1 ـ
ولما سار أمير المؤمنين «عليه السلام» من ذي قار قدم صعصعة بن صوحان
بكتاب علي «عليه السلام» إلى طلحة والزبير وعائشة يعظم عليهم حرمة
الإسلام، ويخوفهم فيما صنعوه، وقبيح ما ارتكبوه من قتل من قتلوا من
المسلمين، وما صنعوا بصاحب رسول الله «صلى الله عليه وآله» عثمان بن
حنيف «رحمه الله» وقتلهم المسلمين صبراً، ووعظهم ودعاهم إلى الطاعة.
قال صعصعة «رحمه الله»:
فقدمت عليهم، فبدأت بطلحة وأعطيته الكتاب، وأديت
الرسالة.
فقال:
الآن، حين عضت ابن أبي طالب الحرب ترفق لنا.
ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة.
ثم جئت إلى عائشة، فوجدتها أسرع
الناس إلى الشر، فقالت:
نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان.. والله لأفعلن وأفعلن.
فعدت إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» فلقيته قبل أن
يدخل البصرة، فقال: ما وراءك يا صعصعة؟!
قلت:
يا أمير المؤمنين، رأيت قوماً ما يريدون إلا قتالك،
فقال: «الله المستعان»([1]).
2 ـ
ثم دعا عبد الله بن عباس، فقال: «انطلق إليهم، فناشدهم وذكرهم العهد
الذي لي في رقابهم».
قال ابن عباس:
فجئت، فبدأت بطلحة فذكرته العهد، فقال لي: يا ابن عباس،
والله لقد بايعت علياً واللج على رقبتي.
فقلت له:
أنا رأيتك بايعت طايعاً، أولم يقل لك علي قبل بيعتك له:
إن أحببت أن أبايعك بايعتك، فقلت: لا، بل نحن نبايعك؟!
فقال طلحة:
إنما قال لي ذلك وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم. والله
يا ابن عباس إن القوم الذين معه يغرونه، ولئن لقيناه يُسَلِّمُونه.
أما عملت يا ابن عباس، أني جئت إليه والزبير، ولنا من
الصحبة ما لنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والقدم في الإسلام،
وقد أحاط به ألفان قياماً على رأسه بالسيوف، فقال لنا يهزل: «إن
أحببتما بايعت لكما»، فلو قلنا: نعم، أفتراه كان يفعل؟! وقد بايع الناس
له، فليخلع نفسه ويبايعنا، لا والله ما كان يفعل. وخشينا أن يغري بنا
من لا يرى لنا حرمة، فبايعناه كارهين، وقد جئنا نطلب بدم عثمان.
فقل لابن عمك:
إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة فليمكنَّا من
قتلة عثمان، فهم معه، ويخلع نفسه ويرد الأمر ليكون شورى بين المسلمين،
فيولوا من شاؤوا، فإنما علي «عليه السلام» رجل كأحدنا، وإن أبى أعطيناه
السيف فما له عندنا غير هذا.
قال ابن عباس:
يا أبا محمد، لست تنصف، ألم تعلم أنك حصرت عثمان حتى
مكث عشرة أيام يشرب من ماء بئره، وتمنعه من شرب الماء الفرات حتى كلمك
عليٌّ في أن تخلي الماء له وأنت تأبى ذلك.
ولما رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله «صلى الله
عليه وآله» دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه؛ ثم بايع الناس رجلاً له من
السابقة والفضل والقرابة برسول الله «صلى الله عليه وآله» والبلاء
العظيم ما لا يدفع، وجئت أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثم
نكثتما.
فعجب والله لإقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة،
ووثوبك على ابن أبي طالب!! فوالله ما علي «عليه السلام» دون أحد منهم.
وأما قولك:
يمكنني من قتلة عثمان، فما يخفي عليك من قَتَلَ عثمان.
وأما قولك:
إن أبى علي «عليه السلام» فالسيف، فوالله إنك تعلم أن
علياً لا يخوف.
فقال طلحة:
إيهاً عنا الآن من جدالك.
قال:
فرجعت إلى علي وقد دخل البيوت بالبصرة، فقال: «ما
ورائك؟!
فأخبرته الخبر، فقال:
اللهم ﴿افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفَاتِحِينَ﴾([2]).
ثم قال:
«ارجع إلى عائشة، واذكر لها خروجها من بيت رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وخوفها من الخلاف على الله عز وجل ونبذها عهد
النبي «صلى الله عليه وآله»، وقل لها:
إن هذه الأمور لا تصلحها النساء، وإنك لم تؤمري بذلك،
فَلم ترضي بالخروج عن أمر الله في تبرجك وبيتك الذي أمرك النبي بالمقام
فيه، حتى سرت إلى البصرة، فقتلت المسلمين، وعمدت إلى عمالي فأخرجتهم
وفتحت بيت المال، وأمرت بالتنكيل بالمسلمين، وأبحت دماء الصالحين،
فارعي وراقبي الله عز وجل، فقد تعلمين أنك كنت أشد الناس على عثمان،
فما عدا مما بدا»؟! [في نسخة أخرى: فما هذا مما مضى]؟!
قال ابن عباس:
فلما جئتها وأديت الرسالة إليها، وقرأت كتاب علي «عليه
السلام» عليها قالت: يا ابن عباس، ابن عمك يرى أنه قد تملك البلاد. لا
والله ما بيده منها شيء إلا وبيدنا أكثر منه.
فقلت:
يا أماه، إن أمير المؤمنين «عليه السلام» له فضل وسابقة
في الإسلام وعظم عناء.
قالت:
ألا تذكر طلحة وعناءه يوم أحد؟!
قال:
فقلت لها: والله ما نعلم أحداً أعظم عناء من علي«عليه
السلام».
قالت:
أنت تقول هذا ومع علي أشياء كثيرة.
قلت:
اللهَ اللهَ في دماء المسلمين!!
قالت:
وأي دماء تكون للمسلمين إلا أن يكون علي يقتل نفسه ومن معه.
قال ابن عباس:
فتبسمتُ!
فقالت:
مما تضحك يا ابن عباس؟!
فقلت:
والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.
قالت:
حسبنا الله ونعم الوكيل([3]).
3 ـ
قال: وقد كان أمير المؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وإن
قدرت أن أكلمه وابنه ليس بحاضر، فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده،
ثم جئت مرة أخرى فلم أجده عنده، فدخلت عليه، وأمر الزبير مولاه سرجساً
أن يجلس على الباب ويحبس عنا الناس، فجعلت أكلمه، فقال: غضبتم إن
خولفتم! والله لتعلمن عاقبة ابن عمك!
فعلمت أن الرجل مغضب، فجعلت ألاينه، فيلين مرة، ويشتد
أخرى.
فلما سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير، وكان
عند طلحة، فدعاه، فأقبل سريعاً حتى دخل علينا.
فقال:
يا ابن عباس، دع بنيات الطريق؛ بيننا وبينكم عهد خليفة،
ودم خليفة، وانفراد واحد واجتماع ثلاثة، وأم مبرورة، ومشاورة العامة.
فأمسكت ساعة لا أكلمه، ثم قلت:
لو أردت أن أقول لقلت.
فقال ابن الزبير:
ولم تؤخر ذلك، وقد لحم الأمر، وبلغ السيل الزبى؟!
قال ابن عباس:
فقلت: أما قولك عهد خليفة، فإن عمر جعل الشورى إلى ستة
نفر، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها،
فعرض الأمر على علي وعثمان، فحلف عثمان وأبى علي أن يحلف، فبايع عثمان.
فهذا عهد خليفة..
وأما دم خليفة، فدمه عند أبيك، لا
يخرج أبوك من خصلتين:
إما قتل، أو خذل.
وأما انفراد واحد واجتماع ثلاثة، فإن الناس لما قتلوا
عثمان فزعوا إلى علي فبايعوه طوعاً، وتركوا أباك وصاحبه ولم يرضوا
بواحد منهما.
وأما قولك:
إن معكم أُماً مبرورة، فإن هذه الأم أنتما أخرجتماها من
بيتها وقد أمرها الله تعالى أن تقر فيه، فأبيت أن تدعها وقد علمت أنت
وأبوك: أن النبي «صلى الله عليه وآله» حذرها من الخروج، وقال لها: «يا
حميراء! إياك أن تنبحك كلاب الحوأب»!! وكان منها ما قد رأيت.
وأما دعواك مشاورة العامة، فكيف يشاور فيمن قد أُجمع
عليه، وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعاه طائعين غير كارهين.
فقال ابن الزبير:
الباطل والله ما تقول يا ابن عباس، ولقد سئل عبد الرحمن
بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أحسنهم عنده، وما أدخله عمر في
الشورى إلا وهو يعرفه، ولكن خاف فتقه في الإسلام.
وأما قتل خليفة، فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه
ثم قتلوه وهو في داره بلسانه ويده، وأنا معه في الدار أقاتل دونه، حتى
جرحت بضعة عشر جرحاً.
وأما قولك:
إن علياً بايعه الناس طايعين، فوالله ما بايعوه إلا
كارهين والسيف على رقابهم، غصبهم أمرهم.
فقال الزبير:
دع عنك ما ترى يا ابن عباس، جئتنا لتوفينا!!
فقال
له ابن عباس:
أنتم طلبتم هذا، والله ما عددناك قط إلا من بني هاشم في برِّك، لأخوالك
ومحبتك لهم، حتى أدرك ابنك هذا، فقطع الأرحام.
فقال الزبير:
دع عنك هذا([4]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
جاء في حديث صعصعة:
أن طلحة قال لصعصعة: الآن، وقد عضت بن أبي طالب الحرب
ترفق لنا؟!
ونقول:
لقد طاش سهم طلحة إن كان قد ظن أن علياً «عليه السلام»
يحاول أن يقنعهم بالرجوع عن قرار الحرب بداعي الخوف.. إلا إن كان يريد
طلحة بكلامه هذا: التغطية على خوفه ورعبه من علي «عليه السلام» بمثل
هذه الأساليب، فهو يسقط مشاعره وحالاته على غيره..
على أن نفس رسالة علي «عليه السلام» إليهم مع صعصعة لم
تختلف عن سائر رسائله إليهم، بل هي صورة طبق الأصل عما سبقها ولحقها،
فلا مبرر لطرح القضية بهذا النحو، إلا المكابرة، والإمعان في إيذاء
الطرف الآخر، والتجني والظلم.
جاء في حديث صعصعة وحديث ابن عباس:
أن عائشة كانت أسرع الناس إلى الشر، وكانت هي الأشد
إصراراً على الحرب، وعلى سد أبواب الحوار.. وقد تهددت علياً «عليه
السلام» بقولها: «والله، لأفعلن وأفعلن».
مع أن حديث طلحة والزبير قد جاء أقل حدة، وأكثر
اعتدالاً، فلماذا يكون خطاب المرأة التي هي زوجة من بعثه الله رحمة
للعالمين خطاب حرب، وقتل، وقسوة، ومصائب وبلايا، وكوارث ورزايا.. ويكون
خطاب الرجال الطامعين بالأموال والمناصب أكثر ليونة ومرونة؟!
ثم إن عائشة امرأة، ويفترض بالمرأة أن تكون مثال الرقة،
والحنان، والعطف، والسلام وحب السلامة.. والرجل هو الذي يمثل الخشونة،
ويفترض أن يكون خطابه خطاب القوة، والتحدي، والحرب.
وهي أيضاً أم المؤمنين، ويفترض بالأم المحبة، والاهتمام
بحفظ أبنائها، وإيثار سلامتهم، وحفظ حياتهم..
وهي أيضاً تدعي:
أنها جاءت لتصلح بين أبنائها، لا لتضرب بعضهم ببعض،
وتتولى هي قيادة فريق منهم ضد فريق آخر..
ولماذا تريد هي أن تطلب بدم عثمان، دون أبنائه وأولياء
دمه؟! وإذا كانت تريد الطلب بدمه، فلماذا كانت هي التي حكمت بكفره،
وأمرت بقتله؟!
وفي النص المتقدم برقم [2] ادعى طلحة لابن عباس، وأقسم
له على أنه بايع علياً «عليه السلام» واللج على عنقه، ظناً منه: أن ابن
عباس لم يكن حاضراً حين البيعة.. ففوجئ بابن عباس يقول له: «أنا رأيتك
بايعت طائعاً».
فابتكر تفسيراً عجيباً وغريباً
لكلامه هذا، فقال:
إنه كان قد بايع علياً «عليه السلام» قوم لم يستطع طلحة
خلافهم..
ولم نسمع مثل هذا التفسير لكلمة:
بايعت واللج على عنقي إلا من طلحة لا سيما إذا علمنا:
أن من الأمور التي لا يشك فيها أحد: أن طلحة كان أول من بايع علياً
«عليه السلام»، ولم يبايعه أحد قبله على الإطلاق.. فمن أين اخترع طلحة
هؤلاء القوم الذين تحدث عنهم؟!
يضاف إلى ذلك:
أن طلحة يعترف لابن عباس: بأن علياً «عليه السلام» قال
له: «إن أحببت أن أبايعك بايعتك»، فقال له طلحة، لا، بل نحن نبايعك.
فهل من يقول هذا يكون قد أكرههم على البيعة؟!
وحتى لو سلمنا:
أن جماعة كانوا قد بايعوا علياً «عليه السلام» قبل
طلحة، فما الذي يمنع من أن يرضى طلحة بما عرضه عليه علي «عليه
السلام»؟! فهل إذا رضي بذلك سيبادر أولئك القوم إلى مهاجمته؟!
ولو أنهم أرادوا ذلك، هل سيتركه علي «عليه السلام»
غرضاً لهم،؟! وهل سيسمح لهم بمهاجمته، أم أنه سيدفع عنه وينصره؟!
أما فيما يرتبط بما زعمه طلحة، من أنه
«عليه السلام»
قال لطلحة والزبير ـ يهزل ـ: «إن أحببتما بايعت لكما، وقد أحاط به
ألفان قياماً على رأسه بالسيوف»، فلا شك في أنه مكذوب، لما يلي:
أولاً:
لأن علياً
«عليه
السلام»
لا يرضى بأن يقوم أحد على رأسه، وشاهدنا على ذلك: أنه قد منع أصحابه من
المشي خلفه، لأن ذلك مفسدة للراكب ومذلة للماشي([5])،
ومنع دهاقين الأنبار من الترجل له([6]).
ثانياً:
كيف يمكن أن يقوم ألفان بالسيوف على رأس رجل واحد؟!
ثالثاً:
إن كان المقصود بقيامهم على رأسه: التعزُّز وإظهار
العظمة بهم، فإن هذا من الأمر العجيب والغريب لا يفعله حتى أعظم
الجبابرة في الأرض..
رابعاً:
إن كان الغرض من قيامهم على رأسه هو حراسته، فالحراسة
تتحقق بأقل من هذا العدد الهائل. إذ يكفي في ذلك بضعة رجال، أو بضع
عشرات من الرجال على أبعد تقدير.
على أن ذلك يوجب أن يكون العدو المتربص به يزيد عددهم
على عدد الذين اجتمعوا لحراسته.
خامساً:
من أين جاء الألفان لحراسته، والقيام على رأسه حين
البيعة له «عليه السلام»، والحال: أن الذين نفروا معه من المدينة لحرب
الناكثين كان عددهم لا يزيد على بضعة مئات؟!
إلا إن كان يريد أن أهل مصر والعراق والحجاز الذين
جاؤوا للاعتراض على عثمان هم الذين كانوا على رأسه.
سادساً:
لماذا لم نجد
لهذه الحالة أثراً في حياة علي
«عليه السلام»
بعد يوم البيعة. فلم يكن يقوم على رأسه لا عشرات ولا مئات في أيام
خلافته كلها؟! بل كان يطوف في الأسواق، ويأمر الناس بالالتزام
بالمقررات والأحكام. ولم يكن يصطحب معه لا الآلاف ولا المئات ولا
العشرات..
وقد ذكر طلحة:
أن علياً «عليه السلام» حين عرض على طلحة والزبير أن
يبايعهما كان هازلاً.. وقد أقسم طلحة: أنهما لو قبلا بما عرضه عليهما،
فإنه لم يكن ليفعل، وقد بايع الناس له..
ويقال لطلحة:
أولاً:
من أين علما أنه كان هازلاً، فإنها مجرد دعوى، يدفعهم
إليها سوء الظن به، ويراد بها التحامل عليه.
ثانياً:
من أين علما أنه لم يكن ليفعل ما عرضه عليهما؟! فإنه
رجم بالغيب، وتكهن لا مبرر له..
ثالثاً:
إذا كان طلحة والزبير يعلمان: أنه «عليه السلام» لا
يخلع نفسه ويبايعهما من أول الأمر، لأن البيعة له قد تمت.. فهل هو سوف
يخلع نفسه الآن، ويرجع الأمر شورى.. وبعد أن جاءته البيعة من جميع
الأقطار أرسل ولاته الأمصار في طول البلاد الإسلامية وعرضها؟! وبعد أن
صار معه مقاتلون، وجيش.
وما الذي تغير الآن عليه ليفعل ذلك.. سوى أنه أصبح لديه
من الحجج والدواعي للتمسك بالأمر أضعاف ما كان، فبالإضافة إلى النص
عليه من الله ورسوله، والإجماع على بيعته، فإن الذين يطالبونه بخلع
نفسه، قد ارتكبوا العظائم والجرائم، فنكثوا البيعة، ونقضوا العهد،
وقتلوا المئات من الأخيار، ونهبوا بيت المال و.. و.. الخ..
وأصبح تنازله عن هذا الأمر من الجرائم والعظائم، لأنه
تفريط بمستقبل هذا الدين، وخيانة للأمة، وتوطئة لتسلط الجبارين
الناكثين، والقتلة للعباد والصالحين، والساعين في البلاد بالفساد..
وقد أعلن ابن عباس:
أن ادعاء طلحة أن قتلة عثمان مع علي «عليه السلام» غير
صحيح، وأن طلحة يكابر في ذلك، ويدعي ما يعلم بطلانه..
ومأخذ كلام ابن عباس واضح..
فأولاً:
إن طلحة كان
هو الذي حاصر عثمان، ومنعه من شرب الماء.. وعلي
«عليه السلام»
هو الذي حاول إقناع طلحة بأن يخلي الماء لعثمان، وأرسل ولديه الحسن
والحسين «عليهما السلام» للدفاع عنه.. وهذا لا ينسجم مع كون علي
«عليه السلام»
يحمي قتلة عثمان.
ثانياً:
إن طلحة كان يعلم: أن المصريين هم الذين قتلوا عثمان([7])،
وكان طلحة هو الذي مهد لهم السبيل وشجعهم على قتله.. وقد قتل طلحة
والزبير ست مئة من أهل البصرة الذين لم يكونوا قد التحقوا بجيش علي
«عليه السلام» بحجة أنهم من قتلة عثمان..
فما معنى أن يدعي طلحة:
أن قتلة عثمان مع علي «عليه السلام»؟!
وقد ادعت عائشة:
أن شيئاً من البلاد لم يكن في يد علي «عليه السلام» إلا
وبيدها أكثر منه، وهذا غير مقبول..
أولاً:
متى باهى علي
«عليه
السلام»
بتملكه البلاد، وتسلطه على رقاب العباد، أو ذكر ذلك لأحد من الناس؟!
ولنفترض:
أنه قد فعل
ذلك، فإنه لم يكن بالأمر الحرام.. في حين أنه
«عليه السلام»
يطالبها بالإقلاع عن فعل محرم ترتكبه، والالتزام بواجب تركته. وأمور
عديدة ذكرها ابن عباس..
ثانياً:
إنه لم يكن في يد عائشة وطلحة والزبير سوى ما استوليا
عليه في البصرة، وانضمام جماعات من الناس إليهم لا يعني أن تصبح البلاد
بيدهم كما هي في يد علي «عليه السلام»..
وحتى لو كانت عائشة تعتبر الشام التي كانت لا تزال في
يد معاوية، أنها في يدها، فإنها تبقى بعيدة عن اللحاق بعلي في هذا
المضمار. فضلاً عن أن يكون بيدها أكثر مما بيده..
ولست أدري كيف نفسر مقايسة عائشة عناء طلحة في أحد
بعناء علي «عليه السلام»!! والحال: أن طلحة كان من الفارين في أحد
كسائر الصحابة، وعلي «عليه السلام» هو الذي ثبت ودافع عن رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
ومع غض النظر عن ذلك، فإن ابن عباس قد رد دعوى عائشة،
وأقسم أنهم ما يعلمون أحداً أعظم عناءً من علي «عليه السلام»..
ولست أدري لماذا لم تذكر عائشة أن علياً «عليه السلام»
هو الذي دافع عن الإسلام، مع فرار طلحة والمسلمين أيضاً في خيبر وحنين،
وذات السلاسل وسواها؟! ولماذا نسيت خيبر والخندق، وبدراً وغيرها؟!
والمدهش حقاً:
أن نرى عائشة تستهين ـ علناً ـ بدماء المسلمين، حيث
قالت لابن عباس: وأي دماء تكون للمسلمين؟! إلا أن يكون علي يقتل نفسه
ومن معه!!
ولكن الظاهر هو:
أن عائشة كانت قد تجاوزت هذا الأمر، لأنها كانت قد سارت
إلى البصرة وقتلت المسلمين، وأمرت بالتنكيل بهم، وأباحت دماء
الصالحين.. كما قال لها ابن عباس. فلم تعد تشعر بأهمية ذلك وخطره.
لأنها قد اعتادت على ممارسة الفعل، فهل تحاذر من وصفه أو من ذكره؟!
وذكر ابن عباس:
أن علياً «عليه السلام» أوصاه أن يكلم الزبير حين لا
يكون ابنه عبد الله حاضراً..
وهذا يشير:
أولاً:
إلى حرصه
«عليه
السلام»
على درء الفتنة، وتفادي الحرب، وما تحمله من ويلات ومصائب للناس، ومن
تعميق للانقسام في الأمة..
وثانياً:
إنه يعطينا درساً في الحكم، والسياسة، مفاده: أن على
الحاكم أن يكون بصيراً بأحوال الناس، عارفاً بالمؤثرات التي تسوقهم إلى
بعض المواقف، أو تزيد من تشبثهم بها..
ثالثاً:
إن عليه أيضاً: أن لا يكون همه هو البطش بعدوه، حتى لو
كان عدوه يستحق ذلك، بل يجب أن يصرف همه إلى معالجة الأمور بالحسنى،
واعتماد الخيارات التي تحد من الخسائر حتى في جانب عدوه الذي خدع السذج
والبسطاء، أو ربط مصيرهم بمصيره. مع اختلاف النظرة، والدافع والفهم
للأمور لدى الأطراف التي وضعت نفسها في موقع العدو، وربطت مصيرها بمصير
الناكثين الذين لا يؤمنون على أرواح الناس، ولا على دين ولا على دنيا..
وقول ابن الزبير لعبد الله بن عباس:
«دع بنيات الطريق» قد جاء على سبيل التمويه، وقلب
الحقائق.. فإن بنيات الطريق هي الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة. وهي
الترهات. ومنه المثل: «دع بنيات الطريق» أي عليك بمعظم الأمر، ودع
المراوغات([8]).
ومن الواضح:
أن ابن الزبير هو الذي كان يراوغ، ويسعى لتمويه
الحقائق، واللجوء للترهات، وكان ابن عباس يعيده إلى الجادة، كما أظهره
الحوار الذي دار بينهما في نفس هذا المورد..
ولعل مراد ابن الزبير:
أن ابن عباس كان يحاول أن يثني الزبير عن عزمه على
الحرب. وهذا ما كان يرفضه ابن الزبير بشدة، ويعتبر أن السعي إليه نوع
من المراوغة واللجوء إلى الترهات والأباطيل..
ولعل السبب عنده هو:
أن العدول عن الحرب يحمل معه بقاء علي «عليه السلام» في
موقعه، وأن الزبير وطلحة لم يحققا رغباتهما ولم يصلا إلى ما كانا
يتمنيانه. وهذه نكسة كبرى لا يرضى ابن الزبير بها.. لأنها تضيع عليه
فرصاً كثيرة، ومنها فرصة التشفي بمن كان يغلي صدره بالحقد عليهم.
وحوار ابن عباس مع ابن الزبير يشير:
إلى أن ابن عباس كان يتمتع بحنكة بالغة، وحكمة وسداد
رأي.
وقد تضمن كلامه أموراً نذكر منها على سبيل المثال:
1 ـ
إنه «رحمه الله» لم يصرح بما حلف عليه عثمان يوم
الشورى. بل أبقى الأمر في دائرة الاحتمال والإبهام، ولكنه:
أولاً:
ألمح إلى أن
عثمان قد أقدم على أمرٍ لم يكن علي
«عليه السلام»
يجيز لنفسه الإقدام عليه تحرجاً منه وتورعاً.
ثانياً:
قد بين أن عبد الرحمان بن عوف قد وضع شروطاً للبيعة،
وساومهم عليها..
ثالثاً:
إنه قد راعى بذلك مشاعر الأنصار الحقيقيين لعثمان.
وميزهم عن الناكثين، لكي لا يتمكنوا من ضمهم إليهم. وهذا يتوافق مع ما
ألمح إليه أمير المؤمنين «عليه السلام» في بعض مواقفه.
2 ـ
إن ابن عباس قد نسب إلى أصحاب الشورى أنفسهم: أنهم
فوضوا ابن عوف، وأعطوه أمر البت في الخلاف بين أصحاب الشورى، مع أن عمر
نفسه هو الذي جعل له هذا الدور..
ولعله أراد:
أن يتحاشى إثارة حفيظة أنصار ومحبي عمر بن الخطاب،
بوضعه له في دائرة الاتهام بتدبير الشورى على مقياس شخص بعينه..
3 ـ
إنه «رحمه الله» لم يترك لابن الزبير مجالاً لإنكار
مشاركة أبيه في قتل عثمان، فإنه إما قتل أو خذل. وهذه حقيقة لم يتمكن
من الخروج منها. فلجأ إلى الادعاء الباطل والذي لا يوافقه أحد عليه إلا
أبوه ومن معه من الناكثين والطامعين.. وهو: أن علياً «عليه السلام» قد
كتب إلى الآفاق حتى قدم الناس المدينة، فقتلوا عثمان..
وهو كلام رغم أن الناس يعرفون أنه مكذوب ومختلق، وأنه
لم يصدر إلا عن ابن الزبير، إلا أنه تضمن الاعتراف بأن علياً «عليه
السلام» لم يقتل عثمان، بل قتله الذين قدموا من الآفاق.. وبذلك تظهر
براءة عمار وأبي الهيثم ابن التيهان.. وقيس بن سعد، وسائر أصحاب علي
«عليه السلام» في المدينة من دم عثمان..
4 ـ
إنه «رحمه الله» قد قرر: أن الإجماع قد انعقد على بيعة
أمير المؤمنين «عليه السلام»، وأن الناس قد بايعوه طوعاً. وأنهم لم
يرضوا بالزبير ولا بطلحة.
وأنه لا موضع لمشاورة الناس، الذين أجمعوا عليه..
كما أنه «رحمه الله» قد وضع ابن
الزبير أمام حقيقة:
أن أباه وطلحة قد بايعاه طائعين غير كارهين.. وأنه يعلم
ذلك..
ولم يجد ابن الزبير سبيلاً لرد هذا الكلام إلا
المكابرة، وقلب الكلام رأساً على عقب، مع أن شريكهم طلحة يعترف: بأن
علياً «عليه السلام» قد عرض عليه وعلى الزبير البيعة لهما. وإن كان قد
ادعى أنه عرضها بعد أن بايعه قوم لا يستطيع خلافهم.. ومعنى ذلك: أن
علياً «عليه السلام» لم يجبره، ولم يكن اللج في عنقه، ولا كان السيف
مصلتاً على رأسه كما يدعيه ابن الزبير.
5 ـ
والأهم من ذلك: أن ابن عباس رغم أنه أدان عائشة، بأنها
قد خالفت تحذير رسول الله «صلى الله عليه وآله» لها من الخروج، ومن نبح
كلاب الحوأب لها. فخرجت ونبحتها كلاب الحوأب، ولم تتراجع.. فإنه قد
تلافى استغلال إدانته لعائشة، وتحريك العوام ضده حين بدأ كلامه، ببيان:
أن ابن الزبير نفسه، ومن معه هم الذين أخرجوها من بيتها الذي أمرها
الله تعالى أن تقر فيه..
مع العلم:
بأن ذلك لا يجدي في التخفيف من مسؤوليتها تجاه أمر الله
تعالى، ولا يعفيها من لزوم تحذير النبي «صلى الله عليه وآله» لها من
الدخول في هذا الأمر، فقد كان عليها أن تطيع الله ورسوله «صلى الله
عليه وآله»، لا طلحة ولا الزبير، ولا عبد الله بن الزبير..
وهناك أمور أخرى تضمنتها النصوص المتقدمة قد عرضنا لها
في مواضع مختلفة من هذا الكتاب، فلا حاجة إلى التكرار.
([1])
الجمل للمفيد ص313 و 314 و (مكتبة الداوري ـ قم) ص167.
([2])
الآية 4 من سورة المنافقون.
([3])
الجمل ص315 و 317 و (مكتبة الداوري ـ قم) ص168 و 169.
([4])
الجمل ص317 و 318 و (مكتبة الداوري ـ قم) ص170 و 171. وقال في
هامشه: قارن بالعقد الفريد ج4 ص314 ونثر الدر ج2 ص105 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج2 ص169.
([5])
بحار الأنوار ج41 ص55 وج73 ص299 وج75 ص47 والكافي ج6 ص540
والمحاسن للبرقي ج2 ص629 وتحف العقول ص209 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج11 ص494 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص362 ومشكاة
الأنوار ص364 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص465 والإمام علي بن أبي
طالب للهمداني ص598.
([6])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص10 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص310 و
(ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص372 وبحار الأنوار ج32 ص397 وج41 ص55
وراجع ص58 وج72 ص62 وحلية الأبرار ج2 ص260 وجامع أحاديث الشيعة
ج16 ص26 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص281 والإمام علي بن أبي طالب
للهمداني ص599 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3 ص286 وج4 =
= ص114 وج7 ص223 وج10 ص267 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج18 ص156.
([7])
راجع: تذكرة الخواص (ط الحيدرية ـ النجف الأشرف) ص64 وتاريخ
خليفة بن خياط ص176.
([8])
أقرب الموارد ج1 ص63 مادة: بنو.
|