قالوا:
ثم سار «عليه السلام» من الربذة:
«حتى
نزل بذي قار، فقال: والله إنه ليحزنني أن أدخل على هؤلاء في قلة من
معي.
فأرسل إلى الكوفة الحسن بن علي «عليه السلام»، وعمار بن
ياسر، وقيس بن سعد، وكتب إليهم كتاباً([1]).
فلما دخل الحسن «عليه السلام» وعمار الكوفة اجتمع
إليهما الناس، فقام الحسن فاستقر [فاستنفر
«خ
ل»] الناس، فحمد الله وصلى على رسوله ثم قال:
أيها الناس، إنا جئنا [كم] ندعوكم إلى الله وإلى كتابه
وسنة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من
تفضلون، وأوفى من تبايعون، ومن لم يعيه القرآن، ولم تجهِّله السنة، ولم
تقعد به السابقة.
إلى من قربه الله إلى رسوله قرابتين:
قرابة الدين، وقرابة الرحم.
إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة.
وإلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه
وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه
وهم محجمون، وصدقه وهم مكذبون.
إلى من لم ترد له راية، ولا تكافأ له سابقة.
وهو يسألكم النصر، ويدعوكم إلى الحق، ويسألكم بالمسير
إليه، لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من
أصحابه، ومثلوا بعماله، وانتهبوا بيت ماله.
فاشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا بالمعروف، وانهوا عن
المنكر، واحضروا بما يحضر به من الصالحون»([2]).
ثم أمر «عليه السلام» بكتاب أمير المؤمنين «عليه
السلام» فقرئ عليهم.
وفي نص آخر:
فقدموا الكوفة، فخطب الناس الحسن بن علي «عليهما
السلام»، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر علياً وسابقته في الإسلام، وبيعة
الناس له، وخلاف من خالفه، ثم أمر بكتاب علي «عليه السلام»، فقرئ
عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه
عيانه، إن الناس طعنوا عليه، وكنت رجلاً من المهاجرين، أكثر استعتابه،
وأقل عيبه [عتابه].
وكان هذان الرجلان أهون سيرهما فيه الوجيف، [وأرفق
حدائهما العنيف].
وقد كان من أمر عائشة فلتة على غضب، فأتيح له قوم
فقتلوه.
ثم إن الناس بايعوني غير مستكرهين [ولا مجبرين، بل
طائعين مخيرين]. وكان هذان الرجلان أول من فعل ـ على ما بويع عليه من
كان قبلي.
وفي نص آخر:
[واعلموا: أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها، وقلعوا بها،
وجاشت جيش المرجل، وقامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم،
وبادروا جهاد عدوكم إن شاء الله].
نعود إلى النص السابق:
ثم إنهما استأذناني في العمرة وليسا يريدانها، فنقضا
العهد، وآذنا بحرب، وأخرجا عائشة من بيتها، ليتخذانها فئة.
وقد سارا إلى البصرة اختياراً لها. وقد سرت إليكم
اختياراً لكم، ولعمري ما إياي تجيبون ما تجيبون إلا الله ورسوله، ولن
أقاتلهم وفي نفسي منهم حاجة.
وقد بعثت إليكم بالحسن بن علي، وعمار بن ياسر، وقيس بن
سعد، مستنفرين، فكونوا عند ظني بكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما قرأ الكتاب على الناس قام خطباء الكوفة، شريح بن
هاني وغيره، فقالوا: والله، لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حتى نعلم
علم عثمان، فقد أنبأنا به الله في بيوتنا.
ثم بذلوا السمع والطاعة وقالوا:
رضينا بأمير المؤمنين، ونطيع أمره، ولا نتخلف عن دعوته.
والله لو لم يستنصرنا لنصرناه سمعاً وطاعةً.
فلما سمع الحسن بن علي «عليهما السلام» ذلك قام خطيباً،
فقال:
أيها الناس، إنه قد كان من أمير المؤمنين علي ما تكفيكم
جملته. وقد أتيناكم مستنفرين لكم، لأنكم جبهة الأمصار ورؤساء العرب.
وقد كان من نقض طلحة والزبير بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم، وهو
ضعف النساء وضعف رأيهن، وقد قال الله تعالى:
﴿الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾([3]).
وأيم الله لو لم ينصره أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه
من المهاجرين والأنصار، ومن يبعث الله له من نجباء الناس كفاية،
فانصروا الله ينصركم.
ثم
جلس وقام عمار بن ياسر، فقال:
يا أهل الكوفة، إن كانت غابت عنكم أبداننا فقد انتهت إليكم أمورنا، إن
قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين
محاجيهم، أحيى من أحيى، وقتل من قتل.
وإن طلحة والزبير أول من طعن، وآخر من أمر، ثم بايعا
أول من بايع، فلما أخطأهما ما أملا، نكثا بيعتهما على غير حدث كان.
وهذا ابن الرسول يستنفركم في المهاجرين والأنصار،
فانصروا ينصركم الله.
وقام قيس بن سعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى لكان
علي أحق الناس به في سابقته وهجرته وعلمه، وكان قتال من أبى ذلك
حلالاً، وكيف والحجة قامت على طلحة والزبير، وقد بايعاه، وخلعاه
حسداً؟!
فقام خطباؤهم، فأسرع الرد بالإجابة، فقال النجاشي في
ذلك:
رضينا بقسـم الله إذ كـان قسمنـا عـلي وأبـنـاء
الـنـبـي مـحـمـــد
وقلنا له: أهـلاًَ وسهــلاً ومرحباً نـمـد
يـديـنـا مـن هـوى وتــودد
فمرنا بما ترضى نجبك إلى الـرضا بـصـم العـوالي
والصفـيـح المـهند
وتسويد من سودت غير مـدافـع وإن كـان من سـودت
غـير مسود
فإن نلت ما تهـوى فـذاك نـريـده وأن تـخـط مـا
تهـوى فـغير تعمد
وقال قيس حين أجاب أهل الكوفة:
جزى الله أهل الكوفة اليوم نصرة أجابـوا
ولم يأتوا بخذلان من خذل
وقـالـوا عـلي خـير حاف وناعل
رضينا به من ناقض العهد من بدل
هـمـا أبرزا زوج الـنـبي تعمـداً
يسـوق بها الحـادي المنيخ على جمل
فـما هـكـذا كـانت وصاة نبيكم
وما هكذا الإنصاف
أعظِمْ بذا المثل
فهل بعد هذا من مقال لقائل ألا قـبَّـح
الله الأمـانـيَّ والـعـلــل
قال:
فلما فرغ الخطباء وأجاب الناس، قام أبو موسى فخطب
الناس، وأمرهم بوضع السلاح، والكف عن القتال، ثم قال:
أما بعد،
فإن الله حرم
علينا دماءنا وأموالنا، فقال:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾([4]).
وقال: ﴿وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً
فِيهَا﴾([5]).
يا أهل الكوفة([6])..
إلى آخر ما قدمناه عنه.
قال أبو مخنف:
وحدثني جابر بن يزيد، عن تميم بن حذيم قال: قدم علينا
الحسن بن علي «عليه السلام»، وعمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي
«عليه السلام»، ومعهما كتابه، فلما فرغا من كتابه قام الحسن ـ وهو فتى
حدث، والله إني لأرثي له من حداثة سنه وصعوبة مقامه، فرماه الناس
بأبصارهم وهم يقولون: اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا ـ فوضع يده على
عمود يتساند إليه وكان عليلاً من شكوى به، فقال:
الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير
المتعال،
﴿سَوَاءٌ
مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾([7]).
أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة
ورخاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً
عبده ورسوله. امتن علينا بنبوته، واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه،
واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس والجن حين عبدت الأوثان،
وأطيع الشيطان، وجحد الرحمان، فصلى الله عليه وآله، وجزاه أفضل ما جزى
المرسلين.
أما بعد.. فإني لا أقول لكم إلا ما
تعرفون:
إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره، وأعز
نصره، بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهاد في
سبيل الله، وإن كان في عاجل ذاك ما تكرهون، فإن في آجله ما تحبون إن
شاء الله.
وقد علمتم أن علياً صلى مع رسول الله «صلى الله عليه
وآله» وحده، وأنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه. ثم شهد مع رسول الله
جميع مشاهده.
وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره
الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم.
ولم يزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» راضياً عنه،
حتى غمضه بيده، وغسله وحده، والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل
إليه الماء.
ثم أدخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من
منِّ الله عليه.
ثم والله ما دعاهم إلى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك
الإبل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين. ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث
أحدثه، ولا خلاف أتاه، حسداً له وبغياً عليه.
فعليكم عباد الله بتقوى الله، والجد والصبر، والاستعانة
بالله، والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين.
عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته،
وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه، وأستغفر الله
العظيم لي ولكم.
ثم مضى إلى الرحبة، فهيأ منزلاً لأبيه أمير المؤمنين
«عليه السلام».
قال
جابر فقلت لتميم:
كيف أطاق هذا
الغلام ما قد قصصته من كلامه؟!
فقال:
وما سقط عني من قوله أكثر. ولقد حفظت بعض ما سمعت([8]).
ونقول:
هنا أمور كثيرة تحتاج إلى بيان، نكتفي منها بما يلي:
روى الخطيب:
أن الإمام الحسن «عليه السلام» خطب في الكوفة خطباً
متعددة. ومنها هذه الأخيرة. وهناك خطبة أخرى ذكرناها في أول هذا الفصل،
وهي هامة جداً، ومضامينها، متواترة، وثابتة بلا ريب. ولا نريد أن نتعرض
لشرح هذه المضامين، لأن ذلك يحتاج إلى توفر تام وجهد كبير، وربما إلى
تأليف مستقل..
فنحن نعتذر للقارئ الكريم عن هذا التقصير..
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
«أكثر استعتابه: أي أكثر
طلب العتبى منه، والرجوع إلى ما يرضى به القوم منه.
وأقل عتابه:
أي لائمته على وجه الإذلال والمؤاخذة، إما لعدم النفع
أو للمصلحة.
والوجيف:
السير السريع.
قوله «عليه السلام»:
«فلتة
غضب» أي فجأة غضب.
والحاصل:
أن هؤلاء الثلاثة كانوا أشد الناس عليه.
«فأتيح
له» أي قدر وهيء.
وجاشت:
غلت.
والمرجل:
القدر من النحاس.
و «دار الهجرة»:
المدينة.
والغرض إعلامهم باضطراب حال المدينة وأهلها، حين علموا
بمسير القوم إلى البصرة للفتنة»([9]).
وقد ذكرت الرواية المتقدمة عن أبي
مخنف عن تميم بن حذيم:
أن الإمام الحسن «عليه السلام» وعماراً تليا كتاب أمير
المؤمنين «عليه السلام» أولاً..
ثم قام الإمام الحسن، قال ابن حذيم:
«وهو
فتى حدث. والله إني لأرثي له من حداثة سنه، وصعوبة مقامه».
ونحن لا نوافق هذا الرجل على وصفه الإمام الحسن بحداثة
السن.. لأن عمر الإمام الحسن «عليه السلام» كان آنئذ اثنتين وثلاثين
سنة، ومن هو في مثل هذا السن لا يكون حدثاً، ولا يحتاج إلى ان يرثى له
أحد..
نعم..
هو قد كان عليلاً آنئذٍ، وقد ظهرت عليه عوارض الضعف،
حتى كان يتساند إلى عمود كان معه، فلعله رثى له لضعفه وشدة مرضه.
أما وصفه «عليه السلام» بالفتى فلا ضير فيه، لأن جبرئيل
قد وصف علياً «عليه السلام» بالفتى في حرب أحد حين نادى بين السماء
والأرض:
لا سيف إلا ذوا الفـقـار ولا فـتـى
إلا عـــلي
مع أن علياً «عليه السلام» كان آنئذٍ في السابعة
والعشرين من عمره.
وأما وصفهم للإمام الحسن «عليه السلام» بالغلام، فلا
ضير فيه، لأن الغلام يطلق على الصبي وعلى الشيخ، فهو من الأضداد.
تقدم:
«أن
أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: «والله، إنه ليحزنني أن أدخل على
هؤلاء في قلة من معي».
فقد يقال:
هل يريد «عليه
السلام» أن يعتز بغير الله؟! وهل يريد أن يظهر قوته العسكرية أمام أهل
الإيمان؟! والحال أن الله تعالى قد أمر بإظهار القوة أمام الكافرين في
قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾([10]).
ونجيب:
أولاً: إنه «عليه السلام» يريد تكثير جيشه ليرهب عدوه،
ويهزمه نفسياً تمهيداً لهزيمته عسكرياً، فقتل القتلى، ويرتاح بذلك
المؤمنون من شر المعتدين.
فالمشار إليه بكلمة هؤلاء هم الناكثون.
وإن كان المشار إليه هم المؤمنون من أهل الكوفة، فإن
حزنه لأجل أن قلة الناس معه سوف تضعف عزائم أهل الإيمان، وربما تجعل
البعض يتردد، وينتهي به الأمر إلى التخلف عن الجهاد، فيهلك نفسه وغيره
بذلك.
ثانياً:
إن قلة من معه، معناها: أن من عداهم سيكونون قد ذهبوا في اتجاه آخر،
فإن ذهبوا مع الأعداء فهم هالكون، وإن كان من المتخاذلين، فهم على شفير
الهاوية، وفي مظنة الهلاك، إلا من له عذر صحيح، مثل القصور عن القيام
بالواجب، بسبب جسدي أو مادي، أو كونه معيلاً، ولا يجد كافلاً وحافظاً
لعياله، أو نحو ذلك.
ولا شك في أنه
«عليه السلام»
يحزن للهالكين، ولمن يعرضون أنفسهم للهلاك، تماماً كما كانت تذهب نفس
النبي «صلى الله عليه وآله» حسرات على قومه بسبب ضلالهم المؤدي إلى
هلاكهم.
ثالثاً:
إن البغاة عدو أمر الله بدفعه ولو بالقتل، ومن جملة وسائل الدفع مع
إرهابه بحسن العدة، وكثرة العدد كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾([11]).
وهذا أمر فيه من اللطف الإلهي ما لا يخفى على أحد. لأن
دفعه بهذه الوسيلة فيه حفظ للمؤمنين من الأخطار، وتوفير لطاقاتهم
وجهدهم، وثرواتهم.
وبعد..
فإن من لم
يشارك في إعداد القوة، سيحرم من تلك الألطاف، بل سيكون من العصاة. وهذا
ولا شك
يحزن
أمير المؤمنين «عليه السلام».
ويلاحظ:
أنه
«عليه السلام»
قد قال: «يحزنني» لم يقل: يخيفني. لأنه إنما يحزن على المتخلفين، وعلى
من سيتضررون نتيجة لذلك.. ولا يخاف من أعدائه، وهو القائل عن نفسه:
لألف ضربة بالسيف أهون من موته على فراش([12]).
إن سياق كلامه «عليه السلام» يدل على أن عداء طلحة
والزبير لعثمان كان حقيقياً وعميقاً، ومستحكماً..
أما عائشة. فلم يكن موقفها ناشئاً عن عداء حقيقي
لعثمان، وإنما هي تلتقي معه في المسار العام، لكن ذلك لا يمنع من أن
تغضب من بعض تصرفاته، فتتصرف تجاهه بحدة وانفعال، ولكنه انفعال يهدف
إلى إعادة الأمور إلى سابق عهدها، فإذا عادت رضيت.
أما طلحة والزبير، فكان عداؤهما حقيقياً، وكانا يسعيان
لتدمير عثمان وإزالته عن مقامه، لأنهما يريدان الاستئثار بذلك المقام
لأنفسهما.
وهما وإن كانا يبرران موقفهما منه بما يبرر به الآخرون
مواقعهم، وهو الأحداث التي يأخذونها عليه.. ولكن لو قدر وعاد عثمان
عنها، وتاب منها، فإن عداء طلحة والزبير له لا ينتهي، ولا يتوقف، بل
سيواصلان الكيد له، والسعي لزعزعة سلطانه، وأخذ مكانه.
وهذا
ما أراد «عليه السلام» بيانه بقوله:
كان أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف، مما يعني: أن
شدتهما عليه كانت بالغة، لا تعرف الرفق، أما عائشة فكان منها مجرد فلتة
غضب..
أما موقف أمير المؤمنين نفسه، فهو يختلف عن هذين
الموقفين، فكان يكثر نصيحته، بأن يعطي القوم ما يرضيهم وهو ما عبر عنه
بالإستعتاب، أي أنه كان يكثر طلب العتبى، أي طلب فعل ما يرفع عتبهم،
ولكنه كان يقل عيبه، أو عتابه، فلا يلومه على وجه الإذلال، والمؤاخذة،
إما لعدم الجدوى، أو لأن المصلحة كانت تقتضي ذلك..
وقال «عليه السلام»:
إن الناس بايعوه غير مستكرهين ـ وأولهم طلحة والزبير ـ
على ما بويع عليه من كان قبله..
وهو كلام صحيح، فقد بايع الناس أبا بكر وعمر على أن
يعملا بكتاب الله، وسنة رسوله.. وعلى هذا كانت البيعة لأمير المؤمنين
«عليه السلام»..
فإن كان قد صدر من أبي بكر وعمر مخالفات للكتاب والسنة،
فذلك لا يعني: أن الناس قد رضوا بذلك، بل ذلك يبقى في دائرة المخالفة
من طرف واحد، حيث لا بد من المطالبة بالتراجع عنها، وتصحيحها، من قبل
من أوقع نفسه فيها..
أما عثمان، فقد بايعوه على العمل بكتاب الله وسنة
رسوله، وقد أضاف عبد الرحمن بن عوف شرط العمل بسنة الشيخين . ولا يعني
ذلك: أن الأمة قد وافقت على وضع هذا الشرط.. فإن كان قد رضي بهذا الشرط
أحد، فذلك يعود إليه، وهو الذي يتحمل مسؤولية ما اشترطه، وما يجري
عليه، ويؤخذ هو به دون سواه..
أما العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فهو شرط الأمة بأسرها
على عثمان، وعلى أبي بكر وعمر، وعلي «عليه السلام»..
وقد كان طلحة والزبير أول من بايع علياً «عليه السلام»،
على هذا الشرط بالذات.
ونعود فنلفت نظر القارئ الكريم:
إلى أن علياً «عليه السلام» لم يزد في بيانه للأمور أية
كلمة تجريح أو إهانة لأي من مناوئيه، بل قرر الأمور بالألفاظ العارية
عن أي إيحاء..
أما مناوئوه فقد عرفنا طريقة حديثهما عنه، التي يمكن أن
تظهر ملامحها في رسالة عائشة لحفصة التي تحدثت عن دق عنق علي «عليه
السلام» كما تدق البيضة على الصفا وغير ذلك مما مرَّ وسيمر مع القارئ
الكريم بعضه.
وقد تعهد «عليه السلام»:
بأن لا يقاتل الناكثين وفي نفسه حاجة.. يريد بذلك: أنه
سوف يستنفد جميع وسائل الإصلاح، وكل ما يفيد في رتق الفتق، إلى أن يفقد
كل أمل، ويتحقق اليأس التام من حصول أي انعطاف في موقف أعدائه
وارتداعهم عن غينهم، فإنه في غنى عن قتالهم، ولذلك فهو سيتركهم ما
تركوه. حتى لو أقاموا على عداوتهم كما بينه «عليه السلام» في خطته التي
ذكرناها في بعض المواضع من هذا الكتاب.
وهذا غاية ونهاية ما يمكن تصوره من إنصاف العدو، والرفق
به، والتسامح معه.
1ـ
وحين قرأنا
رسالة علي «عليه السلام» لأهل الكوفة لاحظنا: أنه «عليه السلام» لم يزد
على أن خبرهم فيها بأنه أرسل إليهم الإمام الحسن، وعماراً وقيس بن سعد
مستنفرين.
«فكونوا
عند ظني بكم ولا حول ولا قوة إلا بالله..».
ولم نجده يغريهم بأموال يعطيهم إياها..
ولا بمناصب..
ولا بغنائم..
ولم يثن عليهم بما ليس فيهم، ولا حتى بما هو فيهم..
2 ـ
إن غاية ما أغراهم به: أنه طلب منهم أن يكونوا عند ظنه
بهم. من دون التصريح بصفة هذا الظن المعبر عن درجة حسنه، أو عن سوئه..
وإن كان السياق يشير إلى حسن الظن، والذين يحسن علي «عليه السلام» الظن
بهم هم خصوص المؤمنين المتقين، المجاهدين في سبيل الله، الذين يلتزمون
أحكام الشرع، ويتصفون بكل صفات أهل الإيمان..
ولا يحسن الظن بالمنحرفين، والعاصين والمفسدين،
والمتحلليين من الأخلاق الرضية، ومن الإلتزامات الشرعية، ولا بالطامعين
المتعلقين بزخارف الدنيا..
3 ـ
إنه «عليه السلام» حتى حين يستنفرهم إلى الجهاد، فإنه
يلوِّح لهم بحقيقة أن الاعتماد ليس عليهم، بل الاعتماد أولاً وأخيراً
على الله سبحانه، إذ لا حول ولا قوة له، ولا لهم إلا بالله سبحانه..
وقد خص الإمام الحسن «عليه السلام» عائشة في كلامه
بلمحة خاطفة، تخرج الناس من الجو العاطفي الضاغط بسببها، وتحدد لهم
المسار، فذكر لهم: أن تأييدها للناكثين، ووجودها بينهم لا ينبغي أن
يشكل مشكلة لهم، فإن عائشة مهما بلغ من شأنها تبقى امرأة كسائر النساء،
والمرأة تتأثر بكلام الرجال، ويضعف رأيها أمام رأيهم..
ثم استشهد «عليه السلام» بقول الله سبحانه:
﴿الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾([13]).
فكونها في صف الناكثين لا يعني أن
الحق معهم، بل يعني:
أنها واجهتهم بضعفها، فخضعت لآرائهم وإراداتهم.. بالرغم من أن النبي
«صلى الله عليه وآله» أخبرها عن حربها لعلي «عليه السلام» وهي له
ظالمة، وجعل لها علامة تدلها على خطأها الفاحش، وهو ما يجري لها قبل
دخولها في تلك الحرب الظالمة من نبح كلاب الحوأب لها..
وقد واجهت ذلك بالفعل، ولكنها لم ترتدع، بل انساقت وراء
ضعفها، فكانت أسيرة لعواطفها ولحقدها على علي «عليه السلام»..
وكما ذكر عمار:
بأن المهاجرين
والأنصار محتشدون مع علي
«عليه السلام»
كذلك الإمام الحسن
«عليه السلام»
أيضاً، فإنه نوه بكثرة المهاجرين والأنصار إلى حد أنه يمكن أن يتحقق
النصر على أيديهم، شريطة أن ينضم إليهم طائفة من نجباء الناس..
وأي مسلم مؤمن لا يرغب في أن يكون مع المهاجرين
والأنصار، ومع نجباء الناس؟! ومن ذلك الذي يرضى لنفسه أن يكون في الصف
المواجه لهؤلاء، والطالب لسفك دمائهم؟!
إن خطب الإمام الحسن «عليه السلام» كانت في غاية
الأهمية. وقد تضمنت حقائق كان الناس بأمسّ الحاجة إليها. فلاحظ الخطب
الثلاثة المتقدمة في هذا الفصل.
ومما جاء في خطبة للإمام الحسن «عليه السلام» في الكوفة
ما دل على أن علياً «عليه السلام» أفقه الناس بعد رسول الله «صلى الله
عليه وآله»..
فقد قال «عليه السلام»:
«وجئنا
ندعوكم.. إلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من
تفضلون».
أي أنه «عليه السلام» ساق الكلام بنحو يفهم منه أن هذا
الأمر مفروغ عنه، ولا مجال للترديد أو النقاش فيه..
أما بالنسبة للتعديل.. والتفضيل، فقد ذكرهما بصيغة
أخرى.. ربما ليشير إلى أن ثمة محاولات تبذل لادعاء التفضيل والتعديل
لغيره «عليه السلام».
وإن كان يحتمل أنه قد ألقى الكلام على هذا النحو ليدفع
أي وهم يمكن أن يراود ذهن الناس البسطاء، والغافلين، والجاهلين، الذين
تحاول الدعايات أن تعطيهم صورة أخرى عن علي «عليه السلام» في مقابل من
غصبوا منه الخلافة..
وقد أظهرت النصوص المختلفة:
أن الإمام الحسن، وعماراً وسواهم قد خطبوا في أهل
الكوفة أكثر من مرة. فدل ذلك على أن الاجتماعات في مسجد الكوفة قد
تعددت.
ويبدو:
أنه «عليه السلام» كان يعيد قراءة كتاب أمير المؤمنين
«عليه السلام»، ثم يخطب هو «عليه السلام»، وبعده يخطب عمار بن ياسر،
وربما قيس بن سعد، وحجر بن عدي وغيرهم..
علي
يدعو الكوفيين إلى الجهاد:
قال الشيخ المفيد «قدس الله نفسه»:
ولما بلغه «عليه السلام» ما قال أبو موسى وما صنع، غضب
غضباً شديداً وبعث ولده الحسن «عليه السلام» وعمار بن ياسر «رحمه الله»
وكتب معهم كتاباً فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم..
من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، إلى أهل
الكوفة المؤمنين والمسلمين.
أما بعد..
فإن دار الهجرة تقلعت بأهلها فانقلعوا عنها، وجاشت
جيشان المرجل، وكانت فاعلةً يوماً ما فعلت.
وقد ركبت المرأة الجمل، ونبحتها كلاب الحوأب، وقامت
الفئة الباغية يقودها رجال يطلبون بدم هم سفكوه، وعرضٍ هم شتموه،
وحرمةٍ انتهكوها، وأباحوا ما أباحوا، يعتذرون إلى الناس دون الله،
﴿يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ
لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾([14]).
اعلموا رحمكم الله:
أن الجهاد مفترض على العباد، وقد جاءكم في داركم من
يحثكم عليه، ويعرض عليكم رشدكم، والله يعلم أني لم أجد بداً من الدخول
في هذا الأمر، ولو علمت أن أحداً أولى به مني ما قدمت عليه، وقد بايعني
طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم خرجا يطلبان بدم عثمان، وهما
اللذان فعلا بعثمان ما فعلا.
وعجبت لهما كيف أطاعا أبا بكر وعمر في البيعة وأبيا ذلك
علي، وهما يعلمان أني لست بدون أحدٍ منهما، مع أني قد عرضت عليهما قبل
أن يبايعاني إن أحبا بايعت أحدهما. فقالا: لا ننفس ذلك عليك، بل نبايعك
ونقدمك علينا بحق، فبايعا ثم نكثا، والسلام([15]).
ونقول:
لقد شرحنا بمقدار ما تيسر لنا المضامين المشابهة لما في
هذه الرسالة في مواضع مختلفة، ولذلك رأينا: أن نكتفي هنا بذكر بعض
الأمور، وهي التالية:
إنه «عليه السلام» يعنون الرسالة بأنها إلى أهل الكوفة
من المؤمنين والمسلمين.. فعطف كلمة المسلمين بالواو على كلمة
«المؤمنين» ولعله أراد أن يشير بذلك إلى الاختلاف بين الفريقين،
بالعموم والخصوص، فإن عطف العام على الخاص شائع ومتداول عند العرب..
ليدل بذلك على أن الإيمان أخص من الإسلام.
ولو كان من قبيل عطف المرادف للتأكيد، فلربما كان حذف
حرف العطف أولى.
ولعله قدم ذكر المؤمنين لأجل التشريف والتكريم، ولأنهم
المعتمد في الذب عن حريم الدين وأهله. والأولى بالاستجابة لنداء الجهاد
في سبيل الله تعالى.
ثم إنه «عليه السلام» قد ساق الكلام بطريقة تدل على أن
ما فعله الناكثون. وعائشة كان متوقعاً.. ربما لسبق إخبار النبي «صلى
الله عليه وآله» الناس به، ولا سيما إخباره «صلى الله عليه وآله» عن
ركوب عائشة للجمل، ونباح كلاب الحوأب لها، الأمر الذي يحتم على المؤمن
والمسلم أن يتحرك في الاتجاه الذي رسمه لهم الرسول «صلى الله عليه
وآله» في سياق إخباراته تلك، وتجنب الوقوع فيما أراد «صلى الله عليه
وآله» بإخبارته هذه تحصينهم من الوقوع فيه.
وهذا السياق البياني هو المطلوب في هذا الظرف بالذات،
حيث إنه بصدد دعوتهم للنفر للجهاد..
ثم نبه «عليه السلام» على بوار دعوى الناكثين، وأن
نكثهم وإن كان من عظائم الذنوب، ولكن الأعظم والأدهى والأشد، هو: أن
يطلبوا بدم هم سفكوه، وعرض هم شتموه، وحرمة هم انتهكوها..
وهذا يدل على المزيد من الاستهتار بسنن العدل،
والاحتقار لعقول الناس.
ثم بين «عليه السلام» مفارقة أخرى في سلوك الناكثين هي:
أنهم يتجرؤون على الله سبحانه.. ولكنهم لا يعتذرون إليه، بل يعتذرون
إلى الناس..
وهذا يشير إلى أنهم بصدد خداعهم، وجرهم إلى نصرة
باطلهم، وإصرارهم مواصلة انتهاك الحرمات، وارتكاب الجرائم والموبقات.
وقد عبر «عليه السلام» عن تعجبه من مفارقة أخرى في فعل
طلحة والزبير وهي: أنهما يعلمان أن علياً «عليه السلام» وصي الرسول،
وقد أخذ له رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأمر من الله تعالى البيعة
في يوم الغدير من الناس كلهم، بما فيهم أبو بكر وعمر وطلحة والزبير..
ويعلمان بنزول آيات كثيرة في حقه،
ومنها:
آية المباهلة، وآية التطهير، وآية إكمال الدين، وآية
الولاية بمناسبة تصدقه بالخاتم وهو راكع.. وغير ذلك كثير..
ولا أقل من أنه «عليه السلام» لم يكن بأقل من أبي بكر
وعمر، فكيف قبل طلحة والزبير بأن يطيعا أبا بكر وعمر، ولم يرضيا بطاعته
«عليه السلام»؟! ولماذا جرَّت الباء هناك، ولم تجرَّ هنا؟!
وثمة مفارقة أخرى يتعجب علي «عليه
السلام» منها، وهي:
أنه عرض على طلحة والزبير أن يبايع أحدهما قبل أن
يبايعاه، فرفضا ذلك، وأقرا بأنهما يقدمانه عليهما بحق، وبأنهما لا
ينفسان هذا الأمر عليه..
ونحن نشير هنا إلى ما يلي:
1 ـ
إن عرضه «عليه السلام» على طلحة والزبير أن يبايع
أحدهما لا يعني أن لهما أدنى حق في الخلافة، فضلاً عن ادعاء أنهما أحق
منه فيها، لأن عرضه عليهما أن يبايع أحدهما. إنما هو:
أولاً:
لاستدراجهما للاعتراف له بالأحقية.
ثانياً:
الاعتراف أيضاً: بأن أحداً لا يرضى بهما ولا بسواهما
بديلاً عنه.
ثالثاً:
ليبين للناس: أنهما قد بايعاه مختارين، وغير مجبرين. بل
ومصرّان عليه بالبيعة له طيلة عدة أيام.
2 ـ
إنه «عليه السلام» كان يعلم: أن وصوله إلى الخلافة، وفق
ما يتوقعونه ويطلبونه منه، ويريدون أن يحملوه عليه، يتضمن ما يخالف
الشرع والدين، والوجدان، وسيكون هذا مرفوضاً عنده، وستحصل المواجهة
معهم.. وهي ستكون بالغة الضرر والخطر. إلا إذا أخذ هو الشروط عليهم،
بأن يعمل فيهم بشرع الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وإلا إذا كانت بيعتهم بإصرار منهم، وبإجماع من
المهاجرين والأنصار..
وإلا إذا كانت باعتراف من الطامعين والطامحين، بأحقيته
بهذا الأمر.
وإلا إذا لمسوا انصراف الناس عنهم إليه..
3 ـ
إن طلحة والزبير قد أقرا لعلي «عليه السلام» بأمرين:
أولهما:
أنهما لا
ينفسان عليه اضطلاعه بأمر الخلافة. وها هما ينقضان إقرارهما هذا بجمع
الجيوش، وتعريض الأمة لأعظم الأخطار، لسلب الخلافة منه بالقوة، حتى لو
كلف ذلك سفك دماء عشرات الألوف من المسلمين والمؤمنين، والأخيار
الأبرار من المؤمنين.
الثاني:
إن تقديمهما
إياه على أنفسهما ليس تكرماً وتفضلاً، وتنازلاً عن حق هو لهما، بل هو
لإعطاء الحق لأهله، فقد
أقرا
أنهما إنما يقدمانه بحق، كما تقدم.
وقد علمنا:
أنه قد بلغ علياً «عليه السلام» وهو في الربذة: أن طلحة
والزبير قد بلغا البصرة، وقتلا جماعة من شيعته، وقتلا من السبابجة وهم
حراس بيت المال سبعين رجلاً، قتلوا أكثرهم صبراً بعد أسرهم، بالإضافة
إلى غدرهم بعثمان بن حنيف، وتمثيلهم به.
ولكننا نلاحظ:
أنه «عليه السلام» في كتابه هذا لأهل الكوفة لم يشر إلى
شيء من ذلك، فهل أرسل «عليه السلام» هذا الكتاب إليهم قبل أن تبلغه
أخبار جرائم الناكثين في البصرة؟! أم أن ذلك كان قد بلغه، ولكنه اكتفى
بما ذكر لحكمة اقتضت ذلك؟!
ونجيب:
بأننا نرجح هذا الاحتمال الأخير،
لأن المفيد يصرح:
بأنه «عليه السلام» قد أرسل هذا الكتاب من ذي قار، ومن
ذي قار أرسل «عليه السلام» ولده الإمام الحسن «عليه السلام» وعماراً
«رحمه الله» إلى أهل الكوفة.. وهذه الأخبار قد بلغته مذ كان في الربذة،
وقبل أن يصل إلى ذي قار بمدة..
مالك بإسناده عن أبي وائل قال:
دخل أبو وائل، وابن مسعود على عمار، حين بعثه [علي مع
الحسن ابنه] إلى الكوفة يستنفرهم، فقالا له: ما رأيناك أتيت أمراً أكره
عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت!
فقال لهما عمار:
ما رأيت منكما
منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما [عن هذا الأمر].
وكساهما ابن مسعود حلة، حلة([16]).
ونقول:
والظاهر:
أن الصحيح هو: أبو مسعود الأنصاري، وهو عقبة بن عمرو،
وليس ابن مسعود.
ويدل على ذلك:
أولاً:
ليس من المألوف أن
يروي أبو وائل الرواية، فيقول: «دخل أبو وائل»، بل
المناسب أن يقول: دخلت أنا وابن مسعود.
كما أن المناسب أن يقول:
فقلنا له. لا أن يقول: فقالا له.
وأن يقول:
فقال لنا عمار. لا أن يقول: فقال لهما عمار..
ثانياً:
إن ابن مسعود قد مات قبل خلافة أمير المؤمنين «عليه
السلام» بثلاث سنوات، وقيل: بسنتين، أي في سنة اثنين أو ثلاث وثلاثين
للهجرة([17]).
فكيف يكون حاضراً حين إرسال علي «عليه السلام» الإمام الحسن «عليه
السلام» وعماراً إلى الكوفة، لاستنفار أهلها لحرب الناكثين؟!
ثالثاً:
قد رويت هذه الرواية بنحو آخر، لا يرد عليه الإشكال
المتقدم، فعن أبي وائل قال: لما قدم عمار الكوفة ليستنفر الناس في
الجمل دخل عليه أبو مسعود الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، فقالا: ما
رأينا أمراً منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك إلى هذا الأمر.
فقال لهما عمار:
ما رأيت منكما منذ أسلمتما أكره عندي من إبطائكما عن
هذا الأمر([18]).
رابعاً: إن ما ادعته الرواية من أن أبا مسعود كسا
عماراً والإمام الحسن «عليه السلام» حلة، لم يذكر في رواية سبط ابن
الجوزي المنقولة عن البخاري.
ونحن نرى أن هذه الزيادة لا تصح، فإن الإمام الحسن
«عليه السلام» لا يرضى بأن تكون لأي من أعداء أمير المؤمنين «عليه
السلام» يد عليه يستحق عليها الشكر والحمد.. وذلك تأسياً منه برسول
الله «صلى الله عليه وآله» الذي لم يكن يرضى بأن يكون لأي من أعدائه يد
يشكره عليها.
([1])
الأمالي للطوسي (ط مؤسسة الوفاء) ص727 و 728 و (ط دار الثقافة
ـ قم) ص718 وبحار الأنوار ج32 ص72 ونهج السعادة ج4 ص53.
([2])
نهج السعادة ج4 ص62 و (ط مطبعة النعمان ـ النجف الأشرف) ج4 ص52
و 53 وبحار الأنوار ج32 ص87 و 88 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج14 ص11 وأعيان الشيعة ج1 ص565.
([3])
الآية 34 من سورة النساء.
([4])
الآية 29 من سورة النساء.
([5])
الآية 93 من سورة النساء.
([6])
الأمالي للطوسي (ط مؤسسة الوفاء) ص727 ـ 729 وراجع ص718
والجمل ص244 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص131 وبحار الأنوار ج32
ص72 ـ 74 ونهج السعادة ج4 ص52 ـ 55 والإمامة والسياسة ص66.
([7])
الآية 10 من سورة الرعد.
([8])
بحار الأنوار ج32 ص88 ـ 90 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص11
ـ 13 وأعيان الشيعة ج7 ص242 و 243 ووقعة صفين للمنقري ص236 و
237.
([9])
بحار الأنوار ج32 ص84.
([10])
الآية 60 من سورة الأنفال.
([11])
الآية 60 من سورة الأنفال.
([12])
نهـج البـلاغـة (بشرح عبده) ج2 ص2 والكـافي ج5 ص53 و 54
وتهـذيب = = الأحكام ج6 ص123 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج15 ص14 و 17 وج11 ص8 و 11 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج2 ص269 وج3 ص289 والإرشاد ج1 ص238 والأمالي للشيخ
الطوسي ص169 و 216 وعيون الحكم والمواعظ ص154 وبحار الأنوار
ج32 ص61 و 100 و 189 و 194 و 455 وج34 ص146 وج68 ص264 وج74
ص403 وج97 ص11 و 14 و 40 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص7 ونهج
السعادة ج1 ص296 و 301 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص306 وج7
ص300 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص209 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص468
والجمل للشيخ المفيد ص190 والمناقب للخوارزمي ص185 ومطالب
السؤول ص213 وكشف الغمة ج1 ص241 وينابيع المودة ج1 ص464.
([13])
الآية 34 من سورة النساء.
([14])
الآية 96 من سورة التوبة.
([15])
كتاب الجمل للمفيد ص259 و 260 و (ط النجف) و (مكتبة الداوري ـ
قم) ص139 و 140 ونهج السعادة ج4 ص58 ـ 60 ومصباح البلاغة
(مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص183 و 184 وراجع: مناقب آل أبي طالب
ج3 ص151.
([16])
بحار الأنوار ج32 ص134 و 135 عن الجمع بين الصحاج الستة، عن
الموطأ، عن كتاب العمدة ليحيى بن الحسن ص244.
([17])
الإصابة ج4 ص200 ترجمة ابن مسعود، والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3
ص993 وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص214 وتاريخ بغداد ج1 ص160
وأسد الغابة ج3 ص260 وتهذيب الكمال ج16 ص126 وتذكرة الحفاظ
للذهبي ج1 ص14.
([18])
تذكرة الخواص ص69 عن البخاري عن أبي وائل، وراجع: العمدة (ط
مركز = = النشر الإسلامي) ص342 و 470 وخلاصة عبقات الأنوار ج3
ص28 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج8 ص98 والمستدرك للحاكم ج3
ص117 وعمدة القاري ج24 ص206 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص621 و
721 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص512 و 513 وتاريخ مدينة دمشق
ج43 ص457.
|