صفحة 7-28   

الفصل الأول: إلى الربذة..

الصحابة مع علي :

وبعد أربعة أشهر من البيعة لعلي «عليه السلام»: خرج في سبعمائة رجلٍ من المهاجرين والأنصار([1])، واستخلف على المدينة تمام بن العباس، وبعث قثم بن العباس إلى مكة.

ولما رأى أمير المؤمنين «عليه السلام» التوجه إلى المسير طالباً للقوم ركب جملاً أحمر، وقاد كميتاً وسار وهو يقول:

سـيروا أبـابـيـل وحثـوا الســيرا        كـي نلحـق الـتـيـمـي والـزبــيرا

إذ جـلـبـا الشـر وعـافـا الخــيرا         يـا رب أدخـلـهـم غـداً  سـعــيرا

وسار مجداً في السير حتى بلغ الربذة([2])، فوجد القوم قد فاتوا، فنزل بها قليلاً، ثم توجه نحو البصرة، والمهاجرون والأنصار عن يمينه وشماله، محدقون به مع من سمع بمسيرهم، فاتبعهم حتى نزل بذي قار([3])، فأقام بها([4]).

ونقول:

المراد بالتيمي في الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» طلحة بن عبيد الله، فإنه من بني تيم، قبيلة عائشة، وأبي بكر.

قطع الطريق على الناكثين:

وقد أظهرت النصوص:

1 ـ إنه «عليه السلام» أراد أن يقطع الطريق على طلحة والزبير وعائشة، فإنهم إذا كانوا في مكة، وأرادوا العراق، فسيمرون بالربذة..

ولكنهم كانوا قد مروا من ذلك الموضع قبل وصول علي «عليه السلام» إليه، ولو أنه «عليه السلام» صادفهم هناك لسارت الأمور على غير ما جرت عليه، ولكان الأمر قد حسم، لقلة من معهم، لأنهم لم يكونوا قد تمكنوا من جمع الألوف من المقاتلين.

قال ابن العماد: لما علم علي بمخرجهم اعترضهم من المدينة ليردهم إلى الطاعة، وينهاهم عن شق عصا المسلمين، ففاتوه([5]).

وحيث الأمور سارت في اتجاه آخر، فقد تسببوا بسقوط آلاف القتلى وآلاف الجرحى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى..

2 ـ إنه وإن كان «عليه السلام» لم يصادفهم في مسيره ذاك، ولكن حركته هذه لم تكن بلا فائدة، بل هي قد أفهمتهم وأفهمت سائر الناس أموراً كثيرة كان من الضروري لهم ولغيرهم أن يفهموها، وقد أشرنا إلى بعض من ذلك في موضع آخر في هذا الكتاب..

أبابيل! لماذا؟!:

وقد ورد في الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» قوله لأصحابه: «سيروا أبابيل، وحثوا السيرا» فلماذا اختار وصف «أبابيل» هنا يا ترى؟!

ويمكن أن يجاب بما يلي:

1 ـ إنه «عليه السلام» أراد أن يذكرهم بما جرى لأصحاب الفيل، حين أرادوا انتهاك حرمة بيت الله تعالى. ويلوح لهم: بأن مصيرهم سيكون نفس ذلك المصير، ولكن الفرق هو: أن الأبابيل كانت آنئذٍ من الطير، والأبابيل الذين معه من المؤمنين الذين ينبعثون عن أمر الله تعالى لجهاد الخارجين على إمامهم، الذي هو عبد الله، وأخو رسوله، بل هو نفس النبي «صلى الله عليه وآله» وله حرمته وقداسته..

2 ـ إنه يريد إفهامهم: أن الذين سيحاربونهم سيكونون جماعات، وسيكون لهم تتابع بلا انقطاع، فلا يتوهمن أحد منهم: أن من يرونهم هم الغاية والنهاية. وأنهم إذا تخلصوا منهم سينتهي الأمر، بل الأمر سيكون على عكس ذلك تماماً.

ولهذا المعنى تأثير بالغ على معنويات أولئك البغاة، ولا سيما إذا صدر من علي «عليه السلام» الذي يعرفون، مدى معرفته بالغيوب التي عاينوها، وتحقق لهم صدقها في كل مرة، وطيلة عشرات السنين..

ومهما يكن من أمر، فقد روي عن ابن عباس قوله: معنى أبابيل: يتبع بعضها بعضاً.

وعن قتادة: معنى أبابيل: كثيرة متتابعة.

وقال الطوسي: أبابيل: جماعات في تفرقة، زمرة وزمرة([6]).

تقليل عدد الصحابة مع علي :

تقدم: أن عدد الصحابة الذين خرجوا من المدينة مع علي «عليه السلام» إلى حرب الجمل كانوا سبع مئة رجل.. بل سيأتي أنهم أكثر من ذلك أيضاً..

ولكننا نجد في مقابل ذلك محاولات للتعمية على هذه الحقيقة، فقد روى بشر بن المفضل، عن منصور بن عبد الرحمان، عن الشعبي، قال: «من حدثك أنه شهد الجمل من أهل بدر غير أربعة، أو إن جاؤوا بخامس فكذبه. كان علي وعمار ناحية، وطلحة والزبير ناحية»([7]).

وحسب نص الذهبي: «وكان الشعبي يبالغ ويقول: لم يشهدها إلا علي وعمار، وطلحة والزبير من الصحابة»([8]).

كما أن ابن مسكويه الرازي يقول: «..فبينما هو على ذلك (أي يتجهز للمسير إلى الشام) إذ أتاه من مكة عن عائشة أم المؤمنين، وطلحة والزبير شيء آخر، بخلاف ما هو فيه. ثم أتاه عنهم أنهم يريدون البصرة للإصلاح، فقال:

«إن فعلوا فقد انقطع نظام المسلمين. وما كان عليهم في المقام فينا مؤونة، ولا إكراه».

فتعبأ للخروج نحوهم، وخطب، وندب الناس، فتثاقلوا.

ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس على علي انتدب، وقال:

«من تثاقل عنك يا أمير المؤمنين، فإنا نقاتل معك، ونخف بين يديك ما حملت أيدينا سيوفنا.

وأجابه رجلان من أعلام الأنصار»([9]).

هذا تزوير باطل:

ولا شك في أن هذا من التزوير والباطل، إذ كيف يمكن قبول قول هؤلاء، ونحن نرى بعضهم يقول: كنا مع علي أربعة آلاف من أهل المدينة([10]).

وعن سعيد بن جبير: كان مع علي يوم الجمل ثمان مئة من الأنصار وأربع مئة ممن شهد بيعة الرضوان([11]). [أو سبع مئة من الأنصار، وأربع مئة من شهد إلخ.. كما في نسخ تاريخ الإسلام للذهبي].

شهد البصرة مع علي «عليه السلام» ثمانمائة من الأنصار وتسعمائة من أهل بيعة الرضوان وسبعون من أهل بدر([12]).

وقال المطلب بن زياد، عن السدي: «شهد مع علي يوم الجمل مئة وثلاثون بدرياً، وسبع مئة من أصحاب النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، وقتل بينهما ثلاثون ألفاً، لم تكن مقتلة أعظم منها»([13]).

وورد في كتابه «عليه السلام» لجرير بن عبد الله البجلي الذي يذكر فيه ما جرى لأصحاب الجمل قوله: «إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار، حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، فاستنفروهم، فأجابوا، فسرت بهم إلخ..»([14]).

وفي كتاب علي «عليه السلام» للأشعث بن قيس يذكر فيه حرب الجمل، يقول «عليه السلام»: «وسرت إليهم في من بايعني من المهاجرين والأنصار»([15]).

ومن المعلوم: أن المهاجرين والأنصار قد أجمعوا على بيعته، فدل ذلك على أن جميع المهاجرين والأنصار قد نفروا معه لحرب عدوه «عليه السلام».

وذكر المسعودي: أن علياً «عليه السلام» سار من المدينة «في سبع مئة راكب، منهم أربع مئة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدرياً، والباقون من الصحابة».

إلى أن قال: «ولحق بعلي من أهل المدينة جماعة من الأنصار، فيهم خزيمة بن ثابت، ذو الشهادتين»([16]).

وذكر المسعودي أيضاً: وصفاً قدمه المنذر بن الجارود، فذكر ما ملخصه: أن أبا أيوب دخل البصرة وهو على ألف فارس، هم الأنصار وغيرهم.

وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين على ألف.

ثم أبو قتادة في نحو ألف.

ثم عمار بن ياسر على ألف في عدة من الصحابة، من المهاجرين والأنصار، وأبنائهم.

ثم قيس بن سعد بن عبادة في ألف في عدة من الأنصار، وأبنائهم، وغيرهم.

ثم عبد الله بن عباس، ومعه عدة من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

ثم تتابعت المواكب والرايات إلى أن مر به علي «عليه السلام»، وعن يمينه ويساره الحسنان «عليهما السلام»، وخلفه عبد الله بن جعفر، وولده عقيل، وغيرهم من بني هاشم، والمشايخ الذين هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار([17]).

وبعد.. فإننا لم نفهم لماذا تجاهل الشعبي الإمام الحسن والإمام الحسين «عليهما السلام»، فإنهما من الصحابة، وتجاهل أيضاً عبد الله بن الزبير، ومروان من الجانب الآخر، فضلاً عن عائشة وغيرهم.. فإنهم حضروا حرب الجمل بلا ريب عنده..

ثم إننا لم نعرف الوجه في اعتبار قول الشعبي الذي يفيد الحصر بما وإلا، من قبيل المبالغة!! لا من الكذب الصريح والقبيح.

كلام مسكويه غير دقيق:

1 ـ أما كلام مسكويه الآنف الذكر، فهو غير قابل للقبول، فإن المدينة لم تكن بلداً كبيراً، بل هي بمثابة قرية كانت في طور النمو، وقد خرج معه «عليه السلام» منها أربعة آلاف رجل، وكان من بينهم ثمان مئة أو تسع مئة صحابي، وأربع مئة ممن شهد بيعة الرضوان. وفيهم مئة وثلاثون بدرياً.

بل ظاهر كلام أمير المؤمنين «عليه السلام»: أن الذين بايعوه من المهاجرين والأنصار قد خرجوا كلهم معه، فهل يعد هذا تثاقلاً عنه؟!

2 ـ وقد ذكر مسكويه: أنهم أخبروا علياً «عليه السلام» بأن الناكثين قصدوا البصرة للإصلاح، وإذ به «عليه السلام» يقول: «إن فعلوا فقد انقطع نظام المسلمين». فإن هذا الجواب لا يتناسب مع ذلك الخطاب.

فهل الإصلاح يوجب انقطاع النظام، أم يوجب قوته وثباته وإحكامه؟!

3 ـ زعم مسكويه: أنه «عليه السلام» قال عن طلحة والزبير: «وما كان عليهم في المقام عندنا مؤونة ولا إكراه». مع أنه «عليه السلام» كان يعلم: أن طلحة والزبير لم يتركا المقام عنده لأجل مؤونة زائدة يتحملانها، أو يحملها هو منهما، ولا لأجل إكراه تعرضا له، بل تركاه طمعاً بما هو أعظم وأهم، وهو إرادة إزاحته عن مقامه، والتخلص منه، والجلوس في موقعه..

4 ـ لم يذكر لنا مسكويه من هما الرجلان الأنصاريان اللذان أجاباه «عليه السلام». فإنهما إذا كانا من الأعلام، فلا شك في أنهما غير مجهولين، ويصبح واضحاً أن ثمة غرضاً من كتمان اسميهما، فما هو ذلك الغرض يا ترى؟!

الخلافة لا تساوي نعلاً بالية:

ولما [توجه أمير المؤمنين إلى البصرة] نزل ـ أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ الربذة، [فـ] لقيه بها آخر الحاج، فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه، وهو في خبائه.

قال ابن عباس: فأتيته فوجدته يخصف نعلاً، فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع.

فلم يكلمني حتى فرغ من نعله، ثم ضمها إلى صاحبتها وقال لي: قومهما.

فقلت: ليس لها قيمة.

قال: على ذاك.

قلت: كسر درهم.

قال: والله، لهما أحب إلي من أمركم هذا [إمرتكم]، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً.

قلت: إن الحاج اجتمعوا ليسمعوا من كلامك، فتأذن لي أن أتكلم، فإن كان حسناً كان منك، وإن كان غير ذلك كان مني؟!

قال: لا، أنا أتكلم.

ثم وضع يده على صدري ـ وكان شثن الكف ـ فآلمني.

ثم قام، فأخذت بثوبه وقلت: نشدتك الله والرحم.

فقال: لا تنشدني. ثم خرج فاجتمعوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه.. ثم قال([18]): ثم ذكر الخطبة..

[وعند الشريف الرضي: أن ذلك قد جرى في ذي قار].

ونص خطبته ـ كما رواه الرضي «رحمه الله» مع اختلاف يسير مع رواية المفيد، كما يلي:

قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين «عليه السلام» بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟!

فقلت لا قيمة لها.

قال: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً، ثم خرج فخطب الناس فقال:

[أما بعد.. فـ] إن الله سبحانه بعث محمداً «صلى الله عليه وآله» وليس أحد من العرب [أحد] يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم، وبلَّغهم منجاتهم. فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم.

أما والله إن كنت لفي [ما زلت في] ساقتها [ما غيرت، ولا بدلت، ولا خنت] حتى تولت بحذافيرها ما عجزت ولا جبنت، وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه. ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، [وإن مسيري هذا عن عهد إلي فيه] وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم.

والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا [في خيرنا «خ»، وأنشد] فكانوا كما قال الأول:

أدمت لعمري شربك المحض صابحاً                وأكـلـك بالـزبـد المـقشرة  البجرا

ونحن وهبناك العــلاء  ولم تكــن               علياً وحطنا حولك الجرد والسمرا([19])

ونقول:

لاحظ ما يلي:

إصلاح الأمة أولى:

1 ـ هل أراد ابن عباس تخطئة علي «عليه السلام»، حين قال له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج إلى ما تصنع؟!

وهل يرى أنه «عليه السلام» كان يجهل ما يجب عليه؟! أو أنه لا يعرف ما هو أولى بالإهتمام، إلى حد أنه لا يعرف أن إصلاح أمر الأمة أولى من إصلاح نعله؟!

ومن لا يدرك هذه المعادلة هل يصلح لإمامة الأمة؟!

2 ـ ألا يدلنا ذلك: على أن ابن عباس لم يكن يعرف حقيقة أمير المؤمنين «عليه السلام» بمستوى معرفة عمار بن ياسر، أو غيره من خيار وكبار أصحابه «عليه السلام».. ولم يكن يجد فيه معنى العصمة والطهارة التامة التي قررها له القرآن؟!

3 ـ كيف نفسر سكوت أمير المؤمنين «عليه السلام» عن ابن عباس، إلى أن انتهى من إصلاح نعله؟! هل سكت عنه لأنه يرثي له، لأنه لم يكن ناضجاً، ولا كان يدرك الأمور بالمستوى المطلوب؟!

أو لأنه رأى أن سؤاله يدل على أن ثمة حاجة ماسة إلى توضيح الأمور للناس، فإنه إذا كان حتى ابن عباس يفهم الأمور بهذه الطريقة الخاطئة، فما حال غيره في ذلك؟!

فلا بد من معالجة الأمر بحكمة وروية تمنع من تفاقمه، بازدياد حدة الاختلال في فهم الأمور ومن تشعبات الأوهام، وتسويلات النفوس..

أو أنه أراد أن يُفْهِمَ ابن عباس: أن كلامه، وإن كان قد تضمن إساءة أدب معه، ولكن ذلك لا يدعوه إلى الخروج عن رصانته وهدوئه «عليه السلام»، ولا يدعوه إلى جوابه بصورة انفعالية أو زاجرة؟!

أو أنه «عليه السلام» أراد أن ينتهي من إصلاح نعله، ليمهد بضمها إلى صاحبتها إلى إجابة، تتضمن عنصر الحركة العملية، التي تجعل الفكرة تغرق في الصورة وتتمازج معها. لتصبح أشد وقعاً في النفس، وأعمق أثراً في الوجدان؟!

المعادلة الصحيحة:

1 ـ لا شك في أن علياً «عليه السلام» بمجرد أن سمع كلام ابن عباس قد شرع في تسجيل الإجابة له، من خلال سكوته الذي استمر إلى حين الانتهاء من إصلاح نعله، فشكل جزءاً من هذه الإجابة، لأن مواصلته لعملية الإصلاح تستدرج ابن عباس لمتابعة مراقبته لعمله، ورصده لحركته.

2 ـ ثم سأل علي «عليه السلام» ابن عباس الذي ارتسمت في ذهنه معالم تلك النعل، بل ما لها من خصوصيات، وما فيها من نقائص وثغرات سأله عن قيمة تلك النعل، أي أنه قد استثمر هذا التركيز بالنظرات المتواصلة، بسؤال يعطي له المزيد من الرسوخ والعمق في وعيه..

فأجابه ابن عباس: بأنها لا قيمة لها.

3 ـ ثم أصر على تحديد قيمتها، ليفهمه: أنه بصدد التدقيق البالغ فيما يريد أن ينتهي إليه.. مما يعني: أنه لا يجوز التهاون، وتجاوز حدود الدلالة ولو بمقدار ذرة، أو ما دونها. فاضطر ابن عباس للتحديد بكسر درهم..

4 ـ فجاءته الإجابة التي تضطر ابن عباس، وكل من يراقب سياقها لأن يكتشف كل دقائقها التي أصبح يعرف أنها محسوبة ومقصودة ـ جاءته ـ لتقول:

إن هذه النعل التي تقيه الأشواك والحجارة وحر الرمضاء ستكون أحب إلى علي «عليه السلام» من خلافة لا يصان بها الحق، ولا يدفع بها الباطل، لأنها تصبح شاهد زور على ترويج الباطل، ومن موجبات تيسير وتسهيل سحق الحق ومحقه، والتعمية على آثاره.

لم يسمح لابن عباس بالكلام:

وقد رأينا: أنه «عليه السلام» لم يسمح لابن عباس بأن يتولى الكلام مع الحاج. فأصر ابن عباس عليه، وناشده الله والرحم، فرفض أيضاً.

ولعل سبب ذلك: أنه رأى ابن عباس لم يكن عارفاً بمقاصده «عليه السلام»، ولا كان يملك رؤية سليمة ومتوافقة مع المعايير الإيمانية والشرعية الصحيحة، التي يريد هو إنعاشها وتقويتها..

وقد سبق أن منع الله تعالى من إرسال أبي بكر برسالة البراءة من المشركين، وقال تعالى لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

ولم يكن ابن عباس ذلك الرجل بالنسبة لعلي «عليه السلام» أيضاً..

الإستقامة.. والإستقرار:

وقد بين «عليه السلام» فيما قاله لآخر الحاج العديد من الأمور الهامة، والأساسية التي تعد من مرتكزات الفكر والاعتقاد، فبين: أن الهدف من إرسال الله عز وجل أنبياءه هو نجاة البشر من الأخطاء، والأخطار، والمهالك..

ونجاتهم إنما تتحقق بنشر المعرفة الصحيحة فيهم، وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم الصحيح، الذي لا يكون إلا عند أنبياء الله، وأصفيائه.

وأفاد «عليه السلام» في كلماته تلك: أن هذه النجاة تتجلَّى بأمورٍ هي:

الأول: أن تعود الأمور إلى مواقعها الطبيعية، والفطرية، التي يريد الله سبحانه لها أن تكون فيها، حيث تكون متوافقة مع السنن التي أودعها في مخلوقاته..

الثاني: أن تصبح حركة الإنسان تحت السيطرة، وفي دائرة الضبط والانضباط في خط الاستقامة..

الثالث: أن يتحقق الاستقرار لهذا الإنسان، ويخرج من حالة التزلزل والحيرة، والضياع. ولا يكون كالحصى الملساء التي لا ثبات لها في مقابل أدنى شيء يعرض لها.

وهذا ما ألمح «عليه السلام» إليه بقوله: «إن الله بعث محمداً «صلى الله عليه وآله»، وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً، ولا يدعي نبوة، فساق الناس إلى منجاتهم. حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم»..

ثم بين «عليه السلام»: أن هذا بالذات هو ما أنجزه رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حياته، وأنه «عليه السلام» قد شارك أيضاً في إنجاز هذا التدبير الإلهي..

ثم ذكر: أن حركتّهُ كلَّها بما في ذلك تحركهُ هذا لقتالِ الناكثين، له نفسُ الهدفِ، وستتحققُ به نفسُ النتائج.

قريش هي الداء الدوي:

وأوضح «عليه السلام»: أن السبب في هذه المتاعب: هو قريش، بما لديها من مطامع، وبما لها من سياسات وعصبيات، وإباء عن الخضوع لإرادة الله تعالى، ولأحكامه، وتمرد على سننه.

كما أن حسد قريش لمن اختصهم الله بفضله هو الذي يدعوها لكل هذا البغي، والظلم، والقسوة والشراسة.

ثم قال «عليه السلام»: «لأقاتلنهم مفتونين»، ليدلنا: على أن تحرك القريشيين ضده هو افتتانهم بالدنيا، لا أنهم قد وقعوا في الفتنة بمعنى الشبهة، لأنهم عالمون بأنهم معتدون وظالمون، ويطلبون أمراً لا حق لهم فيه، وهم الذين يتعمدون إلقاء الشبهات في الناس.

ثم بيَّن: أنه «عليه السلام» سيعاملهم بنفس الحزم، والعدل، الذي عاملهم به أيام رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

وليس لدى علي «عليه السلام» غير العدل والحزم سلاحاً.

علي لم يفاجأ بما يجري:

وقد ذكر «عليه السلام» ما دل على أنه لم يفاجأ بما يجري، بل كان على علم به، من خلال ما عهد به إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» من أخبار الغيب.

وقد دلنا إعلام الله ورسوله إياه بما يجري عليه: على مزيد عناية الله تعالى به «عليه السلام»، وحبه له، وعلى مزيد من التشريف والتكريم..

ويدل أيضاً: على أنه يملك من العلوم الخاصة ما لا يملكه غيره. لتكون حيازته لهذه العلوم من شواهد إمامته للناس، ولزوم طاعة الناس له.

تعابير وألفاظ:

وقد ذكر المجلسي في شرح بعض الألفاظ الواردة في هذا النص ما يلي:

قال ابن ميثم: المراد بالقناة: القوة والغلبة والدولة التي حصلت لهم مجازاً من باب إطلاق السبب على المسبب، فإن الرمح أو الظهر سبب للقوة والغلبة.

والصفاة: الحجارة الملساء أي كانوا قبل الإسلام متزلزلين في أحوالهم بالنهب والغارة وأمثالها.

«إن كنت لفي ساقتها»: هي جمع سائق، كحائك وحاكة، ثم استعملت للأخير، لأن السائق إنما يكون في آخر الركب والجيش.

وشبه أمر الجاهلية إما بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مقبلة للحرب، فقال: إني طردتها فولَّت بين يدي أطردها حتى لم يبق منها شيء.

«لمثلها»: أي لمثل تلك الحالة التي كنت عليها معهم في زمن الرسول «صلى الله عليه وآله»([20]).

وقال المجلسي «رحمه الله» أيضاً:

أقول: المقشرة: التمرة التي أخرج منها نواتها.

والبجر بالضم: الأمر العظيم والعجيب. ولعله هنا كناية عن الكثرة أو الحسن أو اللطافة.

ويحتمل أن يكون مكان المفعول المطلق يقال: بجر كفرح ـ فهو بجر ـ: امتلأ بطنه من اللبن والماء ولم يرو. وتبجر النبيذ: ألح في شربه. وكثير بجير اتباع.

والجرد بالضم: جمع الأجرد وهو الفرس الذي رقت شعرته وقصرت، وهو مدح.

والسمر: جمع الأسمر وهو الرمح([21]).

وقال «رحمه الله»:

«فلأنقبن» [و] في بعض النسخ: «لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته». شبَّه «عليه السلام» الباطل بحيوان ابتلع جوهراً ثميناً أثمن منه، فاحتيج إلى شق بطنه في استخلاص ما ابتلع([22]).


([1]) مروج الذهب ج2 ص358 والجمل للشيخ المفيد ص239 والفتنة ووقعة الجمل ص119 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص473 و 474 والكامل في التاريخ ج3 ص222 وراجع: العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص153 وإمتاع الأسماع ج13 ص237.

([2]) «الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرقٍ على طريق الحجاز = = إذا رحلت من فيد تريد مكة» معجم البلدان ج3 ص24.

([3]) «ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة، بينها وبين واسط» معجم البلدان ج4 ص293.

([4]) الجمل للشيخ المفيد ص293 ـ 241 وراجع: أنساب الأشراف ص233 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص455 و 480 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص473 و 474 والكامل في التاريخ ج3 ص222. ونسب الشعر في أنساب الأشراف إلى حجاج بن غزية، وفي تاريخ الأمم والملوك إلى راجز علي «عليه السلام».

([5]) مروج الذهب ج1 ص42.

([6]) راجع: التبيان ج10 ص410.

([7]) تاريخ خليفة بن خياط ص186 و (ط دار الفكر) ص139 والعقد الفريد ج4 ص328 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص509.

([8]) تاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ج3 ص484.

([9]) تجارب الأمم ج1 ص302 والكامل في التاريخ ج3 ص221 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص154.

([10]) تاريخ خليفة بن خياط ص184 و (ط دار الفكر) ص137 وتاريخ الإسلام الذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ج3 ص484 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص422.

([11]) تاريخ خليفة بن خياط ص184 و (ط دار الفكر) ص138 وتاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ج3 ص484.

([12]) الفصول المختارة للشريف المرتضى ص216 والصراط المستقيم ج1 ص149 وأعيان الشيعة ج4 ص369.

([13]) تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ج3 ص484.

([14]) صفين ص15 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص82 و (تحقيق الشيري) ج1 ص110 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص70 وبحار الأنوار ج32 ص359 ونهج السعادة ج4 ص83.

([15]) العقد الفريد ج4 ص330 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص83 و  = =  (تحقيق الشيري ـ ط سنة1413هـ) ج1 ص111 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص26.

([16]) مروج الذهب ج2 ص358 وأعيان الشيعة ج1 ص24 وج6 ص318.

([17]) مروج الذهب ج2 ص359 ـ 361 والمجالس الفاخرة للسيد شرف الدين ص316 وراجع: الجمل لابن شدقم ص111 وأعيان الشيعة ج1 ص24 وج6 ص318 والدرجات الرفيعة ص39.

([18]) الإرشاد للمفيد (ط النجف) ص132 و (ط دار المفيد) ج1 ص247 و 248.

([19]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص80 الخطبة رقم 33 وبحار الأنوار ج32    = = ص76 وراجع: الإرشاد للمفيد (ط النجف) ص132 و (ط دار المفيد) ج1 ص247 و 248.

([20]) بحار الأنوار ج32 ص77.

([21]) بحار الأنوار ج32 ص77.

([22]) بحار الأنوار ج32 ص77.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان