وكتب أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى طلحة والزبير:
أما بعد..
فقد علمتما ـ وإن كتمتما ـ أني لم أرد الناس حتى
أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن
العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتماني
طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد
جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية، ولعمري
ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان.
وإن دفعكما هذا الأمر من قبل إن تدخلا فيه كان أوسع
عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به.
وقد زعمتما أني قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلف عني
وعنكما من أهل المدينة ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل. فارجعا أيها
الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار
والنار، والسلام([1]).
قال السبط ابن الجوزي، (وقد نشير إلى بعض الفقرات من
مصدر آخر) ما يلي:
«ثم إن علياً لما قارب البصرة كتب إلى طلحة والزبير
وعائشة، ومن معهم كتاباً لتركيب الحجة عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير
وعائشة.
سلام عليكم!
أما بعد.. يا طلحة والزبير، قد علمتما أنّي لم أرد
البيعة حتى أُكرهت عليها. وأنتم ممن رضي ببيعتي، فإن كنتما بايعتما
طائعين فتوبا إلى الله تعالى، وارجعا عما أنتما عليه. وإن كنتما
بايعتما مكرهين، فقد جعلتما لي السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة،
وكتمانكما المعصية.
وأنت يا طلحة، يا شيخ المهاجرين. وأنت يا زبير، يا فارس
قريش، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه، فكان([2])
أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما.
وأنت يا عائشة.
فإنك خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله
«صلى الله
عليه وآله»،
تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً. ثم تزعمين أنك تريدين الاصلاح بين
المسلمين [الناس]؟!
فخبريني ما للنساء وقود الجيوش [العساكر]؟ والبروز
للرجال، والوقوع بين أهل القبلة، وسفك الدماء المحرّمة؟.
ثم إنّك طلبت على زعمك [ زعمت أنك طالبة] بدم عثمان،
وما أنت وذاك؟!، وعثمان رجل من بني أمية، وأنت من تيم!!.
ثم بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»:
أقتلوا نعثلاً فقد كفر، ثم تطلبين اليوم بدمه؟!
[وزاد في نص آخر:
ولعمري، إن الذي عرضك للبلاء، وحملك على المعصية لأعظم
إليك ذنباً من قتلة عثمان!!
وما غضبت حتى أغضبت، ولا هجت حتى هيجت. فاتقى الله يا
عائشة] وارجعي إلى بيتك [منزلك]، واسبلي عليك سترك.
وزاد في بعض المصادر قوله:
فجاء الجواب إليه:
«يا ابن أبي طالب، جل الأمر عن العتاب، ولن ندخل في
طاعتك أبداً، فاقض ما أنت قاض والسلام»([3]).
ويلاحظ هنا:
أن بعض المصادر اقتصرت على القسم الخاص بعائشة، وذكرته
على أنه رسالة مستقلة.. وبعضها ذكر الشق الخاص بطلحة والزبير، وثالث
ذكرهما معاً كما أسلفنا..
ونقول:
إن لنا مع هذه النصوص وقفات عديدة، نجملها فيما يلي:
لقد أوضح «عليه السلام» أن بيعة الناس للحاكم تكون على
ثلاثة أنحاء:
البيعة التي تتم بالقهر والغلبة، حيث لا يجد الناس بداً
منها، إلا إذا أرادوا تعريض أنفسهم للبلاء والعناء..
وتأتي الرغبة في هذه البيعة ابتداءً من قبل الحاكم
نفسه. أما المحكوم، فلا تكون لديه رغبة بها، ولا ميل إليها، بل يكون
لديه صدود عنها، و نفور منها..
وهذا ما أشار إليه «عليه السلام»
هنا بقوله:
«إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب».
أن تأتي الرغبة بالبيعة من قبل الناس أنفسهم، لأجل
الوصول إلى غرض حاضر كالحصول على منافع حاضرة، كالأموال أو المناصب، أو
الغلبة على المنافسين، أو الكيد لهم، والتشفي منهم، أو نحو ذلك..
وقد تكون لدى الحاكم رغبة في هذه البيعة، وقد لا تكون،
بل ربما كان لديه صدوف وعزوف عنها..
أن يكون لدى الناس رغبة بالبيعة، نتيجة شعور بالواجب
الديني، أو بالمسؤولية الإنسانية والعقلية، أو رغبة في تحقيق الإصلاح،
ودفع الفساد والإفساد..
أما الحاكم، فقد يكون راغباً أيضاً بهذه البيعة لنفس
هذه الأسباب. فتتلاقى الرغبتان، وقد يكون عازفاً عنها، لوجود موانع أو
صعوبات يراها، ويرى أن قبولها يحتاج إلى أن يقبل الناس بمواجهتها،
وتحمل مسؤولياتهم تجاهها..
وهذا هو حال علي «عليه السلام» مع الناس حين البيعة له،
فإنه كان عازفاً عن هذا الأمر لأجل ما يراه من صعوبات وموانع.. لا يمكن
تجاوزها إلا إذا رضي الناس بتحمل مسؤولياتهم والقيام بواجبهم تجاهها.
أو ـ على الأقل ـ أن يعلنوا تعهدهم بذلك، وقبولهم به.
وهذا هو السبب في أنه «عليه السلام» قد استمر «عليه
السلام» برفض قبول البيعة، مع أن الناس أرادوه لها، حتى إذا صرح الناس
بقبولهم بحمل تبعات ما يقدمون عليه. قبل البيعة منهم..
وهذا ما أشار إليه «عليه السلام»
بقوله:
«لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني.
وإنكما ممن أرادني وبايعني».
وبيَّن لنا أمير المؤمنين «عليه السلام» أيضاً:
أن طلحة والزبير قد ادعيا: أنهما بايعا علياً «عليه السلام» كارهين..
وهذه الدعوى منهما لا تصح لما يلي:
أولاً:
لأن الإكراه لهما إن كان قد حصل، فيفترض أن يكون قد حصل
لغيرهما من المهاجرين أيضاً، بل إن غيرهما أحق بهذا الأمر منهما.. لأن
بغض أمير المؤمنين «عليه السلام» كان متمكناً فيهم، وكانوا يعتبرون أن
لهم ثارات عنده، لأنه قتل آباءهم وإخوانهم وأقاربهم على الشرك..
فكان ينبغي أن يحصل الإكراه لغيرهم قبل أن يحصل لهم،
لأن من يحقد على شخص فإنه سيمتنع عن البيعة له، فيحتاج إلى إكراهه
عليها.. أما طلحة والزبير فلم يكن لهما ثأر عنده «عليه السلام».. وأما
الأنصار بالإضافة إلى أنهم لم يكن لهم ثأر عنده كانوا أقرب إليه من
المهاجرين..
ثانياً:
إن كان المقصود: أنهما كرها بيعته، فأبطنا نكثها من أول
الأمر، فيرد عليهم: أن غيرهما من المهاجرين كان لا يحب إمارته أيضاً،
فلماذا بادروا إلى بيعته طائعين ولم يبطنوا النكث، ولا فعلوه كما فعل
طلحة والزبير اللذين رأيا أن الناس لا يرضون بهما، وأنه هو وحده الذي
يمنع من انتشار الأمر وضياع الناس في متاهات الأهواء، ويعيد الأمور إلى
نصابها، ويدفع الخطر عنهما بعد أن أوغلا في المشاركة في قتل عثمان..
ثالثاً:
قد كان يمكنهما أن لا يبايعاه من أول الأمر، وسيريان:
أنه «عليه السلام» سوف لن يلاحقهما..
ولهما في ذلك أسوة بغيرهم ممن لم يبايعوا، فتركهم «عليه
السلام».. شاهدنا على ذلك: أنه «عليه السلام» قال لطلحة حين تواقفا في
حرب الجمل:
«أولم تبايعني يا أبا محمد طائعاً غير مكره؟! فما كنت
لأترك بيعتي!
قال طلحة:
بايعتك والسيف في عنقي.
قال:
أولم تعلم أني ما أكرهت أحداً على البيعة؟! ولو كنت
مكرهاً أحداً لأكرهت سعداً، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، أبوا البيعة،
واعتزلوا فتركتهم؟!
فقال
طلحة:
كنا في الشورى ستة.. فمات اثنان وقد كرهناك ونحن ثلاثة.
قال علي«عليه السلام»:
إنما كان لكما ألا ترضيا قبل الرضا وقبل البيعة، وأما
الآن فليس لكما غير ما رضيتما به، إلا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث،
فإن كنت أحدثت حدثاً فسموه لي. الخ..»([4]).
وهذا النص يدل:
على أن المراد بكراهة البيعة هو الكراهة القلبية، وأن
المراد بكون السيف أو اللج في عنقهما حين البيعة: اضطرارهما إليها بسبب
رغبة سائر الناس بها، ولم يسعهما مخالفة الرأي العام، لأنهما شاركا في
قتل عثمان، فكانا يخشيان عواقب ذلك.. وقد رد «عليه السلام» على هذا
المنطق من جهتين:
الأولى:
أن ذلك يجعل له السبيل عليهما، بإظهارهما الطاعة
وإسرارهما الغدر والنكث..
الثانية:
أن الاضطرار لا يعد إكراهاً.. وأنهما يؤخذان بما رضيا
به ظاهراً.. ولا يسمع منهما ما عداه، فبيعته لازمة لهما إلا أن يحدث
«عليه السلام» حدثاً يسقطه عن الصلاحية للإمامة..
وهذا ما لم يحصل، بل الذي حصل:
هو أن طلحة، والزبير هما اللذان أحدثا حدثاً عظيماً
يخرجهما عن الصلاحية لأي مقام، وهو إخراجهما عائشة من بيتها إلى ساحات
القتال.
ثم إن أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الرجل المنصوص
على إمامته من الله ورسوله، والذي بايعه المسلمون في يوم الغدير بتدبير
ورعاية من رسول الله «صلى الله عليه وآله» مباشرة، ثم أجمع المسلمون
على بيعته بعد قتل عثمان.. وقد نزلت آية التطهير وسواها لتدل على فضله،
وعلى طهارته وعصمته، والمعروف بجهاده وتضحياته.. وورد فيه عن رسول الله
«صلى الله عليه وآله» مئات أو آلاف الأقوال المؤكدة لفضله وعلمه، وحميد
صفاته، ومقاماته عند الله تعالى، وموقعه من رسول الله «صلى الله عليه
وآله»..
وأمير المؤمنين «عليه السلام» أيضاً، هو نفسه الذي كان
يتعرض للبغي، والنكث، والتعدي على شيعته ومحبيه، وقتلهم من غير ذنب
أتوه، ويتعرض للافتراءات الصريحة عليه.. ولغير ذلك من ظلم وحيف، ولكنه
مع ذلك كله لم يشأ أن يستفيد من سلطانه، ومن ظهور حقه وباطلهم كمبرر
لصدهم، والبطش بهم، ولا شاء أن يوظف كل ما يملكه من نقاط باعتراف كل
عاقل مُنصف، ومن له أدنى معرفة بالأمور، وبأحكام الشريعة والدين في
إنزال الضربة القاصمة بهم..
بل آثر الصبر والتأني بهم، وأن يبذل كل ما يستطيع من
أجل إيقاف البغي والعدوان، وتأجيل التصادم مع البغاة، والبحث عن أي حل
لا يوجب تعطيل الشريعة، أو وهناً في الدين، وضرراً بالمسلمين..
فكان من جملة الأمور التي لجأ
إليها، واقترحها على أعدائه الناكثين:
أن يرضوا بتحكيم فريق من الناس كانوا يعرفون: أنه رغم بداهة الأمر قد
تخلفوا ـ بلا مبرر ـ عن المسير مع علي «عليه السلام» إلى حرب الناكثين.
وبذلك يكون «عليه السلام» قد تخلى عن قرار البت بأمر
أهل النكث، وجعله في يد فريق دل بموقفه على أنه لا ينسجم معه، ولا
يطيعه فيما يأمره به..
ولكن الناكثين رفضوا التحاكم حتى إلى هذا الفريق،
وأصروا على فرض رأيهم بقوة السيف. ربما لأنهم كانوا يعرفون بأن الحكم
سيأتي في غير صالحهم، فهم على يقين من باطلهم وحقه «عليه السلام»، ومن
ظلمهم وعدله وإنصافه «عليه السلام»..
كما أنهم قد أدركوا:
أن الحكم سيقضي عليهم بالتوقف عن الحرب.. ولا يمكنهم
قبول ذلك، لأنهم كانوا بأمس الحاجة إليها، وسيكون الدخول فيها بعد صدور
الحكم بالتخلي عنها في غاية الصعوبة، لأن موقفهم سيكون أكثر وهناً،
وستكون استجابة الناس بالغة الضعف..
ولعل الذي زادهما خوفاً:
قوله «عليه السلام»: «ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل»،
فإنهم يعرفون: أن الوزر كله عليهم، وأن علياً «عليه السلام» لا يتحمل
شيئاً من وزر ما جري، فهو لم يقتل السبابحة، والمصلين بالمسجد، وحراس
عثمان بن حنيف، وحكيم بن جبلة، ومن كان يتشيع له بالبصرة حتى بلغ عدد
القتلى ست مئة رجل، ولم يخرج زوجة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم
يخالف أمر الله لها بالقرار في بيتها، وتحذيرات الرسول «صلى الله عليه
وآله» لها من نباح كلاب الحوأب، ومن حرب علي «عليه السلام»، ولم ينتهب
بيت المال، ولم ينكث بيعة إمامه، ولا جمع الجيوش لحربه. ولا افترى عليه
واتهمه بقتل عثمان.. ولا.. ولا..
ومطالبتهما بهذا كله سوف يحبط مسعاهما، ويذهب بآمالهما
أدراج الرياح.
وقد أسدى «عليه السلام» إلى الناكثين نصيحة غالية، تقوم
على قاعدة يرتضيها جميع العقلاء، ولا يتجاوزونها، وهي: اختيار أقل
الضررين حين لا بد من أحدهما.. فأوضح لهما: أن رجوعهما إن عد عاراً عند
أهل الدنيا، فإن عدم الرجوع لا يعني زوال العار عنهما، أو عدم حصوله
لهما، بل هو حاصل على كل حال..
وستنضم نار الآخرة إليه أيضاً. وهذا يحتم عليهما
التراجع بنحو آكد، وبحرص أشد..
وهذه نصيحة حقيقية لا يسديها إليهم إلا من هو مثل علي
«عليه السلام» الذي كان أخا رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي وصفه
الله تعالى: بأن نفسه تذهب حسرات حتى على أعدائه ومحاربيه..
علي
وصلح عائشة:
إن علياً «عليه السلام»، قد فند بما لا مزيد عليه مزاعم
عائشة بأنها تسعى للصلح، ويكفي أن نشير هنا إلى الأمور التالية:
1 ـ
إنه «عليه السلام» باستدلالاته الحاسمة قد ألجأ عائشة إلى التصريح:
بأنها تقف في موقع المناوئ له «عليه السلام»، رافضة لحكمه، وقد أخذت
على نفسها أن تواصل شقاقها هذا على مر الزمان مهما تكن النتائج.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد كتب إليها موضحاً لها تناقض أفعالها مع أقوالها:
فأولا:
إنّ من يريد الصلح لا يقود العساكر، ولا يجمع الجيوش،
ولا يعصى أمر الله ورسوله في نفس أعماله التي يدعي أنها تهدف إلى
الإصلاح بين الناس، طاعة لله سبحانه!!
ثانياً:
كيف تكون طالبة للصلح، وهي تصرح: بأنها خرجت للطلب بدم
عثمان، مع أن عثمان رجل من بني أمية، وهي من تيم بن مرة، فلا توجد
أصلاً صلة بينها وبين عثمان لكي تطلب بثاره، لا في أحكام الشريعة التي
تقضي بأن يطلب أهل القتيل بدم القيتل، ولا عرفاً، فإن الأعراف العربية
تجعل طلب الثار لعشيرة الرجل أيضاً.
ثالثاً:
لا معنى للتوسل بوسيلة محرمة هي من أعظم الكبائر إلى
الأخذ بثار لا يجب ولا يستحب، لأنه لم يصدر من أهله، ولم يقع في محله.
هذا فضلاً عما في ذلك من نقض لنظام الأمة، وتعد على
الإمام والإمامة وإلقاح للفتنة بين الناس..
إن من يلقي نظرة، ولو عابرة على مسار حرب الجمل، وعلى
الأقوال والأفعال يجد: أن علياً «عليه السلام» كان مصراً على درء
الفتنة، وأن قادة الناكثين بما فيهم طلحة والزبير وعائشة، كانوا مصرين
على الحرب.. ولا يمكن لأي باحث إلا أن يعتبر مقولة عائشة: أنها كانت
تريد الصلح بين المتخاصمين، مجرد مزحة سمجة، ساخرة، ولا تطاق لما تحمله
في طياتها من مآسي، ورزايا، وكوارث وبلايا.. فإن عائشة التي كانت
الآمرة الناهية في جيش الناكثين، قد أمرت بقتل المئات من الصالحين من
أهل البصرة، وكانت الراعية والمدبرة التي لا تخشى فيما تقدم عليه لومة
لائم على أن من يريد الصلح لا يجمع حوله عشرات الألوف من المقاتلين
ويسوِّد نفسه عليهم، ويكون القائد لهم، والمهيمن عليهم.. ولا تتجاوزها
إلى غيرها..
كما أن من يسعى في الصلح طاعة لله، لا تكون وسيلته إلى
ذلك معصية الله تبارك وتعالى.. فإن عائشة مأمورة من الله ورسوله
بالقرار في بيتها، وأن لا تتدخل فيما لا يعنيها، وأن تتولى الأمور التي
أجاز لها الشرع الشريف توليها..
ولكنها خالفت ذلك كله، ووضعت نفسها في موقع العاصى
لأوامر الله ورسوله في كل تلك اللحظات، والساعات، والأيام والشهور التي
قضتها في تدبير أمر الحرب، من بدئها إلى انتهائها.
والأهم من ذلك:
أنه لم يكن هناك غير فريقين هما علي «عليه السلام» ومن
معه، وعائشة ومن معها، ولا يوجد فريق ثالث يقاتل أو ينازع هذا أو ذاك،
إلا ما أثارته عائشة، وفريقها، والعساكر التي جاءت بها، وما ارتكبوه في
حق عامل أمير المؤمنين «عليه السلام» على البصرة.. حيث أمرت عائشة
بقتله، ثم منعهم من ذلك العواقب التي خافوا منها، ثم أخرجوه من عمله
بعد أن فعلوا به الأفاعيل، واستولوا على البلد كله، وعلى بيت المال،
وبطشوا بالناس، وقتلوا حراس بيت المال، وقتلوا طائفة كبيرة من الناس في
المسجد، ومئات آخرين.
ولم يراعوا حق الله، ولا حفظوا حقوق الناس، ولا رعوا
عهودهم، ولا وفوابأيمانهم، ولا رعوا حق الأمام الذي أعطوه البيعة
بالطاعة والنصرة ـ بل كانوا أول من يعصيه، ويتمرد عليه، ويجمع الجيوش
لحربه؟!
فإلى أي صلح كانت تسعى عائشة؟! ومع من يكون؟! ومن الذي
يضمنه؟! وكيف؟!
على أن هذا الصلح لم تعلن عائشة شروطه، وأنه هل سيؤخذ
الذين ظلموا بظلمهم، ويحاسبون على عدوانهم على الناس؟! وهل سيقتص ممن
فعل بعثمان بن حنيف ما فعل. وهلا سيقتص من قتلة السبابجة، وغيرهم من
الأبرياء؟ أم أن دمهم قد ذهب هدراً؟!
وهل سيعيد الذين انتهبوا مال بيت مال البصرة، ما
انتهبوه؟! وهل ستعود أم المؤمنين لتقر في بيتها كما أمرها الله
ورسوله؟!
هل سترضى بطاعة أمير المؤمنين «عليه السلام»، وتقرّ له
بما جعله الله تعالى له؟! وهل سيقيد طلحة والزبير من أنفسهم بما
ارتكبوه في حق عثمان، لتجري أحكام الله فيهم، كما جرت في غيرهم؟..
وهل سيرفع طلحة والزبير يدهما عن مطالبة علي «عليه
السلام» بأن يغدق عليها الهدايا من بيت المال؟!
وهل سيصرفان النظر عن المطالبة بتولي الكوفة والبصرة؟!
أو على الأقل هل سيعود طلحة والزبير إلى الطاعة، وتأكيد
البيعة؟!
وما الذي يضمن أن يفيا بعهودهما، بعد أن نقضاها رغم
أنهم أعطيا أشد العهود، وأغلظ الأيمان؟!
وهل.. وهل..
وذكر المفيد «رحمه الله»:
أن علياً «عليه السلام» دعا عبد الله بن عباس ليرسله
إلى الناكثين: عائشة وطلحة، والزبير ومن تابعهم، فقال له:
«انطلق إليهم فناشدهم، وذكرهم العهد الذي في رقابهم.
قال:
فخرجت إليهم، ورجعت إلى علي «عليه السلام»، وقد دخل
البيوت بالبصرة، فقال: ما وراؤك؟ فأخبرته الخبر.
فقال:
اللهم افتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين».
ثم قال:
«ارجع إلى عايشة، واذكر لها خروجها من بيت رسول الله
«صلى الله عليه وآله»..
وخوِّفها من الخلاف على الله عز وجل، ونبذها عهد النبي
«صلى الله عليه وآله».
وقل لها:
إن هذه الأمور لا تصلحها النساء.
وإنك لم تؤمري بذلك.
فلم ترضي([5])
بالخروج عن أمر الله في تبرجك.
وخروجك من بيتك الذي أمرك النبي بالمقام فيه.
حتى سرت إلى البصرة.
فقتلت المسلمين.
وعمدت إلى عمالي فأخرجتهم.
وفتحت بيت المال.
وأمرت بالتنكيل بالمسلمين.
وأبحت دماء الصالحين..
فارعي، وراقبي الله عز وجل، فقد تعلمين أنك كنت أشد
الناس على عثمان.
فما هذا مما مضى؟!([6])
ونقول:
قوله
«عليه السلام»:
فما هذا مما مضى.. يريد به: أنك لو قايست بين هذه الأفعال، وتلك الأومر
والزواجر التي ذكّرها «عليه السلام» بها، فإنها ليس فقط لا تتطابق ولا
تنسجم معها، وإنما تكون بينهما تمام المباينة والإختلاف.
إننا حين نراجع خطاب سيد الأوصياء لزعماء الناكثين، نجد
فيه تغيراً من جهة وثباتاً من جهة أخرى..
فالثبات تجده في حججه «عليه السلام» على الناكثين،
وإصراره على تلك الحجج، وعدم الانجرار إلى المتاهات التي يحاول
الناكثون جره إليها.. فقد كان ولا يزال يؤكد على أمور يرى أنها الأساس
الذي لابد من العودة إليه، والبناء عليه. وهي: إن طلحة والزبير قد نكثا
بيعته، ونقضا العهود التي أعطياها..
إنهما قد بايعاه طائعين غير مكرهين..
وإن ادعاءات الإكراه لا تسمع، بل هي تدينهما لأنها
تستبطن الإعتراف بأنهما كانا يظهران خلاف ما يبطنانه، من دون داع إلى
ذلك، لأن علياً «عليه السلام» لم يطلب السلطان، بل كانا هما اللذان
دعياه إليه، وأصرا عليه بالقبول به.
وإنهما قد شاركا في قتل عثمان، فكيف يطلبان بدمه. وأن
ادعاء التوبة لا يعفيهما من العقوبة..
وإنّ عائشة لا يحق لها الخروج من بيتها ولا التبرج
والظهور بين الجماهير، ولا قود العساكر. وأن لا تتصدى لأمر لم يطلبه
الله منها..
فهذا الثبات والإصرار قد منع الناكثين من تضييع الناس
في متاهات الشبهات، والترهات والأضاليل، وحفظ لهم الأسس التي لابد من
أن تكون هي المنطلق لهم وإليها يكون المرجع، فلا تضيع البوصلة الصحيحة
ولا يضلون الطريق. لأن هذه الأسس من شأنها أن تلغي كل الأدعاءات التي
تأتي بعدها.. لأنها تجعلها مبنية على ضلال، أو غير ذات موضوع.
أما التغيير في الخطاب عند علي
«عليه السلام»،
فنجد أنه قد حصل بمجرد وصوله «عليه السلام» إلى البصرة، حيث إنه «عليه
السلام» كان قبل ذلك يحاول أن يظهر الرفق بها، ويصرف النظر عن التصريح
والتدقيق في مؤاخذتها، ولا يجهر بمقدار ما تحمله من مسؤلية، ويكتفي
بالاحتجاج عليها بما ذكرناه آنفاً..
بل وجدنا:
أنه كان يحاول أن يسهل عليها أمر الخروج من المأزق الذي
هي فيه، ويوجد لها ما يمكّنها من التراجع، مع حفظ ماء الوجه، حين كان
يركز ادانته ولومه على من أثار حفيظتها، وأغضبها ودفعها للخروج..
ولكنه بعد أن ظهر لكل أحد أن هذا الأسلوب أيضاً لم يؤثر
في ردعها عن قرارها، ولم يعد مجال لتوهم أحد أنه لو استفيد من هذا
الأسلوب لنفع وأفاد، جهر لها بالحقيقة، وواجهها بالإدانة الصريحة،
والمؤاخذة الواضحة على أعمالها.. والكلمات التي لقّنها لابن عباس
ليحملها إليها ظاهرة الدلالة على ما نقول..
فإنه أمره:
بأن يبلغها نفس الحجج التي كان يحتج بها عليها، ويواصل
إرسالها إليها، ثم زاد على ذلك: أن بين لها بصراحة كيف:
1 ـ
أنها هي التي قتلت المسلمين في البصرة. وهم يعدون
بالمئات.
2 ـ
أنها أخرجت عماله.
3 ـ
فتحت بيت المال.
4 ـ
أمرت بالتنكيل بالمسلمين.
5 ـ
أباحت دماء الصالحين.
وكان ذلك منه «عليه السلام» صيانة وحفظاً للناس، من أن
يتوهموا أنها (أعني عائشة) بحكم كونها إمرأة، وبحكم كونها زوجة لرسول
الله
«صلى الله
عليه وآله»،
وبحكم صفاء نواياها ليست هي المسؤولة عما جرى ويجري.. بل المسؤول عنه
غيرها..
وبذلك تخرج من حرب الجمل ـ التي كانت هي التي أثارتها،
وقادتها، وأوقدت جذوتها ـ على ما كان لها من القداسة في أذهانهم، وربما
تسطيع بسبب هذه النظرة، وبمساعدة من أهل الكيد والشنآن، ولا سيما
معاوية أن تعيد الكرة، وقد تلتحق بجيش معاوية لحرب على «عليه السلام»
فتزيد الطين بلة، والخرق اتساعاً، وتنزل المزيد من المصائب والبلايا
بالأمة..
وقد رأينا:
أنه «عليه السلام» قد بدأ يركز على إضعاف موقف عائشة،
من خلال بيان المخالفات الكبيرة التي ارتكبتها، حسبما بيناه آنفاً،
لأنه «عليه السلام» كان يعرف أن تعاطف الناس معها، وانقيادهم لها هو
الذي جمع لطلحة والزبير تلك الجموع، وأوصل الأمور إلى ما وصلت إلىه..
فكان لابد من إزالة الغشاوة عن أبصار الناس، وكشف
الغطاء عن حقيقة ما يجري. ليعلم الناس أن هذه المرأة لم تكن حمامة
السلام، بل هي تمتلك من الجرأة ما يجعلها تقدم على قتل المسلمين،
واباحة دماء الصالحين.. وأن ما حصل قد كان بقرار منها، فلا مجال لأن
تدعي هي أو يدعي لها محبوها: أنها لم تكن على علم بما ستنتهي إليه
الأمور. أو أنها قد علمت، ولكنها ما رضيت..
وفي الرواية المتقدمة أيضاً:
أن الله تعالى قد أمر عائشة بالقرار بالبيوت وعدم
التبرج، وهو أمر عام..
فقد يقال إن الصلح بين المسلمين مصلحة عظمى لا تشملها
الآية العامة لجميع نساء النبي
«صلى الله
عليه وآله»..
فأردف ذلك «عليه السلام» ببيان أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
قد أصدر لعائشة أمراً خاصاً بها بالمقام في بيتها، وعدم الخروج منه بعد
وفاته، ولم تستطع هي انكار هذا الأمر، فما معنى أن تمعن في مخالفة هذا
الأمر الخاص، وذاك الأمر العام، فلا تكتفي بالخروج من المدينة وما
حولها حتى تصل إلى البصرة؟! لتقوم فيها بقتل المسلمين وخصوصاً الصالحين
منهم!!، ونهب بيت المال، والخروج على الإمام، والإخلال بنظام الإمة..
وقد أظهرت الرسالة التي حملها إليها
ابن عباس:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» كان يلاحق الاحتمالات
على اختلافها، بالرد والإبطال لكي يسحب الذرايع من يدها ويد جميع
مناوئيه، ويقول لها ولهم وللناس جميعاً: إن الأمور لا تصلحها النساء..
وقد تابع «عليه السلام» استئصال هذه الذرائع، حين أردف قائلاً: «إنك لم
تؤمري بذلك»..
لكي لا يدعي أحد بأن القول بأن هذه الأمور لا تصلحها
النساء، لا يمنع من وجود استثناء، يتجلى بصدور أمر لعائشة بالتصدي إلى
هذا الأمر بالذات، لما لها من موقع بين المسلمين، ولما لديها من حنكة
وخبرة، وما إلى ذلك..
فقرر «عليه السلام» القاعدة العامة، ثم بين أن دعوى
الإستثناء لعائشة من تلك القاعد باطلة وغير صحيحة.
ولعل قائلاً يقول:
كيف جاز لعلي
«عليه السلام» أن يحكم بعدم صدور أمر خاص من رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
لعائشة؟! فلعله
«صلى الله
عليه وآله»
أصدر هذا الأمر لها في ساعة لم يكن «عليه السلام» حاضراً فيها معهما؟!
ونجيب:
أولاً:
إن طهارته «عليه السلام» وعصمته عن الذنب تدل على أنه
«عليه السلام» كان عارفاً بعدم حصول ذلك. ولا تنحصر معرفته ذلك بحضوره
الدائم مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعائشة، إذ يمكن أن يعرفه
بإخبار رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أو بإخبار عائشة له أو لغيره
ممن يشهد عليها به..
ثانياً:
إن الذي يأتي مخالفاً للقاعدة، ويراد به حفظ الأمة من الإختلاف، لا بد
أن يعرفه الناس قبل اختلافهم لكي ينصاعوا له، ويعترفوا به..
فكيف إذا كان الإختلاف واقعاً بين من هو مثل علي «عليه
السلام» ومثل عائشة؟! فإنه لا يقبل منها مجرد أن تدعي: أن النبي أمرها
بذلك، لأنه
«صلى الله
عليه وآله»
لا يمكن أن يجعل الخصم هو الحكم..
كما لا يمكن أن يختار
«صلى الله
عليه وآله»
عائشة لتكون حكماً في أمر هي السبب فيه، ويدع علياً..
بل إن النصوص تقول:
إنه
«صلى الله
عليه وآله»
قد أخبر علياً «عليه السلام» أمام عائشة بما يكون منها تجاهه، وطلب منه
أن يرفق بها([7])،
مع أنه
«صلى الله
عليه وآله»
أخبرها بأنها ستقاتله وهي ظالمة له.
([1])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص111 الكتاب رقم 54 ومصباح
البلاغـة = = (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص165 وبحار الأنوار ج32
ص135 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص13 ونهج السعادة ج4
ص63 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص131 والإمامة والسياسة
(تحقيق الزيني) ج1 ص66 و (تحقيق الشيري) ج1 ص90 وكتاب الفتوح
لابن أعثم (ط دار الأضواء) ج2 ص465.
([2])
لعل الأولى إسقاط الفاء من كلمة: فكان.
([3])
تذكرة الخواص ص69 وراجع: كشف الغمة ج1 ص239 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج17 ص131 والفتوح لابن أعثم ج2 ص465 وراجع ص301
ومكاتيب الإمام علي «عليه السلام» للعلامة الأحمدي ج1ص 118.
وراجع: الجمل للمفيد ص169 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص152 و (ط
المكتبة الحيدرية) ج2 ص338 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني)
ج1 ص66 و (تحقيق الشيري) ج1 ص90 والمناقب للخوارزمي ص117 و 183
والسيرة الحلبية ج3 ص322 ونهج البلاغة الكتاب رقم 54 وبحار
الأنوار ج32 ص126 ـ 127 و 120 و 121 ومطالب السؤول ص213 وجمهرة
رسائل العرب ج1 ص379 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4
ص139 ونهج السعادة ج4 ص65.
([4])
الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص70 و (تحقيق الشيري) ج1
ص94 و 95.
([6])
الجمل للفيد ص314 ـ 316 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص168 ـ 169
ونهج السعادة ج4 ص67.
([7])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص334 و 335 وبحار الأنوار ج32 ص282 ـ 284
والمناقب للخوارزمي ص176 والجمل للشيخ المفيد ص230 وشرح
الأخبار ج1 ص338 والجمل لابن شدقم ص42 وكتاب الأربعين للشيرازي
ص622 والغدير ج3 ص189 والمستدرك للحاكم ج3 ص119 وكنز العمال
(مؤسسة الرسالة) ج12 ص136 ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه
ص162 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج6 ص237
وإمتاع الأسماع ج13 ص228 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص148 و 151
وينابيع المودة ج2 ص388 وسنن ابن ماجة ج2 ص827.
|