وكتب «عليه السلام» إلى عامله:
فإن عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب، وإن توافت
الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان، فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك.
واستغن بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خير من شهوده،
وقعوده أغنى من نهوضه([1]).
قال ابن ميثم:
روي أن الأمير الذي كتب إليه هو عثمان بن حنيف، عامله على البصرة، وذلك
حين انتهى أصحاب الجمل إليها، وعزموا على الحرب. فكتب عثمان إليه «عليه
السلام» يخبره بحالهم، فكتب «عليه السلام» إليه كتاباً فيه الفصل
المذكور أعلاه([2]).
ونقول:
1 ـ
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
«وإن توافت الأمور» أي تتابعت بهم المقادير، وأسباب
الشقاق والعصيان إليهما.
ويقال:
نهد القوم إلى عدوهم، إذا صمدوا له، وشرعوا في قتالهم([3]).
إن عثمان بن حنيف حين واجه مشكلة الناكثين لم يتصرف من
تلقاء نفسه، بل أرسل إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» يطلب منه أن
يزوده بتوجيهاته، فلعل لدى أمير المؤمنين خطة تضع عثمان بن حنيف في
سياق بعينه، يختلف جزئياً أو كلياً عن السياق الذي يفكر عثمان بن حنيف
فيه..
وهذا نموذج للانضباط، والدقة في مراعاة السياق التنظيمي
للأمور من شأنه أن يجعل ابن حنيف معذوراً أمام الله، وأمام إمامه،
وأمام وجدانه، وعند الناس، في جميع الأحوال التي ربما تنتهي الأمور
إليها.
قد يقال:
إن النص يشير إلى أن عثمان بن حنيف، لم يتصرف بمبادرة
وبفعل منه، بل تصرف بطريقة رد الفعل.
وهذا يعني:
أنه قد تأخر
في حركته، فهل يمكن القول: إنه قد قصر في ذلك، وفرط في أمن الناس، وفي
حفظ ما تحت يده من عبث الأعداء؟!
ويجاب:
أولاً:
إن البغاة حين
قدموا البصرة لم يرسلوا الرسل إليها، ليخبروا أهلها بمقدمهم، ليستعد
عثمان بن حنيف لمواجهتهم، بل كانت البصرة مدينة كبيرة يقصدها الناس
لتجاراتهم، ولقضاء حوائجهم وزيارة
محبيهم، ولغير ذلك. وربما يقصدها قوافل كبيرة وصغيرة، ويقصدها صحابة
وغيرهم. ولا يرتاب أحد في أمرهم، ولا سيما إذا كانوا من المسلمين.
وهؤلاء القوم قد أسرعوا في مسيرهم إلى البصرة، ولعلهم حاولوا إخفاء
أمرهم، ويكفي أن نذكر: أنهم قد سبقوا أمير المؤمنين نفسه إليها، ولم
يتمكن حين سار إلى الربذة من قطع الطريق عليهم، ففاتوه، وواصلوا طريقهم
حتى بلغوها..
ثانياً:
إن الناكثين لم يعلنوا الحرب على علي «عليه السلام»، ولم يظهروا
نواياهم بل جاؤوها بصفة مسافرين، لا بصفة جيش من المحاربين، أو
الفاتحين، والمسافرون إذا كانوا من المسلمين، فإن لهم الحق ـ كغيرهم من
الناس ـ في نزول أي بلد شاؤوا. وليس لأحد الحق في منعهم، أو مضايقتهم،
فضلاً عن مواجهتهم بالحرب.
ولأجل ذلك نلاحظ:
أن النص يقول: «وعزموا على الحرب» وكأنه يريد أن يوحي
أن نية الحرب لم تكن لديهم قبل ذلك، بل استجدَّت لهم بعد وصولهم إلى
البصرة..
ثالثاً:
قد ظهر من سياق كلامه «عليه السلام»:
ألف:
إنه «عليه السلام» لم يصدر لعامله أمراً مطلقاً
بالقتال، بل ربط ذلك بإصرار الطرف الآخر على الشقاق، والعصيان..
ليكونوا هم البغاة عليه، والبادئين بالعدوان. ودل ذلك أيضاً على أن
الأمور لم تكن قد بلغت حد إعلان الحرب، أو الدخول فيها فعلاً من قبل أي
من الفريقين.
ب:
أما بالنسبة
إلى الداخل، فقد
أصدر «عليه السلام» أمراً لابن حنيف ذا طبيعة مختلفة.
حيث اكتفى بأمره بأن يستغني عمن تقاعس عنه.. أي أنه لم يطلب منه أن
يجبرهم، بل لم يطلب منه أن يؤنبهم، أو أن يقطب في وجوههم.
بل دل سياق كلامه على أن الاستغناء عن هؤلاء راجح عنده،
لأن حضورهم قد يفسح لهم المجال لنشاط تثبيطي، يكون ضرره على المندفعين
للقتال أكبر من نفع المتقاعسين عنه، إذا كانت مشاركتهم مستندة إلى
الضغط عليهم وإحراجهم.
ج:
إنه
«عليه السلام» اكتفى بذكر عودة الناكثين إلى ظل الطاعة،
ولم يرتب على هذه الطاعة سوى إخباره بحبه لهذه العودة، ورغبته فيها..
ولم يعد العائدين بشيء كما أنه لم يتوعدهم.. فدل ذلك على أنه لم يكن
راغباً بمؤاخذتهم، وأن ما كان يريده ويحبه هو مجرد لم الشعث، ورأب
الصدع..
د:
والتعبير
بكلمة «ظل» في قوله
«عليه السلام»:
«ظل الطاعة» لعله لأجل بيان: أن المطلوب هو الكون في موقع المطيع، وإن
لم يصدر لهم أمراً أصلاً.. ولم تتحقق مفردات الطاعة العملية.
هـ:
كما أنه «عليه السلام» أمره بالاستغناء بمن انقاد. فلم
يقل له: استغن بمن معك أو بمن أطاعك.. ليشير إلى أن المتقاعسين لم
ينقادوا، وإلى أن المطلوب في العمل الحربي هو الانقياد لأوامر الرؤساء
والقادة، الذين يوكل إليهم أمر تدبير الحرب، وليس المطلوب هو مجرد
الطاعة للوالي والحاكم..
علي
وما جرى في البصرة:
رووا:
أنه «عليه السلام» لما بلغه ـ وهو بالربذة ـ خبر طلحة
والزبير، وقتلهما حكيم بن جبلة ورجالاً من الشيعة، وضربهما عثمان بن
حنيف، وقتلهما السبابجة، قام على الغرائر، فقال:
إنه
أتاني خبر متفظع، ونبأ جليل:
أن طلحة والزبير وردا البصرة، فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً،
وتُرِكَ لا يدرى، أحيٌّ هو أم ميت، وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في
عدة من رجال المسلمين الصالحين، لقوا الله موفون ببيعتهم، ماضين على
حقهم، وقتلا السبابجة خزان بيت المال الذي للمسلمين. قتلوهم: [طائفة
منهم] صبراً، وقتلوا [طائفة منهم] غدراً.
فبكى الناس بكاءاً شديداً، ورفع أمير المؤمنين «عليه
السلام» يديه يدعو ويقول: اللهم اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر،
والخفور الغادر([4]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا الخبر يدل على أن طلحة والزبير قد تمكنا من
الوصول إلى البصرة، وأوقعا بخزان بيت المال، وقتلا من قتلا، قبل أن
يتمكن أمير المؤمنين «عليه السلام» من جمع الناس واللحاق بهما، بنحو
يؤثر في منعهما من ارتكاب هذه الجرائم..
2 ـ
إن طلحة والزبير لم يزيدا على طلب الأموال، والامتيازات
والولايات من علي «عليه السلام»، فلما لم يجب طلبهما، انسلَّا إلى مكة،
ثم أعلنا نكث بيعتهما، وسارا إلى البصرة، وفعلا هذه الأفاعيل.
كما أنهما لم يذكرا لعلي «عليه السلام» شيئاً عن دم
عثمان، ولا طالباه بقتل قتلته، ولا اتهماه هو بشيء في أمره.. فما معنى
أن ينكثا، ويغدرا، ويهربا، ويتهما، ويقتلا الأبرياء، بصورة مفاجئة،
وبلا مقدمات؟!
3 ـ
لو أغمضنا النظر عن غدرهما، وتركهما المدينة إلى مكة،
ثم إلى البصرة، فلماذا المبادرة إلى ضرب عامله، وقتل بعض رجال الشيعة
المسلمين الصالحين، وقتل طائفة من خزان بيت المال صبراً، وطائفة منهم
غدراًَ. فإن كان لهم ثأر أو حق فهو عند علي «عليه السلام»، فليطالباه
هو به، وما ذنب هؤلاء ليفعلوا بهم هذه الأفاعيل؟!
4 ـ
إن هؤلاء الذين بدأوا بالتحريض على عثمان والعمل على
قتله، ثم أصروا على علي «عليه السلام» بالبيعة له، ثم كان طلحة والزبير
أول من بايعه، ثم طلبا منه الولايات والأموال، فلما لم يرض إلا بالعمل
وفق أحكام الشرع والدين خالفا أوامره، وغدرا به ونكثا بيعته، واتهماه
بما ارتكباه جهاراً ونهاراً، ثم قتلوا هؤلاء على هذا النحو، وانتهبوا
بيت مال البصرة..
إن هؤلاء لو تمكنوا من رقاب الناس وتسلطوا عليهم، كيف
سيعاملونهم؟! هل سيشيعون فيهم الإنصاف والعدل؟! وسيحكمون فيهم وفق
أحكام الشرع والخلق الرفيع؟!
علي
وموبقات الناكثين:
ومن خطبة له «عليه السلام» في ذكر أصحاب الجمل:
«فخرجوا يجرون حرمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما
تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في
بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهما ولغيرهما في
جيش، ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة طائعاً غير
مكره.
فقدموا على عاملي بها، وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم
من أهلها، فقتلوا طائفة صبراً، وطائفة غدراً.
فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً
معتمدين لقتله بلا جرم جرَّه، لحل لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه فلم
ينكروه ولم يدفعوا بلسان ولا بيد، دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل
العدة التي دخلوا بها عليهم»([5]).
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
الحرمة:
ما يحرم انتهاكه. والمراد بها هنا الزوجة كالحبيس.
والضمير في «حبساً» راجع إلى طلحة والزبير.
[و] قوله «عليه السلام»: «صبراً» أي بعد الأسر.
[و] «غدراً» أي بعد الأمان.
قوله «عليه السلام»:
«جره» أي جذبه. أو من الجريرة، قال في القاموس: الجر:
الجذب. والجريرة: الذنب جر على نفسه وغيره جريرة يجرها بالضم والفتح
جراً([6]).
قال ابن ميثم:
فإن قلت المفهوم من هذا الكلام تعليل جواز قتله «عليه
السلام» لذلك الجيش بعدم إنكارهم للمنكر. فهل يجوز قتل من لم ينكر
المنكر؟!
قلت:
أجاب ابن أبي الحديد عنه، فقال: يجوز قتلهم، لأنهم
اعتقدوا ذلك القتل مباحاً، مع أنه مما حرمه الله. فجرى ذلك مجرى
اعتقادهم لإباحة الزنا وشرب الخمر.
وأجاب الراوندي «رحمه الله»:
بأن «جواز»
قتلهم، لدخولهم في عموم قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([7]).
وإن هؤلاء القوم قد حاربوا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لقوله: «يا
علي حربك حربي». وسعوا في الأرض بالفساد.
واعترض المجيب الأول (أي المعتزلي)
عليه، فقال:
الإشكال إنما هو في تحليله لقتل الجيش المذكور، لكونه
لم ينكر على من قتل رجلاً واحداً من المسلمين، فالتعليل بعدم إنكار
المنكر، لا بعموم الآية.
وأقول (القائل هو ابن ميثم):
الجواب الثاني أسدُّ، والأول ضعيف، لأن القتل وإن وجب
على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين بالتأويل، كقتل هؤلاء القوم
لمن قتلوا، وخروجهم لما خرجوا له، فإن جميع ما فعلوه كان بتأويل لهم
وإن كان معلوم الفساد، فظهر الفرق بين اعتقاد حل الخمر والزنا، وبين
اعتقاد هؤلاء لإباحة ما فعلوه.
وأما
الاعتراض على الجواب الثاني، فضعيف أيضاً، لأن له أن يقول:
إن قتل المسلم الذي لا ذنب له عمداً، إذا صدر عن بعض الجيش، ولم ينكر
الباقون مع تمكنهم وحضورهم، كان ذلك قرينة دالة على الرضا من جميعهم.
والراضي بالقتل شريك القاتل خصوصاً إذا كان معروفاً
بصحبته والاتحاد به كاتحاد بعض الجيش ببعض وكان خروج ذلك الجيش على
الإمام العادل محاربة لله ورسوله «صلى الله عليه وآله» وقتلهم لعامله،
وخزان بيت مال المسلمين، ونهبهم له، وتفريق كلمة أهل المصر، وفساد
نظامهم للسعي في الأرض بالفساد. وذلك عين مقتضى الآية.. انتهى كلامه([8]).
قال المجلسي:
ويمكن أن يجاب عن اعتراضه على الجواب، بأن هؤلاء كانوا
مدعين لشبهة لم تكن شبهة محتملة، لأنهم خرجوا على الإمام بعد البيعة
طائعين غير مكرهين، كما ذكره «عليه السلام»، مع أن الاحتمال كاف له.
فتأمل.
ويمكن الجواب عن أصل السؤال، بأن التعليل ليس بعدم
إنكار المنكر مطلقاً، بل بعدم إنكار هؤلاء لهذا المنكر الخاص، أي قتل
واحد من المسلمين المعاونين للإمام «عليه السلام» بالخروج عليه.
وربما يشعر بذلك قوله «عليه
السلام»:
لحل لي قتل ذلك الجيش.
ويمكن حمل كلام الراوندي على ذلك.
وأما ما ذكره أخيراً، من جواز قتل الراضي بالقتل، فإن
أراد الحكم كلياً، فلا يخفى إشكاله. وإن أراد في هذه المادة الخاصة،
فصحيح.
ويرد على جواب ابن أبي الحديد مثل ما أورده هو على
الراوندي «رحمه الله»: بأن الإشكال إنما هو في التعليل بعدم إنكار
المنكر، لا في استحلال القتل. ولو قدر في كلامه «عليه السلام» كأن
يقول: «المراد إذ حضروه مستحلين فلم ينكروا». لأمكن للراوندي أن يقول:
إذ حضروه محاربين.
ولو أجاب:
بأن الحضور مع عدم الإنكار، فبطلانه ظاهر.
مع أن للراوندي «رحمه الله» يقول:
الحضور في جيش قد قتل بعضهم أحداً من أتباع الإمام، من
حيث إنه من شيعته، مع عدم الإنكار والدفع، محاربة لله ولرسوله «صلى
الله عليه وآله». ولا ريب أنه كذلك([9]).
يجرّون
عائشة كالأمة:
ولعل أبلغ وصف لحال عائشة في مسيرها ذاك، هو ما ذكره
أمير المؤمنين «عليه السلام» في هذه الخطبة من أنها كالأمة التي بعد
بيعها. وهو وصف يستبطن تجريم طلحة والزبير، ويقضي بلزوم معاقبتهما
بالقتل..
وأول جريمة ارتكباها، ويستحقان
عليها عقوبة القتل هي:
أنهما حبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله
«صلى الله عليه وآله» لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاه
الطاعة والبيعة.. وهذه الكلمات تعبر عن الحقائق التالية:
ألف:
عدوان طلحة والزبير على رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، في أخص خصوصياته، وأكثرها أذى له من الناحية الروحية وهو إبراز
حرمه للناس.. ويلاحظ أنه «عليه السلام» اقتصر على ذكر الصلة بينها وبين
رسول الله صلى «صلى الله عليه وآله»، ولم يشر إلى أبي بكر بشيء..
ب:
كما أن الصلة التي أشار إليها هي صلة بشرية محضة توجب
امتداد حرمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليها لتشملها. دون أن
يكون فيها ما يشير إلى تكريم وتعظيم، أو إلى إثبات فضيلة أو نفيها إن
لم نقل أنها تشير إلى ما يخالف ذلك.. فهي مجرد حبيس لرسول الله «صلى
الله عليه وآله»..
ج:
إن طلحة
والزبير قد أمعنا في هتك حرمة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، باخراجهما
زوجته في جيش من الرجال، والتنقل بها من بلد إلى بلد
د:
إن إبرازها لهما ولغيرهما بما فيهم ذلك الجيش يجعلها
بمثابة الأمة التي تجر في السوق عند شرائها فيراها الناس كلهم، ولا
يرون لها حرمة، ولا كرامة.. كما أن هذا المشهد يشير إلى فصل تلك الأمة
عن مالكها الأول، وتسلط يداً أخرى عليها.. وما يجري لا يخلو من شباهة
بذلك.
وهذه إساءة أخرى منهما لرسول الله «صلى الله عليه
وآله».
هـ:
قد تأكد ذلك بما يراه ويعلمه الناس من أن طلحة والزبير
قد حبسا، نساءهما، وأبرزا زوجة نبيهم على هذا النحو المذكور والمهين..
وهذه إساءة ظاهرة لرسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وهتك لحرمته، وتصغير لشأنه وهذا ذنب يوجب لمرتكبه القتل
ثم أشار «عليه السلام» إلى الجرائم الثانية، المتمثلة
بـ:
ألف:
نكث طلحة
والزبير لبيعتهما.
ب:
حملهما ذلك
الجيش كله على نكث بيعته
«عليه السلام»،
مع أن جميع من كان في ذلك الجيش كان قد بايعه.
ج:
إن طلحة والزبير ـ وكل فرد فرد من ذلك الجيش ـ قد
بايعوه طائعين وبملء اختيارهم.
وهذا يعطي:
أن ثمة تعمداً وسعياً لحمل الناس على أن ينكثوا،
ويتمردوا، وهذا ذنب يوجب القتل أيضاً.
ثم ذكر «عليه السلام» جرائم أخرى ارتكبوها توجب قتالهم
وقتلهم، وهي:
د:
قتلهم طائفة من المسلمين صبراً، وبعد أسرهم..
هـ:
وقتلهم طائفة منهم غدراً بعد إعطائهم الأمان..
وقد انضمت إلى ذلك كله خصوصيات تؤكد استحقاقهم للقتل،
ومن هذه الخصوصيات:
ألف:
إن الأمر الذي أتوه لا يحتمل التأويل، لأنهم قصدوا
عامله في البلد الذي يبعد عنهم مئات الأميال، فظهر أنهم متعمدون لهذا
الفعل، مقدمون عليه عن سابق علم ودراية وتصميم.
ب:
إنهم لم يأتوا
إلى البصرة، ثم حدث ما حدث، لكي يتوهم أن من الممكن أن يكون ذلك قد حدث
بعفوية، بل كان قصداً
ظاهراً
للتعدي على العامل، وعلى بيوت الأموال.
ج:
إن قصد بيوت الأموال معناه أن الأمر لم يكن مجرد خلاف
بين الأشخاص، ثم تطور إلى القتال. كما أن عدم قصد غير بيوت الأموال، من
المؤسسات التي تعود إلى الدولة، والنظام العام يشير إلى ما ذكرناه
أيضاً..
د:
يلاحظ: أن
مقصود البغاة هو نفس خزان بيت المال وحراسه الذين لم يكن لهم معهم
أية
مشكلة في الناحية الاعتقادية أو الفكرية، وليس لهم عندهم ثارات قبلية
أو شخصية، بل قصدوهم لمجرد كونهم خزاناً
وحراساً
لأموال بيت المال، وحارساً لها.
هـ:
قتلهم طائفة
من هؤلاء الخزان ومن أهل البلد صبراً وقتل الصبر هو أن يؤتى بالأسير،
وتضرب عنقه. مع أن للأسير
ـ ولا
سيما إذا كان من المسلمين
ـ
حرمته وخصوصيته.
بل إن أسير أهل الشرك لا يقتل أيضاً إذا لم تكن فئة
يرجع إليها، ويستعين بها على المسلمين من جديد.
وممارسة هذا النوع من القتل يؤكد العمد والقصد والنية
العدوانية ولا مجال للتأويل فيه، وهو يؤكد لزوم الاقتصاص منهم..
و:
إنهم قتلوا
طائفة من الناس غدراً، أي بعد أن أعطوهم الأمان، وبعد توقيع
الاتفاق على الصلح. والمؤمن لا يغدر بالكافر، فكيف يغدر بالمسلم؟ ولا
سيما إذا كان الغدر لأجل القتل..
وهذا يؤكد ـ كسابقه ـ لزوم قتال هؤلاء الناس، وجواز
قتلهم ووجوب الاقتصاص
منهم..
ز:
ثم أشار «عليه
السلام» إلى أن القتل لم يقتصر على فرد أو أفراد
قليلين ليحتمل أن يكون قتلهم بسبب اختلاط الحابل
بالنابل، وعدم تمييز العدو من غيره، فصادف أن تعرّض بعض الناس لضربات
أو طعنات من جهات عدة، ولعل بعض أو أكثر تلك الضربات أو الطعنات كان
على سبيل الدفاع عن النفس، فكان حتفه فيها..
بل هو قتل متعمد ومقصود، والشاهد على ذلك أن الذين
قتلوا صبراً وغدراً وغير ذلك لم يكونوا قليلين ضائعين في غمار الناس،
وفي الزحام الطاغي.. بل كان عددهم يضارع عدد جميع الذين تولوا قتلهم.
ج:
إنه لم يكن
هناك زحام ولا كثرة، ولا اختلاط، ولا كانت هناك فتنة نشأت عن سوء
تفاهم، بل كان هناك هجوم قد خطط له فريق بعينه ضد فريق آخر، فدخل عليه
في مأمنه، وقتله غدراً، ثم أسر طائفة من الناس، وقتلهم صبراً..
([1])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص6 وبحار الأنوار ج32 ص67 عنه،
المختار الرابع من الباب الثاني، ونهج السعادة ج5 ص158 وموسوعة
أحاديث أهل البيت للنجفي ج5 ص392.
([2])
راجع: بحار الأنوار ج32 ص68.
([3])
بحار الأنوار ج32 ص68.
([4])
الكافئة للشيخ المفيد ص17 و 18 وبحار الأنوار ج32 ص92.
([5])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص85 و 86 وبحار الأنوار ج32 ص92
عنه، قسم الخطب، ذيل الخطبة رقم170 وراجع: وسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج16 ص141 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص411
ومستدرك سفينة البحار ج8 ص410 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي
ج10 ص238 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص309.
([6])
بحار الأنوار ج32 ص93.
([7])
الآية 33 من سورة المائدة.
([8])
شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج3 ص337 و 338.
([9])
بحار الأنوار ج32 ص93 و 94.
|