صفحة :305-340   

الفصل التاسع: النص الأقرب.. والأصوب..

مشكلات قرآنية، وحلها..

بـدايـة:

لعل حديث الزنديق في الفصل السابق تعرض لبعض التصرف الذي أفسد بعض مضامينه، ولعل الصحيح، هو هذه الرواية التي ذكرناها آنفاً.

حوار حول القرآن:

روى الشيخ الصدوق «رحمه الله» عن القطان، عن ابن زكريا القطان، عن ابن حبيب، عن أحمد بن يعقوب بن مطر، عن محمد بن الحسن بن عبد العزيز الأحدب الجنديسابوري قال: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثنا طلحة بن يزيد، عن عبيد الله عبيد، عن أبي معمر السعداني أن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» فقال:

يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل.

فقال له علي «عليه السلام»: ثكلتك أمك، وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟!

قال: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً، فكيف لا أشك فيه.

فقال علي بن أبي طالب «عليه السلام»: إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً، ولا يكذب بعضه بعضاً، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل.

قال له الرجل: إني وجدن الله يقول: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا.

وقال أيضاً: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾.

وقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾.

فمرة يخبر أنه ينسى، ومرة يخبر أنه لا ينسى، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟!

قال: هات ما شككت فيه أيضاً

قال: وأجد الله يقول: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾.

وقال: وقد استنطقوا فقالوا: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.

وقال: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾.

وقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾.

وقال: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾.

وقال: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

فمرة يخبر: [أنهم يتكلمون، ومرة] أنهم ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون، ويقول عن مقالتهم: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. ومرة يخبر أنهم يختصمون، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله عز وجل يقول: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

ويقول: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

ويقول: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾.

ويقول: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ومن أدركته الأبصار فقد أحاط به العلم([1])، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات أيضاً ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾.

وقال: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾.

وقال: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا﴾.

وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ﴾.

وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾. فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله جل جلاله يقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً وقد يسمى الإنسان سميعاً بصيراً وملكاً ورباً يخبر أن له أسامي كثيرة مشتركة، ومرة يقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك ما عندك.

قال: ووجدت الله تبارك اسمه يقول: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

ويقول: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾.

ويقول: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ كيف ينظر إليهم من يحجب عنه، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك أيضاً ما شككت فيه.

قال: وأجد الله عز ذكره يقول: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾.

وقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.

وقال: ﴿وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾.

وقال: إنه هو الظاهر والباطن ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾..

وقال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.

فأنى ذلك يا أمير المؤمنين!! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات أيضاً ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله جل ثناؤه يقول: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾.

وقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

وقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ.

وقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾.

فمرة يقول: يأتي ربك، ومرة يقول: يوم يأتي بعض آيات ربك، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله جل جلاله يقول: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾.. وذكر المؤمنين فقال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

وقال: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ.

وقال: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ

وقال: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾.

فمرة يخبر أنهم يلقونه، ومرة يخبر أنه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.

ومرة يقول: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: هات ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾.

وقال: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾.

وقال: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾.

فمرة يخبر أنهم يظنون، ومرة يخبر أنهم يعلمون، والظن شك، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟!

قال: ويحك هات ما شككت فيه.

قال: وأجد الله تعالى ذكره يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.

وقال: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.

وقال: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾.

وقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾.

وقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾.

فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟! وكيف لا أشك فيما تسمع؟! وقد هلكت إن لم ترحمني، وتشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك، فإن كان الرب تبارك وتعالى حقاً، والكتاب حقاً، والرسل حقاً، فقد هلكت وخسرت، وإن لم تكن الرسل باطلاً فما علي بأس، وقد نجوت.

فقال علي «عليه السلام»: قدوس ربنا قدوس، تبارك وتعالى علواً كبيراً. نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول، ولا نشك فيه، و ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأن الكتاب حق، وأن الثواب والعقاب حق.

فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله، إن شاء رزقك، وإن شاء حرمك ذلك. ولكن سأعلمك ما شككت فيه، ولا قوة إلا بالله، فإن أراد الله بك خيراً أعلمك بعلمه، وثبتك، وإن يكن شراً ضللت وهلكت.

أما قوله: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إنما يعني ﴿نَسُوا اللهَ في دار الدنيا، لم يعملوا بطاعته ﴿فَنَسِيَهُمْ في الآخرة، أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير.

وكذلك تفسير قوله عز وجل: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا؟! يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين، حين آمنوا به وبرسله، وخافوه بالغيب.

وأما قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾، فإن ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم. وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان، فلا يذكرنا، أي أنه لا يأمر لهم بخير، ولا يذكرهم به.

فهل فهمت ما ذكر الله عز وجل؟!

قال: نعم فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة، فعظم الله أجرك.

قال: وأما قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾.

وقوله: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.

وقوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾.

وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾.

وقوله: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾.

وقوله: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، فإن ذلك في [مواطن] غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة.

يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذٍ في مواطن:

يتفرقون، ويكلم بعضهم بعضاً، ويستغفر بعضهم لبعض، أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا من الرؤساء والأتباع، ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء، وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً.

والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: فيبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم «عليه السلام» قول الشيطان: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾.

وقول إبراهيم خليل الرحمان: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ يعني تبرأنا منكم.

ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه، فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله، فلا يزالون يبكون الدم.

ثم يجتمعون في موطن آخر، فيستنطقون فيه، فيقولون: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم، فيقولون لجلودهم: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.

ثم يجتمعون في موطن آخر، فيستنطقون، فيفر بعضهم من بعض، فذلك قوله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فيستنطقون، فلا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن، فذلك قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً.

ثم يجتمعون في موطن آخر، فيكون فيه مقام محمد «صلى الله عليه وآله» وهو المقام المحمود، فيثني على الله تبارك وتعالى بما لم يثن عليه أحد من قبله.

ثم يثني على الملائكة كلهم، فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد «صلى الله عليه وآله».

ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد مثله.

ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة، يبدأ بالصديقين والشهداء، ثم بالصالحين، فحمده أهل السماوات وأهل الأرض. وذلك قوله عز وجل: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾.

فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب.

ثم يجتمعون في موطن آخر، ويدال بعضهم على بعض.

وهذا كله قبل الحساب فإذ أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه، نسأل الله بركة ذلك اليوم.

قال: فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.

فقال «عليه السلام»: وأما قوله عز وجل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

وقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.

وقوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾.

وقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾.

فأما قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان، فيغتسلون فيه، ويشربون منه، فتنضر وجوههم إشراقاً، فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنه يدخلون الجنة.

فذلك قول الله عز وجل في تسليم الملائكة عليهم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾.

فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة، والنظر إلى ما وعدهم ربهم. فذلك قوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. وإنما يعني بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى.

وأما قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، فهو كما قال: لا تدركه الأبصار، ولا تحيك به الأوهام، وهو يدرك الأبصار، يعني يحيط بها، وهو اللطيف الخبير.

وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علواً كبيراً.

وقد سأل موسى «عليه السلام» وجرى على لسانه من حمد الله عز وجل ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً، وسأل أمراً جسيماً، فعوقب، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة، ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا فانظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني.

فأبدى الله جل ثناؤه بعض آياته، وتجلى ربنا تبارك للجبل، فتقطع الجبل فصار رميماً وخر موسى صعقاً ثم أحياه الله وبعثه، فقال: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك.

وأما قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى يعني محمداً، حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله.

وقوله في آخر الآية: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى رأى جبرئيل «عليه السلام» في صورته مرتين: هذه المرة، ومرة أخرى. وذلك أن خلق جبرئيل «عليه السلام» عظيم، فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين.

وأما قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لا تحيط الخلائق بالله عز وجل علماً، إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء، فلا فهم يناله بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدود، فلا نصفه إلا كما وصف نفسه، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الأول الآخر، والظاهر والباطن، الخالق الباري، المصور، خلق الأشياء فليس من الأشياء شيء مثله تبارك وتعالى.

فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة، فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.

[فقال «عليه السلام»]: «وأما قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾، وقوله: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾، وقوله: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا وقوله: ﴿يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، وليس بكائن إلا من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، كذلك قال الله تبارك وتعالى علواً كبيراً قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء، رسل الأرض، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء.

وقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا جبرئيل هل رأيت ربك؟!

فقال جبرئيل «عليه السلام»: إن ربي لا يرى.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: فمن أين تأخذ الوحي؟!

فقال: آخذه من إسرافيل.

فقال: ومن أين يأخذه إسرافيل؟!

قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين.

قال: فمن أين يأخذه ذلك الملك؟!

قال: يقذف في قلبه قذفاً.

فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام الله ليس بنحو واحد، منه ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذفه في قلوبهم، ومنه رؤيا يريها الرسل، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ، فهو كلام الله.

فاكتف بما وصفت لك من كلام الله، فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد، فإنه منه ما تبلغ منه رسل السماء رسل الأرض.

قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة، فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.

[فقال «عليه السلام»:] وأما قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾، فإن تأويله هل تعلم له أحداً اسمه الله، غير الله تبارك وتعالى.

فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء، فإنه رب تنزيل يشبِّه بكلام البشر، وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر، كما ليس شيء من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله تعالى شيئاً من أفعال البشر، ولا يشبِّه شيء من كلامه بكلام البشر.

فكلام الله تبارك وتعالى صفته، وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر، فتهلك وتضل.

قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة، فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.

قال «عليه السلام»: وأما قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. كذلك ربنا لا يعزب عنه شيء، وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق، وهو الخلاق العليم؟!

وأما قوله: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ يخبر أنه لا يصيبهم بخير. وقد يقول العرب: والله ما ينظر إلينا فلان. وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا بخير، فذلك النظر هاهنا من الله تبارك وتعالى إلى خلقه، فنظره إليهم رحمة لهم

قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة، فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.

فقال «عليه السلام»: وأما قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، فإنما يعني بذلك يوم القيامة: أنهم عن ثواب ربهم يومئذ لمحجوبون، وقوله: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ وقوله: ﴿وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾. وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾. وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.

فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحاً قدوسا أن يجري منه ما يجري من المخلوقين، وهو اللطيف الخبير، وأجل وأكبر أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه، شاهد لكل نجوى.

وهو الوكيل على كل شيء، والمنير لكل شيء. والمدبر للأشياء كلها. تعالى الله عن أن يكون على عرشه علواً كبيراً.

وأما قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾. وقوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ.

وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ﴾، فإن ذلك حق كما قال الله عز وجل وليس له جيئة كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أن رُبَّ شيء من كتاب الله تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه كلام البشر. وسأنبؤك بطرف منه. فنكتفي إن شاء الله من ذلك بقول إبراهيم: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهاداً، وقربة إلى الله عز وجل. ألا ترى أن تأويله غير تنزيله؟!

وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾. يعني السلاح وغير ذلك.

وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يخبر محمداً «صلى الله عليه وآله» عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله، فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يعني بذلك العذاب في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم.

ثم قال: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾. يعني من قبل أن تجيء هذه الآية. وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها.

وإنما يكتفي أولوا الألباب والحجى وأولوا النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون، وقال في آية أخرى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني أرسل عليهم عذاباً، وكذلك إتيانه بنيانهم، وقال الله عز وجل: ﴿فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فإتيانه بنياهم من القواعد إرسال العذاب، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علواً كبيراً، وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، كما تجري أموره في الدنيا، لا يلعب ولا يأفل مع الآفلين

فاكتف بما وصفت لك من ذلك، مما جال في صدرك مما وصف الله عز وجل في كتابه. ولا تجعل كلامه ككلام البشر، هو أعظم وأجل، وأكرم وأعز، وتبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون، إلا بما وصف نفسه في قوله عز وجل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فرج الله عنك، وحللت عني عقدة.

[فقال «عليه السلام»:] وأما قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾، وذكره المؤمنين ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

وقوله لغيرهم: ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾.

وقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً.

فأما قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾. يعني: البعث، فسماه الله عز وجل لقاءه، وكذلك ذكره المؤمنين ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾. يعني: يوقنون أنهم يبعثون ويحشرون، ويحاسبون، ويجزون بالثواب والعقاب.

والظن هاهنا اليقين. وكذلك قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾. وقوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآَتٍ﴾. يعني فمن كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب والعقاب.

فاللقاء هاهنا ليس بالرؤيا، واللقاء هو البعث، فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه، فإنه يعني بذلك البعث.

وكذلك قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ. يعني: أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون.

قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فرج الله عنك، فقد حللت عني عقدة.

[فقال «عليه السلام»:] وأما قوله: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾. يعني: أيقنوا أنهم داخلوها، وأما قوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾. وقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾. وقوله للمنافقين: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾.

فإن قوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾. يقول: إني ظننت أني أبعث فأحاسب، لقوله: ﴿مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾..

وقوله للمنافقين: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا فهذا الظن ظن شك، فليس الظن ظن يقين.

والظن ظنان: ظن شك، وظن يقين. فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك.

فافهم ما فسرت لك.

قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فرج الله عنك.

[فقال «عليه السلام»:] وأما قوله تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾، فهو ميزان العدل، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين، وفي غير هذا الحديث الموازين هم الأنبياء والأوصياء «عليهم السلام»، وقوله عز وجل: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾. فإن ذلك خاصة.

وأما قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: قال الله عز وجل: لقد حقت كرامتي [أو قال: مودتي] لمن يراقبني ويتحاب بجلالي، إن وجوههم يوم القيامة من نور، على منابر من نور، عليهم ثياب خضر.

قيل: من هم يا رسول الله؟!

قال: قوم ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكنهم تحابوا بجلال الله، ويدخلون الجنة بغير حساب، نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته.

وأما قوله: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾، فإنما يعني الحساب بوزن السيئات، والحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان.

وأما قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وقوله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.

وقوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾. وقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ وقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾.

فإن الله تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء، ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء، أما ملك الموت فإن الله عز وجل يوكله بخاصة من يشاء من خلقه. ويوكل رسله من الملائكة خاصة بما يشاء من خلقه تبارك وتعالى، والملائكة الذين سماهم الله عز وجل وكَّلهم بخاصة من يشاء من خلقه تبارك وتعالى. يدبر الأمور كيف يشاء.

وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس، لأن منهم القوي والضعيف، ولأن منه ما يطاق حمله، ومنه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله، وأعانه عليه من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم.

قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، أنفع الله المسلمين بك.

فقال علي «عليه السلام» للرجل: لئن كنت قد شرح الله صدرك بما قد بينت لك، فأنت والذي فلق الحبة وبرء النسمة من المؤمنين حقاً.

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف لي بأن أعلم أني من المؤمنين حقاً؟!

قال: لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه «صلى الله عليه وآله»، وشهد له رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالجنة، أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عز وجل على رسله وأنبيائه.

قال: يا أمير المؤمنين ومن يطيق ذلك.

قال: من شرح الله صدره ووفقه له، فعليك بالعمل لله في سر أمرك وعلانيتك، فلا شيء يعدل العمل([2]).

ونقول:

إن لنا مع هذه الرواية وقفات، هي التالية:

ليس هذا جبراً:

ذكر «عليه السلام» لذلك الشاك: إن الإيمان رزق، إن الله حرمه منه، وإن شاء رزقه إياه..

ونقول:

ليس هذا من باب الجبر الإلهي، فإن الإنسان هو الذي يتسبب بالرزق لنفسه، أو بحرمانه منه، من خلال ما يصدر عنه من أعمال طاعة، أو من أفعال معصية. ومن ذلك تصفية نيته وتطهير نفسه أو تخبيثها بالنوايا السيئة، وإخماد الجحود أو غيره. فيستحق إفاضة الألطاف الإلهية، أو الحرمان منها.

وهذا هو الذي يبين المراد من قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. ثم يقول: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.

وقوله «عليه السلام»: وإن أراد الله بك خير أعلمك، وإن يكن شراً ضللت وهلكت، هو الآخر قد جاء وفق قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.

هل تشهد الجوارح بالشرك؟!:

وتقدم في الرواية: أن في يوم القيامة موقفاً يقول فيه المشركون: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم..

فيرد السؤال الذي يقول:

إن الجوارح إنما تشهد بالأفعال، والمطلوب هو كشف أمر اعتقادي موطنه القلب والضمير، ولا ربط للجوارح به..

ونجيب بأمرين:

الأول: قد تشهد الجوارح بمعاصٍ لا يفعلها إلا أهل الشرك، كاستلام الأصنام، والذبح والنذر لها، والتمسح بها على سبيل التبرك، والدعوة إلى تعظيمها، وإظهار الرضا بعبادتها، وما إلى ذلك.

الثاني: إن الجوارح حين تشهد على أصحابها بمعاصيهم التي مارسوها بها، فذلك يعني أن لها درجة من التعقل، تجعلها قادرة على أداء الشهادة. كما لا مانع من أن تكون للمعاصي آثار على تلك الجوارح يكون ظهورها عليها بمثابة الشهادة بها..

وعلى هذا نقول:

من الذي قال: إن الجوارح لا تدرك حتى الاعتقادات، من الإيمان والشرك الساكن في قلب الإنسان، وكل ما هو فعل اختيار له، سواء أكان جوارحياً أو جوانحياً؟!

بل من الذي قال: إن الشرك بما له من ظلمات وآثار رديئة لا تصل ظلماته وآثاره إلى هذه الجوارح أيضاً، كما أن نور الإيمان، وآثاره الحميدة تغمر كل وجود الإنسان وكيانه، ومنها الجوارح؟!

وقد يشهد لما نقول:

إن الإنسان في نطاق الأحكام الشرعية، فإنه حين يكون مؤمناً، يكون طاهر الذات، ويعامل على هذا الأساس.

أما الكافر، وخصوصاً المشرك، فإنه محكوم بالنجاسة. فإذا أسلم صار طاهراً، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وهذا صحيح حتى لو قلنا: إن المقصود هو النجاسة المعنوية، لا الحسية.

هل هذا تصحيف؟!:

وتقدم في الحديث: أن موسى «عليه السلام» حين سأل الله الرؤية، وتجلى ربه للجبل فجعله دكاً قد «سأل أمراً جسيماً فعوقب».

ويمكن أن يكون المقصود به: حصول الصعقة لموسى، لهول الأمر. والصعقة تطلق على الموت، وعلى الغشية.

وقد يكون الصحيح: «فعوتب» بالتاء. لكنها صحفت بسبب التقارب في رسم الكلمة.

وقد يقال:

إنه «عليه السلام» لم يرتكب ذنباً بطلبه هذا فلماذا يعاقب ؟! إذ هو لم يقصد الرؤية البصرية قطعاً، لأنها مستحيلة عقلاً.. والذي طلبه «عليه السلام» هو خصوص رؤية القلب.

ولا يمكن أن يكون موسى جاهلاً باستحالة الرؤية البصرية، وإلا لكان المفروض هو أن يسأل الله تعالى أن يحقق له الرؤية البصرية بمجرد أن بُعِثَ نبياً، إذ من الطبيعي أن يتساءل في نفسه في تلك اللحظة عن ذلك الذي أرسل إليه الملك أين هو؟! وكيف هو؟! ويطلب من الملك أن يأخذه إليه، ويريه إياه.

ولو فرضنا أن الوحي لم يكن بواسطة الملك، فكان المفروض به أن يطلب منه تعالى أن يريه نفسه، لكي يتفق معه على كيفية القيام بالمهمات الموكلة إليه..

المقصود بالرؤية في الجنة:

فالذي يبدو لنا: هو أن أهل الإيمان حين يدخلون الجنة تصبح لهم طاقة على استقبال بعض مراتب تجليات نور العظمة الإلهية بحيث يصبح بإمكانهم أن يعلموا بها علماً ضرورياً، أو فقل: وجدانياً يستقر في قلوب أهل الجنة. كل بحسب ما أهلته له أعماله الصالحة.

ولعل هذا المقدار فقط هو الذي حصل للجبل، فاندك وتلاشى، وخر موسى صعقاً، وهو وإن لم يكن ممكناً في الدنيا بسبب ضعف نشأتها، فإن الأعمال الصاحة فيها سترتقي بقدرات الإنسان المؤمن ليصبح قادراً على استقبال هذا المقدار من التجلي في الآخرة، حين يصير في الجنة. وقد ورد في بعض الروايات: أن ذلك سيحصل لهم([3]).

ولكنه ليس تجلياً حقيقياً لنور حسي، وإنما هو التجلي العلمي الأكثر ظهوراً للقلوب والأرواح، لا الرؤية الحسية للعيون، فإنها مستحيلة في الدنيا وفي الآخرة، لأنها إنما تتعلق بقدرٍ، وشكل لون، وضوء في جهة ومكان، بواسطة أداة.

ويدل على ما ذكرناه رواية الإمام الصادق «عليه السلام»:

حدثنا الحسين بن علي، قال: حدثنا هارون بن موسى، قال: محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد [عن محمد] بن أبي عمير، عن هشام قال:

كنت عند الصادق جعفر بن محمد «عليهما السلام» إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله، ما تقول في الخبر الذي روي: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» رأى ربه على أي صورة رآه؟! وعن الحديث الذي رووه: أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة على أي صورة يرونه؟!

فتبسم «عليه السلام» ثم قال: يا فلان، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه لا يعرف الله حق معرفته.

ثم قال «عليه السلام»: يا معاوية، إن محمداً «صلى الله عليه وآله» لم ير ربه تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب، ورؤية البصر. فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته، لقول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: من شبه الله بخلقه فقد كفر.

ولقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي «عليهم السلام» قال: سئل أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقيل له: يا أخا رسول الله، هل رأيت ربك؟!

فقال: وكيف أعبد من لم أره؟! لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، وإذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر، فإن كان من حاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بد للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إذاً محدثاً مخلوقاً، ومن شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكاً.. ويلهم أولم يسمعوا لقول الله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. وقوله: ﴿لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾، وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط، فدكدكت الأرض وصعقت الجبال.

فخر موسى صعقاً أي ميتاً، فلما أفاق ورد عليه روحه قال: سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى، ورجعت إلى معرفتي بك أن الأبصار لا يدركك، وأنا أول المؤمنين وأول المقرين بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثم قال «عليه السلام»: إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الرب والإقرار له بالعبودية، وحد المعرفة: أنه لا إله غيره، ولا شبيه له ولا نظير له، وأنه يعرف أنه قديم مثبت بوجود، غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وبعده معرفة الرسول والشهادة له بالنبوة، وأدنى معرفة الرسول الإقرار به بنبوته، وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك عن الله عز وجل.

وبعده معرفة الإمام الذي به يأتم بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام: أنه عدل النبي إلا درجة النبوة، ووارثه، وإن طاعته طاعة الله، وطاعة رسول الله. والتسليم له في كل أمر، والرد إليه والأخذ بقوله، ويعلم أن الإمام بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم أنا، ثم من بعدي موسى ابني، ثم من بعده ولده علي، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن.

ثم قال: يا معاوية جعلت لك في هذا أصلاً، فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوء الأحوال، فلا يغرنك قول من زعم أن الله تعالى يرى بالبصر.

قال: وقد قالوا أعجب من هذا..

أولم ينسبوا آدم «عليه السلام» إلى المكروه؟!

أولم ينسبوا إبراهيم «عليه السلام» إلى ما نسبوه؟!

أولم ينسبوا داود «عليه السلام» إلى ما نسبوه من القتل من حديث الطير؟!

أولم ينسبوا يوسف الصديق إلى ما نسبوه من حديث زليخا؟!

أولم ينسبوا موسى «عليه السلام» إلى ما نسبوه؟!

أولم ينسبوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى ما نسبوه من حديث زيد؟!

أولم ينسبوا علي بن أبي طالب «عليه السلام» إلى ما نسبوه من حديث القطيفة؟!

إنهم أرادوا بذلك توبيخ الإسلام ليرجعوا على أعقابهم، أعمى الله أبصارهم كما أعمى قلوبهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً([4]).

والحاصل: أن المراد بالتجلي ليس هو رؤية الحقيقة الإلهية بدرجات متفاوتة، بل هو تجلٍ علمي شديد البداهة يناسب الحياة الآخرة، لا يكون إلا لأهل الجنة.

ولعل علم موسى بهذا الأمر، وأنه كائن لأهل الجنة في الآخرة، هو الذي دعاه لطلب الرؤية في الدنيا.

كلام الله تعالى صفته:

وتقدم قوله «عليه السلام» لسائله: «فكلام الله تبارك وتعالى صفته، وكلام البشر أفعالهم»، والمقصود: أن كلامه تعالى ليس مثل كلامنا: بالحركة والتردد في النفس، والتقطيع بالمخارج، وليس المراد أن الكلام من صفات ذاته، فإن هذا أيضاً لا يصح، فقد روى أبو بصير عن أبي عبد الله «عليه السلام»:

«لم يزل الله جل وعز ربنا، والعلم ذاته، ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاتها ولا مقدور.

فلما أحدث الأشياء، وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المبصر، والقدرة على المقدور.

قال: قلت: فلم يزل الله متكلماً؟!

قال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية. وكان الله عز وجل ولا متكلم»([5])..

قال السيد هاشم الطهراني معلقاً: على قوله: «وقع العلم منه على المعلوم» ما مضمونه:

«أي فلما وجد الذي كان معلوماً له تعالى في الأزل انطبق علمه على معلومه في ظرف الوجود الخارجي، لكون علمه تعالى حقاً، لا جهل فيه.

وليس معنى الوقوع التعلق، لأنه قبل وجوده، فكان قبل وجوده في الخارج معلوماً.

ويعبر عن هذا الانطباق بالعلم الفعلي في قبال العلم البدائي.

فالعلم المنفي قبل وجود المعلوم في حديث آخر هو العلم الفعلي، فإنه لا يصح القول بأن علمه تعالى يقع على معلوم إذا كان لا يوجد معلوم في الخارج.

فلا يصح القول: إن الله يعلم بالشيء في الأزل.

بل يقال: إنه تعالى عالم بالشيء في الأزل، لأن صيغة المضارع تدل على النسبة التلبسية التي تقتضي وجود الطرفين في ظرف واحد»([6]).


([1]) يلاحظ: أن نفس هذه العبارة وردت على لسان الإمام الرضا «عليه السلام» في جوابه لأبي قرة حين ادعى رؤية الله تعالى حين المعراج، أو في الآخرة.

([2]) التوحيد ص181 ـ 193 وبحار الأنوار ج90 ص127 ـ 142 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص59 ـ 78.

([3]) راجع: الاختصاص للشيخ المفيد ص345 ـ 358 وبحار الأنوار ج8 ص207 ـ 217 وألف حديث في المؤمن للنجفي ص308 و 311.

([4]) كفاية الأثر ص260  ـ 264 وبحار الأنوار ج4 ص54 وج36 ص406 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص30 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص176 ونهج السعادة ج8 ص40 وتفسير الميزان ج8 ص255 وغاية المرام ج1 ص207.

([5]) معاني الأخبار (ط دار المعرفة) ص139 والكافي ج1 ص107 والتوحيد للصدوق ص139 و 227 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3 ص121 وج5 ص188 وج9 ص87 وتفسير نور الثقلين ج1 ص575 وج3 ص133 و 134 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص687.

([6]) معاني الأخبار (ط دار المعرفة) ص139 والتوحيد للصدوق هامش ص140.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان