موقف علي
بعد إجماعهم على حربه:
قالوا:
وبلغ أمير المؤمنين «عليه السلام» لغط القوم واجتماعهم
على حربه، فقام في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي،
ثم قال:
أيها الناس، إن طلحة والزبير قدما البصرة.. وقد اجتمع
أهلها على طاعة الله وبيعتي، فدعواهم إلى معصية الله تعالى وخلافي، فمن
أطاعهما منهم فتنوه، ومن عصاهما قتلوه.
وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم، وقتلهم
السبابجة، وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم، وقد كشفوا الآن
القناع وأذنوا بالحرب، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم.
وقد أرعد وصاحبه وأبرقا، وهذان أمران معهما الفشل،
ولسنا نريد منكم أن تلقوا بطون ما في نفوسكم عليهم، ولا تروا ما في
أنفسكم لنا، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر.
وقد خرجوا من هدى إلى ضلال، ودعوناهم إلى الرضا، ودعونا
إلى السخط، فحل لنا ولكم ردهم إلى الحق والقتال، وحل لهم بقصاصهم
القتل، وقد والله مشوا إليكم ضراراً، وأذاقوكم أمس من الجمر، فإذا
لقيتم القوم غداً فاعذروا في الدعاء، وأحسنوا في التقية، واستعينوا
بالله، واصبروا إن الله مع الصابرين([1]).
فقام إليه حكيم بن يساف حتى وقف بين يديه وقال:
أبـا حسن أيقـظـت من كان
نائمـاً ومـا كل من يدعى إلى الحق يسمع
وما كل من يعطى الرضا يقبل الرضـا
ومـا كـل مـن أعـطـيته الحق يقنع
وأنت امرؤ أعطيت من كل وجهـة
محـاسـنـهـا والله يـعـطـي ويـمنع
ومـا مـنـك بـالأمـر المـؤلم غـلظـة
ومـا فـيـك للمرء المخالف مطمع
وهذا البيت في هامش الفتوح ج2 ص303 هكذا:
فـما فـيـك للـمـرء المسـالم غـلظة
ولا فـيـك لـلـخصم (...) مطمع
وإن رجــالاً بـايعـوك وخـالفـوا
هداك وأجروا في
الضـلال فضيعوا
وفي هامش الفتوح:
...
وأجــروا في الضــلال وأوضعـوا
لأهـل لتجـريـد الصوارم فيهـم
وسمر العـوالي والـقـنـا تـتـزعزع
فإني لأرجو أن تـدور عـلـيـهم
رحى الموت حتى يسكنوا ويصرعوا
وطـلـحـة فـيـهـا والزبير قرينه
ولـيس لمـا لا يــدفــع الله مــدفع
فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقة
وإن
يرجعا عن تلك فالسلم أوسع
ومـا بـايـعـوه كارهـين لـبـيعـة
وما بسطت منهم
إلى الكره إصبـع
ولا بـطـيا عنها فراقاً([2])
ولا بدا
لهـم أحـد بـعـد الـذيـن تجمعــوا
عـلى نقضها ممن لــه شد عقدها
فـقـصـراهـما
مـنـه أصـابـع أربع
خـروج بـأم المـؤمنـين وغدرهم وعتب
على من
كان في القلب (الحق) أشجع
وذكـرهم قتل ابن عفان خـدعة
وهـم
قـتـلــوه والمـخــادع يخدع
فـعــود عـلي نـبـعـة هــاشمية
وعـودهمـا
فيما هما فيه (خروع)([3])
الخروع: لين المفاصل..
ونقول:
إن علياً «عليه السلام» لم يزد في كلامه هنا على تقرير
حركة الواقع من دون أي تصرف فيه، وهذه هي طريقته «عليه السلام» في
مختلف الأوضاع والحالات.. كما أنه لم يغير ولم يبدل في حججه وبيناته..
ولم يتمكنوا من إخراجه عن طريقته هذه، وإدخاله في
مواضيع جانبية، وتفاصيل جزئيات من شأنها أن تقلل من وهج الحجة الأساس
التي لم يزل يواجههم بها..
وقد بيَّن لنا «عليه السلام»:
أن سياسة الناكثين تقوم على وضع الناس أمام خيارين: إما
الطاعة لهم، أو القتل..
وهذه السياسة المفعمة بالإذلال والتجني، لا يمكن أن
تدوم، دون أن ترتد وبالاً على أصحابها، لأنها تتناقض مع فطرة الناس،
ومع طبائعهم، ومع طموحاتهم..
كما أنها لا بد أن تسفر عن كوارث هائلة، وجروح عميقة في
الروح، وانتهاك للوجدان الاجتماعي، ثم عن اختلالات خطيرة في البنية
الاجتماعية بصورة عامة.
ولا تقتصر هذه الآثار على الفئة التي حل فيها القتل،
لرفضها الخضوع والخنوع، بل هي ستسري ـ بنحو أو بآخر ـ حتى إلى الفريق
الذي يسير في ركاب الجناة أيضاً، حين يقونه طعم ذل التبعية، ومرارات
العنجهيات الظالمة، والآثار التدميرية لفقدان الموازين، واختلال
المعايير، وغياب القيم في السياسة والسلوك، والتعامل بصورة عامة..
فإنها أمور لا بد منها حتى للمجتمعات التي تنقاد للأهواء والغرائز..
فإن انقيادها هذا إنما تريده لتلبية حاجاتها الشخصية، ولكنها حين
تتصادم مع رغبات وحاجات الآخرين.. وحيث تكون في موقع الضعف أمامها،
فإنها لا تجد أمامها إلا اللجوء إلى القيم التي كانت هي أول من انتهكها
وأسقطها..
وقد ذكر «عليه السلام» للناس بعض أفاعيل الناكثين، فذكر
أنهم قد دعوا الناس إلى معصية الله ونكث البيعة، وأنهم قتلوا حكيم بن
جبلة، والسبابجة. وذكر تنكيلهم بعثمان بن حنيف، وإعلانهم الحرب على
إمامهم، وقيامهم بالشتم له وبالطعن في أديان الناس. وهذه مسألة بالغة
الدقة والحساسية عند الله تعالى وعند الناس.
وقد روى يونس بن يعقوب عن أبي عبد
الله «عليه السلام» أنه قال:
ملعون ملعون من رمى مؤمناً بكفر، ومن رمى مؤمناً بكفر،
فهو كقتله([4]).
وعن النبي «صلى الله عليه وآله»
أيضاً:
ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر، فهو كقتله([5]).
2 ـ
عن جابر، عن أبي جعفر «عليه السلام»: ما شهد رجل على
رجل بكفر قط إلا باء به أحدهما، إن كان شهد [به] على كافر صدق، وإن كان
مؤمناً رجع الكفر عليه، فإياكم والطعن على المؤمنين([6]).
3 ـ
وفي حديث الأربع مائة: إذا قال المؤمن لأخيه «أفٍ»
انقطع ما بينهما، فإذا قال له: أنت كافر كفر أحدهما([7]).
وهذا جرم آخر يضاف إلى جرائم طلحة والزبير.
وحول الإرعاد والإبراق نقول:
1 ـ
إن كثرة الضجيج، وتعلية الأصوات، والإرعاد والإبراق
بهدف التهديد والوعيد، يشير إلى إرادة إعطاء شحنة قوة، لمن يفعل ذلك،
ليتشجع، وليقدم على أمرٍ يُحسُّ من نفسه الضعف عن مواجهته أو عن القيام
به، وربما يضاف إلى ذلك: محاولة إلقاء الرعب في قلب العدو، من خلال
الأصوات القاصفة، والأضواء الخاطفة وفق ما يوحي به التعبير بالإرعاد
والإبراق..
2 ـ
فإذا حصل الاشتباك بين الخصمين في مثل هذه الحال، فإن
هذه الأصوات ستصبح مشتركة بين الفريقين، حيث يختلط الحابل بالنابل..
ولا يبقى لها على من صدرت منه سوى الأثر السلبي الذي يتمثل بانشغاله
بإطلاقها عن التفكير في كيفية ووسيلة قهر عدوه، وطرائق الإيقاع به
وكيفيات التحرز منه.. فتمكن عدوه منه، وتدور الدائرة عليه.. حيث يجد
العدو المترصد الفرصة ليستنفر كل قواه العقلية والمادية للإيقاع به،
حين يراه منشغلاً بالإرعاد والإبراق من غير طائل..
3 ـ
وقد زعم الأصمعي: أنه لا يقال إلا رعد وبرق.
فاحتجوا عليه بقول الكميت:
أرعــد
وأبـــــرق يــــا يـــــز
يـــد فــــما وعيــدك لي بضــائر
فقال:
الكميت قروي، لا يحتج بقوله([8]).
وكلام أمير المؤمنين «عليه السلام» هنا يكذب قول
الأصمعي ولا يبقى له مجالاً للمكابرة، والتنصل.
4 ـ
والإرعاد والإبراق هو الضوضاء والجلبة قبل إيقاع الحرب،
وهي أمارة الجبن والعجز. والصمت والسكون أمارة الشجاعة. وقد قال علي
«عليه السلام» لأصحابه: أميتوا أصواتكم، فإنه أطرد للفشل([9]).
وروي:
أن أبا طاهر الجبائي قائد القرامطة كان في ألف وخمسمائة
مقاتل، والمقتدر في عشرين ألفاً، فسمع أبو طاهر جلبة في جيش المقتدر،
فقال لبعض أصحابه: ما هذا الزجل؟!
قال:
فشل.
قال:
أجل.
وكانت له الغلبة([10]).
وقد استدل «عليه السلام» هنا بهذه الأمارة على الفشل.
ولعل الناس أخذوها عنه، واستفادوها منه.
ويقال:
إنه ما رؤي جيش كجيش أبي طاهر، ما كان يُسمع لهم صوت،
حتى إن الخيل لم تكن لها حمحمة([11]).
5 ـ
أما قوله «عليه السلام»: لسنا نرعد حتى نوقع، فيريد به:
أنه لا يتوعد بما لم يقع، بل هو يوقع بهذا العدو أولاً، ثم يهدد عدوه
الآخر بما أوقعه في عدوه الأول. فتكون دعوى شاهدها معها.
أو أنه يريد أن يتعامل مع الأمور بصورة طبيعية، فيكون
نفس إيقاعه بعدوه هو الإرعاد الذي يوصل إلى ذلك العدو حقيقة ما يتوعد
به. ليعرف أن تماديه في العدوان وفي العداء سينتج له هذا الذي عاينه.
ولا يترك عدوه في دائرة التخيل الساذج الذي لا يعبر عن الواقع كما هو..
ويكون «عليه السلام» قد صور بدقة وأمانة الفارق بين
هاتين السياستين، اللتين تميزان أهل الحق عن أهل الباطل، فلا بد من
ملاحظة ذلك..
6 ـ
أما قوله «عليه السلام»: ولا نسيل حتى نمطر، فيريد به:
أن الناكثين يظهرون أنفسهم كأنهم يقدرون على إحداث السيل قبل أن يأتي
المطر. فهم يدَّعون ما ليس فيهم، وما لا واقع له. أما علي «عليه
السلام»، فيجري الأمور على طبيعتها، فإن كان هناك مطر كان سيل.
وهذا أيضاً يشير إلى سياستين
متباينتين:
يعتمد أهل الحق إحديهما، ويعتمد أهل الباطل الأخرى.
7 ـ
وتذكرنا كلمة أمير المؤمنين «عليه السلام» هنا بما كان
يوم بدر، فبعد أن عبأ النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه قال لهم: غضوا
أبصاركم، ولا تبدأوهم بالقتال، ولا يتكلمن أحد([12]).
فجال أحدهم بالمسلمين، ليعرف إن كان لهم مدد أو كمين،
ثم رجع إلى المشركين، وقال: «ما لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب
حملت الموت الناقع. أما ترونهم خرساً لا يتكلمون؟! يتلمظون تلمظ
الأفاعي، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم. وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا
يقتلون حتى يقتل بعددهم»([13]).
مما يعني:
أن لهذا السكوت رهبته، وللسكون والغموض الذي لا يدرى ما
يأتي بعده من مفاجآت تأثير قوي في نفوس الأعداء، وزعزعة ثقتهم بأنفسهم
وبقدارتهم، وهو يطلق العنان لمخيلتهم لتجوب الآفاق، ولتعرف المزيد من
المبهمات والغوامض، التي ترفع من مستوى توقعاتها للمفاجآت، وتزيد من
همومها وشجونها..
فالخطة الحكيمة والسليمة: هي تلك التي لا تعطي أية
إشارة لطبيعة المواجهة التي ستخوضها، ولا تشي بأي شيء مما تريد أن
تواجه العدو به.
1 ـ
لم يكن «عليه السلام» بصدد شتم خصومه حين، وصفهم: بأنهم
خرجوا من هدى إلى ضلال، بل كان يريد أن يحذر الناس من واقع عيني
يواجههم، يرون أنفسهم أمامه، ويحتمّ عليهم أن يختاروا أحد موقعي الهدى
والضلال، ليضعوا أنفسهم فيه..
ومن الواضح:
أن الهدى هو ذلك النهج الذي يرضاه الله ورسوله، وأن
الضلال هو الموقع الآخر..
والذي يرضي الله:
هو الوفاء بالبيعة، وحفظ نظام الأمة، وإدانة العدوان،
والعمل على ردع المعتدي عن عدوانه، والتزام الحق، ومجانبة الباطل ودرء
الفتنة.. وذلك كله السمة الظاهرة لنهج علي «عليه السلام»، وما عداه فهو
ضلال..
وهذا يعني:
أنه لا بد للناس من التمسك بهذا النهج، وعدم الخروج منه
وعنه.
2 ـ
ويستطيع كل إنسان أن يتلمس الهدى والضلال في طبيعة
الدعوة التي يسمعها من هنا وهناك.. فإذا سمع علياً «عليه السلام» يدعو
الناس إلى الرضا بالحق، والعمل به، وسمع الناكثين يدعون الناس إلى عدم
الرضا بالحق، وإلى محاربته ونبذه ونقضه، فإنه سيميز بين الفريقين،
ويعرف من هو على الهدى من الذي يكون على ضلال..
فظهر:
أن المراد بالرضا الذي دعاهم «عليه السلام» إليه: هو
الرضا بالحق.. والمراد بالسخط الذي دعا الناكثون الناس إليه: هو سخط
الحق ورفضه..
3 ـ
وبعد أن عرفنا: أنهم خرجوا من هدى إلى ضلال، وعرفنا:
أنهم يدعون الناس إلى ضلالهم هذا.. ثم عرفنا ثالثاً من خلال حركتهم
العملية ما نميز به حالهم، ويوقفنا على طبيعة ومآل دعوتهم، تأتي
النتيجة الطبيعية، وهي بلورة تكليف شرعي وعقلي، باستبدال حرمة التعرض
لهم بحكم جواز ردهم إلى الحق. وثم استبدال حرمة قتالهم، ليصبح قتالهم
حلالاً أو واجباً.
4 ـ
وقد جعل «عليه السلام» الحكم بحلية إرجاع الناكثين إلى
الحق، وجواز قتالهم على عاتقه هو «عليه السلام» ومن كان يخاطبهم..
فإن وجوب رد الداعي إلى الباطل واجب على الأمة كلها، من
أي فريق كانوا، وإلى أي جهة انتموا.
5 ـ
ثم ذكر «عليه السلام» أن حكم القتل ثابت للناكثين
قصاصاً لهم بمن قتلوهم ظلماً، مثل حكيم بن جبلة، والسبابجة وغيرهم..
وهذا هو ما فهمناه من خلال ملاحظة قرائن الأحوال من قوله «عليه
السلام»: «وحل لهم بقصاصهم القتل»، فالمعنى ـ إن لم يكن في العبارة
تصحيف أو تحريف ـ: أنه قد حل إيقاع القتل بهم وعليهم بسبب القصاص الذي
أوجبه الشرع الشريف.
وقد أكد «عليه السلام» ثبوت حكم
القتل لهم قصاصاً بقوله:
«قد والله مشوا إليكم ضراراً، وأذاقوكم أمسّ من الجمر».
وكان علي «عليه السلام» يريد أن يقلل من حجم الخسائر
قدر الإمكان، ولو أمكنه أن يدفع الحرب، لكان ذلك غاية ما يتمناه..
ولأجل ذلك:
لم يصدر أوامره للناس بمهاجمة الناكثين وقتلهم، رغم أنه
قد أوضح لهم: أنهم يستحقون ذلك.. بل أمر الناس: بأن يغدوا على الناكثين
في دعوتهم إلى الانصراف عن الحرب، والعمل على درء الفتنة.
ولكنه لم يعط أية إشارة إلى العفو عنهم إن فعلوا ذلك..
ربما لأنه كان يعلم بأنهم سيصرون على الحرب، وربما لأن الاقتصاص من
الجاني، أو العفو عنه لايعود إليه، وإنما هو لأولياء المقتولين بالدرجة
الأولى.
ويبقى أمر إفسادهم في الأرض، وانتهابهم بيت مال
المسلمين، وإخافتهم الآمنين وغير ذلك من موبقات ومآثم، فإن الأمر فيها
يرجع إليه، وهو المسؤول عن معالجة الأمور، وإصلاح الأحوال وفق ما يرضي
الله سبحانه وتعالى..
وقد أمر «عليه السلام» أصحابه:
بأن يحسنوا في التقية، ولعل مراده «عليه السلام»: لفت
نظرهم إلى أن المطلوب: هو أن لا يمعنوا في عدائهم للناس، حتى لو كانوا
خارجين على إمامهم، ناكثين لبيعتهم، قاتلين للنفس المحترمة، مرتكبين
للعظائم والجرائم.. فلا يتجاوزوا حدود التقية، بأن يظهروا من مساوئ
الآباء، ومن مساوئ أفعال الأبناء، ما يجب التكتم عليه، وصرف النظر
عنه.. فلا يعيِّرونهم ـ مثلاً ـ بما فعله أبو بكر بفاطمة الزهراء
«عليها السلام»، لمجرد كونه أباً لعائشة التي جاءت لحربهم وقتلهم، كما
أن عليهم أن يصرفوا النظر عن ذكر بعض ما يعرفونه عن عائشة في معاملتها
للرسول «صلى الله عليه وآله»، أو ما حاولت أن تكيد به علياً «عليه
السلام» والزهراء وأهل البيت «عليهم السلام»، أو غير ذلك مما يرويه
الناس. بل عليهم أن يقتصروا على الحجة القاطعة التي يدرك معناها
ومغزاها، ويتقبل مضمونها سائر الناس..
والتقية قد تتحقق بأساليب صحيحة وصافية، ومن دون أية
آثار سلبية، وقد تحصل بطريقة تسيء إلى الحق وأهله، كما لو أوجبت
المبالغة فيها: أن يفهم الناس خطأً: أن الباطل هو الحق، وأن الحق هو
الباطل.. كالمبالغة في إظهار قداسة عائشة إلى حد يتوهم معه بعض الناس:
أن مخالفاتها للشرع عبادة، وأن قتلها للمؤمنين صلاح وفلاح، وأن بغضها
لعلي «عليه السلام» طاعة لله.. ونحو ذلك..
قال أبو حنيفة الدينوري:
أقام علي «عليه السلام» ثلاثة أيام يبعث رسله إلى أهل
البصرة، فيدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة، والدخول في الجماعة، فلم يجد
عند القوم إجابة([14]).
وقالوا أيضاً:
ثم إن أمير المؤمنين «عليه السلام» أنظَر الناكثين
وأنذرهم ثلاثة أيام ليكفوا ويرعووا، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام
في أصحابه، فقال:
عباد الله، انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم،
فإنهم نكثوا بيعتي، وقتلوا شيعتي، ونكلوا بعاملي، وأخرجوه من البصرة
بعد أن آلموه بالضرب المبرح، والعقوبة الشديدة. وهو شيخ من وجوه
الأنصار، والفضلاء، ولم يرعوا له حرمة، وقتلوا السبابجة رجالاً صالحين.
وقتلوا حكيم بن جبلة ظلماً وعدواناً، لغضبه لله تعالى، ثم تتبعوا شيعتي
بعد أن هربوا منهم، وأخذوهم في كل غائطة [حائط]، وتحت كل رابية، [ثم
يأتون بهم، فـ] يضربون أعناقهم صبراً ما لهم ﴿قَاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾([15]).
فانهدوا إليهم عباد الله، وكونوا أسوداً [أشداء] عليهم،
فإنهم شرار، ومساعدوهم على الباطل شرار، فالقوهم صابرين محتسبين،
موطنين أنفسكم أنكم منازلون، ومقاتلون، [منازلوهم، ومقاتلوهم] قد وطنتم
أنفسكم على الضرب والطعن ومنازلة الأقران.
[وفي نص الإرشاد:
الطعن الدعسي، والضرب الطلخفي، ومبارزة الأقران].
فأي امرئ أحس من نفسه رباطة جأش عند الفزع، وشجاعة عند
اللقاء، ورأى من أخيه فشلاً أو وهناً، فليذُّب عنه ـ أي عن أخيه الذي
فضله الله عليه ـ كما يذُّب عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله.
فقام إليه شداد بن شمر العبدي، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال:
«أما بعد، فإنه لما كثر الخطاؤون، وتمرد الجاحدون،
فزعنا إلى آل نبينا الذين بهم ابتُدينا بالكرامة، وهدينا من الضلالة،
اِلزموهم رحمكم الله، ودعوا من أخذ يميناً وشمالاً، فإن أولئك في
غمرتهم يعمهون، وفي ضلالهم يترددون»([16]).
ونقول:
لا بأس بملاحظة الأمور التالية:
إنه «عليه السلام» أنظر الناكثين ثلاثة أيام، ليكفوا
ويرعووا، رفقاً بهم، وإحساناً إليهم، ولدفع أية شبهة تقوم على أساس
ترجيح إعطاء المهلة لهم، إستناداً إلى أن من الجائز أن يجد الإنسان
نفسه في محيط حماسي، فيندفع للإعلان عن مواقف حادّة وجريئة، حتى إذا
هدأت الأصوات، وأخلد الإنسان للراحة في الخلوات، وعادت الأمور إلى
طبيعتها، وتقلّب في الأحوال المختلفة: من نوم ويقظة، وتعب وراحة، وفراغ
وشغل، وما إلى ذلك، فإنه يعيد النظر في حساباته وفي مواقفه وقراراته،
فيقلم، ويطعم، ويزيد، وينقص، ويلغي، ويؤكد..
إلى آخر ما هنالك مما يجد فيه المصلحة، أو يكتشف أن فيه
مفسدة..
ومن المعلوم:
أن سيطرة العقل الجماعي على الإنسان إنما تكون في
التجمعات الجماهيرية الكبيرة، ولا سيما إذا رافق ذلك ضجيج وعجيج، وتوتر
وانفعال، فإن مستوى التفكير يصبح في أدنى مستوياته وفي أضعف حالاته.
والخروج من هذه الحالة، واستعادة النشاط الفكري، وتصحيح
مساره، يقتضي الخروج من هذا المحيط إلى محيط آخر، أكثر هدوءاً
واستقراراً، واختيار الانفراد التام، أو مع شخص آخر يساعده في التمحيص
والتقصي، والبحث عن الحقيقة..
وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ
هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾([17]).
ولعل هذا هو السبب الذي دعا أمير المؤمنين «عليه
السلام» لإنظارهم ثلاثة أيام، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأقوى في الحجة.
فإن الإنسان على مدى هذه الأيام لا بد أن يخرج من حالته التي كان عليها
إلى حالة أخرى، وستتهيأ الفرصة له للخلوة بنفسه، والتأمل فيما كان منه،
وما يقدم عليه..
وبملاحظة ما قدمناه نقول:
1 ـ
إن هذا يفسر لنا قوله «عليه السلام»: «انهدوا إلى هؤلاء
القوم منشرحة صدوركم»، فإن تلك المهلة ـ ثلاثة أيام ـ قد أعطتهم اليقين
والسكينة النفسية إلى أن الحجة قد تمت على أعدائهم، وأنه لا تَسَرُّعَ
في قرار محاربتهم. لأن تلك المهلة قد أظهرت شدة إصرارهم على باطلهم،
وعلى سفك دماء المسلمين بغير حق، وأنهم لا يفعلون ذلك لشبهة عرضت لهم،
لأن الحجة قد أزالتها.. ولا عن توتر وانفعال، لأن المهلة قد أزالت كل
أثر لذلك.. بل عن سابق علم وتصميم، وإصرار من مجرم أثيم. من دون أن
يكون هناك أية إثارة من أحد يمكن أن تخرجهم عن طورهم، بل كان هناك صبر
وأناة، وتسامح ورفق، ونصح وصدق..
وقد بيَّن «عليه السلام» للناس:
أن الباطل الذي يتعمده الناكثون، هو من البديهيات
الظاهرة التي لا مجال لخفائها، ولا لإخفائها، فقد قال:
«فإنهم نكثوا بيعتي، وقتلوا شيعتي.. إلى قوله «عليه
السلام»: ﴿قَاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾([18])».
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد ضمن كلامه خصوصيات تفصيلية، لم
تخرج عن كونها توصيفاً دقيقاً للواقع، فقد ذكر لهم:
ألف:
أنهم قد نكلوا بعامله. وهذا التنكيل الذي تمثل بنتف
لحيته، وشعر رأسه وحاجبيه، وما إلى ذلك يشير إلى قسوة وغلظة تنفر منها
الطباع، ولا يمكن أن يرضاها الله، ولا يقرها الوجدان الإنساني..
ب:
ثم زادوا على ذلك: أنهم آلموه بالضرب المبرح، والعقوبة الشديدة..
ج:
ثم ذكر «عليه السلام» المزيد مما يظهر قبح فعلهم هذا،
كما يلي:
أولاً:
أن ابن حنيف كان شيخاً مسناً، يفترض أن تحفظ حرمته،
ويراعى حاله.
ثانياً:
إنه من أهل الكرامة والشهامة والعزة، وله مكانته
المرموقة في الناس وهذه العناوين تعطيه حرمة أخرى لا بد من مراعاتها.
ثالثاً:
إنه من الأنصار، الذين أثنى رسول الله «صلى الله عليه
وآله» عليهم، ولم تظهر منه أية مبادرة تدعو إلى سلبه حرمة النصرة للنبي
«صلى الله عليه وآله» عنه.
رابعاً:
إنه «رحمه الله» من أهل الفضل الذين يحب أن تراعى لهم حرمتهم..
وبذلك يكون لابن حنيف حرمات من جهات
شتى، فله:
حرمة الإنسانية، وحرمة الإسلام، وحرمة الشيخوخة والسن
المتقدم، والحرمة الاجتماعية، وحرمة النصرة لرسول الله «صلى الله عليه
وآله»، وحرمة الفضل المكتسب من تربية النفس، وتثقيفها، وتهذيبها
بالأخلاق الرضية، والمعارف السنية، والصفات الحميدة، والمزايا المفيدة،
والسمات الرشيدة..
3 ـ
وحين أشار إلى الجريمة التي ارتكبت في حق السبابجة،
وصفهم: بأنهم رجال صالحون، وهذا يزيد من قبح ما ارتكبوه في حقهم.. فإن
ارتكاب جريمة بحق إنسان من أهل الخير والصلاح إنسان صالح يفوق في قبحه،
وفي استهجان الناس له عما لو كانت الجريمة قد ارتكبت في حق إنسان، لا
يضر ولا ينفع.. كما أن ارتكاب جريمة قتل مثل هذا الإنسان تفوق في قبحها
على جريمة قتل إنسان فاسق مرتكب للمآثم..
4 ـ
والأكبر والأخطر من هذا وذاك هو قتلهم حكيم بن جبلة،
فهو:
أولاً:
قد قتل ظلماً. ولكن من يقتل ظلماً قد يكون من أهل
المعاصي، الذين يصح الاعتداء عليهم وعقوبتهم التي لا تصل إلى حد
القتل..
ثانياً:
إنه قتل عدواناً، أي أنه ليس من أهل المعاصي الذين يجوز
الاعتداء عليهم في العقوبات المقررة.. بل هو من أهل السلامة والصلاح
الذي يمنع التعرض له بأدنى درجة يمكن تصورها..
ثالثاً:
إنهم إنما قتلوه، لأنهم اعتبروه مذنباً.. ولأن ذنبه
عندهم غير عادي، بل هو مما يستحق عليه القتل.. وهو أنه ـ «رحمه الله» ـ
قد غضب لله تعالى!! وإن من أقبح الجرائم.. أن يقتل إنسان ويكون مبرر
قتله هو طاعته لله تعالى..
5 ـ
أما قاصمة الظهر، فهو ما ارتكبوه في حق شيعته «عليه
السلام». وتتجلى الروح الإجرامية فيه بأبشع صورها:
أولاً:
إن مجرد التشيع لشخص مهما فرضنا حال ذلك الشخص، فإن
التشيع له لا يوجب ضربه، ولا جرحه، فكيف بقتله!!
ثانياً:
إن الإنسان الذي يشعر بالمسؤولية، يحاول أن يتجنب
الصدام مع الفئات الساكنة، لأن تحريكها يزيد من همومه، ويزيد من
الأعباء التي لا بد أن يتحملها.
ويكفي أن نذكر القارئ الكريم هنا بسعي عائشة إلى تحييد
جماعات من الناس، بواسطة عمران بن الحصين، حيث رأت أن حشرهم في الزاوية
قد يؤدي إلى انحيازهم أو انحياز كثير منهم إلى علي «عليه السلام».
بل هي قد رضيت من الأحنف بن قيس بأن يعتزل الحرب ومعه
ستة آلاف، ربما لأنها رأت أن انحيازه إلى علي «عليه السلام» سيلحق بها
ضرراً معنوياً أكثر من النفع الذي ستجنيه من انضمام ستة آلاف من قومه
إلى جيشها.. وربما يكون هذا الانضمام سبباً في اقتناع قبائل أخرى،
بالالتحاق به «عليه السلام».
إلا إن فرض أن طلحة والزبير وعائشة كانوا على يقين من
أن أولئك الشيعة الذين هربوا منهم سوف ينحازون إلى جانب علي «عليه
السلام» لا محالة.. فلذلك بادروا إلى البطش بهم..
غير أننا نقول:
إن قتل هؤلاء وسواهم قد أضر الناكثين أكثر مما نفعهم،
لأنه أعطى صورة بشعة عن جرأتهم على المحرمات، وعلى انتهاك الحرمات،
وعرف الناس أنه لا مجال للتعايش معهم، وأن الناس معهم أمام خيارات
ثلاث، هي:
إما حياة الخوف، وترقب الكوارث والبلايا، أو الموت
المحتم، إذا وجدوا منهم ميلاً إلى خصومهم.
وإما حياة الذل والانسحاق، والرضا بارتكاب المآثم
والجرائم.
وإما السكوت عنها ومباركتها، وإظهار الاستحسان لها،
والمساعدة عليها..
ثالثاً:
إن تتبع شيعة أمير المؤمنين علي «عليه السلام»،
باستقصاء تام ـ وهم هاربون منهم ـ قد يمكن تبريره بأن سببه الخوف من أن
يكونوا بصدد التآمر عليهم، والوثوب بهم، فبادروا إلى هذا الإجراء
الاحترازي.. بهدف أخذ العهود والمواثيق على عدم مساعدة علي «عليه
السلام».
بل قد يمكن تجرعه على مضض كبير لو كان هذا التتبع لأجل
حبسهم أو ضربهم. إذا وجدنا من يتبرع لهم بالمعاذير التخفيفية، بدعوى:
أن شدة حقدهم على علي «عليه السلام»، وعظيم انفعالهم منه، وتخوفهم منه
دعاهم إلى البطش بأنصاره والتنكيل بهم..
ولكن الأمر لم يقتصر على مجرد الضرب أو الحبس، بل تعداه
إلى ما هو أشر وأضر، وأدهى وأمر، فإنهم تتبعوهم ليقتلوهم.
رابعاً:
ومما يزيد الطين بلة والخرق اتساعاً ويؤكد قسوتهم وعظيم
ظلمهم وبغييهم: أنهم كانوا يضربون أعناقهم صبراً.. ولم يكن قتلاً في
حالة المطاردة، أو في ساحة حرب، ونزال، يمكن للإنسان فيها أن يدافع عن
نفسه، أو أن يجد الفرصة للتحرز من القتل، ولو بالفرار..
وهذه
الأمور وسواها..
وما أكثرها هي التي دعت علياً «عليه السلام» إلى أن يأمر أصحابه: بأن
ينهدوا إلى هؤلاء الناكثين، وأن يكونوا أسوداً عليهم، وذلك انطلاقاً من
مقولة: لا يفل الحديد إلا الحديد. أو: «كما تدين تدان».
وقد علل «عليه السلام» أمره هذا، بأن القضية أصبحت
تتعدى موضوع القصاص، لتصل إلى مستوى لزوم التخلص منهم، لأنهم أصبحوا
جرثومة فساد وإفساد، من شأنها أن تقضي على نبضات الحياة في المجتمع
الإنساني كله.. ولذا قال «عليه السلام»: فإنهم شرار..
وما يأتي به الشرير هو الفساد في الأرض والعبث بمصير
الأمة.. كما أن من يساعدهم ويقوي من شوكتهم ـ على الباطل ـ لا بد أن
يكون شريراً مثلهم، لأنه إنما يسعى لتمكين الباطل، وإظهار الفساد في
الأرض..
ومن الناحية القتالية، وجدنا في كلامه «عليه السلام»
إشارات إلى أمور يجب أخذها بنظر الاعتبار في ساحات الجهاد. ونذكر منها
ما يلي:
1 ـ
لا بد من العمل على بلورة صورة عن المبررات الواقعية
للدخول في الحرب مع العدو.. لتكريس الرافد الموضوعي للوعي الهادف،
ولتكون الشحنة المحركة لكل العوامل التي يحضنها العقل، وتلتقي مع
الفطرة، ويختزنها الوجدان، وتتحول في حنايا الروح والجسد إلى جهد ملتهب
في مجال ممارسة التصدي والرد الحازم والحاسم..
ولذلك قال «عليه السلام» لأصحابه:
«كونوا أسوداً عليهم، فإنهم شرار، ومساعدوهم على الباطل
شرار..».
2 ـ
حيث إن الشر الذي تمكن من هؤلاء، حتى أصبحوا من دعاة
الباطل، سوف يدفعهم إلى المنازلة، والمقاتلة، والطعن والضرب. فإن
الحاجة تصبح ماسة إلى الأمور التالية:
الأول:
المواجهة والدخول مع الأعداء في الحرب. لأن التردد، أو
العزوف سيدفع العدو إلى التقدم خطوات أخرى باتجاه تكريس باطلهم وسيزيد
من حماسهم له..
الثاني:
الصبر، وتوطين النفس على مواجهة الصعاب، والأخطار. وهذا
ما أمرهم به «عليه السلام».
الثالث:
أن يكون الهدف من قتالهم هو إدراك رضا الله سبحانه،
والتقرب إليه، وتوقع المثوبة منه، واحتساب الأجر والمثوبة عنده.. لا
توقع الفوائد والعوائد الدنيوية، فإن ذلك سيكون من موجبات الفشل
والهزيمة، لأن الفائدة الدنيوية إذا كانت هي المعيار، ووجد المقاتل أن
الفائدة هي في القبول منهم، والمعونة لهم، فسيتحول من ناصر للحق إلى
نصير للباطل..
الرابع:
توطين النفس على المنازلة والمصاولة، ومواجهة الطعن
والضرب بمثله.. فلا يكتفى بمجرد الدفع والممانعة، لأن المطلوب هو
اقتلاع شرهم، والقضاء على باطلهم، والممانعة بمجردها تكون من موجبات
بقاء الشر وحفظ الباطل.
الخامس:
وهو الأهم.. أن تكون مجالدة الباطل ذات صفة جماعية،
بمعنى أن يبذل في ذلك كل الجهد المتوفر لدى المقاتلين، ولا يقتصر كل
منهم على المهمات التي أوكلت إليه، ويعتزل.. بل يستفيد من طاقته
المتبقية في نصرة أي من إخوانه حين يواجه صعوبة، تجعله غير قادرٍ على
الحسم.. فيذب عنه كما يذب نفسه.
وقد علل «عليه السلام» ذلك بما
أفاد:
أن هذه الطاقة التي يبذلها ما هي إلا منحة إلهية، وقد
أراد الله تعالى منه: أن يوظفها في دفع الباطل، فليس له أن يحجبها، أو
أن يستأثر بها لنفسه..
يضاف إلى ذلك:
أن هذه الطاقة إذا كانت لله، فإن الله تعالى هو الذي
يوزعها على هذا، وعلى ذاك، وعلى ذلك، بنسب متفاوتة تقتضيها الحكمة،
ومصلحة العباد، حيث يتم امتحان وفائهم، وتأكيد عناصر الكرامة في
داخلهم، كما أنها تكون أيضاً سبباً لتقوية أواصر المحبة، ولنيل مراتب
الكرامة الإلهية من خلال توطين النفس على طاعة الله فيها، وعدم
الاستئثار والأنانية فيها، فإنه لا يحبه الله، ولا يرضاه الوجدان، ولا
تقره الأخلاق الحميدة، والصفات الفاضلة. ولذلك قال «عليه السلام»: «فلو
شاء لجعله مثله».
قال الطبري:
حدثني عمر بن شبة قال:
حدثنا أبو الحسن عن مسلمة بن محارب عن قتادة قال: نزل
علي الزاوية، وأقام أياماً..
إلى أن قال:
سار علي من الزاوية، وسار طلحة والزبير وعائشة من
الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله، أو عبد الله بن زياد.
فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور
إلى عمرو بن مرحوم العبدي:
أن أخرج، فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي.
فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر أمير
المؤمنين.
فقال الناس:
من كان هؤلاء معه غلب.
ودفع شقيق بن ثور رايتهم إلى مولى
له يقال له:
«رشراشة»، فأرسل إليه وعلة بن محدوج الذهلي: «ضاعت
الأحساب! دفعت مكرمة قومك إلى رشراشة»؟!
فأرسل شقيق:
أن أغن شأنك، فإنَّا نغنى شأننا.
فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، يرسل إليهم علي،
ويكلمهم، ويردعهم.
ونقول:
في هذا النص إشارات إلى العديد من الأمور، نقتصرُ منها
على ما يلي:
لا ندري إن كان كان هذا الترديد بين كلمتي عبيد الله،
وعبد الله بن زياد قد جاء مُتعمداً، أو لأجل عروض النسيان له، فإنَّ
عبيد الله بن زياد هو الذي قتل الحسين «عليه السلام» بأمر يزيد بن
معاوية. فلعلهم يُريدون إبعاد اسمه عن التداول ـ قدر الإمكان ـ صيانةً
له عن اللعن الذي يستحقه بقتله سيّد شباب أهل الجنة، وريحانة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
وزعمت الرواية:
أنَّهُ حين التحقت بكر بن وائل وعبد القيس بجيش عليٍ
«عليه السلام» قال الناسُ: «من كان معه هؤلاء غلب».
ونقول:
إنَّ هذا المنطق هو منطق الجُهال والسطحيين، ومن تكون
معاييرهم ونظرتهم إلى الأمور مادية.
أما علي «عليه السلام»، فكان يرى أنه هو الغالب على كل
حال.. لأن الحق له، ومعه، وهذا هو منطق القرآن والحق والدين الذي لا
يرى للكثرة قيمة، ولا للغلبة معنى، وإنَّما القيمة للحق أينما كان،
والنصر كل النصر هو بالتزام الحق، والدفاع عنه، والتضحية في سبيلة بكل
غال ونفيس، ولأجل ذلك: لم يكن علي «عليه السلام» يعتز بغير الله، بل هو
يقولُ كما قال الله: ﴿كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾.
وما أروع منطق شقيق بن ثور، الذي
أعطى الراية إلى مولىً له يقال له:
«رشراشة»، فعاب ذلك وعلةُ بن محدوج، انطلاقاً من منطق
عمر بن الخطاب في تقديم العرب على غيرهم لمجرد كونهم عرباً، وقد أفهمه
شقيق: بأنَّ المطلوب هو تولية من هو أهل للولاية، ويستطيع أن يقوم
بالمُهمة، مهما كان نسبه، وعرقه، وصفته التي لا خيار له فيها.
وهذا هو منطق عليٍ «عليه السلام» المطابق للنص القرآني
الذي يقول: ﴿إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾
والنص النبوي القائل: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا
لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى»([19]).
وجاء في النص المُتقدم:
أنَّهُ «عليه السلام» بقي ثلاثة أيام يُكلم الناكثين
ويردعهم، ويُرسل الرُسُل إليهم.
ولا شك في أنَّهُ «عليه السلام» لم يكن يشعر بالضعف
أمام كثرة جيش عدوه، وقلة جيشه، فإنَّ هذه هي السمة في سائر الحروب
التي خاضها ضد أعداء الإسلام، ولأنَّهُ كان يعلم: بأنَّ القوة ليست
بالكثرة، وإنَّما هي باللُطف والتسديد والمدد الإلهي حين تكون مصلحة
الدين والأمة هي في هذا الإمداد، وقد يحجبه الله تعالى حين يقتضي الأمر
ذلك، ولذلك انهزم المسلمون في حُنين رغم كثرتهم، وتحقق النصر بعليٍ
وحده..
ولكنَّهُ «عليه السلام» كان يرفق حتى بأعدائه، أملاً في
أن يستفيق منهم من يستفيق، ويثوب إلى الحق من يثوب، ولأنَّهُ يُريد أن
يُقلل من أعداد القتلى قدر المُستطاع، ولأنَّهُ يريد أن لا يبقى هناك
أدنى احتمال في أنَّهُ لو انتظر بهم لأعادوا النظر في حساباتهم، وليهلك
من هلك عن بينةٍ، ويحيى من حيي عن بينة.
([1])
الجمل للمفيد ص331 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص177.
([2])
لعل الصحيح: فواقاً.
([3])
الجمل للمفيد ص332 و 333 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص177 و 178
والفتوح لابن أعثم ج2 هامش ص303 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص152
وبحار الأنوار ج32 ص121 وفي المصدرين الأخيرين ورد ذكر أربعة
أبيات من الأشعار.
([4])
كنز الفوائد ص63 وبحار الأنوار ج69 ص209 وج73 ص354 عنه، ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج16 ص280 و (ط دار الإسلامية) ج11
ص519 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص381 ومستدرك سفينة البحار ج9
ص133 و 134 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج11 ص27.
([5])
راجع: صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج7 ص97 و 223 وفتح الباري
ج11 ص469 وعمدة القاري ج22 ص158 وج23 ص180 ومعرفة السنن
والآثار ج7 ص306 وسير أعلام النبلاء ج13 ص246 وراجع: مسند أحمد
ج4 ص33 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص23 والمعجم الكبير للطبراني
ج2 ص73 و 74 و ج22 ص177 والتمهيد لابن عبد البر ج17 ص23
والجامع = = الصغير للسيوطي ج2 ص605.
([6])
راجع: الكافي ج2 ص360 وثواب الأعمال للصدوق ص242 و (ط2 ـ
منشورات الشريف الرضي ـ قم) 271 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج12 ص298 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص611 وبحار الأنوار
ج69 ص208 و 209 وج72 ص163 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص352
ومستدرك سفينة البحار ج9 ص133 وألف حديث في المؤمن للنجفي ص226
وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج6 ص293.
([7])
الخصال للصدوق ص623 وبحار الأنوار ج10 ص102 وتحف العقول ص114
ومستدرك سفينة البحار ج1 ص152 وج9 ص133 وجامع أحاديث الشيعة
ج16 ص354 وتفسير نور الثقلين ج3 ص150.
([8])
راجع فيما تقدم: الأمالي للقالي ج1 ص96 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج1 ص237.
([9])
شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص284.
([10])
شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص284 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج1 ص238.
([11])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص238.
([12])
بحار الأنوار ج19 ص251 وتفسير القمي ج1 ص262 والتفسير الصافي
ج2 = = ص278 وتفسير نور الثقلين ج2 ص128 وشجرة طوبى ج2 ص272
([13])
راجع: بحار الأنوار ج19 ص224 و 252 وشجرة طوبى ج2 ص272 وتفسير
مجمع البيان ج4 ص440 والتفسير الصافي ج2 ص278 وتفسير القمي ج1
ص263 وتفسير نور الثقلين ج2 ص128 والطبقات الكبرى لا بن سعد ج2
ص16 والثقات لابن حبان ج1 ص163 وراجع: عيون الأثر ج1 ص333
والسيرة النبوية ج2 ص406 وإمتاع الأسماع ج1 ص102 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج14 ص123 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص32.
([14])
الأخبار الطوال ص147.
([15])
الآية 4 من سورة المنافقون.
([16])
الجمل للمفيد ص334 و 335 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص178 و 179
والإرشاد ص134 و 135 و (ط دار المفيد) ج1 ص252 و 253 وبحار
الأنوار ج32 ص171 و راجع: الجمل لابن شدقم ص120 ونهج السعادة
ج1 ص312 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص438.
([17])
الآية 46 من سورة سبأ.
([18])
الآية 4 من سورة المنافقون.
([19])
راجع: العهود المحمدية للشعراني ص873 مسند أحمد ج5 ص411 ومجمع
الزوائد ج3 ص266 ومسند ابن المبارك ص106 والمعجم الأوسط ج5 =
=ص86 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج3 ص699 والجامع لأحكام
القرآن ج16 ص342 وتفسير البحر المحيط ج2 ص266 والدر المنثور ج6
ص98 وتفسير الآلوسي ج26 ص163 وسبل الهدى والرشاد ج8 ص482
وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص382 و 543 ومكاتيب الرسول للأحمدي
الميانجي ج2 ص412.
|