «عليه السلام» لم يطلب الشهادة: بأن الله ورسوله قد نصبه
إماماً، بل طلب الشهادة بأنه الأحق من جميع الخلق بمقام الإمامة. ليدل
بذلك على أن من يتصدى لهذا المقام إنما يتصدى لما ليس له بحق. وهذه
تخطئة صريحة لذلك المتصدي، وإنكار لإمامته. ومن الطبيعي: أن الشهادة
بذلك معناها: تحقق مفهوم البراءة منه، وعدم التولي له، بعنوان كونه
إماماً. بل هو رفض وإنكار صريح لإمامته..
2 ـ
ثم أشار «عليه السلام» إلى أنه لا يحق لأحد التصدي
لإقامة شرايع الله، وإجراء أحكامه إذ لم يكن خير خلق الله، وأحقهم
بمقام محمد «صلى الله عليه وآله»، مما يعني أن هناك وظائف خاصة، ومهمات
لا يجوز لأحد التصدي لها، سوى الأنبياء وأوصيائهم..
وقد ألمح «عليه السلام» إلى ذلك
اليوناني:
أن المؤمنين المشاركين له في النهج والاعتقاد، هم المساعدون له على
القيام بما أمره به «عليه السلام».
فترد هنا الأسئلة التالية:
أولاً:
هل تتحقق المساعدة في أمور الاعتقاد، وفي القيام
بالواجبات؟!
ثانياً:
إذا كانت تتحقق، فلنا أن نسأل عن كيفية هذه المساعدة،
ومداها، والدافع إليها؟!.
ثالثاً:
هل هذه المساعدة خاصة به، أو تشمل غيره أيضاً؟!
ونجيب بما يلي:
1 ـ
لعل مساعدة إخوانه له في الأحكام والاعتقادات تتمثل
بإرشاده إلى كيفية القيام بما كلفه الله تعالى به، وتهيئة الوسائل لما
يحتاج منها إلى وسائل. وتعليمه ما يحتاج إلى تعليم، ولا سيما ما كان
منها من قبيل الاعتقادات أو الأحكام.
2 ـ
إن القيام بمقتضيات التقية التي أمره «عليه السلام» بها
يحتاج إلى مؤونة وتسديد ومعونة، فهو يحتاج إلى إخوانه أيضاً لمساعدته
في مثل هذه الحالات.
3 ـ
أما مدى وحجم، وزمان هذه المساعدة، فهو بلا حدود ولا
قيود، لأنها من الخير الذي لا ينتهي محبوبيته والرغبة فيه بانتهاء
المقدرة عليه، بل يتجاوزها إلى أن يصبح حب الخير هو الغذاء الروحي الذي
ينعش الوجود كله، ويجعله كادحاً إلى ربه، لا يقف في كدحه وسعيه هذا عند
حد، لأنه يصل نفسه باللامحدود وبمحض الخير اللامتناهي.
ويكون الدافع إلى ذلك هو حب الله، والفناء فيه تبارك
وتعالى.
وهذا هو التجسيد الحي لمفهوم ومضمون قوله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
التي تجعل هذا التعاون خُلُقاً يسع أهل الإيمان كلهم، ولا يختص ببعض
منهم دون بعض..
وأصحاب هذا الخلق، العاملون بقوله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
هم خير أمة محمد
«صلى الله
عليه وآله»،
ويكون حالهم هذا دليلاً على خيريتهم، وتقدمهم في الفضل على غيرهم. وهم
صفوة شيعة علي «عليه السلام»..
وإن من مفاخر شيعة علي «عليه السلام» أن يكون ما يميزهم
عن كل من عداهم هو سمة سلوكية وعملية، وليست مجرد حالة كامنة في داخل
وجودهم. بل تكون الحالات الشخصية الكامنة، كالعمل، وطهارة الضمير،
والعبادة والطاعة لله بمثابة أدوات منتجة للخيرية الذاتية التي تكرس
هذا السلوك الاجتماعي.
وبتعبير آخر:
إنه «عليه السلام» لم يجعل كثرة عملهم، ولا كثرة
عبادتهم، ولا زهدهم في الدنيا، ولا طهارة ضميرهم، ولا صفاء نياتهم، ولا
عصمتهم عن الذنب والخطأ.. ولا غير ذلك دليلاً على فضلهم.
بل جعل تعاونهم العملي على البر والتقوى هو الشاهد
والدليل على ذلك الفضل العظيم، لأنهم يكونون بذلك قد جمعوا الفضل من
جميع جهاته وأطرافه، وقد غمر كل وجودهم، واستفاض حتى شملوا به غيرهم..
وقوله «عليه السلام»:
«وصفوة شيعة
علي» معطوف على قوله: خير أمة محمد
«صلى الله
عليه وآله»،
من باب عطف الخاص على العام. فإن شيعة علي «عليه السلام» هم بعض أمة
محمد
«صلى الله عليه وآله».
بقي أن نشير إلى أننا رأينا علياً «عليه السلام» يتحدث
عن نفسه هنا بصيغة الغائب، ولعله لأجل أنه «عليه السلام» كان بصدد وضع
الأساس العقيدي الذي لا بد من الالتزام به، فاحتاج إلى أن يجرد الفكرة
التي هو بصدد بيانها عن المحيط الحسي الذي يحتضنها، لكي توغل في وعي
ذلك المتلقي لها. وتنشر في عمق وجوده النور والهدى، والصفاء والصلاح.
وبتجردها هذا هو الذي يهيؤها للاتساع وللنفوذ إلى كل
الحنايا، لكي تلامس كل الكوامن والخفايا. فتملؤها طهراً، ونقاء، وتتجلى
بهاء وصفاء.
ولكنه «عليه السلام» حين انتقل إلى مجال التنفيذ
والعمل، ووضع ذلك اليوناني في مواجهة مسؤولياته وواجباته أصدر له
أوامره كقائد وإمام، لا بد أن يتابع حركة الواقع في المجال العملي
بأمانة ودقة.
وقد كان أول توجيه عملي منه «عليه السلام» لذلك
اليوناني هو أن يواسي إخوانه بإمكاناته المالية..
وقد اكتفى «عليه السلام» بالمساواة ولم يتجاوزها إلى
الإيثار.
وهذا في حد نفسه يعطيه شعوراً بالأمن والاطمئنان إلى
المستقبل، والمصير، فإن ديناً يكون أول مطالبه بعد صحة الاعتقاد،
والقيام بفروض العبادة والطاعة الله
ـ هو مساواة الإنسان المؤمن غيره بما يملكه من إمكانات
ـ إن هذا الدين هو الذي يصح أن يؤتمن على الأموال والأعراض والأنفس
والمستقبل والمصير.
وذلك لأن المواساة هي السبيل
الأمثل للتخلص من المشكلات الحياتية التي تعترض طريقه، كما أنها ترسخ
العلاقة، وتذكي المشاعر الروحية الفاعلة، والمؤثرة، وتغمره بفيضٍ من
الحب والحنان بأسمى وأصفى معانيه، وتوحي إلى كل فرد من أعضاء المجتمع
الكثير من المعاني والقيم، التي تضعه أمام مسؤوليات تفرضها عليه.
كما أن ذلك يمنع من تبلور سلبيات أو عقد قد تكون
موجباتها قد أفرزت حالات ضعف مر بها بعض أهل الإيمان. هذا إن لم نقل:
إنه ربما يؤثر في ضمور تلك السلبيات إلى أن تختفي بالكلية.
وقد وصف «عليه السلام» شيعته بكلمتي «الإخوان» و
«المطابقين»، أي أنه «عليه السلام» لم يكتف في وصف المؤمنين بكلمة
إخوانك بل أضاف إليها كلمة: «المطابقين لك على تصديق محمد
«صلى الله
عليه وآله»
وتصديقي، والانقياد له، ولي». ليدل على أن مجرد الانتساب العام إلى
المذهب أو إلى أهل الإيمان لا يكفي في إيجاب المساواة لهم، بل لا بد من
تحصيل العلم بالمطابقة وبالتوافق التام في أمرين، هما:
1 ـ
التصديق.
2 ـ
الطاعة..
فلا يكتفى بأحدهما دون الآخر، ولا يكتفى بالتصديق في
بعض الموارد دون بعض..
ولا يكتفى أيضاً بالطاعة في بعض الموارد.. بل لا بد من
التطابق والتوافق التام في التصديق والطاعة، في كل الموارد، فلو حصل
التخلف في مورد واحد منها سقط وجوب المساواة هذا. كما أن التصديق
والطاعة الكاملة والشاملة لا بد أن تكون لرجلين هما
1 ـ
النبي
«صلى الله
عليه وآله».
2 ـ
علي «عليه السلام» بشخصه وعينه..
فلو تخلف أحد أهل الإيمان عن الطاعة والتصديق لعلي
مثلاً ولو في مورد واحد لم تجب مواساته، لأنه أخل بالتطابق التام لهما
صلى الله عليهما في جميع الموارد في هذين الأمرين..
وهذا يدل:
على أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
وعلياً «عليه السلام» متوافقان في جميع الأمور، بحيث يكون أمر علي
«عليه السلام» في كل مورد هو أمر النبي
«صلى الله
عليه وآله».
ويكون عدم تصديق علي «عليه السلام» ولو في مورد مساوقاً لعدم تصديق
النبي
«صلى الله عليه وآله».
ويدل أيضاً:
على أن من عصى علياً مرة واحدة فإنه يخرج بها عن دائرة الأخوة
الإيمانية، وتسقط بذلك حقوق هذه الإخوة، التي منها المساواة، كما دل
عليه التعبير بكلمة «المطابقة»، القائم عليه إشتراط الطاعة والتصديق
للنبي ولعلي «عليه السلام» معاً..
يضاف إلى ذلك:
علمنا بأن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
قد طبق مفهوم قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾([11]).
في عملية المؤاخاة بين المسلمين، حين أقامها على الحق وعلى المساواة..
كما فعل علي «عليه السلام» أيضاً هنا..
ويؤكد ذلك:
أنه «صلى الله عليه وآله» ـ كما روي ـ كان يؤاخي بين الرجل ونظيره([12]).
وقد أرشد «عليه السلام» إلى المعيار الذي لا بد من
اعتماده في موضوع الإنفاق على الإخوة المطابقين في الطاعة والتصديق
للنبي
«صلى الله
عليه وآله»
ولعلي «عليه السلام»، فذكر ما يلي:
1 ـ
في صورة التساوي في الدرجة في الإيمان عليه أن يساويه في ماله بنفسه.
2 ـ
إن كان أفضل منه في الدين، فعليه أن يؤثر بماله على
نفسه.
ولكنه «عليه السلام» لم يبين له الطريقة التي يعرف بها
مساواته له، أو أفضليته عليه.. ربما لأنه يريد أن يترك الأمر إلى
وجدانه وإنصافه في نظرته. لأن القناعة الوجدانية هنا هي التي تحقق طيب
النفس له بالمال في صورة المساواة، أو في صورة ظهور الفضل.
وأما سبب عدم ذكر الشق الثالث، وهو أن يكون الطرف
المحتاج للمال هو المفضول في الدين والإيمان. فهو أن هذا الشق لا موضع
له بعد فرض المطابقة في التصديق والطاعة لرسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
ولأمير المؤمنين «عليه السلام»..
وقد ذكر «عليه السلام» لذلك
اليوناني:
أن الأنبياء والأوصياء «عليهم السلام» هم المصدر لأمور ثلاثة، لا بد من
صيانتها، وهي:
1 ـ الدين.
2 ـ العلم.
3 ـ الأسرار
أما صيانة الدين، فإنما هو بالالتزام بأحكامه وشرائعه،
وتبني حقائقه واعتقاداته، وعقد القلب عليها. ثم دفع الشبهات عنه،
والدعوة إليه.
وأما صيانة العلوم الصحيحة، فإنما يكون:
أولاً:
إبعادها عن أن تكون في متناول يد من ينتهك حرمتها ومن
يستخف بها، أو يسعى لإثارة الشبهات حولها.
ثانياً:
إبعاد حملة هذه العلوم عن الإساءات إليهم بالشتم
واللعن، وتناول العرض والبدن بالأذى. فإن هذا قد يوجب الزهد بالحقائق،
والمضامين الصحيحة، واللجوء إلى الأباطيل والترهات.
أما صيانة الأسرار، فلأن إفشاء
الأسرار معناه:
كشف الحالات المنسجمة مع واقع ملتزم بمنظومة قيم، ومثل،
ومعايير، ربما لم يجربها أو لعله لم يعرفها، ولم يتذوق طعمها، ولم
يتلمس آثارها على السلوك والممارسة، وعلى الروح والقلب، والمشاعر، وما
إلى ذلك.. وسيجد فيها الكثير من الناس ما قد لا ينسجم مع ذائقتهم، ومع
طريقة حياتهم، وما يلبي رغباتهم وشهواتهم، فيسقط محلها في نفوسهم،
وربما ينفرون منها، ويشهرون لها العداء..
وقد يندفع بعض منهم بسبب جهله، وطيشه ورعونته ـ إلى
التشنيع على رموز الطهر والصدق، وقد يتمادى الأمر بأولئك الجاهلين
والطائشين إلى حد التطاول عليهم بما يوجب هتك حرمتهم، والعدوان على
كراماتهم.
ثم إنه «عليه السلام» يقول لذلك
اليوناني:
«وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا علينا، إن ألجأك الخوف
إليه، وفي إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلوات
المكتوبات، إن خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات إلخ..».
فقد تضمن هذا الكلام إذناً منه «عليه السلام» لذلك
الرجل بأن يمارس التقية. فقد يسأل سائل عن هذا الأمر، ولا يتسع القول
بأن التقية تحتاج إلى إذن، بعد أن شرعها الله تعالى للبشر جميعاً حين
يكرههم الظالمون على الجهر بخلاف ما يعتقدونه، تحت طائلة التعذيب،
وربما يصل الأمر إلى القتل. ويكفي شاهداً على ذلك ما جرى مع ياسر
وزوجته سمية، وولده عمار، الذي نزل في حقه قوله تعالى: ﴿إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾([13]).
وقصة مؤمن آل فرعون الذي نزل فيه قوله تعالى:
﴿وَقَالَ
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾([14])
شاهد آخر على ذلك.
ويمكن أن يجاب:
بأن العمل بالتقية بحضور الإمام يختلف عنه في حال غيبته
ففي حال الغيبة تمس الحاجة إلى وضع ضوابط وأحكام يعول الناس عليها حين
يحتاجون إليها. لأن عدم العمل بالضابطة لا بديل له وعنه إلا هدر
الطاقات، وإزهاق الأرواح، من دون وجود ما يدل على وجود مصلحة في
إزهاقها..
أما في حال حضور الإمام، فإنه هو الذي يتعاطى الشأن
العام، فقد تقتضي الحال ضرورة الجهر بالحقائق، حتى لو كلف ذلك إتلاف
المال، أو التعرض للأذى في النفس، بحيث توجب ممارسة التقية مفسدةً
وضرراً عظيماً على الدين وأهله.. وقد لا تقتضي شيئاً من ذلك..
والإمام هو الذي يحدد هذا أو ذاك. فلا بد من الرجوع
إليه للوقوف على جلية الأمر من الإمام نفسه، ويكون إعطاؤه الإذن
بالتقية، أو حجبه الإذن بها هو الفيصل في هذا الأمر.
وقد لاحظنا:
أنه «عليه السلام» قد أجاز لذلك الرجل تفضيل أعدائهم
عليهم، إن ألجأه الخوف إلى هذا التفضيل. أما إظهار البراءة منهم «عليهم
السلام» فيكفي فيه حصول الوجل، وهو استشعار الخوف كما يقول الراغب، أي
مجرد الإحساس به. وهذه مرتبة أقل من مرتبة الخوف الملجئ إلى التفضيل.
فدل ذلك:
على أن إظهار البراءة أسهل من تفضيل أعداء أهل البيت
عليهم، لأن في هذا التفضيل تضليل وإيقاع في الشبهة، فاحتاج التنازل عنه
في التقية إلى تحقق خوف شديد يلجئ إليه.
أما إظهار البراءة، الذي يكفي فيه مجرد الوجل، فهو مجرد
ادعاء أنه لا علاقة له بهم، سواء أكانوا أخياراً وأطهارا، وأنبياء أو
أوصياء، أو لم يكونوا كذلك، فإن ذلك لم يتعرض له حتى مع علمه به أو أنه
لم يعلم به من الأساس.
ويلاحظ:
أنه لم يذكر في الموردين المتقدمين إن كان الخوف أو
الوجل على المال أو على النفس، أو مجرد الأذى، أو غير ذلك.. ولكن قوله
الآتي: لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها، يدل على أن الحديث إنما
هو في مورد الخوف على المال والنفس والجاه.
أما ترك الصلاة المكتوبة، التي ورد أنها لا تترك بحال،
فقد رخص «عليه السلام» فيه في صورة الخشية على النفس من أن تنالها
الآفات والعاهات، فيعلم من تجويز ترك الصلاة في هذه الحالة: أن قوله
«عليه السلام»: لا تترك الصلاة بحال، لا يشمل صورة الخوف على النفس..
وقد قرر «عليه السلام» في كلامه في
هذا المورد:
أنه إنما يأذن له بالعمل بالتقية انطلاقاً من قاعدة
تقديم الأهم على المهم، التي هي قاعدة عقلية. فقد قال له:
«لئن تبرأت منا ساعة بلسانك، وأنت موالٍ لنا بجنانك
لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي به قيامها، وجاهها
الذي به تماسكها..
إلى أن قال:
فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في
الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين».
وبذلك يكون اللجوء إلى التقية أمراً مقبولاً ومفهوماً،
ويعد تصرفاً طبيعياً يمارسه كل عاقل إذا واجه التحدي، الذي لا طاقة له
بدفعه عن نفسه إلا بهذه الطريقة.
وبهذا البيان الواضح منه «عليه السلام» تصبح قاعدة
الأخذ بالأهم حين يدور الأمر بينه وبين المهم، قاعدة يمكن اعتمادها حتى
في غير موارد التقية، والحاجة إلى دفع الخطر عن النفس، أو عن المال
والجاه.
وقد يطرح سؤال يقول:
كيف جاز التخلي عن العمل بأحكام الشريعة، والالتزام بما
يفرضه التدين والاعتقاد لمصلحة حفظ النفس والمال والجاه؟!
وهل أصبحت الدنيا وشؤونها أهم من حفظ أحكام الدين،
والعمل بها؟!
ونجيب:
بأن المطلوب ليس هو إهمال الدنيا، والتخلي عنها، بل
المطلوب هو تسخيرها في خدمة الأهداف السامية، وحفظها، وتوفير إمكانات
الوصول إليها، على النحو الأفضل والأمثل.
فإن حفظ النفس والمال والجاه ليس لأجل أن القيمة تتجسد
في هذه العناصر الثلاثة، بحيث تكون الهدف الأقصى والنهائي للإنسان في
الحياة.
بل المطلوب هو توفير هذه الطاقة، وصرف الأسواء عنها
للاستفادة منها فيما هو أهم ونفعه أعم، فيما يرتبط بصناعة مستقبل
الإنسان، وحفظ منظومة القيم التي يلتزم بها، ويريد لها أن تهيمن على
مسار الحياة في الدنيا، والانتهاء بها إلى تحقيق الفوز، ونيل السعادة
في الآخرة..
وقد بين «عليه السلام» هذا الأمر بصورة واضحة، ووافية،
وذلك ضمن النقاط التالية:
1 ـ
إن تفضيل الإنسان المؤمن في حالة خوفه أعداء أهل البيت
على أهل البيت لا ينفع أولئك الأعداء في شيء. لأن ظهور حالة الخوف تسقط
هذا التفضيل عن صلاحية الإلزام والالتزام به.
2 ـ
إن هذا التفضيل لا يضر أهل البيت، لأنه لا يعبر عن
واقع، ولا يشير إلى الالتزام بهذا التفضيل من قبل من صدر عنه.
3 ـ
إن إظهار البراءة منهم «عليهم السلام» عند سبيل التقية
لا يدل على أن هذه البراءة قد جاءت نتيجة اكتشاف خلل أو نقص كان
خافياً.
فظهر أنه لا سلبيات للبراءة وللتفضيل في ممارسة التقية
في حال الخوف..
أما في الجانب الإيجابي، فإن من فوائد التقية:
1 ـ
إن التبرء الظاهري اللساني من أهل البيت ساعة، مع
استقرار الإيمان في الجنان، يحفظ له حياته، ويبقي لنفسه روحها، التي
بها قوامها إلى أن يأذن الله.
2 ـ
إنه يصون إخوانه من التعرض للأذى، لأن ظهور أمره،
وافتضاح تشيعه وربما يمكِّن أولئك الطغاة من معرفة أمور كان يجب أن
تبقى خافية عليهم، لأنهم سيجدون فيها مبرراً لملاحقة الطغاة لكل من
عرفوا بأنه على مثل رأيه، ومن كانت له أدنى صلة به. وربما يمتد الأذى
إلى النساء أيضاً، فضلاً عن الرجال.
والنساء أكثر حساسية وأشد ضعفاً أمام وسائل القهر
والتحدي.. وبالتالي سيكون العدوان عليهن أشد أذى، وأبعد أثراً في إلحاق
الهزيمة الروحية بالمجتمع الإيماني كله..
3 ـ
إن الآثار التي تنشأ عن عدم ممارسة التقية سوف تمتد
وتتلاحق تفاعلاتها شهوراً وسنين كثيرة.. أما إذا مارس التقية فإنه
سيفوز بالسلامة الشخصية، وسيدفع الأذى عن أهل الإيمان. ويوفر عليهم
الكثير من المآسي والآلام طيلة سنين متمادية.
4 ـ
إن ذلك سيمكنه هو وسائر من هم على رأيه من مواصلة نشر
دعوتهم، والعمل على صلاح أمورهم..
وقد أظهرت كلماته «عليه السلام» أن المطلوب من العمل
بالتقية هو حفظ أمور ثلاثة:
1 ـ حفظ النفس.
2 ـ حفظ المال..
3 ـ حفظ الجاه..
ويبدو أن حفظ النساء والعُرض من التعرض لأذى وانتهاك
أهل الطغيان والباطل يدخل في نطاق حفظ الجاه، فإن المجتمعات الجاهلة لا
ترحم، لأن أكثر الناس لا يعون مسؤولياتهم، ولا يقومون بواجباتهم
الإنسانية والإيمانية. أو لا يبالون بآلام الناس، ولا يهتمون بمداواة
جراحاتهم، بل قد يظهرون الاستخفاف والسخرية والشماته بإخوانهم إذا
تعرضوا للعدوان على أعراضهم، أو لغير ذلك من أنواع العناء والبلاء.
والمصيبة بهؤلاء ستكون أدهى، والمرارة أشد وأعظم.
وقد
أشار «عليه السلام» إلى ثلاثة أمور، يعطي التأمل فيها:
أنها هي العناصر الأساسية للحياة ولبقاء الإنسان في شخصيته الفردية،
والاجتماعية. وهذه العناصر هي:
1 ـ
روحه التي بها قوام الإنسان وتمثل وجوده في شخصيته
الفردية.
2 ـ
ماله، الذي به قيام الإنسان، فإن المال هو الذي يكرس له
المنافع المالية في دائرته الضيقة، ومحيطه العائلي، وهو الذي يقيم
أوده، ويحقق له وجوده ويؤكد فاعليته، كعضو فاعل ومؤثر في النظام
الاجتماعي العام.
3 ـ
جاهه الذي به تماسكه، والذي يلامس شخصيته الاجتماعية،
في الدائرة الأوسع، حيث تتطلع مختلف الشرائح الاجتماعية للإفادة من هذا
الجاه، في حل مشكلاتها، وقضاء حاجاتها، وتولي إنجاز الكثير من أمورها.
ومن شأن هذا الجاه أن يعطي الشخصية قوةً وتماسكاً في
مكوناتها، وسماتها وصفاتها الذاتية، وفيما يسرته لها طبيعة الحياة
العامة من قدرات وإمكانات ووسائل. حيث يمكِّنه جاهه من تحريك إمكاناته
بصورة معقولة ومقبولة، ويهيئ به للشخصية وسائل الحفظ، ويفتح أمامها
أبواب التأثير فيما أريد لها أن تؤثر فيه.
وقد بين «عليه السلام» سلبيات التخلي عن التقية بأبهى
وأصدق وأوضح بيان، فقال محذراً لذلك الرجل، مرة بعد أخرى: «وإياك إياك
أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك:
1 ـ
شائط بدمك.
2 ـ
ودماء إخوانك.
3 ـ
معرض لنعمك ونعمهم للزوال.
4 ـ
مذل لهم في أيدي أعداء دين الله. وقد أمرك الله
بإعزازهم».
5 ـ
«فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من
ضرر الناصب لنا، الكافر بنا».
والوجه في هذا كله واضح:
فإن ترك التقية هنا سيحدث هذا الضرر الهائل عليه وعلى
من معه، لما فيه من التفريط بحياتهم، وتعريض نعمهم للزوال، وإذلالهم
بأيدي أعدائهم..
أما الناصب الكافر، فقد لا يتمكن من إلحاق هذا المستوى
من الضرر بأهل الحق.. ويكون نُصْبُهُ الظاهر، وكفره المعلوم من موجبات
التحرز منه، والعمل على إبطال كيده، والحد من قدراته، ومن جدوى وسائله.
([1])
أي أفرغه في كفه، ثم بثه في داخل فمه.
([2])
الآية 28 من سورة آل عمران.
([3])
الإحتجاج ج1 ص547 ـ 557 والتفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه
السلام» ص170 ـ 176 وبحار الأنوار ج10 ص70 وج42 ص45 وج71 ص221
وج72 ص418 وج59 ص158 وحلية الأبرار ج1 ص311 ومدينة المعاجز (ط
حجرية) ص58 وأورد بعضه في الوسائل ج11 ص478 وكذا في مناقب آل
أبي طالب ج2 ص301.
([4])
راجع: التفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه السلام» ص339
والإحتجاج ج1 ص6 ـ 9 وراجع ص4 وبحار الأنوار ج2 ص2.
([5])
راجع: بصائر الدرجات ص295 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)
ج3 ص8 والمسترشد ص378 والاختصاص للمفيد ص186 و 275 ومناقب آل
أبي طالب ج1 ص381 وج2 ص85 والعقد النضيد والدر الفريد ص161
وكتاب الأربعين للشيرازي ص160 ومدينة المعاجز ج2 ص279 وج3 ص12
و بحار الأنوار ج28 ص220 و 228 وج41 ص51 ومناقب أهل البيت
للشيرواني ص402 و 447 والغدير ج7 ص78 وج9 ص388 وراجع: شرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج11 ص111 وتفسير العياشي ج2 ص67.
([6])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص299 والدرجات الرفيعة ص37
= = والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص728.
([7])
الآية 181 من سورة آل عمران.
([8])
الآية 64 من سورة المائدة.
([9])
الآية 59 من سورة التوبة.
([10])
من الآية 74 من سورة التوبة.
([11])
من الآية 10 من سورة الحجرات.
([12])
راجع: العمدة لابن البطريق ص171 و 172 وبحار الأنوار ج38 ص333
و 335 و 345 و 346 وينابيع المودة ج1 ص178 والأمالي للطوسي
ص587 والطرائف لابن طاوس ص107 ودلائل الصدق ج2 ص272 و 273
والعثمانية للجاحظ ص134 ومستدرك الحاكم ج3 ص14 و 303 ووفاء
الوفاء ج1 ص267 و 268.
وراجع: وفتح الباري ج7 ص211 والسيرة الحلبية ج2 ص20 وكتاب
الأربعين للماحوزي ص236 و 239 والإمام علي بن أبي طالب
للهمداني ص307 و 565 والدرجات الرفيعة ص287 ونهج الإيمان ص427
وكشف الغمة ج1 ص336 وكشف اليقين ص208 والسيرة النبوية لدحلان
ج1 ص155 والاستيعاب وغير ذلك.
([13])
من الآية 106 من سورة النحل.
([14])
من الآية 28 من سورة غافر.
|