صفحة :285-328   

 

الفصل الرابع: حديث خداش..

ما نبعث إليه بأحد إلا أفسده علينا:

أحمد بن محمد والحسن بن علي بن النعمان، عن أبيه، عن محمد بن سنان رفعه قال: إن عائشة قالت: التمسوا لي رجلاً شديد العداوة لهذا الرجل حتى أبعثه إليه.

قال: فأتيت به. فمثل بين يديها، فرفعت إليه رأسها، فقالت له: ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل؟!

قال: فقال لها: كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي، فضربت ضربة بالسيف يسبق السيفُ الدمَ.

قالت: فأنت له، فاذهب بكتابي هذا، فادفعه إليه ظاعناً رايته أو مقيماً. أما إنك إن رأيته ظاعناً رأيته راكباً على بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، متنكباً قوسه، معلقاً كنانته بقربوس سرجه. وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف، فتعطيه كتابي هذا.

وإن عرض عليك طعامه وشرابه فلا تناولن منه شيئاً، فإن فيه السحر!!

قال: فاستقبلته راكباً، فناولته الكتاب، ففض خاتمه، ثم قرأه، فقال: تبلغ إلى منزلنا، فتصيب طعامنا وشرابنا، ونكتب جواب كتابك.

فقال: هذا والله ما لا يكون!

قال: فساء خلقه. فأحدق به أصحابه.

ثم قال له: أسألك؟!

قال: نعم.

قال: وتجيبني؟!

قال: نعم.

قال: فنشدتك الله، هل قالت: التمسوا لي رجلاً شديداً عداوته لهذا الرجل، فأتوها بك، فقالت لك: ما بلغ من عداوتك هذا الرجل؟!

فقلت: كثيراً ما أتمنى على ربي أنه وأصحابه في وسطي، وأني ضربت ضربة بالسيف يسبق السيفُ الدمَ؟!

قال: اللهم نعم.

قال: فنشدتك الله، أقالت لك: اذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً كان أو مقيماً.. أما إنك إن رأيته ظاعناً رأيته راكباً على بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، متنكباً قوسه معلقاً كنانته بقربوس سرجه، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف؟!

فقال: اللهم نعم.

قال: فنشدتك بالله، هل قالت لك: إن عرض عليك طعامه وشرابه فلا تناولن منه شيئاً، فإن فيه السحر؟!

قال: اللهم نعم.

قال: فمبلغ أنت عني؟!

قال: اللهم نعم، فإني أتيتك وما في الأرض خلق أبغض إلي منك، وأنا الساعة ما في الأرض أحب إلي منك، فمرني بما شئت.

قال: ارجع إليها [بـ] كتابي هذا، وقل لها: ما أطعت الله ولا رسوله حيث أمرك الله بلزوم بيتك، فخرجت تَرَدَّدِينَ في العساكر.

وقل لهما: ما أطعتما الله ولا رسوله، حيث خلفتم حلائلكم في بيوتكم، وأخرجتم حليلة رسول الله «صلى الله عليه وآله».

قال: فجاء بكتابه حتى طرحه إليها، وأبلغها مقالته، ثم رجع فأصيب بصفين.

فقالت [عائشة]: ما نبعث إليه بأحد إلا أفسده علينا([1]).

ونقول:

لا حاجة بنا إلى أي توضيح أو بيان لهذه الرواية، غير أننا نحب للقارئ أن يتوقف قليلاً عند ما يلي من نقاط:

رسول عائشة شديد العداوة لعلي :

لقد طلبت عائشة أن يلتمسوا لها رجلاً شديد العداوة لعلي، ليكون رسولها إليه.. ولعل السبب في ذلك أنها قد جربت أكثر من مرة أن ترسل إليه رسلاً، فكانوا يعودون إليها بغير الحال والوجه الذي ذهبوا به، حيث تتغير مواقفهم، ويظهر انحيازهم إلى جانب علي «عليه السلام».

وقد دل على هذه الحقيقة قولها أخيراً: «ما نبعث إليه بأحد إلا أفسده علينا». فرأت: أنها تخسر ولاء من ترسلهم إليه واحداً بعد الآخر..

مع أن الحقيقة هي: أن ما زعمته إفساداً هو عين الإصلاح، لأجل ظهور الحق لهم، وزوال الشبهة عنهم، وظنت أن المشكلة تكمن باختيارها أشخاصاً يكونوا قد حسموا خيارهم.

فأرادت أن تتلافى هذه الظاهرة، فارتأت أن يكون رسولها شديد العداوة له «عليه السلام» لكي تأمن من غائلة تكرار هذه الظاهرة التي من شأنها ـ لو استمرت ـ أن تهز موقعها، وأن تضع علامات استفهام كبيرة حول صحة موقفها وتصرفاتها تجاه علي «عليه السلام».

وسيثير ذلك رغبة الناس في معرفة أسباب هذا الانقلاب السريع لأولئك الرسل، ويدفعهم للتعرف على علي «عليه السلام»، وتتبع أخباره، ورصد حركته ومواقفه.. والمقارنة بينها وبين مواقف وأساليب، وحركة مناوئيه..

ولم تكن عائشة ترى أن هذا سيكون في صالحها.. فأرادت قطع هذه السلسلة وحسم الأمر.. وجيء لها بالرجل الذي طلبته، وأجرت له اختباراً في عدائه لعلي «عليه السلام»، ورأت أنه نجح فيه أيما نجاح، وإذ بهذا التدبير يأتيها بالنتيجة الصدمة، المخيبة للآمال.. والتي سيكون أثرها أقوى، ووقعها أشد..

سحر علي :

وكأن عائشة حين حذرت رسولها من الطعام والشراب عند علي «عليه السلام»، زاعمته له أن فيه السحر، أرادت أن تمنع رسولها من الاستسلام، وتعطيه شحنة صلابة ومقاومة، وأن تبقيه في دائرة الحذر والشك من كل ما يسمعه ويراه منه «عليه السلام».

كما أن ذلك يدعوه إلى الإسراع في الابتعاد عنه وصيانة نفسه منه، وبذلك تكون قد فوتت الفرصة على أمير المؤمنين «عليه السلام» من أن يتمكن من تجاذب الحديث مع ذلك الرسول بصورة مريحة وهادئة. ومنعت ذلك الرسول من الاستسلام إليه والسكون لما يسمعه منه، بل جعلته غير قادر على وعي وفهم كلامه بصورة معقولة ومقبولة يستطيع معها تمييز الحق من الباطل. بل هو سيشك ويرتاب في كل ما يسمعه ويراه..

ولكن عائشة كانت تعلم: أن علياً لم يكن ساحراً، وإنما هو يؤثر على الناس بحقه الظاهر، ودليله اللائح وبرهانه الواضح وهذا هو الذي كان يدفع الناس، إلى تغيير مواقفهم. وتبدل أحوالهم..

ارتباط علي برسول الله :

وقد وصفت عائشة لرسولها حال علي «عليه السلام» بما دل على أن له «عليه السلام» خصوصية برسول الله «صلى الله عليه وآله»، فهو يركب بغلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

ويبدو لنا: أنها أرادت ببيانها هذا: أن تصون رسولها من المفاجأة، وتحذره من أن يتأثر بهذه الحالة التي يراها.. وذلك بالإيحاء له بأنها حالة مصطنعة، يتخذها «عليه السلام» لنفسه ليؤثر بها على الناس. ويخدعهم بها..

كما أنها وصفت له حالته «عليه السلام» القتالية التي تظهره كرجل جد وحزم، ظاهر الاستعداد للمفاجآت، يفرض هيبته كما يفرض النظام على من حوله..

ولعل هدفها من بيانها هذا هو أن تبهره بدقة معلوماتها. وتؤكد لديه الثقة بصحة موقفها، وحسن تدبيرها، وأنها ليست منقادة لهذا وذاك، بل هي تتخذ مواقفها مع معرفتها بأدق التفاصيل..

الرد المناسب:

وقد جاء الرد المناسب من أمير المؤمنين «عليه السلام» ليفهم ذلك الرجل، وكل الناس في ذلك الزمان وفي كل زمان: أن عليهم أن يعرفوا أن ما أخبرت به عائشة رسولها عن حاله «عليه السلام» يمكن أن يصلها علمه من بعض الناس الذي وظفتهم لرصد حركته، أو ممن يتبرعون بإعلامها بمشاهدتهم، وبما يحصلون عليه من معلومات بطريقة أو بأخرى.

ولكن ما أخبر به علي «عليه السلام» ذلك الرجل، لا يمكن الحصول عليه بالوسائل الطبيعية، بل هو بالنسبة إليه من الغيب بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فإن ذلك الرجل قد انطلق إلى علي «عليه السلام» فور سماعه توجيهات عائشة.. وقد أمرته بأوامرها، وألقت إليه توجيهاتها في مجلس وهو يعلم: أن من يحضرون مجلس عائشة، ويكونون بالقرب منها لا يمكن أن يكونوا من جواسيس علي «عليه السلام»، بل هم من المخلصين لها، والساعين في تحقيق أهدافها..

ولو سلمنا: أن ما جرى قد بلغ بعض جواسيس علي «عليه السلام»، فلم يكن ليصل إلى علي «عليه السلام» قبل رسولها.. ولو وصل إليه فمن البعيد أن ينقل له ما جرى بهذه الدقة، ومن البعيد أن يهتم بضبط الكلمات والحروف إلى هذا الحد..

وهذا بالذات هو ما قلَب الأمور لدى ذلك الرسول رأساً على عقب، وبدل البغض بالحب، والعداء بالولاء..

رسالة علي لعائشة:

وأما في رسالة علي «عليه السلام» إلى عائشة، فيلاحظ ما يلي:

1 ـ أنها اقتصرت على أمر واحد يعنيها، وهو: أنها لم تطع الله ورسوله، فيما أُمِرَت به من لزوم بيتها.. وقد رأينا أنه «عليه السلام» لم يصرح لها بكلمة المعصية، بل اكتفى بذكر عدم الطاعة ليتجنب أي تعبير يحمل معه أي نكهة تثيرها، أو تثير الذين حولها، وتدعوهم إلى التصرف بانفعال أو حماس، والتعبير بعدم الطاعة كاف في حكاية ما جرى ويجري.. فلا حاجة إلى الزيادة عليه.

ثم زاد بياناً وإيضاحاً حين ذكر أنها خرجت تتردد في العساكر، وهذا أيضاً يحكي حركة الواقع بدقة فائقة، ولا يثير العصبيات، ولا يحرك المشاعر، ولا يوجب أي نوع من أنواع الانفعال، ولكنه يدعو إلى استعراض الواقع في أذهان الناس. بصورة مجردة، تكفي للحكم عليها بالمشروعية أو عدمها..

ولكنه يسهم في إدراكهم قبحه، ويزيد من نفورهم منه، من دون أن يخلطه بأي توصيف خارج عن حدود العرض للواقع كما هو، كما أنه حين ذكر التردد في العساكر قد نبه الناس إلى وجه آخر من وجوه قبح هذا الخروج، وهو أنه يسهم في إذكاء الفتنة، والتحريض على الجريمة، ومواجهة إمام زمانها.

2 ـ إن خطابه «عليه السلام» لطلحة والزبير، إقتصر على أمر واحد أيضاً يرتبط بعائشة نفسها ويدينها فيه، من دون أن يحمل معه أية نكهة تثير العصبيات، أو تحرك المشاعر، والانفعالات حيث اكتفى بأن وضع أمامها معادلة واقعية، تزيد معرفتها في إدراك قبح ما فعلوه. وهي تتضمن أموراً:

أحدهما: أنها أخرجا من لا يصح إخراجها من بيتها..

الثاني: إن التي أخرجوها هي حليلة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهذا يزيد في قبح هذا العمل منهما، ويضاعف الإدانة لهما..

الثالث: أنهما خلفا حلائلهما في بيوتهن، فدل ذلك على معرفته بقبح ما أتياه.. فلا مجال لالتماس العذر لهما فيه..

فإنهم إن كانوا أبقوا حلائلهم في البيوت غيرة منهن عليهن، فالغيرة على حليلة الرسول «صلى الله عليه وآله» يجب أن تكون أشد، وأولى بأن تمنعهم من إخراجها. على أساس قوله «صلى الله عليه وآله»: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه([2]).

وإن كانا فعلا ذلك تديناً والتزاماً بالشرع، فلماذا لم يلتزما فيما يختص بحليلة الرسول «صلى الله عليه وآله» بالشرع والدين؟!

بـدايـة:

قد يقال: حديث خداش الآتي هو نص آخر للحديث الذي أوردناه آنفاً، وذكرنا بعض ما يرتبط به.

غير أن التأمل في تفاصيل القضيتين يعطي: أن تعدد الواقعة هو الأقرب إلى الإعتبار..

ومنشأ توهم وحدة الواقعتين هو ملاحظة بعض التشابه في مضامينها، ولا سيما تخويفهم لمن يرسلونه إلى علي من سحر علي «عليه السلام»، وتحذيرهم إياه من مؤاكلته وغير ذلك.

ولكن لا مانع من أن تكون هذه الوصايا قد تكررت، وتكرر الرد عليها..

ويؤكد صحة ما نذهب إليه قول الناكثين: ما نبعث إليه من أحد إلا أفسده علينا.

خداش رسول الناكثين إلى علي :

علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سلام بن عبد الله.

ومحمد بن الحسن، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد.

وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان جميعاً، عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عن سلام بن عبد الله الهاشمي، قال محمد بن علي، وقد سمعته عنه عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال:

بعث طلحة والزبير رجلاً من عبد القيس، يقال له: خداش إلى أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»، وقالا له:

إنَّا نبعثك إلى رجل طالما كنا نعرفه وأهل بيته بالسحر والكهانة.

وأنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا، من أن تمتنع من ذلك منه، وأن تحاجه لنا حتى تقفه [تفقه «خ ل»] على أمر معلوم.

واعلم أنه أعظم الناس دعوى، فلا يكسرنك ذلك عنه.

ومن الأبواب التي يخدع الناس بها: الطعام والشراب، والعسل والدهن، وأن يخالي الرجل، فلا تأكل له طعاماً، ولا تشرب له شراباً، ولا تمس له عسلاً ولا دهناً، ولا تخل معه، واحذر هذا كله منه، وانطلق على بركة الله.

فإذا رأيته فاقرأ آية السخرة، وتعوَّذ بالله من كيده، وكيد الشيطان.

فإذا جلست إليه، فلا تمكنه من بصرك كله، ولا تستأنس به.

ثم قل له: إن أخويك في الدين، وابني عميك يناشدانك القطيعة، ويقولان لك: أما تعلم أنَّا تركنا الناس لك، وخالفنا عشائرنا فيك منذ قبض الله عز وجل محمداً «صلى الله عليه وآله». فلما نلت أدنى منال ضيعت حرمتنا، وقطعت رجاءنا.

ثم قد رأيت أفعالنا فيك، وقدرتنا على النأي عنك، وسعة البلاد دونك، وأن من كان يصرفك عنا وعن صلتنا كان أقل لك نفعاً، وأضعف عنك دفعاً منا. وقد وضح الصبح لذي عينين.

وقد بلغنا عنك انتهاك لنا، ودعاء علينا، فما الذي يحملك على ذلك؟!

فقد كنا نرى أنك أشجع فرسان العرب، أتتخذ اللعن لنا ديناً، وترى أن ذلك يكسرنا عنك؟!

فلما أتى خداش أمير المؤمنين «صلوات الله عليه» صنع ما أمراه، فلما نظر إليه علي «عليه السلام» وهو يناجي نفسه ضحك وقال: ها هنا يا أبا عبد قيس، وأشار له إلى مجلس قريب منه.

فقال: ما أوسع المكان. أريد أن أؤدي إليك رسالة.

قال: بل تطعم وتشرب، وتخلي ثيابك، وتدهن، ثم تؤدي رسالتك. قم يا قنبر فأنزله.

قال: ما بي إلى شيء مما ذكرت حاجة.

قال: فأخلو بك.

قال: كل سر لي علانية.

قال: فأنشدك الله الذي هو أقرب إليك من نفسك، الحائل بينك وبين قلبك، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، أتقدم لك الزبير بما عرضت عليك؟!

قال: اللهم نعم.

قال: لو كتمت بعدما سألتك ما ارتد إليك طرفك. فأنشدك الله هل علمك كلاماً تقوله إذا أتيتني؟!

قال: اللهم نعم.

قال علي «عليه السلام»: آية السخرة؟!

قال: نعم.

قال: فاقرأها، فقرأها، وجعل علي «عليه السلام» يكررها عليه، ويرددها، ويفتح عليه إذا أخطأ، حتى إذا قرأها سبعين مرة قال الرجل: ما يرى أمير المؤمنين «عليه السلام» أمره بترددها سبعين مرة؟!

قال له: أتجد قلبك اطمأن؟!

قال: إي والذي نفسي بيده.

قال: فما قالا لك؟!

فأخبره، فقال: قل لهما: كفى بمنطقكما حجة عليكما، ولكن الله لا يهدي القوم الظالمين..

زعمتما أنكما أخواي في الدين، وابنا عمي في النسب.

أما النسب فلا أنكره، وإن كان النسب مقطوعاً إلا ما وصله الله بالإسلام.

وأما قولكما: إنكما أخواي، فإن كنتما صادقين، فقد فارقتما كتاب الله عز وجل، وعصيتما أمره بأفعالكما في أخيكما في الدين، وإلا فقد كذبتما وافتريتما، بادعائكما أنكما أخواي في الدين.

وأما مفارقتكما الناس منذ قبض الله محمداً، فإن كنتما فارقتماهم بحق، فقد نقضتما ذلك الحق بفراقكما إياي أخيراً. وإن فارقتماهم بباطل، فقد وقع إثم ذلك الباطل عليكما، مع الحدث الذي أحدثتما.

مع أن صفقتكما بمفارقتكما الناس لم يكن إلا لطمع الدنيا، زعمتما، وذلك قولكما: «قطعت رجاءنا» لا تعيبان بحمد الله علي من ديني شيئاً.

وأما الذي صرفني عن صلتكما، فالذي صرفكما عن الحق، وحملكما على خلعه من رقابكما، كما يخلع الحرون لجامه، وهو الله ربي لا أشرك به شيئاً.

فلا تقولا: «[هو] أقل نفعاً وأضعف دفعاً»، فتستحقا اسم الشرك مع النفاق.

وأما قولكما: «إني أشجع فرسان العرب»، وهربكما من لعني ودعائي، فإن لكل موقف عملاً، إذا اختلفت الأسنة، وماجت لبود الخيل، وملأ سحراكما أجوافكما، فثم يكفيني الله بكمال القلب.

وأما إذا أبيتما بأني أدعو الله، فلا تجزعا من أن يدعو عليكما رجل ساحر، من قوم سحرة، زعمتما.

[ثم قال]: اللهم اقعص الزبير شر قتلة، واسفك دمه على ضلالة، وعرَّف طلحة المذلة، وادخر لهما في الآخرة شراً من ذلك، إن كانا ظلماني، وافتريا علي، وكتما شهادتهما، وعصيا رسولك في.

قل: آمين.

قال خداش: آمين.

ثم قال خداش لنفسه: والله ما رأيت لحيةً قط أبين خطأً منك حامل حجة ينقض بعضها بعضاً، لم يجعل الله لها سماكاً. أنا أبرأ إلى الله منهما.

[ثم] قال «عليه السلام»: ارجع إليهما وأعلمهما ما قلت.

قال: لا والله حتى تسأل الله أن يردني إليك عاجلاً، وأن يوفقني لرضاه فيك!!

ففعل.

فلم يلبث أن انصرف، وقتل معه يوم الجمل «رحمه الله»([3]).

توضيحات العلامة المجلسي رحمه الله:

قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:

خداش: بكسر الخاء وتخفيف الدال.

[وقول]: «من أنفسنا»: بيان لمن. أي من الذين هم منا. وفي بعض النسخ: «وفي أنفسنا»، وهو أظهر.

وقوله: «من أن تمتنع»: متعلق بـ[قوله]: «أوثق». ومن تعليلية.

«وأن تحاجه»: معطوف على «أن تمتنع».

حتى تفقه: أي تتفقه بحذف إحدى التائين، وتضمين معنى الاطلاع. والأظهر: «تقفه» من وقفته بمعنى أطلعته.

«وأن يخالى الرجل» أي يخلو به.

إلى أن قال:

«أتتخذ اللعن لنا ديناً». غرضهما: أن اللعن دأب العاجزين، وكنا نظن أنك أشجع الفرسان.

إلى أن قال:

«الحائل بينك وبين قلبك»: أي يعلم من قلبك ما تغفل عنه، أو هو أملك لقلبك منك.

«وخائنة الأعين»: نظرها إلى ما لا ينبغي، ومسارقة النظر، وتحريك الجفون للغمز ونحوه.

«ما ارتد إليك طرفك»: كناية عن الموت.

«قال الرجل»: أي في نفسه، متعجباً من أمره بتكريره الآية. وكان ذلك لرفع سحرهما وشبههما عن قلبه، وتنوير قلبه بالإيمان.

«مع الحدث الذي أحدثتما»: أي من إبراز زوجة النبي «صلى الله عليه وآله» من بيتها، وإحداث الفتنة بين المسلمين.

أو المعنى: أنكم تعلمون أني على الحق، وأن ما أردتم بي باطل، فلزمكم الإثم من جهتين متناقضتين.

أو المراد: نصرتهما له مع علمهما بكونه على الباطل. ولعل الأول أظهر.

«زعمتما»: أي أنكما تصيبانها([4]).

إلى أن قال:

«وهو الله ربي»: أي الذي صرفني عن صلتكما هو الله تعالى، فلا تقولا [هو] أقل نفعاً، وأضعف دفعاً، فتكفرا.

أو صارفهما عن الحق أيضاً هو الله مجازاً، لسلب توفيقه عنهما.

أو المراد: أن صارفي عن الصلة هو سوء عقيدتكم وسريرتكم الذي حملكم على نقض البيعة. والصارف عن الصلة حقيقة هو الله تعالى، لأنه نهى عن صلة الكافرين.

وقيل: الضمير للشأن. ولا يخفى ما فيه.

«وهربكما»: وفي بعض النسخ «وهزؤكما». وهو أظهر.

واللبود: جمع اللبد، وهو الشعر المتراكم بين كتفي الفرس.

والسحر بالضم والتحريك: الرئة.

ويقال للجبان: قد انتفخ سحره. وذكره الجوهري.

وقال: ضربه فأقعصه: أي قتله مكانه.

«ما رأيت لحية»: أي ذا لحية. أو المراد بقوله: «منك» من لحيتك([5]).

بالنسبة لاتهام علي «عليه السلام» وأهل بيته لاحظ ما يلي:

البيت المعروف بالكهانة والسحر:

1 ـ لقد كان علي «عليه السلام» نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بنص القرآن الكريم في آية المباهلة، وقد اتهم «صلى الله عليه وآله» من قبل المشركين بأنه ساحر وكاهن، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ([6]).

وقال: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ([7]).

وقال: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ([8]) والآيات في ذلك كثيرة..

وقد ابتلي أخو النبي «عليهما الصلاة والسلام»، بنفس ما ابتلي به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فاتهم بالسحر والكهانة، كما ذكرته هذه الرواية..

2 ـ بل إن الاتهام قد وجه إلى جميع أهل هذا البيت.. ولست أدري إن كان المقصود هو بيت أبي طالب، أم بيت بني هاشم بما فيهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

وحتى إن كان المقصود هو بيت أبي طالب، أو بيت علي وحسب، فهل يستطيع طلحة والزبير أن يدلا على مورد واحد استعمل فيه علي «عليه السلام» أو أحد من أهل بيته السحر تجاه أحد من الناس؟!

وهل نسب أحد من الناس إلى علي وأهل بيته السحر والكهانة غير طلحة والزبير وعائشة، أو ادعى أنه يعرفهم بهذا الأمر في الجاهلية أو الإسلام؟!

3 ـ إننا نحسب أن الهدف من اتهام علي وأهل بيته بالسحر والكهانة هو:

أولاً: إيهام الناس: بأن ما يسمعونه من علي ومن الحسنين «عليهم السلام» من الإخبار بالغائبات هو ضرب من الكهانة ولا يدل على أنه علم اختصه الله ورسوله به..

وإذا كان الناس لا يملكون ما يميزون به بين الكهانة وبين العلم الخاص، فإن الشبهة، ستأخذ مأخذها من نفوسهم، وتضيع بذلك الفائدة المتوخاة من هذه الإخبارات..

ثانياً: إن ذلك سيؤثر انحساراً في تفاعل الناس بكلام علي عليه وسائر أبنائه، إذا التقوا بهم، حيث سيظنون: أن ثمة تمويهاً للحقيقة، وأن تأثر من يلتقيهم «عليه السلام» بكلامه ليس لأجل أن الحق يظهر لهم، بسبب ظهور حجته، وسطوع برهانه، وليس لأجل ما يرونه فيهم من سمات الصلاح والخير، والتقوى. والعلم وسائر الصفات، بل لأنهم يستعملون سحرهم للتأثير على الناس، وإسقاط مقاومتهم، ومن ثم استسلامهم لهم..

وبديهي: أن هذا التصوير سيكون مقبولاً ممن لم يحضر، ولم يسمع ولم ير، ولا سيما إذا كان متأثراً بعائشة، ومبهوراً بموقعها ومكانتها. فإنه سيتقلف هذا الكلام بشغف وشوق، لأنه يرى أنه يحل مشكلته ويريح وجدانه..

ثالثاً: قد أظهر كلامهم: أنهم يريدون تحصين رسولهم من التأثر بكلامه «عليه السلام»، فقد قالوا له:

1 ـ إنهم يثقون به أشد من ثقتهم بجميع من حولهم ممن هم منهم، وبأنه سيمتنع من الإنسياق معه، والقبول منه «عليه السلام».

وهذا يشير إلى شكهم في قدرة أقرب الناس إليهم على الامتناع من التأثر بعلي «عليه السلام»، أو أنهم يشكون في ولاء أقرب الناس إليهم..

ولو أن هذا الرجل التفت إلى هذه الدلالة لكانت وحدها تكفيه حافزاً على الاعتقاد بأنهم بصدد خداعه عن نفسه، إذ لا يعقل أن يثقوا به، أو أن تكون ثقتهم بحصانته من التأثر بسحر وكهانة علي «عليه السلام»، أشد من ثقتهم حتى بأقرب الناس إليهم. بدون سبب ظاهر، يبرر شكهم بمن حولهم إلى هذا الحد.

2 ـ إنهم طلبوا منه: أن يقارع علياً «عليه السلام» الحجة بالحجة نصرة منه لهم، حتى يخرج على أمرٍ واضح من الصلح أو القتال.

مع أن أصحاب القضية، وهم طلحة والزبير اللذان يأمرانه بذلك أجدر بمحاججة علي «عليه السلام»، حتى يصلوا معه إلى هذا الأمر المعلوم، إذ ليست الثكلى كالمستأجرة..

3 ـ ثم أمروه بأن يكابر، ويتصلب في وجه حجج علي «عليه السلام»، زاعمين له: أن علياً «عليه السلام» لا يغلب غيره بالحجة والدليل وبالحق، وإنما بالتأثير النفسي عليه، وبإرهابه الفكري، وادعائه الإمامة والخلافة والتقدم بالأولوية بالعلم والقرابة، ودعاواه العريضة، وفضائله الظاهرة، ومبالغاته التي تبهر خصومه وتكسرهم عن معارضته.

فإذا تصلب أحد في وجهه، ولم ينكسر له، فإنه سيربح المعركة معه. وإن انكسر له، فذلك لا يعني: أن الحق مع علي «عليه السلام»..

وهذا مكر خطير، يهدف إلى منع رسلهم إليه من الانحياز له «عليه السلام»، والالتحاق به، بعد ظهور الحق لهم.

الفرق بين السحر والكهانة:

لا نريد أن نتوسع في البحث عن معنى السحر والكهانة، والفرق بينهما. ثم ما تفترق به المعجزة عنهما، غير أننا نكتفي هنا بما يعطي للقارئ درجة الوضوح والصفاء في فهم هذه الأمور التي تمر به في سياق الحديث عن علي «عليه السلام» وسيرته.. فنقول:

السحر: هو عمل خاص ـ كالتكلم بكلام، أو كتابته، أو غير ذلك ـ يؤثر في بدن أو عقل، أو قلب شخص آخر أو أشخاص آخرين آثاراً لا يرضاها الشرع، لكونها مؤذية لهم، مثل التفريق بين المرء وزوجه، أو إلقاء العداوة بين الناس، أو إحداث اختلالات غير مستحبة في الأحوال والمشاعر.

وبهذا البيان يظهر الفرق بين السحر وبين المعجزة، والكرامة، فإنهما لا يحتاجان إلى إغفال، ولا إلى أعمال كتلك التي يحتاج إليها بالسحر، بل يحصلان بمجرد توجه النفوس الكاملة إلى الله تعالى..

أما الكهانة. فكانت قبل المبعث. حيث يروى: أن الشياطين كانت تسترق السمع، وتسمع من الملائكة بعض ما يدور بينهم مما عرفوه بتوفيقات الله تعالى لهم، أو مما وجدوه في لوح المحو والإثبات.

فتلقي ما تستمعهم إلى الكهان، وقد تتصرف فيه بما يحلو لها.

ثم إن الكهان قد يضيفون إلى ذلك ويتصرفون فيه وفق أهوائهم أيضاً، ثم يلقونه إلى الناس على شكل أسجاع ونبوءات، تثير فضولهم، وتأسر عقولهم.

فلما بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» وملئت السماء حرساً شديداً وشهباً، امتنع على الشياطين استراق السمع هذا، وبطلت الكهانة تبعاً لذلك.

وقيل: الكهانة هي الإخبار بما يلقيه بعض الجان لبعض الناس من أمور عرفوها أو وصلوا إليها بوسائلهم الخاصة التي تناسب حالهم، ويسمى الجن الذي يلقي إليهم ذلك بالتابع.

ومن الكهان من يدعي أنه يعرف الأمور، مما يظهر له من حالات الشخص وكلماته، وتصرفاته وحركاته، ويقال لهؤلاء: العرافون..

حواجز أخرى لتأكيد الريب:

1 ـ وقد ذكرت الرواية: أن طلحة والزبير حذرا خداشاً. من الأكل والشرب، والإدِّهان مع علي، وذلك لتأكيد الريب في قلب خداش بكل كلمة وحركة، وموقف وتصرف يكون من علي «عليه السلام». ولترسيخ الاعتقاد لديه: بأنه «عليه السلام» غير مأمون على شيء، ولا هو أهل للثقة في أي أمر، وأن على خداش أن يشك في سلامة الطعام والشراب، والدهن، والعسل وغير ذلك، من الأدواء والأسواء والتلوثات التي تلحق به، ولو عن طريق السحر والشعوذة، أو دس السموم، أو غيرها.

2 ـ ثم أفهموه أن الخلوة معه «عليه السلام» تحمل خطر تهيئة الفرصة له «عليه السلام» للتأثير على جليسه نفسياً، ولو بالإستيلاء على إرادته والهيمنة على روحه. ولذلك حذروه من قبول الخلوة به.

3 ـ ويدخل في ذلك أيضاً: نهيهما لخداش من أن يمكِّن علياً «عليه السلام» من بصره إذا جلس إليه، وأن لا يستأنس به.

قال العلامة المجلسي «رحمه الله»: «أي لا تنظر إليه بكل بصرك كما يفعله المستأنس بشخص، أي لا تنظر إليه كثيراً.

وإنما نهياه عن ذلك: لئلا يرى منه شمائله الحسنة، وأخلاقه المرضية، فتصير سبباً لحبه له»([9]).

ونضيف إلى ذلك: أنه قد يكون المراد: أن لا يحد نظره إليه، ليضطر خداش إلى لملمة نظراته، وكفها عن علي «عليه السلام» إلا على سبيل المخالسة، لأنه إذا أحد النظر إليه، فربما يتأثر بنظرات عيني علي الثاقبة، حيث تنفذ إلى قلبه وروحه وتهيمن عليه.

بالإضافة إلى أن كف بصره عنه سوف يحد من الانسياق معه، ويقلل من احتمال حصول الإلفة والمودة حين يرى الطهر والصدق ونور الإيمان على صفحات وجهه «عليه السلام».

آية السخرة:

وآية السخرة هي قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ([10]).

وإطلاق كلمة آية على هذه الآيات الثلاث قد جاء على سبيل إرادة جنس الآية، لا العهد لآية بعينها، فمن قرأ هذه الآيات سبعين مرة حفظ من شياطين الجن والإنس، واستنار قلبه بنور الإيمان واليقين، كما دلت عليه رواية خداش هذه([11]).

وقد أراد طلحة والزبير: إيهام خداش بأن علياً «عليه السلام» ساحر، لكي لا يتأثر بحججه، وببيانه لحقه..

فكانت النتيجة هي: أن خداشاً حين أخلص لله تعالى في قراءته لها قد صانته عن الوقوع في فخ تدليس من أمره بقراءتها. واستنار قلبه بنور الإيمان، وحلت به السكينة وتيقن بالحق. وبخع له..

وقد دلته نفس مساعدة أمير المؤمنين «عليه السلام» له على قراءته، وتسديده له، ودلالته، وتقويم نطقه بكلماتها على إخلاص علي «عليه السلام» وعلى شدة يقينه بحقه، وثقته بربه.

رسالة طلحة والزبير إلى علي :

وإذا نظرنا إلى الرسالة التي حملها خداش إلى علي «عليه السلام» من طلحة والزبير فسنرى أنها:

1 ـ تتضمن الاسترحام والرقة ـ كما أن فيها الشدة وعرض العضلات، فنجد الرقة والاسترحام فيما يلي:

ألف: إنهما ذكرا أخوتهما له «عليه السلام» في الدين، فإن المؤمن أخو المؤمن.

ب: إنهما قد ذكراه بالقرابة والرحم، لأنهما يجتمعان معه في جده «مرة» جد قصي بن كلاب.

مع أن ثمة شكاً في نسب طلحة، فقد قال ابن الكلبي: وممن كان يلعب به، ويتخنث: عبيد الله أبو طلحة، وأمه صعبة بنت الحضرمية، وكانت لها راية بمكة، فاستبضعت بأبي سفيان فوقع عليها، وتزوجها عبيد الله، فجاءت بطلحة لستة أشهر، فاختصم أبو سفيان وعبيد الله في طلحة، فجعل أمرها إلى صعبة، فألحقته بعبيد الله.

فقيل لها: كيف تركت أبا سفيان؟!

فقالت: يد عبيد الله طلقة، ويد أبي سفيان كزّة.

فقال الشاعر في هجاء طلحة:

لـعـبـيـد الله أنـتـم مـعـشـري                     أو أبـي سـفـيـان ذاك  الأمـوي([12])

وقالوا أيضاً: إن عبيد الله كان عبداً راعياً بالبلقاء، فلحق بمكة، فادعاه عثمان بن عمرو بن كعب التيمي.

وأما الزبير فكان أبوه فلاحاً بجدة، وكان جميلاً، فادعاه خويلد، وزوجه عبد المطلب صفية([13]).

وهناك أشعار لحسان بن ثابت وغيره تصرح بذلك في هجاء طلحة([14]).

وهناك قصة أخرى تتحدث عن ذلك بالنسبة للزبير، فراجع([15]).

وثمة قصة أخرى جرت في مجلس معاوية تدل على الطعن في نسب الزبير أيضاً([16]).

وفيه: إن تزويج صفية من عبيد الله كان لأجل تأكيد إلحاقه بنسبه([17]). كما هو عادة العرب.

ج: إنهما يناشدانه الله أن لا يقطع رحمهما.

ولكن سيظهر: أن هذه المناشدة لا قيمة لها، لأنهما سيصرحان: بأنهما غير منصرفين عن حربه، فدلا بذلك على أن هذه المناشدة مشروطة: بالنزول على شروطهما، وتلبية طلباتهما.

2 ـ اعتبرا: أن وقوفهما بعد استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى جانب علي «عليه السلام» من مفردات الإحسان لعلي «عليه السلام»، مع أنه لا يعدو كونه عملاً بالواجب الإلهي عليهما، وقبول توجيهات رسول الله فيه، ووفاء ببيعتهما له يوم الغدير. فلا معنى لقولهما: «تركنا الناس لك».

3 ـ ظهر أنهما لا يزال لديهما حنين إلى المنطق العشائري، حتى لو خالف أمر الله ورسوله.. ولأجل ذلك اعتبرا مخالفتهما لعشائرهما في علي «عليه السلام» بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» تضحية وإيثاراً منهما في سبيله، ومما يصح الامتنان به على علي «عليه السلام»، مع أن المفروض: هو أن تكون مخالفتهما لعشائرهما، لا لأجل علي «عليه السلام»، بل طاعة لأمر الله تعالى لهما بهذه المخالفة..

4 ـ هناك منطقان مختلفان، فعلي «عليه السلام» يرى: أن الخلافة وسيلة لإقامة الدين ونصرة الحق، وتكريسه، وإبطال الباطل وإزهاقه. فهي مسؤولية لا بد من إنجازها، وليست امتيازاً يجلب المنافع.. وبدون ذلك، فإنها لا تساوي عنده نعلاً بالية.. كما هو معروف عنه «عليه السلام».

فمن ساعده على القيام بهذا الواجب استحق من الله ـ لا منه هو ـ الأجر والثواب على عمله بواجبه. وليس له أن يمن عليه بشيء، ولا أن يطالبه بمكافأة.

وأما طلحة والزبير فيريان الخلافة امتيازاً ومنفعة للخليفة، وبقرة حلوباً، ونعمة يتقلبان فيها. فإذا ساعدهما أحد على الوصول إليها اعتبرا مساعدته هذه يداً عندهما، عليهما أن يجازياه عليها حين يتمكنان من الأمور.

ولأجل ذلك توقعا المكافأة من علي «عليه السلام» حين بادرا قبل كل أحد إلى بيعته.. فلما لم يجدا عنده شيئاً من ذلك نكثا بيعته، وخرجا لحربه؟!

5 ـ إنهما اعتبرا علياً «عليه السلام» مضيِّعاً لحرمتهما، حين لم يفضلهما على غيرهما من الناس، بل ساوى بينهم وبين غيرهم في العطاء، فاعتبرا المساواة انتهاكاً لحرمتهما..

6 ـ واعتبراه أيضاً قاطعاً لآمالهما، ولما كانا يرجوانه من نيل المقامات والمناصب معه لمجرد مبادرتهما إلى بيعته، وقيامهما إلى جانبه، مقابل أبي بكر وعمر بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله»..

وكان عثمان قد جفاهما في أيام خلافته، وفضل بني أمية بالعطايا والمناصب، فلما قتل، وظهر لهما أن أحداً لا يقبل بالبيعة لهما مع وجود علي «عليه السلام» سبقا الناس إلىه، فبايعاه على أمل أن يكافئهما بالعطايا والمناصب.

فلما أبطأ عليهما في ذلك طالباه بأن يويلهما الكوفة والبصرة، فمنعهما، فسخطا، وشقا عصا الطاعة، ونكثا بيعته، وجمعا الناس لحربه..

7 ـ ثم بدءا بالتشدد إلى حد التهديد، حين قالا له «عليه السلام»: «قد رأيت أفعالنا فيك. وقدرتنا على النأي عنك، وسعة البلاد دونك»، فلا يظنن أن بيعتهما له تمنعهما من مواجهته بالحرب.

كما أنه لن يتمكن من منعهما من مواصلة تمردهما، فالبلاد واسعة ويمكنهما التطواف فيها، وتأليبها عليه، وسيلحق به من جراء ذلك ضرر كبير، لن يستطيع أصحابه المقربون منه دفعه عنه.

وأصحابه هؤلاء هم الذين كانوا يحسنون له سياساته تلك، ويسعون إلى إبعاد طلحة والزبير عنه، وحرمانهما من صلته لهما، وصرفه «عليه السلام» عنهما..

ولا شك في أن هذه تهمة باطلة، تهدف إلى التشكيك في حزم علي «عليه السلام» وفي صحة سياسته، وإظهاره على أنه رجل ينقاد إلى الآخرين..

والحقيقة هي: أنه «عليه السلام» كان يجري فيهم أحكام الله، ويحيي سنة رسوله، ويعمل بالكتاب والسنة، وبعلومه التي آتاه الله إياها.

8 ـ لقد أخذا عليه أنه ينتهك حرمتهما باللعن لهما، والدعاء عليهما. وأنه مستمر على ذلك، حتى أصبح دينه وديدنه..

ولكن الغريب هنا: أنهما لم يأخذا عليه أنه يفعل حراماً، بل حوَّلا الكلام باتجاه آخر، حيث اعتبرا ذلك منه مخالفاً لما عرف عنه من شجاعة، فإن الشجعان لا يسبون ولا يشتمون، بل تكون سيوفهم هي التي تخطب في جماجم الفرسان في ساحات الوغى.. وأما الشتم واللعن فهما من عادة الجبناء ليس إلا..

نعم.. إن هذا غريب حقاً، فإن اللعن والدعاء على الظالمين وغيرهم لا ينافي الشجاعة، وفي القرآن أن الله تعالى قد لعن إبليس، ولعن الظالمين والفاسقين والكافرين. و.. و.. إلخ.. ومن الآيات الواردة في اللعن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ([18]).

كما أن الدعاء على الآخرين مذكور في القرآن.. وقد دعا نوح على قومه كما ورد في سورة نوح: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً([19]). وكان النبي «صلى الله عليه وآله» قد لعن الكثيرين ممن كانوا يؤذونه، ويتآمرون على الإسلام وأهله، وقد دعا على بعض القبائل، وكان يقنت بذلك في صلاته.. وإطالة الحديث حول هذا الأمر لن تكون مألوفة، لأنه من البديهيات التي لا يرتاب فيها أحد..

ولعل بداهته، ووضوحه للناس هي التي دعت طلحة والزبير إلى العزوف حتى عن الإشارة إليه.

والحقيقة هي: أن طلحة والزبير خافا من أن يصبح لعنهما سُنَّة باقية على مر الدهور والعصور.

وقفات مع جواب علي :

وكانت أول كلمات علي «عليه السلام» في جوابه لهما قوله: إنه يريد أن يعتمد قاعدة: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم. أو: من فمك أدينك، فقال لخداش: قل لهما: كفى بمنطقكما حجة عليكما..

وكلامه «عليه السلام» وإن كان قد جاء كافياً ووافياً، ولا يحتاج إلى أي إيضاح، غير أن لدينا رغبة في التبرك، ولو بإعادة التذكير ببعض ما أشار إليه «عليه السلام»، ونيل لذة ترداده، وتذوق بعض حلاوته.. فنقول:

زعمتما أنكما أخواي:

إن قوله «عليه السلام»: «زعمتما أنكما أخواي في الدين» مفعم بالريب في صحة ما يزعمانه، ثم أكد «عليه السلام» هذا الريب بقوله: «فإن كنتما صادقين»..

قال العلامة المجلسي «رحمه الله» ما ملخصه:

إن هذا الكلام يحتمل وجهين:

الأول: أن يكونا منافقين من أول أمرهما، ولو فرضنا صدقهما في دعوى الإيمان قبل البغي، فقد خرجا منه بعد مخالفتها كتاب الله، باستحلالها قتال من أوجب الله عليهما طاعته.. وإلا فهما كاذبان في ادعاء الإيمان من الأساس.

الثاني: أن يكون المراد: إنهما إن كانا صادقين في ادعائهما أنهما كانا على دين الإسلام، فقد خالفا كتاب الله في عدم رعايتهما حق الأخ في الدين، مع إقرارهما بأخوته.

وإن كانا كاذبين في قولهما: إنهما على دين الإسلام، فقد أقرا بفسقهما وكذبهما في دعواهما أنهما أخواه في الدين.

أما النسب فلا أنكره:

وقال «عليه السلام»: «أما النسب فلا أنكره».. وهنا سؤال يقول: إذا كان هناك طعن في نسب طلحة، لأن أمه كانت من أصحاب الرايات، وقد تنازع عبيد الله وأبي سفيان فيه، حتى حكمت أمه أنه لعبيد الله، وكذلك الحال بالنسبة للطعن في أبيه عبيد الله نفسه ـ كما تقدم ـ فكيف يقول علي «عليه السلام»: إنه لا ينكر نسبه؟!

ونجيب:

أولاً: إن ما فعله «عليه السلام» من عدم التعرض لهذا الأمر هو الصواب، لأن المفروض: أن طلحة قد ولد على فراش عبيد الله، فهو من الناحية الشرعية ملحق به. لا بأبي سفيان..

وهذا الحكم الشرعي، وإن كان حكماً ظاهرياً، ولا ينفي الإحتمالات التي يمكن أن تصادف الواقع أحياناً. ولكن هذا الظاهر يكون هو الحجة، التي يحتم الشارع الأخذ بها لأسباب مختلفة، قد يكون منها إدانة الزنا، وعدم الاعتراف بكل مفاعيله وآثاره، ومحاصرته وخنقه، في مهده حتى لا يبقى له أثر يذكر..

ثانياً: إن المصلحة أيضاً تفرض عدم إثارة هذه الأمور حفاظاً على كرامة المؤمنين والمسلمين، الذين لهم بهذا أو ذاك أدنى صلة سببية أو نسبية.. ومنع تعرضهم للانتقاص والأذى، وللتعيير، بهذا الأمر.

ثالثاً: إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فقد يكون أخذ طلحة به من باب تحميله وزر غيره.. والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى([20]).

وبما أن المعيار في الصلاح والفساد هو العمل الاختياري للإنسان، فإن من الإنصاف أن يصرف «عليه السلام» النظر إليه، ويكون هو محور الأخذ والرد، والقبول والرفض، وهذا ما حصل بالفعل، فإنه «عليه السلام» وإن اكتفى بالقول: إنه لا ينكر النسب، وإن لم يصرح بأنه يعترف به..

ولكنه أنكر أن تترتب عليه واجبات تجاه طلحة والزبير، لأن أفعالهما ليس فقط قد أعفته من ذلك، بل هي قد فرضت قطع صلته بهما. لأن الإسلام هو الذي يحدد هذه الصلة، وبعد أن نكثا بيعته وأعلنا الحرب عليه، وصارا يسعيان في سفك دمه وهو إمام زمانهما. وأخوهما في الدين وفي النسب ـ كما يزعمان ـ فإن الإسلام أصبح يأمره بدفعهما، وتأديبهما، ومعاقبتهما، وتخليص الأمة من شرهما.

تأييد طلحة والزبير لعلي يدينهما:

وقد فند «عليه السلام» تبجُّح طلحة والزبير بموقفهما المؤيد له «عليه السلام» بعد استشهاد الرسول «صلى الله عليه وآله» على النحو التالي:

1 ـ قد قال العلامة المجلسي «رحمه الله» في بيان مراده «عليه السلام»، ما يلي:

«حاصل الكلام: أنه لا يخرج الحق من أمرين: إما أن تكون الإمامة بالنص! أو بالبيعة..

فإن كانت بالنص، فمعلوم: أنه لا نص إلا عليَّ. فمفارقتكما الخلفاء السابقين كان حقاً. لكن رجعتم عن ذلك الحق بمفارقتكم إياي أخيراً. لأني على ذلك كنت إماماً أولاً وآخراً..

وإن كانت الخلافة بالبيعة. وكانت مفارقتكما لهم باطلاً، فقد صدر عنكم كفران، بل أربعة، لأنكم ـ بادعائكما ـ فارقتم هؤلاء الخلفاء، وفارقتموني أيضاً بعد البيعة، ولزوم الحجة. فقد كنتم منذ قبض رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى الآن عاصين، مخالفين للخلفاء والأئمة.

وهذه حجة تامة لا محيص لهم عنها..»([21]).

2 ـ إن مفارقتهما للخلفاء السابقين، وإن كانت حقاً. ولكنهما قد اعترفا بأن ذلك لم يكن لله تعالى بل للدنيا، فلم تكن مفارقتهما من الأفعال التي يثابون عليها، بل هي كصلاة المرائي، يتعب نفسه، ويعصي ربه بها..

3 ـ قال العلامة المجلسي «رحمه الله» أيضاً:

«ويحتمل عندي وجهاً آخر. وأن يكون بناء الوجهين في الكلام الأول كليهما على ما لاح من كلامهما، من أن الحق كان معه، لا مع السابقين. وكان ذلك مقرراً معهوداً بينهما وبينه «عليه السلام».

فحاصل الترديد: أنه إن فارقتماهم، أي بسبب أمر حق، ونية صادقة، وهو كوني على الحق، وكونهم على الباطل، فقد أحبطتم ذلك بارتدادكما، ومفارقتكما أخيراً.

وإن كان فراقكما عنهم للأغراض الدنيوية، ولأمر باطل، وإن كان أصله حقاً، فلما أوقعتموه بنية باطلة، فعليكم وزر ذلك، منضماً إلى أوزار الأعمال الأخيرة.

فالاستدراك لبيان أن الشق الأخير متعين باعترافكم. والترديد إنما هو بحسب بادئ النظر. وقد يحمل الكلام على وجوه أخر الخ..»([22]).

ثم استنتج «عليه السلام» من ذلك كله: أن العيب، والإثم، ونقص الدين لا بد أن ينسب إليهما، وفقاً للأدلة والحجج بمختلف وجوهها. أما علي «عليه السلام» فهو منزه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة عن العيب والإثم، ونقص الدين.

فظهر بذلك: أن قطعه رجاءهما إنما كان بالحق والدين، وهو مما يمدح ويثاب عليه، لأنهما رجيا ما ليس لهما بحق. فلا معنى لجعله من موارد المؤاخذة عليه.

هل هذا من الجبر الإلهي؟!:

وقد يتوهم: أنه «عليه السلام» قد نحى منحى القائلين بالجبر الإلهي، حين قرر: أن الله تعالى هو الذي صرفه عن صلة طلحة والزبير. كما صرفهما سبحانه عن الحق، وحملهما على خلعه من رقابهما كما يخلع الفرس الحرون لجامه ـ والحرون هو الذي لا ينقاد، وإذا اشتد به الجري وقف ـ وهذا يخالف ما هو معروف عن علي «عليه السلام» وأهل البيت، فإنهم قائلون بالأمر بين الأمرين.

ونجيب:

1 ـ إن هذا لا يدل على الجبر الإلهي ولا يتناقض مع القول بالأمر بين الأمرين. إذ المقصود: أنه تعالى قد منعه من صلة طلحة والزبير من خلال الأمر والنهي الذي أصدره إليه، ووفقه للعمل به، فإن الله تعالى قد نهاه عن صلة الظالمين، وأهل الباطل، وأمره بالمساواة بين الناس، ونهاه عن التمييز بينهم بالهوى والاقتراح، أو بالاستناد إلى أمور نهى الله عن الاستناد إليها.

كما أن الله تعالى قد خذلهما، ووكلهما إلى أنفسهما، لأنهما اختارا الدنيا، وآثرا الباطل، وعملا على طمس الحق، قال تعالى:

﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ([23]).

وقال عز وجل: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ([24]).

فقد دلت هذه الآية: أن الله إنما يهب الذين آمنوا ثباتاً في إيمانهم مرتكزاً ومتعلقاً بالقول الثابت، فقولهم الثابت الذي هو فعل لهم، هو سبب تثبيت إيمانهم في الدنيا والآخرة، ويضل الظالمين بسبب ظلمهم، أي أن الله تعالى هو الذي يبدأ بالهداية للعباد التكوينية والفطرية والعقلية، فيقبل العباد هدايته، فيزيدهم هداية على هداية نتيجة لعملهم هذا.

أما الضلال، فيبدأ من العبد، بسوء اختياره بانحرافه عن فطرته، وإهماله الاستفادة من عقله، فيجازيه الله على ضلاله بمثله، بقطع رحمته وألطافه عنه، ويسلب منه التوفيق لفعله هذا..

قال تعالى مشيراً إلى ذلك: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ([25]).

وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ([26]).

2 ـ إن هذا ينقض قول طلحة والزبير لعلي «عليه السلام»: إن من اتخذهم «عليه السلام» له أعواناً، وصرفوه عن صلتهم، من أمثال عمار والأشتر أقل نفعاً له، وأضعف دفعاً عنه، لأن هؤلاء الأعوان قد اهتدوا بهدي الله، ومن اهتدى بهدى الله، يكون هو النافع دون سواه، وهو أجل مقاماً، وأعظم غناء من الذي باء بغضب الله، وتعرض لسخطه، حتى أضله الله تعالى على علم.

3 ـ إن القول بخلاف ذلك دخول في الكفر وموجب لاستحقاق اسم الشرك مع النفاق.

أما استحقاق اسم النفاق، فظاهر، لأن من يقول ذلك لا يكون مؤمناً بالله وبعدله، ومكذباً بالقرآن الذي أنزله على رسوله، فهو كافر في الباطل، وإن كان يتظاهر بالإسلام والإيمان، وهذا هو النفاق بعينه..

وأما استحقاق اسم الشرك فظاهر، لتضمنه ارتداداً وخروجاً من الدين لردهما على الله، وتكذيبهما بما جاء به رسوله.. وعدم دخولهما في ملة أخرى كاليهودية، والنصرانية، ومما يعني أنهما باقيان في دائرة الشرك الذي تظاهرا بأنهما قد خرجا منه بالإسلام، وإذ بهما قد انغمسا فيه، إما بالارتداد على أعقابهما إليه، أو لكونهما لم يحملا صبغة الإسلام الحقيقية من أول الأمر.

4 ـ لعله «عليه السلام» عبر بكلمة استحقاق ليشير إلى أن الإنسان قد يقع في الخطأ في بعض التفاصيل، بسبب شبهة تعرض له، فإذا لفت أحد نظره إليها تنبه، وتراجع، وقبل الحق، من دون أن يستحق اسم الشرك لأجلها، لكونها من الأمور الغامضة والدقيقة التي لا يلتفت إليها. ومن اللوازم البعيدة، التي لا تخطر على البال عادة.

وإنما يلتفت إليها العالم الممارس الدقيق النظر.. كما هو الحال بالنسبة للقول: بأن صفات الباري تعالى زائدة على الذات.. فإنه يلزم منه القول بتعدد القديم، الذي لا شك في فساده، لأنه مستلزم للشرك، حتى لقد نقل عن الرازي قوله: «إن النصارى كفروا، لأنهم أثبتوا قدماء ثلاثة، وأصحابنا أثبتوا تسعة قدماء: الذات، وثماني صفات»([27]).

وبتعبير آخر: إن الشرك الخفي الذي يحتاج التعرف عليه إلى مزيد من البرهنة والاحتجاج لا يوجب إطلاق اسم الشرك على من وقع فيه من دون التفات، مع التزامه بحقائق التوحيد، وعقد قلبه عليها..

أما إذا كان الكفر أو الشرك قد حصل بسبب ظاهر فساده في الآيات والروايات ظهور الشمس، وكذلك إذا أقيمت الحجة فيه، وانجلى أمره، فإنه لا يبقى مبرر للارتطام فيه، إلا اللجاج والعناد ويكون من أصر عليه من الذين أضلهم الله تعالى على علم. ويستحق اسم الشرك مع النفاق، من دون أدنى شبهة أو ريب. وهذا ما تجلى في كلمات علي «عليه السلام» لطلحة والزبير. فيلاحظ ذلك.

إن لكل موقف عملاً:

ثم إنه «عليه السلام» قرر قاعدة هامة، لا بد من الأخذ بها في مختلف شؤون الحياة، تقوم على لزوم رعاية التوازن، والوفاء بالحقوق في كل شيء، فلا يضيع أحد عملاً مكتفياً عنه بسواه، ولا يفرط بموقف، اعتماداً على وفائه بغيره، فإن لكل موقف عملاً لا يغني عنه غيره.

وبدون ذلك، فإن الاختلال، والفساد سوف يتسلل إلى حياته، وألى الواقع بعينه من تلك الثغرة التي أهملها وأسقطها من حسابه، بمقدار حجمها، وسعتها..

من أجل ذلك نقول:

إننا كما نحتاج إلى العلم بأعظم الواجبات، وإلى أن تقدم أعظم التضحيات الجهادية.. ويتحتم علينا أن نهتم بتلك الأمور، وبإنجازها على أكمل وأتم وجه، كما هو الحال في الصلاة والزكاة والحج، والجهاد، و.. و..

فإن علينا أيضاً: أن لا نهمل مراعاة الأحكام التي نحسب أنها ليست بهذه المثابة من الأهمية، فلا نفرط في أحكام النفاس، والحيض، أو الطهارة والنجاسة، ولا نفرط أيضاً في مراعاة الأوامر والنواهي الواردة في كثير من الشؤون التي نحسب أنها أقل أهمية كما هو الحال في معاملة الحيوانات والامتناع عن أذاها.. أو إماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

فإن القيام بالواجبات الكبرى على أتم وجه لا يغني عن رعاية هذه الأحكام وأمثالها، ولا يمنع من تسلل الفساد إلى حياتنا في صورة مخالفتنا لها أو تعدينا عليها.

ولذلك قرر «عليه السلام»: أن إعلان الموقف للناس بلعن المعتدين والناكثين والظالمين.. والطلب من الله تعالى أن يطردهم من رحمته.. ونيل ثواب البراءة من أهل الباطل.. وإشاعة هذا النهج في الناس ـ إن هذا ـ مطلوب ومحبوب لله، ولا يجوز التفريط به اعتماداً على الشجاعة والإقدام، وخوض الغمرات في ساحات الجهاد.. فإن إيفاء أحد هذين الموقفين حقه لا يغني عن التعرض للعمل بما يفرضه الواجب الآخر.

فلا معنى لقولهما: إن دعاءه عليهما، ولعنه لهما دليل على أنه «عليه السلام» قد جبن عن مواجهتهما، أو أنه أراد استبدال هذا بذاك، فإنه «عليه السلام» يصرف النظر عن منازلتهما في ساحات الوغي، كما ستثبته لهما الوقائع التي تنتظرهما.

لا تجزعا من دعوة ساحر:

ثم إنه «عليه السلام»: قد سجل على طلحة والزبير تناقضاً ظاهراً، مفاده: أنهما يتهمانه بأنه ساحر وكاهن، من أهل بيت سحرة، ومن المعلوم: أن الله تعالى لا يستجيب للساحر، فلماذا يخافان من دعائه؟! أليس لأجل ما يعلمانه من كرامته على الله، ويعرفانه من حقه الذي يسعيان إلى طمسه وتضييعه؟!

لماذا لم يدع للزبير بالهداية؟!:

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: أن علياً «عليه السلام» قد دعا الله أن يسفك دم الزبير على ضلالة، مع أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون. فلماذا لم يدع «عليه السلام» لأعدائه بالهداية؟! كما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفعل. مع أن أعداء رسول الله «صلى الله عليه وآله» مشركون، وهؤلاء عليهم اسم الإسلام.

ونجيب:

أولاً: إن الزبير كان من الذين يعلمون الحق، ويحارب من أجل القضاء عليه وطمسه.. أما الذين كان «صلى الله عليه وآله» يدعو لهم بالهداية، فإن للرؤساء منهم حكماً غير حكم الأتباع الذين كان كثير منهم مضللين، أو منساقين وراء عصبياتهم التي كان فراعنة قريش يثيرونها فيهم، أو لأجل حفظ مصالحهم التي يوهمونهم أنها في خطر.. وما إلى ذلك..

ولو أنهم رجعوا إلى أنفسهم، واكتشفوا الحقيقة، فلعل الله يهدي قلوب كثير منهم..

ثانياً: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين قد دعوا على كثيرين، واستجاب الله دعاءهم فيهم. وذلك حين تأكد لديهم: أنهم أصبحوا خطراً على الدين، أو على أهل الدين. ولم يبق أي أمل في هدايتهم، أو في دفع شرهم بغير ذلك..

بل إن الله سبحانه قد أنزل سورة كاملة تتحدث عن دعاء نوح على قومه. حتى قال سبحانه: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً([28]).

كتما شهادتهما:

ولعله «عليه السلام» أراد بكتمان طلحة والزبير لشهادتهما ما ادعياه من نسيان ما أخبرهما به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، من أنهما سيحاربانه، وهما ظالمان له. وغير ذلك مما ذكرهما به في حرب الجمل.


([1]) بحار الأنوار ج32 ص108 و 109 وبصائر الدرجات ص67 (أو ص243 ح100) و (ط الأعلمي سنة 1404هـ) ص263 و 264 والخرائج والجرائح ج2 ص724 ـ 726 وإثبات الهداة ج4 ص498 ومدينة المعاجز (ط حجرية) ص116 ح312 و (ط مؤسسة المعارف ـ قم) ص136 ـ 139 والثاقب في المناقب لابن حمزة ص263 و 264 وتفسير نور الثقلين ج4 ص269 و 270 ومناقب آل أبي طالب (ط النجف) ج2 ص96 باب مقاماته مع الأنبياء.

([2]) مسند أحمد ج4 ص336 وصحيح البخاري (ط محمد علي صبيح بمصر) ج8 ص161 وعمدة القاري ج1 ص144 والمعجم الأوسط ج1 ص103 والمعجم الكبير ج7 ص75 وكنز العمال ج12 ص600 و (ط مؤسسة الرسالة) ج1 ص41 و 248 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص356 وج3 ص476 وتاريخ مدينة دمشق ج19 ص87 وفتح الباري ج1 ص56 ومجمع الزوائد ج1 ص88 ونظم درر السمطين ص233 وتفسير مجمع البيان ج3 ص126 والطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص189 وأسد الغابة ج5 ص526 وعلل الدارقطني ج2 ص74 وراجع: المستدرك للحاكم ج3 ص456 والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص19 والأمالي للصدوق ص414 وعلل الشرائع ج1 ص140 وروضة الواعظين ص271 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج2 ص134 والأمالي للطوسي ص416 والطرائف لابن طاوس ص506 ومشكاة الأنوار للطبرسي ص153 وكتاب الأربعين للشيرازي ص632 وبحار الأنوار ج17 ص13 وج22 ص88 وج27 ص76 و 86 و 112 وج65 ص2.

([3]) الكافي ج1 ص343 ـ 345 وبحار الأنوار ج32 ص128 ـ 130 عنه، ومدينة المعاجز ج2 ص139 ـ 143 ونهج السعادة ج8 ص375 ـ 378.

([4]) بحار الأنوار ج32 ص130.

­([5]) بحار الأنوار ج32 ص130 ـ 132.

([6]) الآيات 40 ـ 42 سورة الحافة.

([7]) الآية 29 من سورة الطور.

([8]) الآية 4 من سورة ص.

([9]) مرآة العقول ج4 ص64.

([10]) الآيات 54 ـ 56 من سورة الأعراف.

([11]) مرآة العقول ج4 ص64 و 68.

([12]) الطرائف ص495 وكشف الحق ص356 وبحار الأنوار ج32 ص219.

([13]) بحار الأنوار ج32 ص218 و 219 وتقريب المعارف ص358 و 359 وراجع: مستدرك سفينة البحار ج10 ص36.

([14]) تقريب المعارف ص358 و 359.

([15]) تقريب المعارف ص359 وبحار الأنوار ج32 ص218 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص36.

([16]) بحار الأنوار ج32 ص219 و 220 وج33 ص251 و 252 والدرجات الرفيعة ص360.

([17]) بحار الأنوار ج32 ص219 وج33 ص107 وإلزام النواصب لابن راشد ص174.

([18]) الآية 159 من سورة البقرة.

([19]) الآيتان 26 و 27 من سورة نوح.

([20]) الآية 164 من سورة الأنعام، والآية 15 من سورة الإسراء، والآية 18 من سورة فاطر.

([21]) مرآة العقول ج4 ص69 و 70.

([22]) مرآة العقول ج4 ص70 و 71.

([23]) الآية 27 من سورة إبراهيم.

([24]) الآية 26 من سورة البقرة.

([25]) الآية 5 من سورة الصف

([26]) الآية 17 من سورة محمد.

([27]) الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص51 عن الهداية في أصول الدين، الورقة 315 والتوحيد، الورقة 24 ب وما بعدها، وتبصرة الأدلة، الورقة 58.

([28]) الآيتان 26 و 27 من سورة نوح.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان