علي
يواجه الناكثين:
قال المعتزلي:
1 ـ
وروى أبو الحسن المدائني، عن عبد الله بن جنادة قال: قدمت من الحجاز
أريد العراق في أول إمارة علي بمكة، فاعتمرت، ثم قدمت المدينة، فدخلت
مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذا نودي الصلاة جامعة، فاجتمع
الناس.
وخرج علي «عليه السلام» متقلداً سيفه، فشخصت الأبصار
نحوه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله ثم قال:
أما بعد.. فإنه لما قبض الله نبيه
قلنا:
نحن أهله، وورثته، وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد،
ولا يطمع في حقنا طامع. إذا تَنَزَّى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا،
فصارت الأمرة لغيرنا، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا
الذليل.
فبكت الأعين منا لذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس.
وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود
الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.
فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً.
ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي، فبايعتموني على شنأ
مني لأمركم، وفراسة تصدفني عما في قلوب كثير منكم، وبايعني هذان
الرجلان في أول من بايع، تعلمون ذلك، وقد نكثا وغدرا، ونهضا إلى البصرة
ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم.
اللهم فخذهما بما عملا أخذةً رابية، ولا تنعش لهما
صرعةً، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقاً، فإنهما يطلبان حقاً
تركاه، ودماً سفكاه.
اللهم إني اقتضيتك وعدك، فإنك قلت وقولك الحق: لمن
﴿بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾([1])
اللهم فأنجز لي موعدي، ولا تكلني إلى نفسي. إنك على كل شيء قدير.
ثم نزل([2]).
2 ـ
المفيد في [كتاب] الكافية عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن
أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه «عليهم السلام» قال:
كتبت أم الفضل بنت الحارث مع عطاء مولى ابن عباس. [وفي
الثقات: مع رجل من جهينة، قالت: اقتل في كل مرحلة بعيراً وعليّ ثمنه،
وهذه مائة دينار وكسوة]([3]).
وفي نص آخر: كتبت إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» بنفير طلحة والزبير
وعائشة من مكة فيمن نفر معهم من الناس.
فلما وقف أمير المؤمنين على الكتاب قال لمحمد بن أبي
بكر:
ما للـذيـن أوردوا ثـم أصــدروا
غـداة الحسـاب من نجاة ولا عذر
[وعند
ابن حبان:
فدعى علي محمد بن أبي بكر، فقال له: ألا ترى إلى أختك
خرجت مع طلحة والزبير.
فقال محمد بن أبي بكر: إن الله معك، ولن يخذلك والناس
ناصروك]([4]).
ثم نودي من مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» الصلاة
جامعة، فخرج الناس وخرج أمير المؤمنين «عليه السلام»، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال:
أما بعد..
فإن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه «صلى الله عليه
وآله» [...]. إلى آخر ما [مر مما] رواه في [كتاب] الإرشاد([5]).
وعند ابن حبان وغيره:
يا أيها الناس، تهيؤا للخروج إلى قتال أهل الفرقة، فإنى
سائر إن شاء الله. إن الله بعث رسولاً صادقاً بكتاب ناطق، وأمر واضح،
لا يهلك عنه إلا هالك. وإن في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم.
وقد قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى
جحرها.
انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعل الله
يصلح بكم ذات البين([6]).
3 ـ
وروى الكلبي قال: لما أراد علي «عليه السلام» المسير إلى البصرة قام
فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله:
إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر،
ودفعتنا عن حق، نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل
من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم. والناس حديثوا عهد بالإسلام،
والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلق.
فولي الأمر من لم يألوا في أمرهم اجتهاداً، ثم انتقلوا
إلى دار الجزاء، والله ولي تمحيض سيئاتهم والعفو عن هفواتهم.
فما بال طلحة والزبير، وليسا من هذا الأمر بسبيل، لم
يصبرا علي حولاً ولا شهراً، حتى وثبا ومرقا ونازعاني أمراً لم يجعل
الله لهما إليه سبيلاً بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين، يرتضعان أماً
قد فطمت، ويحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما [يطلبان]؟! والله ما
التبعة إلا عندهم، وفيهم وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، وأنا راض بحجة
الله عليهم، وعلمه فيهم.
فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا، وأنفسهما غنما وأَعْظِم
بها غنيمة، وإن أبيا أعطيتهما حد السيف، وكفى به ناصراً لحق، وشافياً
من باطل.
ثم نزل([7]).
4 ـ
ومن خطبة له «عليه السلام» عند مسير أصحاب الجمل إلى
البصرة:
إن الله بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق، وأمر قائم، لا
يهلك عنه إلا هالك، وإن المبتدعات المشبهات هن من المهلكات إلا ما حفظ
الله منها [كذا]، وإن في سلطان الله عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم غير
ملومة، ولا مستكره بها.
والله لتفعلن، أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام، ثم
لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إلى غيركم.
إن هؤلاء قد تمالؤا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف
على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين،
وإنما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا رد الأمور
على أدبارها.
ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، والقيام بحقه، والنعش لسنته([8]).
5 ـ
[و] من خطبة له «عليه السلام» في ذكر أهل البصرة:
كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه لا
يمتان بحبل ولا يمدان إليه بسبب، كل واحد منهما حامل [خ] ضب لصاحبه،
وعما قليل يكشف قناعه به.
والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا،
وليأتين هذا على هذا.
قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون، وقد سُنَّت لهم
السنن، وقدم لهم الخبر ولكل ضلة علة ولكل ناكث شبهة.
والله لا أكون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر
الباكي، ثم لا يعتبر([9]).
ومن كلام له «عليه السلام» لما أشير عليه بأن لا يتبع
طلحة والزبير، ولا يرصد [يصدر «خ ل»] لهما القتال:
والله، لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل
إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكن اضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه،
وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً حتى يأتي علي يومي.
فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً علي منذ قبض
الله نبيه «صلى الله عليه وآله» حتى يوم الناس هذا.
ونقول:
علينا أن نلاحظ الأمور التالية:
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»، تعليقاً على النص
الأخير:
«ومستمع اللدم»:
الضبع. و [اللدم] هو صوت الحجر يضرب به الأرض، أو حيلة
يفعلها الصائد عند باب جحرها، فتنام ولا تتحرك حتى يجعل الحبل في
عرقوبها فيخرجها ويضرب بها المثل في الحمق.
والمعنى:
لا أغتر ولا أغفل عن كيد الأعداء، فاستمع الناعي بقتل طائفة من
المسلمين، ويحضر الباكي على قتلاهم، فلا أحاربهم حتى يحيطوا بي.
وقيل:
لا أكون كمن يسمع الضرب والبكاء ثم لا يصدق حتى يجيء
لمشاهدة الحال.
[و]
قال الجوهري:
اللدم: ضرب المرأة صدرها وعضديها في النياحة»([10]).
وقال المجلسي «رحمه الله» أيضاً:
المعنى:
أن لكل ضلالة غالباً علة، ولكل ناكث شبهة، بخلاف هؤلاء،
فإنهم يعدلون عن الحق مع وضوحه بغير عذر وشبهة([11]).
ونقول:
لعل المراد:
أن كل ناكث
يتشبث بشبهة يحاول تقديمها للناس على أنها هي التي دعته للنكث. مع أنه
غير صادق في ادعاء الشبهة.
فلا
ينبغي
لأهل
البصرة، وذوي الحجى، وأهل الدين والتقوى
أن يصدقوا الناكثين فيما يدعونه.
وأن لا يمنعهم
ذلك عن صد
الناكث
عن غيه،
وإحباط مسعاه، وإبطال تدبيره، لأن
ذلك
يلحق بالأمة أفدح الأضرار..
يلاحظ:
أنه «عليه السلام» قد تجنب الاستدلال بالنص على أحقيته بالخلافة.
مكتفياً بما يؤكد حقه وفقاً لمنطق واستدلال نفس غاصبيه في السقيفة، أو
في غيرها، وذلك على قاعدة: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم. فإنهم قد
استدلوا على أحقيتهم بالأمر: بأنهم أقرباء النبي «صلى الله عليه وآله»،
وقومه وعشيرته.
مع ملاحظة:
أن هذا المنطق أيضاً ليس قاصراً في نفسه عن إثبات حقه «عليه السلام»..
وقد تضمنت الفقرة الأولى الإشارة إلى العناصر التالية:
1 ـ
إنه «عليه السلام» اعتبر أحقيته بالخلافة أمراً مسلماً به، ومتسالماً
عليه، ومفروغاً عنه، وإنه لم يكن متصوراً أن يخطر على بال أحد أن يكون
هناك من يتجرأ على توهم خلاف ذلك، إلا على سبيل التجني، ومخالفة
الوجدان، وضرب كل الحقائق عرض الحائط.
2 ـ
إن ما أورده «عليه السلام» في سياق كلامه يدلل على هذه البداهة
والعفوية الظاهرة التي أبداها. فإذا لاحظنا منطق القربى في العشيرة،
والحضور القريب، فإنهم «عليهم السلام» أهل النبي، الذين عاشوا معه،
وتربوا على يديه، ونهلوا من معين علمه، وتخلقوا بأخلاقه، وعرفوا نهجه،
واطلعوا على أدق التفاصيل في الدين الذي جاء به..
أما الآخرون، فهم الأبعدون عنه، المحرومون من ذلك كله.
فهل يعقل أن يتولى الأبعدون عنه حفظ دينه، ونشره، وشرح
دقائقه وتفاصيله للناس، دون أهل بيته «صلى الله عليه وآله»، وهم أهل
بيت النبوة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم؟! ومن أين يمكنهم أن يحسنوا
القيام بهذه المهمة الخطيرة، التي سينال الناس تبعات أي خطأ فيها،
وسيؤثر على راحتهم، وسعادتهم، كل حياتهم؟!
3 ـ
وإذا أخذنا بمنطق الوراثة الذي أشاعه الذين استأثروا بالأمر دونه «عليه
السلام»!! فإنهم:
أولاً:
أوقعوا أنفسهم بالتناقض، إذ زعموا وشهدوا زوراً: أن النبي «صلى الله
عليه وآله» لا يورث.
ثانياً:
لو قبلنا بمنطق الوراثة فإن أهل بيته هم الذين يرثونه دونهم وأين هم عن
وراثته «صلى الله عليه وآله»، وهو هاشمي، وهم بين تيمي، وعدوي، وأموي؟!
وهل يرثه هؤلاء دون ابنته، ومن هي بضعة منه؟! أو دون أخيه، وابن عمه،
وصنوه، وأبي ولديه، أو دون الحسنين اللذين نص القرآن في آية المباهلة
على بنوتهما له؟! وهل هم أقرب إليه من أعمامه. هذا مع أن العم للأب لا
يرث مع وجود ابن العم للأبوين، فضلاً عن ابن العم للأب، فكيف بالأبعد
والأقصى الذي تربطه به قرابة؟!
فإن كنت بالقربى
ملكت أمورهم فـغـيرك أولـى بالـنـبـي
وأقــرب
4 ـ
وقد استدل المستأثرون بالأمر على أحقيتهم به دون
الأنصار: بأنهم هم عترته «صلى الله عليه وآله» دونهم، مع أنه «صلى الله
عليه وآله» قد بيَّن أن عترته هم أهل بيته، فقد قال «صلى الله عليه
وآله» في حديث الثقلين: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا
أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي([12]).
5 ـ
قد احتج أبو بكر وعمر على الأنصار (في السقيفة) بأنهم أولياؤه
وعشيرته.. فلماذا لم يحضرهم النبي «صلى الله عليه وآله» حين نزول آية:
﴿وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾([13])،
ولم يعرض عليهم ما قبله علي «عليه السلام»، فاستحق به الولاية على
الخلق من بعده «صلى الله عليه وآله»، ولماذا
تجاهلوا حقيقة أن علياً وأهل بيته «عليهم السلام» هم
أولياء رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعشيرته الأقربون دونهم. وهل
يعقل أن تكون تيم وعدي أولياؤه «صلى الله عليه وآله» وعشيرته، ولا يكون
بنو هاشم، ولا سيما أبناؤه وصهره وأخوه وابن عمه من أوليائه ولا من
غيره من أوليائه ولا من عشيرته؟!
6 ـ
ثم استنتج «عليه السلام»: أن المستأثرين بالأمر قد انتزعوا هذا الأمر
من علي وبنيه «عليهم السلام»،، وغصبوهم إياه، وهم أصحابه الشرعيون،
وفقاً لنفس هذه القواعد التي قعَّدوها، والأسس والأصول التي أسسوها
وأصلوها.
7 ـ
يلاحظ: أنه «عليه السلام» قال: «غصبونا سلطان نبينا» ولم يقل: «سلطان
النبي» وكأنه يريد أن يؤكد حقيقة: أن من يلتزم بكل ما جاء به الرسول
«صلى الله عليه وآله»، ولا يكون ممن يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، هو
الذي يحق له أن ينسب النبي «صلى الله عليه وآله» إلى نفسه، نسبة تامة
وصحيحة، وحقيقية. على قاعدة قوله تعالى:
﴿إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا..﴾([14])،
ولا شك أن المراد بالذين آمنوا هم الإمام علي وأبناؤه «عليهم السلام».
وهذا من الشهادة الإلهية لهم «عليهم السلام» على أنهم اتبعوه في كل
شيء. وهناك الكثير من الشهادات في ذلك، منها: آية المباهلة، فإنه لا
يمكن أن يحل محلهم خيار الصحابة، فضلاً عن شرارهم. وهناك: آية التطهير،
وآية أولي الأمر، وآية الولاية، وغير ذلك.
وبديهي:
أن من أقر والتزم، ونفذ جميع ما جاء به «صلى الله عليه وآله» هو من أهل
النبي «صلى الله عليه وآله»، وعترته، وأوليائه وعشيرته الأقربين، ولا
شك في أن علياً والحسنين «عليهم السلام» منهم، ولا يجوز لمن لم يلتزم
بنهجهم «عليهم السلام»، وما سار على طريقهم: أن ينسب النبي «صلى الله
عليه وآله» إلى نفسه نسبة تامة وحقيقية.
1 ـ
وحين قال «عليه السلام»: «وصرنا سوقة» لم يرد أن ينتقص من مقام أهل
السوق، بل أراد أن يبين أن من يشتغل بالسوق لا يستطيع عادة أن يكون من
أهل الإمرة، ولا يتفرغ لسياسة الناس، وتدبير شؤونهم، بل هو يسعى لجلب
المنافع إلى نفسه، ويأخذ مما في حوزة غيره، ويضمه إليه..
أما سائس الناس، وصاحب السلطان، فهو يعطي من جهده
ووقته، وفكره، ويبذل كل ما لديه ليوصل المنافع إلى الناس، ويحفظ لهم
أموالهم، ويصلح أمورهم، ويزيد في أرباحهم، وينعش أحوالهم، اقتصادية
كانت أو غيرها..
2 ـ
كما أن
«السوقة» إنما جاء يطلب رزقه من السوق، والذين يحضرون إلى السوق بهذا
الهدف فيهم الضعيف وفيهم القوي، وكل منهم يطمع في أن يجد لدى الآخر ـ
قوياً كان أو ضعيفاً ـ ما يستطيع أن يحصل عليه ويتقوى به، فالضعيف يطمع
بما عند القوي، وبما عند الضعيف على حد سواء.
3 ـ كما أن الذليل إذا وجد
من يرغب في سلعته فإنه ينتحل العز لنفسه، وربما يعرض عنه، ويظهر عدم
المبالاة به، ويتظاهر بأنه منيع لا ينال ما عنده إلا ببذل المزيد..
وبذلك يظهر ما يرمي إليه «عليه
السلام» بقوله:
يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فإنه يشير بذلك
إلى ضعف مناوئيه من حيث قلة بضاعتهم في العلم، وفي الكثير من الصفات
والسمات، التي يحتاجها من يتصدى للخلافة التي هي من أخطر المسؤوليات،
وأعظم المهمات..
ويشير أيضاً إلى أنهم لم يكونوا من بيوت العز بين
الناس، بل كانوا في أذل وأقل بيت في قريش، كما صرح أبو سفيان حين رجع
إلى المدينة، ووجد أن الناس قد بايعوا أبا بكر، وقد ألمحنا إلى ذلك،
وإلى غيره مما يدل على هذا الأمر في الموضع المناسب من هذا الكتاب،
فراجع.
قد يتوهم:
أن
قوله «عليه السلام»: إن هذا الذي جرى قد أحزنهم، وأبكاهم، «فبكت الأعين
منا لذلك» يدل على مدى حرصه «عليه السلام» على هذا الأمر الذي هو منصب
دنيوي، وهذا يخالف ما عرف عنه من ذلك.
غير أننا نقول:
إنه «عليه السلام» وإن لم يصرح بالخصوصية التي أبكت
العيون في هذا الأمر، ولكن سائر كلماته وحالاته قد عرفتنا زهده في
الدنيا، وأنها أهون عنده من عفطة عنز، وأن الخلافة لا تساوي عنده نعلاً
باليةً إلا أن يقيم حقاً، أو يبطل باطلاً.. مما يعني: أن حزنه «عليه
السلام» كان على الإسلام وأهله، وما انتهت إليه الأمور فيه، وما يتوقع
أن يجري عليه وعليهم بسبب هذه التعديات عليه.
ثم أعلن «عليه السلام»:
أن وضع الخلافة في غير أهلها من شأنه أن يضيع على الأمة، وعلى الأجيال
الكثير من الألطاف والنعم الإلهية، والكثير من المعارف، والمصالح
الكبرى، ولكن ذلك لا يعني، لزوم التشدد في الموقف ضد المستأثرين إلى حد
المبادرة إلى القتال دون سؤال وجواب، لأن ذلك معناه أن يعود الكفر،
ويبور الدين، بسبب ترسخ الفرقة بين المسلمين، وتصبح المصيبة أعظم،
والفساد أشد.
فالمانع من المنابذة، والقسوة والتشدد ليس هو العجز
والجبن، وإنما هو دفع ما هو أشد خطراً، وأعظم فساداً وضرراً..
وقد ذكرت رواية عبد الله بن جنادة:
أنه «عليه السلام» قال: «فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً»..
ونحن نرى:
أن هذه الفقرة غير صحيحة، بل هي قد تعرضت للتحريف والتزييف، وهي على
خلاف ما يعرفه الناس عن علي «عليه السلام» في نظرته لما جرى..
ويكفي أن نشير إلى ما يلي:
أولاً:
ما قاله «عليه السلام» في نفس خطبته هذه وفي خطب ومواقف
كثيرة له، ومنها خطبته المعروفة بالشقشقية، عن خلافة الخليفة الأول:
«أما والله، لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل
القطب من الرحى ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير، فسدلت ودونها
ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر
على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير».
وقال عن الخليفة الثاني:
«فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كُلامها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها،
والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها
تقحم. فمني الناس ـ لعمرو الله ـ بخبطٍ وشماس، وتلون واعتراض..».
وقال عن خلافة عثمان:
«إلى أن قام ثالث القوم، نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه
بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله،
وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته إلخ..»([15]).
ثانياً:
إن التعبير في النص الآخر الذي رواه الكلبي قد جاء
مخالفاً لهذا النص، وهو أكثر دقة في التعبير عن رأيه «عليه السلام»،
حيث قال:
«فولي الأمر قوم لما يألوا في أمرهم اجتهاداً»..
فدل بذلك على أن أولئك الناس قد اجتهدوا وبذلوا ما في
وسعهم من أجل إحكام قبضتهم على الأمور، وبسط سلطتهم ونفوذهم على
الناس.. لا أنهم اجتهدوا فيما يصلح الناس، ويحفظ أمورهم.. فإن ما
انتهجوه من سياسات في التمييز العنصري والقبائلي، وتقديم بني أمية على
من سواهم رغم ما فيهم من بعد عن الإلتزام بأحكام الشرع والدين، وكذلك
سياساتهم تجاه كتابة سنة الرسول «صلى الله عليه وآله» وروايتها، وتجاه
السؤال عن عن معاني القرآن، وتجاه بني هاشم وأهل البيت، أو تجاه
الأنصار أو سياساتهم في العطاء، وتدوين الدواوين.. وغير ذلك مما لا
مجال لذكره لم يكن سوى محاولة لإطفاء نور الله، وطمس آثار ومعالم
الهدى، والله متم نوره، وإن كان قد أسهم في زرع بذور الشقاق بين
المسلمين. فإن من ذلك تمحيصاً لما في صدورهم، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم
الكاذبين.
وقد بيَّن «عليه السلام»:
أنه كان كارهاً للولاية حين عرضت عليه، وأنه قبلها على مضضٍ. وسبب ذلك
فراسته الصادقة التي دلته على ما تكنه قلوب كثير منهم، فإنها هي التي
منعته من قبول بيعتهم له، وحق للإمام أن يزهد في إمارة على أعراب غلاظ
الأكباد، قساة القلوب، جفاة الطباع، يكون كل همهم إحباط مسعاه في
إسعادهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى والبلاء إلى
الرخاء والهناء..
فما يدعيه بعضهم، من أن السبب في امتناعه هو أنه لا يرى
لنفسه حقاً في الأمر غير صحيح.
وكيف يصح ذلك، وقد شحنت المجاميع الحديثية والتاريخية
وغيرها بتنديداته بمن غصبوا حقه. وخالفوا أمر الله تعالى، ونقضوا تدبير
الله ورسوله فيه.
ويدل على ذلك أيضاً:
إدانته لأخذهم الخلافة، واعتباره ذلك اغتصاباً منهم لحقه، كما صرح به
في نفس خطبته هذه، فضلاً عن تصريحات كثيرة أخرى بهذا الأمر.
ولعل أهون ما تفرسه في الكثيرين ممن بايعوه، هو إضمار
النكث، حين تسنح لهم الفرصة لذلك، أو العمل على حمله على أن تتوافق
سياساته مع أهوائهم، ومصالحهم.
وذلك كله يدل على أنه «عليه السلام» لم يكن يريد السلطة
لأجل السلطة، بل كان يريدها من أجل تحقيق رضا الله سبحانه، ولكنه حين
أصر على الرفض، وانتزع منهم تعهداً بأن يسير فيهم بما يرضي الله، قبل
بيعتهم رغم علمه بنكثهم وغدرهم، لأن النكث والغدر قد جاء عن سابق علم
ومعرفة، وأصبح مسار الأمور واضحاً للناس..
وقد نسب «عليه السلام» إلى طلحة والزبير النكث والغدر،
فأما نكث البيعة فظاهر، وأما الغدر، فلأنهما أعطياه العهود والمواثيق
على أن لا يغدرا به بعد ذهابهما إلى مكة. وقد غدرا به بالفعل.. فباءا
بإثم النكث، وبإثم الغدر..
وقد دل «عليه السلام» على أن هدف طلحة والزبير من إخراج
عائشة معهما هو:
أولاً:
تفريق
جماعة المسلمين، مع أن الله تعالى يقول: ﴿وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾([16])،
أي قوتكم..
ثانياً:
أن يلقيا بأس المسلمين بينهم، بدلاً من أن يكونوا يداً
واحدة على أعدائهم.
والهدف الأول مقدمة للثاني:
لأن مجرد التفريق بين المسلمين لا يعني زوال مكامن القوة فيهم، بل سبب
الضعف، إما اختلال التنسيق بين مفردات القوة، وإما استعمال جزء من
القوة دون الآخر، فيكون تعطيله بمثابة إبطاله
أما حين يُلقى البأس بينهم فذلك يعني تبخير القوة في
نفسها، بل تدميرها لأجزاء أخرى من القوة، إما بالمباشرة، أو بواسطة
تبخيرٍ آخر فرضته المنابذة والمحاربة..
وقد أشرنا في ما سبق إلى أنه «عليه السلام» قد دعا على
طلحة والزبير، ولكن بصيغة طلب أمرين من الله تعالى:
أولهما:
أن يأخذهما بنفس ما عملا. ولم يطلب أية زيادة على ذلك،
كما لم يحدد بلاء بعينه يحب أن يبتليهما الله تعالى به..
وهذه هي سنة العدل، التي يراعيها «عليه السلام» حتى مع
أعدائه.
كما أنه لم يطلب شيئاً يغاير في ماهيته ما عملاه، دفعا
لأي توهم حول مدى تطابقه في مستواه وفي خصوصياته مع عملهما.
الثاني:
أن يحجب عنهما لطفه في ثلاثة اتجاهات، هي:
1 ـ
أن لا ينعش لهما صرعة، فإن إنعاش الصرعة قد يفرض الإمداد ببعض الأمور
التي تزيد عما يحتاجه الأحوال العادية، أو أنها قد تختلف عنه في النوع
أحياناً..
2 ـ
إن إقالة العثرة يكفي فيها غض النظر عن المؤاخذة. فإذا
طلب «عليه السلام» من الله أن لا يقيلهما عثرة، يكون بمثابة طلب
مؤاخذتهما بما يستحقانه..
3 ـ
وطلب أيضاً: أن تكون المؤاخذة فورية، ومن دون إمهال،
فإن الإمهال قد يختزن بعض الإرفاق أيضاً.
1 ـ
قد بين «عليه السلام» أنه لا يعتمد في موقفه من البغاة
ومواجهته لهم على قوته الذاتية، ولا على ما يمكن أن يحشده من جيوش، بل
هو يطلب النصر عليهم من الله سبحانه.
2 ـ
إنه «عليه
السلام» لا يطلب ذلك من الله تعالى اقتراحاً منه، بل وعد قطعه الله
سبحانه على نفسه بصورة مؤكدة وحاسمة، حيث قال: لمن
﴿بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾([17]).
3 ـ
إنه لم يكتف بطلب النصر من الله حتى شفعه بطلب آخر هو
أن لا يكله سبحانه إلى نفسه. فأزال بذلك احتمال أن يكون ممن لا يرى
مانعاً من ضم نصرة الله تعالى له إلى قدراته الذاتية، وما يملكه من عدة
وعدد. بل هو ممن يحصر القوة كلها، والنصر كله بالله تعالى، وقد أخرج
نفسه، وكل ما سوى الله تعالى عن دائرة الاحتمال..
وهذا بعض ما أراد «عليه السلام» أن يفهمنا إياه بقوله:
«اللهم إني أقتضيتك وعدك، فإنك قلت وقولك الحق: لمن
﴿بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾
ـ اللهم فأنجز لي موعدي، ولا تكلني إلى نفسي، إنك على كل شيء قدير.
وفي النص الذي نقله الكلبي نلاحظ أموراً كثيرة، مثل:
1 ـ
تصريحه «عليه السلام»: بأنه أحق بالخلافة بعد رسول الله «صلى الله عليه
وآله» من الناس كافة، فلم يكن لأبي بكر، ولا لعمر، ولا لغيرهما أن
ينافسوه فيه، فما بالك بخلافة عثمان، التي جاءت بتدبير من عمر، الذي لم
يكن له أي حق في هذا الأمر؟!
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد بيَّن: أن مطالبته بحقه، لن تأتي له به، بل يحتاج
ذلك إلى القبول بافتراق الناس إلى معسكرين، ثم إلى جدال وقتال، وسفك
دماء.
3 ـ
إن القتال وسفك الدماء وإن كان قد يأتي بنتيجة فيما
يرتبط باستعادة الحق، ولكنها تجعل الرابح خاسراً، لأن ثمن ذلك سيكون
تضييع الإسلام نفسه الذي جعلت الخلافة وسيلة لحفظه، وتقويته، لأن الدين
لا يزال طري العود، يسرع الفساد إليه، لظهور ضعفه، حيث إنه لم يشتد ولم
يثبت ويستقر، بحيث لا تحركه العواصف..
وإذا كان أبو بكر وعمر، وعثمان ليس لهما سبيل إلى هذا
الأمر، ولا سيما مع وجود أحق الناس به. فإن طلحة والزبير لا في العير،
ولا في النفير، بل هما كسائر الناس. ومجرد حشر عمر اسمهما في الشورى
التي أتت بعثمان لا يجعل لهما حقاً فيه، لأن عمر نفسه يفقد الشرعية
لذلك، وفاقد الشيء لا يعطيه..
ومع غض النظر عن هذا وذاك نقول:
إن مبادرتهما إلى بيعته «عليه السلام» في أول الناس.
وإصرارهما عليه في قبول ذلك. قد جعل حركتهما ضده من مصاديق الغدر
الواضح، والنكث الفاضح.
والناكث الغادر ليس له فيما هو أدنى من ذلك بمراتب أي
نصيب، بل هو ممن يستحق التأديب والعقوبة بالقتل وفقاً لقوله تعالى:
﴿فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي﴾([18]).
ولأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً بقتل من طغى وبغى، ونكث،
ودعا إلى نفسه في مقابل الحاكم القائم بالأمر، المنصوب من قبل الله
سبحانه يوم الغدير، والمجمع على بيعته بعد قتل عثمان..
1 ـ
وقد وصف طلحة والزبير، بأنهما وثبا ومرقا.. ولعل التوصيف بالمروق نشأ
عن أنهما إنما خرجا لحرب من نص الله ورسوله على إمامته، ونكثا بيعته
مرتين: بنكثهما بيعة الغدير التي كانت برعاية نبوية، ثم نكثهما بيعته
بالخلافة، حين بايعاه طائعين مختارين مرة أخرى، ثم غدرا به كما تقدم،
وهذا يدل على عدم صحة إيمانهما بكتاب الله، وتمردهما على رسوله. أو
أنهما ـ على الأقل ـ ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
2 ـ
أما البدعة التي أحيياها بعد أن أميتت. فلعل المقصود بها نكث البيعة
بعد عقدها اختيارا، حين الشعور بالقدرة على ذلك. فإن ذلك من بدع أهل
الباطل، وطلاب الدنيا.
ويمكن أن يريد بها طلب الدم الذي سفكوه أو شاركوا هم في
سفكه ـ كلبه ـ من غير القاتل، مع العلم ببراءة من يطالبونه به.. أو على
الأقل مع عدم علمهم بشراكة من يطالبونه به..
ومن المفارقات المثيرة للعجب أن تكون أعظم حجة لجأ
إليها طلحة والزبير، هي تلك التي تدينهما، فإن أعظم حجتهما هي أنهما
يطلبان بدم عثمان الذي يزعمان أنه قتل مظلوماً.. والحال أنهما هما
اللذان ألبا عليه، وشاركا في قتله من هم على شاكلتهما، وليس هو علي
«عليه السلام» قطعاً.
وإن أكثر ما يسلي هم المظلوم، ويخفف عنه المرارة هو
علمه بأن الله عالم ببغي ظالمه، وبألاعيبه ومكره وخدعه. وأنه أوعده
بالعقوبة، وهو قادر عليها.
ويزيده سكينة ورضا علمه بأن لا عذر لظالمه عند الله،
وأن حجة الله عليه قائمة، وظاهرة، وحاسمة.. ولا يهمه بعد ذلك رضا سائر
الناس أو سخطهم، فإن هذا هو آخر ما يفكر به.
1 ـ
وفي حين لم يزل «عليه السلام» مشرعاً لطلحة والزبير
أبواب الإنابة والتوبة إلى آخر لحظة.. فإنه «عليه السلام» يبين أن ذلك
ليس بسبب ضعفه، وخوفه، ولا لأجل رفع الشدة عن نفسه، والتخلص من خطر
يخشاه، أو التمتع بفرصة تأجيله، بل لأنه يريد لهما الصلاح والفلاح، وأن
يصيبا الخير، والسلامة برجوعهما، وأن يغنما أنفسهما.
ثم هو يحببهما بهذه الغنيمة، ويزينها ويعظمها لهما،
ويحرضهما على الفوز بها حين يقول: «فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا،
وأنفسهما غنما. وأعظم بها غنيمة».
2 ـ
ثم حذرهما «عليه السلام» من عدم الفيئة والتوبة، بأن
ذلك سيجعل له سبيلاً عليهما. ولكن لا لأجل التلذذ بقتلهما، والتشفي
والانتقام منهما.. ولا ليكون السيف مدافعاً عنه كشخص، وإنما ليكون
ناصراً للحق، ومنتقماً وشافياً للنفس من الباطل.
ثم إنه «عليه السلام» حدد معياراً للناس. يميزون به ما
ينفعهم عما يضرهم، ويعرفون به ما ينجيهم مما يهلكهم، حين قال: «إن الله
بعث رسولاً هادياً، بكتاب ناطق، وأمر قائم، لا يهلك عنه إلا هالك.
وإن المبدعات المشبهات هن من المهلكات إلا ما حفظ الله
منها، وإن في سلطان الله عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم».
فأوضح بذلك:
1 ـ
أن الأمور المبتدعة، التي تحمل معها الشبهة هي من
المهلكات للناس. لأن كونها جديدة ومبتدعة، يغريهم بالجري وراءها،
ويرغبهم بأن يجربوها. لأنهم يحبون أن يخرجوا عما اعتادوه وألفوه، وإن
كان عين الصواب والحق..
فكيف إذا شبه لهم هذا المُبْتَدَع الجديد بالحق، وزالت
هجنته وغرابته، وزين لهم بالشبهات والأغاليط؟! فإن الرغبة به ستصبح
أشد، والاندفاع إليه أقوى. فيقع الإنسان في المحذور، ويهلك نفسه ومن
معه.
2 ـ
إن ما ينجي من هذه المهلكات هو التزام كتاب الله تعالى،
فإنه الهادي إلى الرشد، الناطق بالحق.
3 ـ
غير أن من الواضح: أن كتاب الله يحتاج إلى من يقيمه في
الناس، ويبينه لهم، ويفرضه عليهم، وذلك هو السلطان الذي يأتي من قبل
الله تعالى، ولا تأتي به الطموحات والأهواء، لأن سلطان الله هو وحده
المعصوم عن الخطأ، المبرأ من الزلل. الذي لا يميل مع هوى، ولا ينقاد
لباطل.
وقد بين لهم «عليهم السلام»:
أن عصمة هذا السلطان إنما هي عصمة أمرهم، وسلامة
مسيرتهم. وليس لمجرد التحلي بالفضائل، والتزين بالكمالات..
4 ـ
إنه «عليه السلام» قد بين أن الأمر لا يمكن أن يكون من
طرف واحد، بل هو لا يقوم إلا بأركانه كلها مجتمعة، فلا بد من الهداية
الإلهية المتمثلة بكتاب الله، ولا بد من سلطان إلهي معصوم. ولا بد
أيضاً من استجابةٍ وطاعةٍ تكرس الهدى في حياة الناس وباختيارهم.. ولأجل
ذلك قال: «فأعطوه طاعتكم إلخ..».
5 ـ
ثم إنه «عليه السلام» بين عواقب معصية سلطان الله
المعصوم، بأن سلطان الله سينقل عنهم، ثم لا يعود إليهم أبداً بفعل
إلهي، يجريه وفق السنن التي يسيِّر بها الكون والحياة، وسنن الله تعالى
لا تنقض.. لأنها جعلت رحمة للعالمين.
وقد بين «عليه السلام»:
أن الناكثين البغاة قد عقدوا العزم على سخطة إمارته.. وقد أعلم الناس
أنه سوف يتحمل كل أذى ما لم يبلغ الأمر حد الخطر- ليس على نفسه هو، أو
على مصالحه، أو على حكومته- وإنما على جماعة المسلمين فقط. ولذلك قال:
«سأصبر ما لم أخف على جماعتكم».
ولكن ما المراد بالخوف على جماعتهم. هذا ما سنطلع عليه
في الفقرة التالية:
ومن الواضح:
أن الخوف على جماعة المسلمين، له تجليات مختلفة، فهناك الخوف على
دينهم، وعلى حياتهم، وعلى اقتصادهم، وعلى نظامهم وثقافتهم، وعلى أمنهم،
وعلى مستقبلهم. وما إلى ذلك..
ولكن علياً «عليه السلام» هنا جعل الحد الأقصى للصبر هو
المساس بنظام الأمة، فدل بذلك على أن نظام الأمة له من القداسة،
والأهمية والخطورة، ما يجعله يتخلى عن صبره ويصبح في حل من المهادنة،
ويبيح له الدخول في أي خيار آخر أحله الله تعالى له، إذا كان من شأنه
أن يحفظ للأمة نظامها، ويمنع من العبث به.
ولا يخامر عاقلاً أدنى شك في أن نظام الأمة إذا سقط،
فإن كل شيء فيها يصبح عرضة للاختلال والزوال.. فلا أمن على الأرواح
والأموال والأعراض، والاقتصاد، ولا حياة اجتماعية، ولا ثقافية، ولا
مستقبل، كما أن دين الناس يصبح في خطر أكيد، فضلاً عما سواه.
ولأجل ذلك أضاف «عليه السلام» قوله:
«فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام
المسلمين».
ثم إنه «عليه السلام» انطلق إلى بيان الدافع الحقيقي
الذي انتهى بالبغاة إلى هذا المصير السيء، فذكر أن حسدهم له هو الذي
دعاهم إلى ذلك كله..
وهذا من أهم الأدلة على خطورة هذه الصفة الذميمة، التي
أشار إليها القرآن الكريم مرات كثيرة، ومنها قوله:
﴿وَمِنْ
شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾([19]).
وقوله تعالى: ﴿أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً﴾([20]).
كما أنه بهذا البيان يكون قد دل الناس على أن هؤلاء
البغاة يكذبون عليهم حين يقولون لهم أن دافعهم هو الأخذ بثارات عثمان،
أو أن هدفهم هو تصحيح الأوضاع، أو نيل رضا الله تعالى، أو ما شابه..
فلا ينبغي أن يهتموا لهذه الإدعاءات الباطلة التي يراد
بها خداعهم.
وقد عودنا طلاب اللبانات على وعودهم الرنانة، وشعاراتهم
الطنانة، التي يعيش الناس معها الآمال العريضة، والتخيلات الواسعة، ثم
يظهر لهم أنها
﴿كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ﴾([21])..
وهذه هي سيرة أهل الدنيا، وطلابها.
مع أنه «عليه السلام» كان يمثل سلطان الله، فإنه لم
يغرق الناس بالوعود، بل اكتفى بأن وعدهم بأن يسير بهم بنفس ما أوجبه
الله تعالى عليه وكلفه به.. فقال:
«ولكم علينا العمل بكتاب الله. وسيرة رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، والقيام بحقه، ونعش سنته».
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن من يقوم بهذا الواجب يكون
قد أعطى الناس أجزل العطايا، ووفى بأجل المواعيد المرضية لله تعالى،
وأنالهم السعادة في الدنيا والآخرة. إلا إن كانوا يطلبون الحرام،
ويريدون ظلم الناس، والاستيثار بما لا يحق لهم الاستئثار به، واتخاذ
مال الله دولاً، وعباده خولاً..
وقد بيَّن «عليه السلام» في كلماته
الأخيرة:
أن العلاقة بين طلحة والزبير لم تكن علاقة حب وإخاء، ومودة وصفاء.. رغم
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان قد آخى بينهما حين قدم المدينة، وأن
الإسلام يفرض على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، بل كانت علاقة
حسد وضغينة، وبغض وتربص بالشر.
وهذا تماماً هو حال غير المؤمنين الذين قال الله تعالى
عنهم:
﴿تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾([22]).
والأهم من ذلك قوله «عليه السلام»: «لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن
هذا نفس هذا، وليأتين هذا على هذا» مما يعني: أنهم قد بلغوا أقصى
الغايات في البعد عن الله، وعن الالتزام بشرائعه، وهو يدلل على صحة
ودقة وصفه «عليه السلام» إياهما بأنهما قد مرقا من الدين..
وأما قوله «عليه السلام»:
«عما قليل يكشف قناعه به» لعله أراد به أن منيتهما قريبة، وسيفضح الله
حالهما هذه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة..
بل قد يقال:
إنه «عليه السلام» قد أخبر عن أمر غيبي تجسد على صعيد الواقع، حين راحا
يتنافسان حتى على الصلاة، حتى تدخلت عائشة فحسمت الأمر
بأمرها ابن أختها عبد الله بالصلاة بالناس([23]).
بالإضافة إلى أمور أخرى كان كل منهما يحاول أن يتقدم
على صاحبه حرصاً منه على الإمارة، وعلى أن تتوجه الأنظار إليه دون
صاحبه..
علي
يخبر عن المستقبل:
ويؤكد ذلك:
ما ورد في نص آخر يقول: لما اتصل بأمير المؤمنين «صلوات
الله عليه» مسير عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة حمد الله وأثنى
عليه، ثم قال:
قد سارت عائشة وطلحة والزبير كل منهما يدعي الخلافة دون
صاحبه، ولا يدعي طلحة الخلافة إلا أنه ابن عم عائشة. ولا يدعيها الزبير
إلا أنه صهر أبيها.
والله، لئن ظفرا بما يريدان ليضربن الزبير عنق طلحة،
وليضربن طلحة عنق الزبير، ينازع هذا على الملك هذا.
ولقد علمت والله:
أن الراكبة الجمل لا تحل عقدة، ولا تسير عقبة، ولا تنزل منزلة، إلا إلى
معصية الله، حتى تورد نفسها ومن معها مورداً يقتل ثلثهم، ويهرب ثلثهم،
ويرجع ثلثهم.
والله، إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان، وما
يجهلان، ولرب عالم قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه.
والله لتنبحنها كلاب الحوأب.
فهل يعتبر معتبر، ويتفكر متفكر، لقد قامت الفئة الباغية
فأين المحسنون([24]).
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
أقول:
ورواه أيضاً مرسلاً في الكافية وزاد في آخره:
ما لي وقريش:
أما والله لأقتلنهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين. وإني
لصاحبهم بالأمس.
وما لنا إليها من ذنب غير أنا خيرنا عليها، فأدخلناهم
في خيرنا.
أما والله، لا يترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إن
شاء الله.
فلتضج مني قريش ضجيجاً([25]).
1 ـ
ثم إنه «عليه السلام» قد طبق كلام الرسول «صلى الله عليه وآله» على
مورده، ليساعد الناس على تلمس الحقائق بأنفسهم من خلال إخبارات رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فذكر أن الفئة الباغية التي أخبر الرسول
«صلى الله عليه وآله» عن ظهورها تتمثل بداياتها بحركة هؤلاء الناكثين
في حرب الجمل، وسوف تستمر حين تلبس ثوب القاسطين في حرب صفين،
والمارقين في حروب النهروان..
2 ـ
إن ظهور مصداق قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا بد أن يحرك أهل
الإيمان لاكتساب ثواب الدفاع عن الحق وأهله..
3 ـ
يضاف إلى ذلك: أن تقديم الخبر عن الفئة الباغية يحتم على المؤمنين
العمل بما سنه الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» من التصدي لهم، ولا
يبقي عذراً لأحد في التخلي عن نصرة الدين وأهله..
4 ـ
إن ظهور الحق، وتقديم الخبر، وبيان السنن والتكاليف المرتبطة بهذا
الأمر يدفع ضلالات المضلين، ويكشف شبهات الناكثين.. ولا يحيق المكر
السيء إلا بأهله..
([1])
الآية 60 من سورة الحج.
([2])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص307 و 308 وبحار الأنوار ج32 ص61
و 62 عنه.
([3])
الثقات لابن حبان ج2 ص180 و (ط دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر
آباد الدكن ـ الهند) ج2 ص281 و 282.
([4])
الثقات لابن حبان ج2 ص181 و (ط دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر
آباد الدكن ـ الهند) ج2 ص282.
([5])
بحار الأنوار ج32 ص112 والثقات لابن حبان ج2 ص180 و 181 و (ط
دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر آباد الدكن ـ الهند) ج2 ص281 و
282 والفتوح لابن أعثم ج2 ص286 و 287 و (ط دار الأضواء) ج2
ص456 وعن تاريخ الأمم والملوك ج5 ص167 و 163 و 164.
([6])
راجع المصادر المتقدمة.
([7])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص307 و 308 وبحار الأنوار ج32 ص62
عنه، ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص268 و 269
والغدير ج9 ص108 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص702.
([8])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص81 و 82 قسم الخطب، الخطبة رقم169
وبحار الأنوار ج32 ص81 عنه، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9
ص295.
([9])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص32 قسم الخطب، الخطبة رقم 148
وبحار الأنوار ج32 ص80 عنه، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9
ص109.
([10])
بحار الأنوار ج32 ص81.
([12])
راجع: ينابيع المودة ج1 ص99و109و125 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص6
والجامع الصحيح للترمذي ج5 ص327 وامتاع الأسماع ج6 ص4 وتفسير
القرآن العظيم ج4 ص123 والمعجم الأوسط ج5 ص89 والمعجم الكبير
ج3 ص66 ونظم درر السمطين ص232 والغيبة للنعماني ص50 والمحتضر
ص199 وبحار الأنوار ج23 ص129 وج89 ص102 وجامع أحاديث الشيعة ج1
ص196 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص232 وخلاصة عبقات الأنوار ج1
ص105 و 124 و 198 و 234 و 251 و 255 وكنز العمال ج1 = = ص48 (ط
أولى) ونوادر الأصول ص68 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج10 ص51 وتحفة
الأشراف ج2 ص278 وجامع الأصول ج1 ص277 ومشكاة المصابيح ج3
ص258. وراجع: حديث الثقلين للوشنوي تجد شطراً وافياً من مصادر
هذا الحديث.
([13])
الآية 214 من سورة الشعراء.
([14])
الآية 68 من سورة آل عمران.
([15])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص30 وعلل الشرائع ج1 ص150 ومعاني
الأخبار ص361 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص48 والطرائف لابن طاووس
ص418 والصراط المستقيم ج3 ص43 وكتاب الأربعين للشيرازي ص167
وحلية الأبرار ج2 ص291 وبحار الأنوار ج29 ص497 وكتاب الأربعين
للماحوزي ص269 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص457
والغدير ج7 ص81 وج9 ص380 ونهج السعادة ج2 ص499 والدرجات
الرفيعة ص34 ومناقب علي بن أبي طالب «عليه السلام» وما نزل من
القرآن في علي «عليه السلام» لابن مردويه الأصفهاني ص134 ونهج
الحق للعلامة الحلي ص326 وإحقاق الحق (الأصل) للتستري ص277
وبيت الأحزان ص89.
([16])
الآية 46 من سورة الأنفال.
([17])
الآية 60 من سورة الحج.
([18])
الآية 9 من سورة الحجرات.
([19])
الآية 5 من سورة الفلق.
([20])
الآية 54 من سورة النساء.
([21])
الآية 5 من سورة الفلق.
([22])
الآية 14 من سورة الحشر.
([23])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص166 وشرح إحقاق الحق (الملحقات)
ج32 ص444.
([24])
بحار الأنوار ج32 ص112 و 113 عن كتاب الإرشاد للمفيد ص132
الفصل 19 و (ط دار المفيد) ج1 ص246 والكافئة للمفيد ص19
وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3 ص331 و 332.
([25])
بحار الأنوار ج32 ص113.
|